الفصل الثامن
ومن ساحة صامتة كئيبة مليئة بالخزي والتقزُّز والندم والاشمئزاز، وكأنما الجميع حتى المشاهدين قد ساهموا منذ هُنيهة في ارتكاب جريمة خُلقية شاذة. انسحب المصارعون كلهم حتى ذلك الذي ذبح الثور، فلا انتظار لتحيةٍ هذه المرة أو زهو. حسبه أنه سيخرج قبل أن يفطن إليه الجمهور وينفجر قاذفًا إياه بكل ما في متناوله. كان الجمهور لا يزال يحيا مع الثور المقتول وكأنما يُقيم له جنازةً تلقائيةً سريعة، يتذاكر فيها كل ما أبداه خلال المصارعة من ألوان القوة، وبطريقته الخاصة. الصمت، يؤنِّبه.
وجاءت الخيول الأربعة، وأُحكم وضع الحبل على قرونه، وبدأت تجرُّه خارج الساحة، ومن أعماق الصمت المخيِّم اندفع فجأةً مُواء، هذه المرة عميق وحقيقي لا سخرية فيه ولا صفير، وظلَّ يُشيِّع جثة الثور حتى غابت بخيولها خارج الساحة. كان المُواء استهجانًا لمقتله، الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الجمهور في وقتٍ كهذا أن يبدي سخطه ويُصدر حكمه، الحكم بانتصار الثور الميت على الميتادور الحي، طريقة خُيِّل إليَّ من صراحتها وصرامتها وقسوتها أن الميتادور لحظتها لا بد فضَّل ألف مرة لو كان هو الميت بهذا التمجيد على أن يكون هو الحي بكل ذلك الاستهجان. وأي إنسان مكانه كان رغمًا عنه يتمنَّى أن يُصبح الميت المنتصر، ولا يبقى للحظة واحدة ذلك الحي المهزوم.
إن الهزيمة علنًا وأمام الملأ هكذا وبحكم جماعي يُصدره الآلاف مرةً واحدةً ومباشرة، الهزيمة التي لا تقبل جدلًا ولا تملك أن تبرِّرها حتى لنفسك، وما يصاحبها من ذلٍّ وخزي أكثر إيلامًا من أي شيء آخر على سطح الأرض، أكثر إيلامًا من الموت نفسه. إن فقد الحياة أهون بكثير من الحياة مع معاناتها.
ويا للمصارع المسكين! إنه إذا لزم جانب الحرص على نفسه ليخرج من المباراة سليمًا معافًى لم يرحمه الناس، وإذا أراد إرضاء الناس واقترب كثيرًا من الخطر لن ترحمه قرون الثور وأظلافه. للصدف جاءت وقفة الميتادور المهزوم وراء العارضة الخشبية القريبة مني، ولمحته يمسك بأعلى العارضة وكأنما يعلِّق أو يشنق نفسه منها، بينما جسده قد تراخى وتثنَّى ورأسه شبه متدلٍّ على صدره. كان يبدو كالمطعون سواءً بسواء، طعنة قرون أقسى من قرون الثور وأمَر، قرون جمهور غاضب أصابته في الصميم وجعلته يتألَّم، ليس ألم المجروح فلم يكن هناك جرح أو دم، ولكنه ألم أشد وأعتى؛ ألم الهزيمة!
كان ما يحدث وما أراه جديدًا عليَّ تمامًا مروِّعًا، لكأني في عالم مسحور وبين قوم ذوي قِيَم وحياة غريبة على عالمنا تمامًا، أو على الأقل غريبة على بلادنا في شرق البحر الأبيض وجنوبه.
إن الحياة هنا لها معنًى مختلف اختلافًا جذريًّا. لقد رُبِّينا على أن أصحَّ وأهم ما يمكننا عمله هو أن نحيا ونظل نقاوم الظروف والأعداء كي نبقى على قيد الحياة.
