الفصل الثاني

أساليب الحوسبة

إذا نشأت خلافات، فإن الجدل بين فيلسوفَين لن يزيد عن الجدل بين اثنَين من المحاسبين. ذلك لأنه يكفي عندئذٍ أن يأخذ كل منهما قلمَه، ويجلس إلى لوح الكتابة، ثم يقول للآخر (في حضور شاهدٍ من أصدقائهما، إذا أحبَّا ذلك): دعنا نحسُب.

لايبنتس، في ترجمة راسل (١٩٣٧)

عندما كان بيتر في العاشرة من عمره، أخبره معلم الرياضيات ذو العينَين اللامعتَين أنه يستطيع قراءة أفكار الآخرين. سأل بيتر: «كيف يمكنك ذلك؟» فقال المُعلم: «تعالَ، سأُريك. فكِّر في رقم. اضربه في ٢. أضف ٨. اقسِم على ٢. اطرح الرقم الأصلي. الآن ركز بشدة في الإجابة. ها أنا ذا أراها. الإجابة هي ٤.» كان بيتر مندهشًا جدًّا وأصرَّ على أن يُريه المعلم كيف يفعل ذلك. فقال المعلم: «حسنًا، إنها مجرد رياضيات. لنفترِض أن س هو رقمك. ثم طلبت منك حساب: (٢س + ٨) ÷ ٢ – س = ٤. لقد طُرِحَ رقمك الأوَّلي. والإجابة دائمًا نصف الرقم الذي أخبرتك أن تُضيفه.» حظي بيتر بالعديد من اللحظات الرائعة وهو يقرأ أفكار عائلته وأصدقائه بهذا الأسلوب. كما أنه أصبح مهووسًا بالرياضيات والحوسبة.

هذا الأسلوب واحد من أساليب رياضية عديدة جرى تناقلها عبر العديد من الأجيال. مثل هذه الأساليب تكمن وراء مجموعة من «الحيل الأوتوماتيكية» التي يستخدِمها السحرة، حيث يقود الساحر واحدًا من الجمهور عبر سلسلة من الخطوات إلى إجابةٍ معروفة لدى الساحر، ويعتقد الجمهور أنها سرية. تكمُن المهارات العقلية اللازمة لتحقيق هذه الحيلة في الخطوات الرياضية المعروفة للساحر ولكنها ليست معروفة للجمهور. وهي تنجح مع أي ساحرٍ يتبع التعليمات، حتى لو لم تكن لدى الساحر فكرة عن سبب نجاح هذه التعليمات.

لقد جرى توريث العديد من الأساليب الأخرى ذات الأغراض الأكثر جديةً عبر العصور. ويرجع أحد أقدم الأساليب، الذي يُدرَّس للعديد من تلاميذ المدارس اليوم، إلى عالِم الرياضيات اليوناني إقليدس حوالي عام ٣٠٠ قبل الميلاد. قدَّم إقليدس أسلوبًا لإيجاد القاسم المشترك الأكبر (ق. م. أ.) لعددَين، وهو أكبر عدد صحيح يقبل القسمة على كِلا العددَين. وجد إقليدس قاعدة اختزال ذكية من خلال ملاحظة أن القاسم المشترك الأكبر لعددَين يقبل القسمة على الفرق بينهما. استخدم الرقم الأكبر بدلًا من الفرق بينهما، وكرَّر ذلك حتى أصبحا متساوِيَين. على سبيل المثال: ق. م. أ. (٤٨‏، ١٨) = ق. م. أ. (٣٠، ‏١٨) = ق. م. أ. (١٢،‏ ١٨) = ق. م. أ. (١٢،‏ ٦) = ق. م. أ. (٦،‏ ٦) = ٦. استُخدِم هذا الأسلوب لاختزال الكسور. واليوم هو مِن بين الأساليب الأساسية الكامنة في التشفير.

من الأساليب الأخرى المشهورة التي تعود إلى اليونانيين أسلوب «غربال إراتوستينس»، المُستخدَم لإيجاد جميع الأعداد الأولية حتى حدٍّ معين. يبدأ هذا الأسلوب بقائمةٍ بجميع الأعداد الصحيحة من ٢ إلى الحد الأقصى. ثم يُستبعَد كل مضاعفات العدد ٢، ثم كل مضاعفات العدد ٣، ثم العدد ٥، وهكذا. وبعد كل جولةٍ من الاستبعاد، سيظهر عدد أولي جديد، وفي الجولة التالية يُستبعَد كل مضاعفات هذا العدد الأولي الجديد. وهذا أسلوب فعَّال جدًّا لإيجاد الأعداد الأولية الصغيرة، وقد استُخدِم لإيجاد الأعداد الأولية الكبيرة للمفاتيح في نظم التشفير الحديثة.

