«الفصل الأخير»
غادرت المكان تاركًا الجرائد ما عدا إحداها، تلك التي ذكرت عنوان المستشفى الذي يرقد فيه، ومضيت أسيرُ في الشوارع بلا هدف وقد قرَّرت أن أُخلف موعدي مع عوض.
كانت الشوارع مزدحمةً بأناس كثيرين أيضًا؛ آلاف الناس الصغار الكثيرين ماضين مكهربين مكربجين إلى أعمالهم دون كلمةٍ واحدةٍ عمَّا حدث بالأمس وعن الميتادور الصريع.
وفجأةً قرَّرت أن أذهب إلى المستشفى، ورمقني سائق التاكسي بنظرة مستطلعة وأنا أُشير إليه دون أن أنطق إلى العنوان المكتوب في الجريدة وقد وضعت تحته خطًّا، وفي الطريق قال كلامًا كثيرًا بالإسبانية ممزوجًا ببعض كلمات إنجليزية — لا بدَّ علَّمه إياها التعامل مع الأمريكان — كلامًا فهمت منه أنه يعلِّق على ما حدث للميتادور ويريد رأيي، واكتفيت بهز رأسي، وحين يئس غمغم ببضع كلمات خمَّنت أنها لا بد سباب.
وزعمت لبواب المستشفى أني طبيب مصري وأني أريد مقابلة أستاذ الجراحة، وفي قسم الجراحة سألت الراهبة بالإشارة عن المكان الذي يرقد فيه الميتادور، وأشارت إلى ممرٍّ جانبي كانت تقف في نهايته مجموعة قليلة من الرجال بينهم سيدة عجوز وصبي لا يتعدَّى العاشرة، وحولهم وقريبًا منهم كانت تتناثر بضع باقات، واقتربت. كانت رءوسهم منخفضة، ولكن اقترابي دفع بعضها إلى الارتفاع.
كانت الحجرة مغلقةً وعلى أُكرتها لافتة معلَّقة لا بد كانت أمرًا بمنع الزيارة.
ووقفت قريبًا من المجموعة ذات العيون المستطلعة صامتًا مثلهم، منكَّس الرأس خجلًا؛ ففي لحظتها كنت قد أفقت على سؤال: ماذا أتى بي إلى هذا المكان؟ ومن أنا بالنسبة للجريح الراقد في الداخل؟ أو حتى بالنسبة إلى هؤلاء الناس؟
وتوقَّفت عن السير، وتابع الطبيب طريقه.
وتحرَّك واحد من المجموعة الواقفة كان أكبرهم سنًّا ولكنه أكثرهم صحة، حيَّاني بالإسبانية، وهززت رأسي، وبمزيج من الإنجليزية والفرنسية والإيطالية قدَّم إليَّ نفسه. كان المحرِّرَ الرياضي لجريدةٍ لم أهتمَّ بمعرفة اسمها، وكانت رائحة البراندي الإسباني تفوح منه، وسألني عمَّا قاله الطبيب وأخبرته بالحقيقة. إنه يُعاني من نزيفٍ داخليٍّ وخارجيٍّ في الصدر والبطن معًا، وإنه علميًّا لا يمكن أن يعيش، ولم تبقَ على حدِّ تعبير الطبيب سوى المعجزة.
قال بازدراءٍ غريب: ومن أين تأتي المعجزة؟
قلت: من السماء.
ورفع بصره إلى السقف وثبَّته هناك بعض الوقت، ثم عاد يواجهني وقال: قبل أن أعمل محرِّرًا كنت مصارع ثيران، وتحدَّثوا في العلم والمعجزات كما يحلو لكم، ولكنه لحظة أن سقط أمامي في الساحة وشلَّته السقطة عن أن يُحرِّك يدًا أو ساقًا أمام الثور المقبل عرفت أنه انتهى ومات.
