الفصل الثاني
كنت قد حضرت — كأي مُقدِّم على عمل لأول مرة — مبكِّرًا، وقضيت بعض الوقت أطوف ﺑ «الأرينا» وممراتها ودهاليزها، وأُراقب السوق السوداء لبيع التذاكر، وآلاف السياح والأوتوبيسات الفاخرة التي لا يكف عن التحديق فيها الأطفال الإسبان أشباه العراة وهي تقف ويهبط منها خليط عجيب من البشر من بين لغاته الكثيرة تميز بسهولة الخناقة الأمريكية الممدودة والغالبة، ومئات العربات الخاصة. أفخم وأحدث عربات من نوعها في العالم، وأبوابها تُفتح لكي تنساب منها سيدات. أجمل سيدات، وأروع عطور، وأغلى وأشيك فساتين، ورجال بصلعات وكروش وأرصدة مكتظة، وشبان أثرياء بالكابورليهات، والجميع يمضون إلى مقاعدهم المحجوزة، بينما جمهور اللعبة الحقيقي — أفراد الشعب الإسباني — يتقاتلون حول التذاكر، ويتدافعون أمام باب الدخول، وفي الداخل لهم المدرَّجات المواجهة لشمس مدريد في الصيف، وما أحرَّها!
ومن متحف المصارعة عُدت إلى مكاني في المدرَّجات حيث المتحف البشري الزاخر الوافد على مدريد، والساحة من كل أنحاء الأرض، وكيف تُقبل أفواجه كالسحب المثقلة التي لا تلبث أن تبطئ حركتها وتتكاثف وتتساقط في أنحاء الدائرة الكبيرة على هيئة أجساد غير واضحة المعالم فوق مقاعد مقامة من الأسمنت المسلَّح. ساحة و«أرينا» لا تختلف كثيرًا عن تلك الموجودة في روما التي أقامها الرومان من آلاف السنين ليتسلَّى الحُكَّام الرومانيون بصراع العبيد العُزَّل مع الوحوش. كل الخلاف هنا أن الإنسان زُوِّد بدلًا من المسلة بقطعة أطول من المعدِن على هيئة سيف، ولكن الصراع لا يزال هو الصراع.
وربما استدارة «الأرينا»، أو ربما هي الحلقة البشرية الهائلة المحيطة بالدائرة الرملية الفارغة. ربما الحيرة. ربما الدوري المستمر الذي لا ينقطع. ربما العُقاب الرابض في مكان ما من سماء الساحة ناشبًا مخالبه في الوجوه والملامح. ربما أي شيء، ولكن الذي لا شكَّ فيه أن ثمة قلقًا، وكأن أحدهم قد ألقى في قلب الساحة ببضع قنابل مثيرة للقلق واللهفة، لا على المصارعة وبدئها والرغبة أن تتم بسرعة، فكلنا نعلم أنها تبدأ في السادسة، وأن بيننا وبينها بضع دقائق لا تحتمل اللهفة أو الترقُّب. إنه قلق وترقُّب ولهفة المشغولين بشيء قاهر حاد، لا يدرون ما هو بالضبط وما الذي يشغلهم به تلك المشغولية العظمى، المشغولية التي تجعلك لا تستقر على وضع ولا تستسلم لموضوع، بحيث لا يحتمل منك الشيء أكثر من نظرة، وبحيث يبدو الحديث مملًّا بعد جملة حواره الأولى، وأجمل الفتيات تكفيها التفاتة. مشغولية عُظمى غير محدَّدة أو معروفة الأسباب، ولكنها قائمة وموجودة وذات أزيز.
وكان عليَّ أن أُكافح رغبتي في التطلُّع ودُوامة المشغولية المبهمة التي تبتلعني كالآخرين؛ كي أستخلص نفسي وأستمع للهاتف وأعود أتابع صاحب الوجه الشاحب الصامت الرشيق.