الفصل الخامس
بنفس الاستخفاف قابلت الخطبة القصيرة التي ألقاها قائد البيكادورز أو حاملي الحِراب أمام رئيس الفييستا (الاحتفال)، وكذلك كل ما تلا هذا من تسليم الرئيس للرجل مفتاح الباب المؤدِّي إلى حظيرة الثيران والموجود على يسار المنصة، ثم تراجع الطابور إلى حيث احتلَّ كل مشترك فيه المركز الخاص به. المصارعون وقفوا خلف الحواجز الخشبية الواقية، والبيكادورز خارج الحلبة عند بابهم، والصبية تناثروا على محيط الدائرة يُحضِّرون العباءات وأعلام الغرس (الباندريلالاز)، والحراب.
وسكتت الحركة في الحلبة، وكذلك خيَّم صمت الترقُّب على المدرَّجات و«الأرينا»، واضطُر أي متحدِّث أن يخفضَ صوته وأن يدفعه الصمت المتزايد إلى أن يكفَّ عن الحديث ويسكت تمامًا.
وكالمفاجأة المتوقَّعة تصاعدَت أصوات النفير! وفُتح باب الحظيرة واندفع إلى الحلبة كائن أسود مدكوك القوام، ما إن رأى الساحة خاويةً والناس حولها في احتشاد عظيم حتى توقَّف لبرهة، لبرهة! إذ ما كاد يلوح أحد المصارعين بعباءته من آخر الحلبة حتى بدا وكأن الثور ركبه ألف عفريت؛ إذ اندفع لا يجري، وإنما يثور أو يغلي أو ينفجر جاريًا، كالصاعقة مُنقضًّا، كالقوة الغاشمة العمياء، لا يُقيم وزنًا لشيء، وليس له إلا طريقة واحدة للتعبير عن قوة الحياة المحشودة داخله في تضاغط هائل، إلا أن ينطح بقرنَيه، وقرناه ليسا كقرنَي ثيراننا المستأنسة بارزَين إلى الجانبَين، إنهما قرنان رفيعان كأسياخ الحديد بارزان إلى أمام على هيئة مسمارَين مستقيمَين ممتدَّين في توازٍ، وهو لا ينطح بهما أو برأسه أو باستعمال عضلات رقبته؛ إنه ينطح بكل جسده. يندفع ككتلة سوداء أسطوانية مدكوكة باللحم والعضلات إلى الأمام في سرعة هائلة، وبكل جسده المندفع المحتشد يكتسح ما أمامه بقرنَيه، ولا يهم أن يكون ما أمامه صخرًا أو حديدًا أو إنسانًا دقيقًا حساسًا بينه وبين هذه الحياة الشرسة الخرساء العمياء ملايين السنين من التطوُّر والترقي.
ولكن هكذا أرادها الإنسان؛ أن يواجه هذه القوة الغاشمة التي لا ترحم، ويحشد أمام العضلات المزدحمة الرهيبة كل مزايا عقله الإنساني من ذكاء وقدرة على التصرُّف، وقدرة على الخبث والخديعة أيضًا، ولكن كما أن العضلات المحتشدة وحدها لا تقتل، الذي يقتل شيء أكثر بدائيةً من العضلات هو القرون؛ فللثور قرونه، وعلى الإنسان هو الآخر أن يستعمل حين يبلغ الصراع أعلى مراحله ويصبح لا بد أن يخلِّص أحدهما على الآخر، أن يستعين بآلة قتل؛ بسيف؛ ليصبح السيف في يده والقرن في رأس الثور، والنصر لمن يُبادر بالطعنة.
انطلق الثور هائجًا كزوبعة حيوانية هبَّت على الدائرة الرملية، واندفعت تعصف بكل اتجاه عصفًا بعث الرعب في قلوب المشاهدين الذين تفصلهم عن الثور الهائج مسافات وحواجز، ولكن الغضب الوحشي الذي كان يجتاح الثور ويوشك معه أن يحطِّم الأرض ويخرق السماء، ولا يُبقي أو يذر شيئًا بينهما؛ حالة كانت الحواجز والمسافات فيها لا يمكن أن تؤدِّي إلى أي اطمئنان.
كتلة الحياة الهائجة السوداء تلك، المركزة المضغوطة في هذا الحجم الثوري المحدود، هذا الجبار الطاغي الواثق بنفسه وقوته ثقةً كقوته عمياء، لا يتردَّد معها أن يقتحم أية قوة أمامه وأي كائن مهما كان. هذا المغرور الأحمق الذي يُثير الرعب بكل خلجة من خلجاته، ولا شيء على الإطلاق يدفعه هو إلى الرعب أو حتى الخوف أو التردُّد.
هذا المبعوث الداكن يمثِّل كلَّ ما في الحياة من قوة وتعطُّش للعدوان والرغبة في التحطيم والدم والتخريب. هذا الذي من فرط سرعته وتجبُّره لا يكاد يستقر في مكان، وينتقل من محيط الحلقة إلى محيطها الآخر قبل أن تُدرك أنه انتقل. هذا الموجود في كل مكان، الضيق بكلِّ مكان، المتحرِّك كالبرق كالضوء، كالوباء في كل اتجاه. حركة بلا هدف إلا الحركة نفسها، ورغبة في التخريب والتحطيم بلا هدف إلا التحطيم ذاته، والتغلُّب على كل ما يقف في طريقه صديقًا كان أو عدوًّا بلا هدف أو حكمة إلا هدف التغلُّب ذاته. كتلة الحياة المركزة تركيز الجن في القمقم، المنطلقة المتفجرة بلا غاية أو هدف، تجسِّد لنا ذلك المعنى الذي كثيرًا ما تداولناه حتى اعتدناه، تُجسِّد لنا كلمة الوحش، وتُرينا السبب والدوافع التي حدَت بأجدادنا الأُوَل أن يُطلقوها على بعض أعدائهم من الحيوان.