كان اليونانيون مُهتمِّين أيضًا بحساب مساحات الأشكال. وقاموا بذلك من خلال إيجاد طرقٍ لملء الأشكال بقوالب من الأشكال الأساسية البسيطة مثل المُربعات أو المُثلثات، ثم تقليل أبعاد القوالب واحدًا تلوَ الآخر حتى تملأ الشكل الأصلي بالكامل وتُغطِّيه تقريبًا. كان هذا الأسلوب، الذي سُجِّل لأول مرة في الفترة ما بين ٤٠٠ و٣٥٠ قبل الميلاد، هو بداية ظهور أساليب أفضل قُدِّمت في حساب التفاضل والتكامل الحديث بعد ألفَي عام.

استخدم العديد من علماء الرياضيات هذه الأساليب لإنشاء متسلسلات لا نهائية من حدود بسيطة والتي تتقارب حتى نهاية مُعينة. تمتلئ كتب الرياضيات بجداول المُتسلسلات؛ حيث استعان بها علماء الرياضيات لاستخدام الصيغ المُغلقة بدلًا من المُتسلسلات الطويلة. من أمثلة ذلك المتسلسلة ، والتي تقدم طريقةً لحساب قيمة ، وتزداد الدقة كلما أدرجنا المزيد من الحدود.

أتقنَ حساب التفاضل والتكامل، الذي قدَّمه نيوتن ولايبنتس كلٌّ على حدة حوالي عام ١٦٨٠، فكرة تقريب الأجسام والمنحنيات باستخدام العمليات الحسابية الخاصة بالمُتسلسلات اللانهائية. كانت الفكرة هي تمثيل الأشكال الهندسية والمُنحنيات المستمرَّة بمكوناتٍ صغيرة جدًّا مُتصلة اتصالًا مباشرًا فيما بينها، على سبيل المثال: كان الشكل يُملأ بمربعات صغيرة أو يُمثَّل المنحنى كمتواليةٍ من القِطَع المُستقيمة الصغيرة التي ترتبط بالقطع المُستقيمة المجاورة لها وكأن بينها قوى تجاذُب. ومن ثم، كان من المُمكن إيجاد مقدارٍ أكبر مثل المساحة أو الطول من خلال جمع هذه المكوِّنات الصغيرة. عند السماح لحجم هذه المكوِّنات أن يقترِب من الصفر، فإن القيم الناتجة من هذه المجاميع اللانهائية تكون فعليةً وليست تقريبية. تم تمثيل قاعدة الاتصال المباشر كمُشتقٍّ والمجموع كتكامل. بدافعٍ من حساب التفاضل والتكامل، أوجد علماء الرياضيات قيمة الدوال بتقسيم الزمان والمكان إلى تزايدات صغيرة تم إحصاؤها ﮐ «شبكة»، وحسبوا قيمة الدالة بشكلٍ تكراري عند كل نقطةٍ من نقاط الشبكة. وأفادت هذه الطريقة الفيزياء أيما إفادة، حيث تم التعبير عن العديد من النماذج الرياضية للظواهر الفيزيائية كمعادلاتٍ تفاضلية يمكن حسابها على شبكات منتهية.

من الأساليب الرياضية المشهورة الأخرى أسلوب الحذف لجاوس لحل نظم المعادلات الخطية. عمل جاوس بهذا الأسلوب في منتصف القرن التاسع عشر، على الرغم من أن علماء الرياضيات الصينيين عرفوه في عام ١٧٩ قبل الميلاد. تُستخدَم أشكال فعَّالة جدًّا من هذه الخوارزمية في شاشات الرسومات الحديثة لعرض الأجسام الثلاثية الأبعاد في الوقت الفعلي.

توضح هذه الأمثلة القليلة الفوائدَ الجمَّة التي تعود علينا من الكنز الهائل من الأساليب التي انتقلت إلينا على مرِّ قرون عديدة.