ولعل الأمر كذلك في إسبانيا نفسها وفي كل الدنيا، ولكن هنا في هذه الساحة يحاول الناس أن يخلقوا عالمًا آخر مختلفًا عن العالم في الخارج وفي كل مكان. عالم الهدف فيه ليس أن تحيا أو تحافظ على وجودك، الهدف أن تنتصر بحيث تحل كلمات النصر أو الهزيمة محل كلمات الحياة أو الموت، وبحيث تختلف كل المقاييس تبعًا لتغيير هذه القاعدة الأساسية من قواعد الوجود. وكأن الناس هنا لم يستطيعوا أن يُغيِّروا هذه المقاييس في حياتهم العادية، فابتكروا مصارعة الثيران أو تبنَّوها وجعلوا لها ساحة، و«أرينا» ومتحفًا وعالمًا كاملًا يدخلونه ليحيَوا ولو لبضع ساعات كل أسبوع بهذه المثل والقِيَم، وبدلًا من أن تقرأ كتابًا يروي لك قصة بطل لا يهمُّه الموت أو الحياة بقدر ما يهمُّه الهزيمة أو الانتصار، وبدلًا من أن تدخل دارًا للسينما أو مسرحًا تُطفأ فيه الأنوار وتعيش أو تُقنع نفسك أنك تركت عالمك المليء بالضعف والانهيار وملايين الناس المتشبِّثين بحياتهم — وأنت منهم — تشبُّث المستميت، وأصبحت في عالم آخر، عالم مخلوق من أُناس أبطال لا يتردَّدون أمام أي صراع أو خطر، يخوضونه وينتصرون فيه أو يهلكون دونه. بدلًا من هذا أوجد الإسبان لأنفسهم هذا المسرح الحي الذي يضم كائناتٍ من الأحياء. مسرحًا لا يخدعونك بتمثيل الصراع فيه، ولكنك تجد نفسك أمام صراع حقيقي لا تمثيل فيه ولا تمويه. الجماهير المطحونة المهزومة في حياتها اليومية، المتمسِّكة بالحياة رغم تفاهتها تمسُّكًا مستميتًا لا يخلِّصها منها سوى قوة قاهرة جبارة كالموت، هذه الجماهير تدخل الساحة لتشهد أناسًا يستخفون بالحياة إلى درجة السفه، إلى درجة البطولة في سبيل أن ينتصروا؛ ولهذا فالمصارع لا ينظرون إليه نظرة تمجيد منفصلةً عنهم. إن كلًّا منهم يخوض الصراع المُخيف من خلاله! ويرسل كلٌّ منهم خيطًا من ذات نفسه وروحه لتتجمَّع آلافها وتلتقي عند المصارع، وبنفسه وبها يخوض المعركة، يخوضها أساسًا لحسابهم وكأنهم أنابوه عنهم ليقوم بالعمل البطولي العاجزين هم عن القيام به؛ ولهذا أيضًا فما أشد نقمتهم عليه إذا لم يقُم بعمله كبطل، إذا عمل حسابًا لكِيانه المستقل، ومحافظةً عليه تهاون في القيام بالبطولة التي وكلوا إليه أمرها.
إنهم لم يجيئوا ليتفرَّجوا على براعة شابٍّ يصارع ثورًا في حدود أن يظل حيًّا ولو لم يصرعه، إنهم جاءوا ليُنيبوا عنهم بطلًا، بطولته أن يواجه المخاطر وينتصر عليها؛ ولهذا فمتعتهم الغامرة ليست هي أن ينقذ نفسه بتجنُّب المأزق الخطر، ولكن أن يضع نفسه في المأزق الخطر ويخرج منه سالما، أن ينتصر على الخطر بمواجهته وليس بتجنُّبه؛ فهم في حياتهم يفعلون هذا، هم دائمًا يتجنَّبون الخطر ويهربون من المأزق مؤثرين أن يوصفوا بكلمة الجبن أو الرعونة مع النجاة أو البقاء أحياءً، وهنا يريدون أن يفعلوا ما يحلمون بفعله ولا يستطيعون، أن يوصفوا بالبطولة ولو كان فيها مواجهة متعمِّدة للخطر وتعرُّض أكيد للهلاك.
ولهذا فالمصارع في إسبانيا ليس مجرَّد نجم رياضي؛ إنه أولًا وأساسًا بطل شعبي وأداة الشعب للبطولة، وكما لا يمكن أن تقبل الناس من بطلها السياسي أن يساوم أو يهادن، فهي أيضًا لا تقبل أبدًا من مصارعها أن يقوم بعمل ليس فيه بطولة. يجب أن يرتدي أجمل الثياب ويُبدي إعجابه علانيةً بأجمل السيدات، وأن يتصرَّف دائمًا وأبدًا كبطل. هذه الوِقفة التي ينفخ فيها صدره ويقذف برأسه إلى الخلف رافعًا ذقنه في ترفُّع وكبرياء مستفزًّا الثور، هذه الوِقفة التقليدية لم تأتِ عبثًا، إنها وِقفة البطل. هذه المرارة القاتلة إذا هُزم أو فشل في إظهار بطولته لم تأتِ عبثًا أيضًا؛ فهي ليست هزيمة شخص عادي، إنها هزيمة بطل.
ومسكين ذلك الميتادور الذي كان لا يزال يعلِّق نفسه من ذراعه بحافة العارضة، حتى الإشفاق لم يكن يحظى به، بل ولا نظرة التشَفي. لم يكن منك إلا الإهمال التام غير المتعمَّد وكأنه مُسح من الوجود، وكأنه انتهى دون أن يُخلِّف أثرًا، كأنه مات، بل حتى الموتى يبقى لهم بعض الأثر، أمَّا هذا فلم يكن قد تبقَّى له عند الجمهور شيء، لا شيء بالمرة تبقَّى.