هذه الظاهرة التي من فرط حيويتها تجعلك تؤمن أن الحياة ليست أرقى الجماد وأوجه، بقدر ما هي شيءٌ مرعب حقًّا، التي تجعلك تعيد تأمُّل سطح الأرض وما عليها، وتُدرك أن الرعب شعورٌ لا تُحسه إلا الكائنات الحية، وأيضًا لا تُثيره سوى هذه الكائنات نفسها، لا شيء في الطبيعة يُخيف إلا كائناتها الحية، ولا شيء يُخيف إلا وهو أيضًا يخاف. كلها ما عدا هذا الشيء الأسود الحي الذي أعتقد أنهم اختاروه للعبة لأنه الوحيد بين الكائنات الذي يُخيف ولا يخاف.
ولكنني وإن كنت قد ظَلِلت أُتابع بانتباهٍ طاغٍ حركة الثور وحركة مصارعيه، إلا أنني لم أستطِع من أول مرة أن أفهم. كنت أعتقد أن واحدًا هو الذي عليه أن يصارع الثور من أول دقيقة إلى أن يصرعه، وإذا بالموضوع أكثر تعقيدًا وله هو الآخر قواعده وأصوله ونظامه.
فهذا التلويح الأول بالعباءة للثور، ذلك الذي يجعله يتفجَّر جريًا وبحثًا عمَّا يمزِّقه بقرنَيه، في تلك المرحلة يراقب المصارع خصمه ليعرف كيف يجري والسرعة التي يتوقَّف بها ويستدير، ومبلغ شجاعته، ومقياس الشجاعة أن لا يتردَّد الثور في مهاجمة كل ما يعترضه.
ثم تبدأ المرحلة الثانية مرحلة الفرس أو «سیوريت دي فاراس»، حيث ينفخ في النفير ويدخل راكبًا الخيل «البيكادورز»، وحين يلمحهما الثور يندفع بلا تردُّد لمهاجمة أقرب الحصانَين، وتبلغ قوته حينئذٍ حدَّ أن يستطيعَ رفع الحصان وراكبه وإلقاءه خارج الحلقة. وحين يندفع لمهاجمة الحصان ينتهز الفارس الفرصة ويغرس في كتف الثور حربةً سميكةً تصنع جرحًا غائرًا ينزف منه الدم، والغرض من إحداث الجرح هو إضعاف الثور والحد من قدرته الهائلة على المهاجمة والحركة.
بعد هذا تبدأ مرحلة الباندريللاس أو الأعلام، حيث يقوم الباندريلوس أو غارس الأعلام برشق ثلاثة أزواج من الأعلام في ظهر الثور. مهمة لا تقل خطورةً عن مصارعة الثور نفسها! فعلى الراشق أن يستفزَّ الثور إلى درجةٍ يُقبل عليه بسرعةٍ هائلة، وفي نفس اللحظة التي يتحرَّك فيها الثور مُهاجمًا ينطلق الفارس مُسرعًا على نفس الخط القادم منه الثور. وفي الومضة الأخيرة وهما يُوشكان أن يلتقيا وتوشك قرون الثور على اختراق جسد الرجل، في آخر لحظة ينحرف الفارس بساقَيه فقط عن الخط، بينما يظل نصفه الأعلى ويداه الممسكتان بالعلمَين في نفس الاتجاه بحيث حين يمر الثور يرشق الفارس علمَيه، وبعد هذا تبدأ مرحلة الصراع أو الميوليتا وهي المرحلة التي يُحاور فيها المصارع الثور باستعمال العباءة الحمراء، وفيها أيضًا يمتاز المصارع على المصارع؛ إذ هي المرحلة التي تتبدَّى فيها ألوان وأشكال من الحِيَل والطرق.
وتنتهي تلك المرحلة حين يكون الصراع قد هدَّ كِيان الثور إلى حدٍّ بعيد، بحيث لم يَعُد يهاجم من تلقاء نفسه، ولا بد من استفزازه كثيرًا لدفعه للهجوم. حينئذٍ يستبدل المصارع العباءة بأخرى داكنة في لون الدم، ويستبدل العصاة المعدِنية بسيف، ويستعمل السيف وسيلةً لفرد العباءة في سلسلة محاورات أُخرى ومداورات، إلى أن يحين الحين، وبنفس الطريقة التي يغرس بها الباندريلوس عَلَمه، يغرز بها المصارع سيفه إلى المقبض في الجزء المقابل للقلب من ظهر الثور، كل ما في الأمر أن الغرس يتم والثور شبه واقف، ولكن خطورتها على المصارع أن يستعمل يدًا واحدةً للطعن، بينما الأخرى تمسك بالعباءة، وأنه يضطر للاقتراب كثيرًا من جسد الثور بحيث إن أي خطأ صغير في حساب المسافة يجعل منه غنيمةً سهلةً للقرون التي طال تعطُّشها إلى الفتك.