الفصل الرابع

علوم الكمبيوتر

يُعد السؤال «ما الذي يمكن أتمتته؟» أحد أكثر الأسئلة الفلسفية والعملية إلهامًا في الحضارة المعاصرة.

جورج فورسايث (١٩٦٩)

في الخمسينيات من القرن العشرين، بدأ الأكاديميون يدعُون إلى إنشاء برامج لتدريس علوم الكمبيوتر في الجامعات لتلبية الحاجة المُتزايدة إلى تعلُّم التقنيات الجديدة. ومنذ ذلك الحين، صُقلت العديد من مبادئ التفكير الحوسبي في أقسام علوم الكمبيوتر وطُوِّرت. ننتقل الآن إلى كيفية تطوير التفكير الحوسبي في الجامعات.

قبل أن نبدأ، نودُّ أن نُسلط الضوء على بعض الجوانب الرئيسية للبيئة الأكاديمية التي تطوَّر فيها التفكير الحوسبي. أولًا وقبل كل شيء، الحوسبة هي مجال تقني يجمع بين الهندسة والعلوم والرياضيات. وقد أتي معظم طلَّاب الحوسبة إلى الجامعة لتعلُّم مهنة تصميم البرامج والأجهزة، وليس للحصول على تعليم عام. كما يأتي أصحاب الشركات إلى الجامعة لتوظيف الخريجين في شركاتهم. لذلك، فإن التفكير الحوسبي الذي تطوَّر جنبًا إلى جنب مع الحوسبة الأكاديمية كان دائمًا مُرتبطًا ارتباطًا قويًّا بالتصميم ومتأثرًا بشدة بما يقول أصحاب الشركات أنهم يحتاجونه.

ولكن هذا ليس كل شيء. تُنظَّم الجامعات في مجموعةٍ من الأقسام حسب التخصُّص ومجموعة من المعاهد والمراكز المُتعددة التخصُّصات. وتدافع الأقسام باستماتةٍ عن هويتها وميزانياتها ومساحتها. ولأن ميزانياتها تعتمد على الْتحاق الطلاب بها، فإنها تكافح من أجل الحفاظ على عدد المُلتحقين بها. ولأن عدد الطلاب المُلتحقين يعتمد على سمعة القسم والسمعة تعتمِد على الإنتاجية البحثية، فإن الأقسام تدافع عن نطاقات بحثها.

جانب مُهم آخر من جوانب تشكيل البيئة الأكاديمية هو السعي وراء توافق الآراء في جميع القرارات. فالجميع يُريدون أن يُدلُوا بدَلوهم، سواء كان ذلك عند توظيف شخصٍ جديد، أو منح رتبةٍ علمية، أو تحديد الدورات التي ستُقدمها، أو الموافقة على الدورات المتداخلة المُحتملة التي تقترحها الأقسام الأخرى، أو الموافقة على إنشاء برامج أو أقسام جديدة.

هذا هو الجوُّ الذي تشكلت فيه أقسام علوم الكمبيوتر الجديدة وتشكل فيه التفكير الحوسبي الأكاديمي. شعر المؤسِّسون بالقلق بشأن المناهج الدراسية ومُتطلبات الصناعة في سياق مجموعةٍ من الأقسام الساعية إلى توافق الآراء والمدافعة عن امتيازاتها بقوة، والمُهتمة دائمًا بصورتها العامة وهويتها.