وكانت باقات أخرى من الزهور قد بدأت تَفِد فاستطرد: زهور وزهور وزهور. كفِّنوه بالزهور. دعوا الزهور تصنع المعجزة التي ينتظرها الأطباء. من أي بلد أنت يا سنيور؟ أنا لا يهمُّني مِن أي بلد أنت، ولكني أريدك أن تكون شاهدًا على المأساة. أنا لا أستطيع أن أكتب هذا في جريدتي وإلا فُصِلت، وأنا في حاجة إلى العمل لآكل، وأنا قد جرَّبت الجوع. أنا نشأت في ملجأ أيتام الفرنسيسكان وأعرف ما هو الجوع. أنا مصارع قديم، بطل! إسبانيا كلها والمكسيك والبرتغال كانت تهتف جميعها لي، ولكنني أخيرًا اكتشفت المهزلة، كذب كذب كذب كل ما تقرؤه عن التقاليد الإسبانية في الفروسية وشجاعتهم التي خلقت مصارعة الثيران. ليس هناك شعب أشجع من شعب. قل لي إني شارب ومخمور ونحن الآن في .. كم الساعة الآن؟ التاسعة. اذكر كلَّ ما تراه هنا ولا تنسَه فأنت الشاهد، شاهدي. لقد كنت أُحب هذا الولد أنطونيو، كان ابني الذي لم أخلِّفه، وكنت أعرف أنه سيموت. إن الكثرة منهم تعيش، ولكن الشجاع الحق هو الذي يموت، وفي كل عام نفقد عددًا من الشجعان، أتعرف لماذا نفقدهم؟ إنها لعبة كبيرة جدًّا، لعبة عالمية ما تراه في الساحة هو الفصل الأخير فقط منها. وإذا لم تصدِّقني فتصوَّر إسبانيا بلا مصارعة ثيران. من المجنون الذي يأتيها؟ إن إحصاءاتنا الرسمية تقول إن بلادنا تستقبل في الصيف موسم المصارعة ربع مليون سائح يوميًّا أو ربما خمسين ألفًا، لا أذكر الرقم. لعنة الله على الأرقام! كذا ألف ينفقون كذا مليون دولار. ألغِ المصارعة تُلغِ الدولارات. أقِم حفلات المصارعة واستحضِر ثيرانًا متوحِّشةً واجعلها تنفرد بالرجال، ماذا يحدث؟ الرجال يقتلون الثيران.
ولكن لا بد أن تقتل الثيران بعض الرجال، وبغير أن تقتل الثيران بعض الرجال فلا لذة في المصارعة ولا متعة. أتصدِّق أن هؤلاء الناس الذين يجيئون من كل مكان إلى «الأرينا» يأتون لكي يرَوا الرجل ذا السيف يقتل الثور الأعزل؟ إنها كذبة كذبة. إنهم يأتون على أمل أن يقتل الثور المتوحِّش الرجل ذا السيف، وحبذا لو حدث القتل أمامهم. إنهم لا يجاهرون برغبة كهذه لأنها تبدو شاذةً كريهةً غير لائقة بالرجل المتحضِّر، ولكنها وأقسم لك الرغبة الكامنة في صدورهم. عرِّهم من ملابسهم ونفاقهم وتظاهرهم لتجدها ملتويةً على نفسها كالثعبان هناك، نحن نعرف هذا وأصحاب الفنادق يعرفون هذا، وشركة كوك تعرف هذا، ومصلحة السياحة عندنا تعرف هذا، والبنوك والحكومة والدولة والكنيسة تعرف هذا، كلها تعرف أن كذا رجل سيقتلون في هذا الموسم كذا ثور، وأن كذا ثور ستقتل على وجه التقريب كذا رجل. ولا أحد أبدًا يفعل شيئًا لمنع هذا القتل، بالعكس إنها كلها تتعاون وتتسابق لكي يتم القتل على أكمل صورة. الحكومة تصنع الدعاية في الخارج وتدعو الناس من جميع أنحاء الأرض كي يحضروا إلى إسبانيا لرؤية المصارعة؛ أي لحضور القتل، وشركة طيراننا تنقلهم، وأصحاب فنادقنا يصنعون كل ما في وسعهم لراحة المدعوين، وشركات السياحة تهيِّئ لهم بجوار المشاهدة نزهات ونزوات، والبلدية تُقيم «الأرينا» وتؤجِّر المقاعد. والكل سعيد، السياح ينفقون بسعادة، ونحن نقبض بسعادة، والتفرُّج على المصارعة متعة العمر، وماذا يُهم بعد هذا إذا كانت تلك السعادة كلها مقابل أرواح خمسة أو عشرة أو عشرين رجلًا كل عام؟ وخاصةً ونحن إذا مات أحدهم، أو أُصيب بالعجز الكامل هلَّلنا له وضججنا وتوَّجناه بطلًا وعاملناه معاملةً لا يحظى بها شهيد الواجب والجندي في الميدان. أنا لا أعرف من أين أنت قادم ولا يهمُّني أن أعرف، ولكني أرجوك أن تكون الشاهد، شاهدي، وأن تنظر إلى ما وراء هذا الباب، فلو كان الأمر بيدي لوضعت على الحجرة أو على قبره لافتةً مكتوبًا عليها بالخط الكبير: هنا يرقد شهيد مصلحة السياحة الذي قضى وهو يؤدِّي الواجب المقدَّس، واجب تكديس النقود في أيدي شركات الطيران ومديري الفنادق وأعضاء المجلس البلدي والمؤسسات ومساهمي البنوك وأصحاب الكاباريهات وشركات السفر والسياحة. أنت لا تصدِّق. إذا شعرت أني أكذب وأبالغ فحدِّق في هذه الباقات من الزهور واقرأ. أليس هذا كارت لويجي كاستيللو نائب ومدير بنك سبيلا؟ أوَليست هذه باقة اتحاد أصحاب سيارات التاكسي؟ إنها أكبر من هذا. لا بد أيضًا أن تكتب: هنا يرقد شهيد المؤامرة العالمية لإلصاق مؤهِّلات ومميِّزات بطولية خاصة للشعب الإسباني، تمهيدًا لتقبُّل الرأي العام المتمدين فكرة المصارعة بين الرجال والثيران، كمقدمة لا بد منها أيضًا لكي يتقبَّل ذلك الرأي العام نفسه فكرة أن يسمح في عصرنا هذا لثور متوحِّش أن يصرع إنسانًا ويمزِّقه بطريقةٍ قانونية جدًّا وبطولية جدًّا وممتعة جدًّا، جدًّا جدًّا.
لقد انفردت طويلًا بالكلام مع أني لا أريد الكلام، أريد البكاء! ولكني في حاجة لمعجزة كي أستطيع؛ فقد تعلَّمت ألَّا أبكي؛ ولهذا أسكر، ولهذا أنا سكران وأريد أن أسكر أكثر، أريد أن أبكي على هيئة أن أشرب؛ فأنطونيو كان أعزَّهم، لقد رأيته وسنه خمسة عشر عامًا، وكان صغيرًا ومن أول لحظة عاملته كابني، ولكنهم اختاروه هذه المرة ليقتلوه.
لقد قرأت لا أذكر متى ولا أين ولا يهمني أن أذكر، أن في مصر عادةً قديمة، أنهم في كل عام يختارون أجمل فتاة لديهم لتُلقي بنفسها في نهرهم النيل ليكثر ماؤه ويفيض، ولكن قرون الثور فظيعة فظيعة! أنت لم تجرِّبها، لم يُصِبك الرعب، ما هو أكثر من الرعب، تفكَّك العقل، وتشتُّت أجزائه هلعًا، لا من الطعنة في حد ذاتها ولكن من الفكرة، من الموقف، من الوحش الغاشم ذي العيون الواسعة البلهاء، وقرنَي الشيطان البارزَين من رأسه، هنا في فخذي مسَّني الوحش فخرَّب ساقي، وهنا في صدري مسَّني الرعب منه فخرَّب روحي، لو أزحت ضلوعي يا صديقي لَمَا وجدت وراءها شيئًا. أنا إنسان مخرب وأنت شاهدي، أنت باستطاعتك في جريدتك أن تكتب، اكتبها، المؤامرة، واترك لي أنطونيو فأنت لم تعرفه، أنت لم ترَه وهو يداعب القطة ولا هو ينتحي ركنًا معزولًا من قاعة أي احتفال، ولا رأيت الخجل يعتريه حين يزلف لسانه وينطق الكلمة بلهجة تكشف عن أصله القروي المتواضع. أمَّا أنا فأستطيع، سأفعلها مرة، وبدلًا من الأخبار سأكتب مقالًا، فقط يلزمني أن أكف ليلتها عن الشراب، قسمًا سأكف ليلتها عن الشراب من أجلك يا أنطونيو، وبحبي لك يا أنطونيو، وبحبي لك يا ابني الذي لم أخلِّفه ولم أتزوَّج أمه، قسمًا سأفيق ليلةً وأقول الحقيقة كلها يا أنطونيو.