يُمكننا أن نستنتج من فحص هذه الأساليب أن العديد منها كان متطورًا للغاية. وكان هدفها هو معرفة ما يجب القيام به في عمليات الحوسبة المُعقدة، كسلسلة من الخطوات. في البداية، كانت هذه الخطوات يتم تنفيذُها من قِبَل علماء الرياضيات، ولكن مع إجراء التحسينات الكافية، أصبح من المُمكن استخدام هذه الأساليب من قِبَل أي شخصٍ يُمكنه اتباع التعليمات. ثمة نقطة مُهمة ولكنها صعبة، وهي أن خطوات الأسلوب يجب أن تكون خاليةً من الغموض تمامًا. كلما قلَّ الغموض، زادت موثوقية الطريقة بالنسبة إلى غير الخبراء. لذلك كان يتم تقليل الغموض عن طريق استخدام سلاسل دقيقة من العمليات الحسابية والمنطقية بدلًا من الخطوات المُبهمة.

بدءًا من حوالي عام ١٦٥٠، بدأ بعض علماء الرياضيات في البحث عن آلات لتنفيذ العمليات الأساسية في الأساليب الشائعة. كانت بعض الأساليب مُعقدة للغاية بحيث يصعب تذكُّرها. وبعضها كان لا بد من تكراره عدة مرات، ومن ثم كان من الصعب على البشر الذين يتشتَّت انتباههم بسهولةٍ إكماله دون أخطاء. ولذا فإن الآلات ستساعد في إجراء الحسابات بسرعةٍ أكبر وبأخطاء أقل.

لإنشاء الآلات، كان على علماء الرياضيات والمُخترعين ابتكار أساليب، مثل وضع العجلات والتروس، لتمثيل الأعداد بمقادير فعلية. كما كان عليهم ابتكار تمثيلاتٍ للخطوات المنطقية مثل القفزة الشرطية أو الحلقة. واليوم، تُعَد تمثيلات البيانات وخطوات المنطق عناصر أساسية مُهمة في التفكير الحوسبي. وسوف نوضح هذه الجوانب بمزيدٍ من التفصيل فيما تبقَّى من هذا الفصل.

(١) السعي إلى القضاء على الحدس

تطوَّرت الأساليب الحسابية عبر تاريخ الرياضيات بهدف مساعدة البنَّائين والمهندسين والتجار والعلماء في حساب الأعداد. اخترع التجار القدماء نُظم الأعداد ونظم المحاسبة وأدوات مثل العدَّاد لمتابعة أعمالهم التجارية. واخترع المهندسون القدماء طرقًا لبناء أسلحة لفترات الحرب ومنشآت مَدنية لفترات السلام. وسعى الجميع إلى أساليب موثوقٍ بها للتعامُل مع العمليات الحسابية التي تتضمَّن مقادير كبيرة من الأعداد بحيث تؤدي الأعمال المطلوب منها ويمكن الاعتماد عليها.

وقد انتقلت هذه الأساليب من خلال التدريب المِهني، ولم ينجح في استخدامها غالبًا سوى الخبراء. طوَّر الخبراء قواعد قائمة على التجرِبة العملية وخوارزميات تجريبية وتخمينات من وحي تجرِبتهم، وغيرها ليتمكنوا من حلِّ المشكلات التي يعجز قليلو الخبرة عن حلِّها. ويصف المصطلح الحديث «الحَدْس» عمل الخبير في صياغة حلٍّ بسرعة، بناءً على خبرة واسعة في مواقف مُماثلة. ويمكِّن الحدس الخبراء من العثور على جوهر المشكلة الأساسي، وتخطِّي الخطوات غير الضرورية لحلِّها، والتبديل بين طرُق الحل. والحدس هو مظهر من مظاهر الخبرة ويسمح بالوصول إلى نتائج جديدة.

قد يبدو مُتناقضًا إذن أن الكثير من علماء الرياضيات والمنطق على مرِّ العصور قد استهدفوا القضاء على الحدس في كلٍّ من الاستدلال المنطقي وعمليات الحساب الروتينية. كان المطلوب أن تكون مهام الحساب الروتينية بسيطة و«ميكانيكية» قدْر الإمكان من أجل الحصول دائمًا على النتائج نفسها بغضِّ النظر عمَّن قام بالعملية الحسابية. ولذا سعى علماء الرياضيات عبر التاريخ إلى وضع خِبرتهم في إجراءاتٍ مُتدرجة الخطوات بحيث يمكن لأي شخصٍ اتباعها بالقليل من التدريب. ولم يكن القضاء على الحدس في المهام الروتينية يعني القضاء على الخبراء، بل كان يعني بالأحرى جعل خبرتهم متاحةً لعددٍ كبير من الأشخاص غير الخبراء.

وقد ورثنا الأفكار الحديثة حول تمثيل المعلومات الرمزية، ومعالجة الرموز، والخطوات الواضحة في الحوسبة، والحساب الأساسي، والخوارزميات، ومزامنة عمليات الحوسبة، والتحقُّق المنهجي من الأخطاء من تلك القرون العديدة. من خلال إظهار كيف كانت أتمتة العمليات الحسابية سمةً رئيسية في العديد من تطورات طرق الحوسبة، فإن هدفنا هو الكشف عن كمِّ مهارات التفكير الحوسبي التي كانت جزءًا لا يتجزأ من العديد من أنواع التفكير الأخرى التي سبقت ظهور الحوسبة الحديثة. والواقع أن العديد من سِمات التفكير الحوسبي وممارساته تدعم تصميم عمليات الحوسبة في العديد من المجالات، وليس فقط في مجال علوم الكمبيوتر.

(٢) التمثيلات العددية والأساليب العددية

يعتمد التفكير الحوسبي، مثل الكثير من العلوم الحديثة، على عملية تمثيل الأشياء في العالم بأعداد أو رموز أخرى. والتمثيل هو ترتيب الرموز بتنسيقٍ مُتفق عليه؛ بحيث يُشير كل تمثيل إلى شيءٍ ما. وكثيرًا ما نستخدِم الأعداد لتمثيل مقادير كَمية مثل بيانات التعداد السكاني، ودفاتر الحسابات التجارية، أو القياسات الهندسية. ولكن الأعداد ليست النوع الوحيد من التمثيل. فالعلماء والمهندسون يُمثلون الظواهر بمعادلات، مثل استخدام المصفوفات الجبرية الخطية لتمثيل دوران الأجسام أو استخدام المعادلات التفاضلية لتمثيل حركة الكواكب. كما يمثلون الأجسام بأدواتٍ ميكانيكية مثل نماذج المباني أو أنفاق الريح أو نماذج محاكاة حركة الكواكب. ويعتمد القياس والتجريب وإمكانية تكرار النتائج — وهي قوام التفكير العلمي — على الأعداد والمعادلات والنماذج. في عصر الحوسبة، أصبحت التمثيلات بالرموز غير العددية شائعة؛ مثل برامج لُغة جافا، أو الخرائط النقطية للصور، أو المسارات الصوتية للمقطوعات الموسيقية. واليوم نستخدِم مصطلح «الرقمنة» للإشارة إلى عملية تشفير أي معلوماتٍ تقريبًا في شكل تمثيلات بيانات يمكن معالجتها بواسطة أجهزة الكمبيوتر.

قد يبدو متناقضًا إذن أن الكثير من علماء الرياضيات والمنطق على مرِّ العصور قد استهدفوا القضاء على الحدس في الاستدلال المنطقي وعمليات الحساب الروتينية. ولم يكن القضاء على الحدس في المهام الروتينية يعني القضاء على الخبراء، بل كان يعني بالأحرى جعل خبرتهم متاحةً لعددٍ كبير من الأشخاص غير الخبراء.

لم يعوِّل بعض المُتشككين على هذه الأساليب الحوسبيَّة لأن الحسابات العددية كانت معرضة طوال الوقت لحدوث أخطاء صغيرة في دقَّة معاملات عملية الحوسبة ومتغيراتها. وأدى هذا بمُصممي الأساليب إلى وضع قيودٍ للحد من تراكم الأخطاء. ولا تزال أجهزة الحوسبة الحديثة اليوم تواجِه المشكلات نفسها؛ لأن لدَيها دقة محدودة (مثل ٣٢ أو ٦٤ بت) ويمكن أن تتراكم أخطاء التقريب في الخوارزميات الرديئة التصميم. كان حساب التفاضل والتكامل يُعد بمثابة انطلاقة؛ لأنه أتاح للمُصمِّمين طرقًا منهجية للحدِّ من الأخطاء في حسابات الفروق المُنتهية التي يُجرونها.

(٣) تقسيم مهام الحوسبة

خلال الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، طوَّر الجيش الأمريكي مدفعية أكثر تطورًا قادرة على إطلاق القذائف لمسافة عدة أميال. واحتاج رجال المدفعية إلى معرفة كيفية توجيه مدفعيتهم في ضوء المسافة، وفرق الارتفاع، والرياح. ولذا كلف الجيش فِرقًا من الحواسب البشرية لوضع جداول إطلاق النار لهذه المدافع. وكان على رجال المدفعية ببساطةٍ البحث عن الزاوية والاتجاه الصحيحَين لتوجيه مدافعهم، في ضوء قياساتهم للمسافة والارتفاع والرياح.

كان أحد أشهر هذه الفِرق يتألف من نساء يعملنَ في قاعدة «أبردين» في ولاية مريلاند حوالَي عام ١٩٤٠. وقد نظمنَ أنفسهنَّ في خطوط تجميع، حيث تقوم كل واحدةٍ منهنَّ بمرحلة مختلفة من الحوسبة، حتى قمنَ بتجميع جداول إطلاق النار وتحويلها إلى لغة تفهمها الآلة. واستخدمنَ في ذلك الآلات الحاسبة التي تقوم بالعمليات الحسابية الأساسية (الجمع والطرح والضرب والقسمة). واتَّبعْنَ برامج (أي مجموعات من الإجراءات) وضعها المديرون لتقسيم العمل والتحكُّم في انتقال الحسابات الوسيطة من حاسبة بشرية إلى أخرى. ولكَونهنَّ عالمات رياضياتٍ مدرَّبات، تمكنَّ من اكتشاف الأخطاء في عمليات الحوسبة الخاصة بهنَّ، ومن ثَم حافظن على خلوِّ جداول إطلاق النار من الأخطاء.

يتبع التفكير الحوسبي اليوم نمطًا مُشابهًا يرجع إلى هذا النهج المُتبع قديمًا:

  • تقسيم عمليات الحوسبة بأكملها إلى مراحل يمكن أن تقوم بها أجهزة كمبيوتر منفصلة ومتصلة ببعضها.

  • تنظيم أجهزة الكمبيوتر لتحسين أنماط التواصل والمراسلة بينها؛ على سبيل المثال: في خط تجميع، أو في نسقٍ موازٍ ضخم يعتمد على التوزيع الموسَّع والربط.

  • تضمين أدوات التحقق من الأخطاء في أساليبهم بحيث يمكن للمُستلِمين التحقُّق من صحة مدخلاتهم ومخرجاتهم.

يعرف مصممو البرامج اليوم هذه المبادئ بالأسماء التالية: الحوسبة الموزعة، والتوازي، والتحقُّق من الأخطاء. ولكن هذه الممارسات لم تُوضَع في الأصل للآلات، بل وُضِعت للحواسب البشرية.

أراد الجيش الأمريكي إجراء هذه الحسابات على نطاقٍ أكبر بكثيرٍ وأسرع بكثير مما تستطيع الفرق البشرية في «أبردين» القيام به، لذلك كُلِّف مشروع الكمبيوتر والمكامل الرقمي الإلكتروني (إنياك) في جامعة بنسلفانيا بالقيام بذلك. وواجه مصممو الكمبيوتر والمكامل الرقمي الإلكتروني تحدِّيات هائلة، مثل تعلم كيفية بناء دوائر إلكترونية موثوقة لتنفيذ نفس عمليات الحوسبة بشكلٍ أسرع بكثير، وتعلُّم كيفية تصميم برامج التحكُّم والخوارزميات لمنع تراكُم الأخطاء في عمليات الحوسبة. وتحوَّل أسلوب تقسيم المهام إلى خطواتٍ واضحة تُنقَل البيانات بينها، من كونه مبدأ إداريًّا في «أبردين» إلى مبدأ تصميمي في أجهزة الكمبيوتر (أو الحواسب الآلية).

ازداد القلق بشأن الأخطاء مع زيادة حجم الآلات وتعقيدها. وما زلنا حتى الآن نُعلِّم الطلاب في علوم الكمبيوتر هذه الحكمة القديمة: يمكن أن تحدُث الأخطاء في أي مرحلةٍ من مراحل عملية الحوسبة، بما في ذلك وصف المشكلة، وإعداد الصِّيَغ، وتعيين الثوابت، وإرسال البيانات، وتسجيل البيانات واسترجاعها، وتنفيذ الخطوات المُوضَّحة، وعرض النتائج.

(٤) قواعد التفكير المنطقي

إن تصميم عمليات الحوسبة في خطوات واضحة ليس كافيًا للوثوق في أن عمليات الحوسبة خالية من الأخطاء. إذ يجب ربط الخطوات معًا وفق خطة مُعينة. وفي أي مرحلة من عملية الحوسبة يجب أن تخبرنا الخطة بشكلٍ واضح وصريح عن الخطوة التالية. ويُعد تحديد الخطوة التالية ممارسةً من ممارسات المنطق.

كان هناك فرع قديم جدًّا من الرياضيات والفلسفة مُهتمٌّ بالمنطق. فهل يُمكننا توفير الوسائل لتطوير سلاسل طويلة من التفكير المنطقي لحل المشكلات والتحقُّق من صحة سلسلة معينة من التفكير المنطقي؟ وعلى غرار نظرائهم في علم الحساب، سعى علماء المنطق إلى طرُقٍ لتوحيد التفكير المنطقي وأتمتتِه. وسعى فلاسفة مثل رينيه ديكارت وجوتفريد لايبنتس في القرن السابع عشر إلى لغةٍ تصوغ الاستدلال البشري بشكلٍ كامل وتقلل سوء الفهم. وكان هدفهم إرساء طريقةٍ قياسية للتعبير عن المفاهيم وقواعد الاستدلال لتحديد صحة العبارات أو خطئها بشكلٍ قاطع. ووَفقًا لرؤيتهم، فإن «لغة التفكير» هذه من شأنها أن تُنهي الخلافات في جميع المجالات؛ لأننا يمكن أن نحسم جميع النقاشات بالمنطق البحت.

كان التقدم نحو هذا الحلم بطيئًا. ولكن حدثت طفرة في القرن التاسع عشر. رأى جورج بول (١٨١٥–١٨٦٤) كيف أن نظم الرموز الرياضية الجيدة الصياغة كانت قادرة على تقديم نتائج للمشكلات على نحوٍ شبه آلي بمجرد تعيين القيم الصحيحة في الصيغة، وافتُتن بذلك.1 وفي كتابه «قوانين التفكير» (١٨٥٤) قدَّم «الجبر الفكري» الموازي لجبر الأعداد. وتضمَّن منطقه متغيراتٍ يمكن إعطاؤها قيمة true أو false. واستطاع صياغة تعبيراتٍ منطقية، وهي صيغ من المتغيرات المرتبطة عن طريق عوامل تشغيل مثل and وor وnot. وبعد ما يقرُب من تسعة عقود (١٩٣٧)، أظهر كلود شانون كيف تمكَّن جبر جورج بول من وصف دالَّة دوائر المُرحِّلات في نظم التليفون والدوائر الكهربائية الأخرى. وتم تحسين الجبر البولياني لتصميم الدوائر الإلكترونية في خمسينيات القرن العشرين، حيث قدم وسيلةً لإيجاد أصغر دائرة لدالَّةٍ منطقية مُعينة ووسيلة لتصميم الدائرة لتجنُّب حالات التعارُض، وهي المُخرجات الغامضة الناجمة عن تغير الإشارات بسرعات مختلفة في أجزاء مختلفة من الدائرة. وأصبح الجبر البولياني ركيزة أساسية في تصميم دوائر الكمبيوتر.

على الرغم من مزايا الجبر البولياني، فإنه كان لدَيه بعض المساوئ الخطيرة. فالجُمَل التي تشير إلى المجموعات، مثل «كل من لدَيه شعر رَمادي»، على الرغم من كونها مفهومة تمامًا باللغة الطبيعية، لا يمكن التعبير عنها في المنطق البولياني. إذ لم يكن هناك طريقة لإنشاء قائمة بالكيانات التي تنطبق عليها صيغةٌ ما؛ فلم يكن هناك معنًى واضح لمفاهيم «كل» و«أحدهم». ولم تكن هناك قواعد للمُحددات الكَميَّة المهمة «كل» و«بعض».

قدم جوتلوب فريجه (١٨٤٨–١٩٢٥) نظامًا جديدًا للاستدلال المنطقي، «لغة التفكير الخالص» (١٨٧٩)، والذي يُسمَّى حاليًّا المنطق الإسنادي. وتضمَّن مُحددات كَميَّة جديدة ﻟ «كل» و«بعض» ليسد ثغرات المنطق البولياني. وقدَّم نظام فريجه أيضًا قواعد آلية لمعالجة الرموز يمكن اتِّباعها دون اللجوء إلى الحدس البشري. يُشبه المنطق الإسنادي لفريجه لغة البرمجة من حيث إنه يوفر لغةً شكلية اصطناعية تُقدم قواعد واضحة وحاسمة وآلية لمعالجة الرموز.

في أوائل القرن العشرين، بدا أن حلم الوصول إلى لغة شكلية للتفكير على وشك التحقُّق. وأدى اندماج الرياضيات والمنطق إلى ظهور العمل الرائد لراسل ووايتهيد «مبادئ الرياضيات» (١٩١٠) وظهور التجريبية المنطقية في العلوم. ولكن كان هناك عنصر لا يزال مفقودًا لتحقيق هذا الحلم؛ أسلوب لتحديد ما إذا كانت عبارة في المنطق الإسنادي صحيحة أم غير صحيحة بشكلٍ قاطع. أصبح السؤال حول وجود مثل هذا الأسلوب معروفًا باسم «مشكلة القرار». وبحلول عشرينيات القرن العشرين، اعتُبر هذا أحد التحدِّيات الرئيسية في الرياضيات. واعتقد معظم علماء المنطق الرياضي أن هذا الأسلوب موجود، ولكن لم يتمكَّن أحد من العثور عليه.

(٥) ميكنة الحوسبة

في عام ١٩٣٥، تعرَّف طالب رياضيات شاب في كامبريدج على مشكلة القرار للمرة الأولى. وفُتن الشاب بالكلمات التي استخدمها المحاضر لطرحها: هل كانت هناك عملية ميكانيكية للجزم على نحو قاطع، وفي عددٍ محدود من الخطوات، بصحة فرضيةٍ ما في المنطق الإسنادي من خطئها؟ قرَّر هذا الطالب، آلان تورينج (١٩١٢–١٩٥٤)، تطوير نموذج ميكانيكي تمامًا للحوسبة حتى يتمكن من التحقيق في مشكلة القرار.

بدأ تورينج بفكرة أنه عند إحصاء الأعداد، يكتب الحاسب البشري سلسلةً من الرموز على الورق. مثَّل الورقة بتسلسُل خطِّي من المربعات يحتوي كلٌّ منها على رمزٍ واحد. وأثناء الإحصاء ينقل الشخص اهتمامه من المُربع الحالي إلى أحد أقرب المُربعات المجاورة، مع إمكانية تغيير الرمز في المربع. وافترض أن عقل الشخص الذي يقوم بالعملية الحسابية كان في حالةٍ من عددٍ محدود من الحالات، وأن كل واحدة من هذه التحركات الأساسية على الورق نتجت عن الانتقال من الحالة الحالية إلى حالة تالية محددة. وتستمر هذه العملية حتى إتمام العملية الحسابية. أخذ تورينج هذه الإجراءات الأساسية — عند وجودك في حالة معينة، انتقل يسارًا أو يمينًا مربعًا واحدًا، واقرأ الرمز في المربع الحالي، ثم غيِّر الرمز في المربع الحالي، وانتقل إلى الحالة التالية — واعتبرها التقنية الأساسية لإجراء عملية الحوسبة.

من الواضح أن الآلة يُمكنها القيام بهذه الخطوات وتتبع الحالات. لاحظ أن هذه الآلة حاكت خطوات إحصاء الأعداد أو إيجاد قيمة الدوالِّ المنطقية. بعد توضيح كيفية عمل مثل هذه الآلة، أظهر تورينج أنه توجَد آلة واحدة يمكنها محاكاة جميع الآلات الأخرى، مما يعني أن نَموذج الآلة هو طريقة عامة لتمثيل جميع العمليات الحسابية والبراهين. ثم أثبت أنه لا توجَد آلة يُمكنها حل مشكلة القرار؛ لأن وجود آلة يمكنها القيام بذلك يؤدي في حدِّ ذاته إلى مفارقة منطقية. وفي نهاية الأمر، أدى هذا العمل الرائع إلى ذيوع صيتِه وشهرته ﺑ «آلة تورينج» وآثارها على الحوسبة.

بعد بضع سنوات، قدم الكمبيوتر الرقمي الإلكتروني الوسيلة اللازمة لأتمتة العملية الحسابية والبرهان؛ محققًا أخيرًا، وإلى حدٍّ ما على الأقل، حلم ميكنة العمليات الحسابية والمنطقية. وكانت الأتمتة هي أساس جميع هذه التطوُّرات. للتأكيد على ذلك، أطلق تورينج على آلاته اسم «الأجهزة الآلية». وبالمِثل، فإن المهندسين الذين صمَّموا أجهزة الكمبيوتر الإلكترونية الأولى في الأربعينيات من القرن العشرين، مثل UNIVAC وBINAC، أطلقوا عليها «الكمبيوتر الآلي». خلال الثمانينيات، كان علم الكمبيوتر نفسه يوصَف بأنه علم الأتمتة. يتطلَّب الجانب الأساسي من الأتمتة أن تقوم الآلة بالعمل دون تدخُّل بشري. والكمبيوتر الآلي هو الشكل النهائي لتحقيق الحلم القديم في إتاحة إجراء العمليات الحسابية للجمهور دون الحاجة إلى أن يكونوا خبراء في إجراء العمليات الحسابية.

جانب آخر مُهم من الأتمتة هو إدراك أن أجهزة الكمبيوتر الآلية لا يُمكنها أداء بعض المهام الحيوية. بيَّن تورينج هذا عندما أثبت أنه لا يمكن أن يُوجَد جهاز آلي لحلِّ مشكلة القرار. ويُبين منطقه نفسه أنه لا يمكن لأي جهاز آلي حلُّ مشاكل ذات أهمية عملية، مثل تحديد ما إذا كان برنامج كمبيوتر معين سيتوقف أو سيدخل في حلقة تكرارية لا نهائية، أو ما إذا كان برنامج معين يحتوي على فيروس كمبيوتر. ولهذا السبب، يهتم جزء كبير من التفكير الحوسبي بكيفية تقديم حلول جزئية للمشكلات التي لا يمكن حلها بواسطة أجهزة الكمبيوتر الآلية.

لم نكن لنفهم إمكانيات الكمبيوتر الآلي وحدوده دون دمج العمليات الحسابية والمنطقية. ومن غير المُستغرب أن يعتبر الكثير من الناس التفكير المنطقي جزءًا لا يتجزأ من التفكير الحوسبي.

(٦) رؤى التفكير الحوسبي تأتي من العديد من المجالات

يجب أن يكون واضحًا من هذا النقاش حول أصول التفكير الحوسبي أن التفكير الحوسبي لا يتعلق بكيفية تفكير علماء الكمبيوتر. فعِلم الكمبيوتر الحديث هو آخر ١٪ من الجدول الزمني التاريخي للتفكير الحوسبي. ورث علماء الكمبيوتر التفكير الحوسبي من صفٍّ طويل من علماء الرياضيات والفلاسفة الطبيعيِّين والعلماء والمهندسين المُهتمِّين جميعًا بإجراء عمليات حسابية كبيرة واستنتاجاتٍ معقدة بدون أخطاء، وطوَّروا منه. ولذا، فالتفكير الحوسبي هو سِمة في العديد من المجالات، وليس في مجال الحوسبة فقط.

أراد علماء المنطق إنشاء نظُم شكلية يمكن للمرء أن يبدأ فيها من المقدِّمات، ومن خلال اتباع سلاسل من البدائل داخل نظام شكلي من القواعد، سيصل دائمًا إلى نفس الاستنتاجات. كانت رؤى بول وشانون المنطقية — أن عددًا قليلًا من العمليات المنطقية يمكن أن يُعبر عن قِيَم صدق كل المنطق المقترح، وكذلك التصميم المنطقي للدوائر الرقمية — مدفوعة بسعيٍ قديم لاستبعاد كل العاطفة البشرية والحُكم من منطلق الاستدلال المنطقي. تُعَد هذه الرؤى اليوم من بين المبادئ الأولى للحوسبة. قدمت رؤية فريجه المنطقية — مُمثلةً في المنطق الإسنادي — نظامًا أكثر فاعلية للاستدلال، له العديد من أوجه التشابُه مع لغات البرمجة الحديثة. ورؤية تورينج للسمات الأساسية للمعالجة الآلية — أن خمسة إجراءات وعددًا محدودًا من الحالات يكفيان لأي عملية حوسبة — جاءت من المنطق الرياضي.

نشأت رؤًى أساسية أخرى للتفكير الحوسبي من العلوم والهندسة. من أهمها إدراك أن معظم عمليات الحوسبة في العلوم والتكنولوجيا تتطلَّب عملياتٍ حسابية طويلة جدًّا تتجاوز قدرات أي فريقٍ من البشر. إن مُصممي الأساليب الحوسبيَّة لحل المشكلات العملية مهووسون بالتحكُّم في الأخطاء والحدِّ منها من خلال جعل خطوات الحوسبة بسيطةً وواضحة، وجعل منطقها الترابطي لا يمكن دحضه.

يُعَد الكمبيوتر الحالي هو الأداة التي سعى إليها الكثيرون عبر العصور لأتمتة العمليات الحسابية وتحريرها من ضعف البشر والحاجة إلى تدخُّلهم وأحكامهم. يجسد الباحثون والمحترفون الجدد في مجال الحوسبة هذا التاريخ الطويل ويتفوَّقون في أتمتة عمليات الحوسبة باستخدام أفضل الأساليب المتاحة. ومع ذلك، كما سنرى في الفصل التالي، كان من الصعب جدًّا تحقيق الرغبة في بناء نظم حقيقية لعمليات الحوسبة الضخمة الخالية من الأخطاء.

يعد الكمبيوتر الحالي هو الأداة التي سعى إليها الكثيرون عبر العصور لأتمتة العمليات الحسابية وتحريرها من ضعف البشر والحاجة إلى تدخلهم وأحكامهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