اقترح المؤسسون أقسامًا جديدة مُنفصلة عن الأقسام الرئيسية الموجودة. وكانت الأقسام الرئيسية في الغالِب تُعارض هذا الانفصال؛ لأنها ستفقد الطلاب والميزانية والهوية. وواجه المؤسِّسون الكثير من المعارضة من الأقسام الأخرى التي لم تَعُدَّ تكنولوجيا الكمبيوتر علمًا منفصلًا عن العلوم أو الهندسة، ولم ترَ أنه سيقدم منظورًا فكريًّا فريدًا. وكان الوصول إلى توافق آراء تؤيد تشكيل قسمٍ جديد يُمثل تحديًا. ومن ثَم أمضى المؤسسون الكثير من الوقت في مناقشة جوهر الحوسبة، ولماذا كان مختلفًا وجديدًا، وكيف سيُفيد المجالات الأخرى. وقدَّموا حجةً وجيهة ونجحوا في مهمَّتهم. وببطءٍ تزايد عدد أقسام علوم الكمبيوتر، من قسمٍ واحد في عام ١٩٦٢ إلى حوالَي ١٢٠ قسمًا في عام ١٩٨٠ في الولايات المُتحدة وحدَها. وفي أواخر التسعينيات، انطلقت علوم الكمبيوتر عندما أدرك الناس أخيرًا أن ثورة الحوسبة حقيقية. واليوم، يُوجَد في كل الجامعات تقريبًا قسم لعلوم الكمبيوتر.

تُوجَد أقسام علوم الكمبيوتر في كليات العلوم والهندسة وحتى التجارة. فلماذا هذه الأماكن المُتعددة؟ الإجابة تعكس تلك المعارك السياسية المبكرة؛ حيث أُنشئت الأقسام الجديدة في الكليات الأكثر تَرحابًا. ونظرًا إلى أن معظم الأقسام كانت في كليات العلوم والهندسة، فبحلول الثمانينيات من القرن العشرين، كان علماء الكمبيوتر يُطلقون على مجالهم «علوم الكمبيوتر والهندسة». وتم تبسيط هذا الاسم الطويل في التسعينيات حتى أصبح مُصطلح «الحوسبة» اختصارًا شائعًا لعلوم الكمبيوتر والهندسة، بينما انتشر استخدام مصطلح «علم المعلومات» في أوروبا. في التسعينيَّات من القرن العشرين، ذهبت بعض الجامعات إلى أبعد من ذلك وأنشأت كليات مُنفصلة للحوسبة، وما زال هذا مُستمرًّا إلى اليوم. فيا له من تحول!

في بداية الأمر، تأسَّست جمعيتان أكاديميتان للكمبيوتر؛ أُولاهما: جمعية الكمبيوتر التابعة إلى معهد مُهندسي الكهرباء والإلكترونيات، وتأسست في عام ١٩٤٦؛ والثانية: جمعية آلات الحوسبة، وتأسست في عام ١٩٤٧. وبسبب اجتهادهما في تطوير وتعزيز توصيات المناهج الدراسية، كانت هناك سلسلة من اللقطات للمناهج الدراسية للحوسبة على فترات مُنتظمة: ١٩٦٨، و١٩٧٨، و١٩٨٩، و١٩٩١، و٢٠٠١، و٢٠١٣. تُظهر هذه اللقطات كيف أدَّى تنسيق الجهود التي بذلها رواد الحوسبة في خلق هوية فريدة لعلوم الكمبيوتر إلى إدراكهم للتفكير الحوسبي كجانبٍ مُميز من البداية. وبالتدقيق، يُمكننا تمييز أربعة عصور تصف كيف فكَّرت الجامعات في الحوسبة وكيف تغيَّرت هذه الآراء حول التفكير الحوسبي:

  • الظواهر المُحيطة بأجهزة الكمبيوتر (خمسينيات وسبعينيات القرن العشرين).

  • البرمجة فنًّا وعلمًا (سبعينيات القرن العشرين).

  • الحوسبة باعتبارها عملية أتمتة (ثمانينيات القرن العشرين).

  • الحوسبة بوصفها عملياتٍ معلوماتية شاملة (تسعينيات القرن العشرين وحتى الوقت الحاضر).

وسنتناول هذه العصور بالمناقشة في الأقسام التالية.

تأثرت هذه المراحل الأربع لتطوُّر التفكير الحوسبي في الجامعات بشدة بالمقاومة الأولية التي واجهتها علوم الكمبيوتر من قِبل المجالات الأخرى؛ فقد بذل علماء الكمبيوتر الأكاديميون الكثير من الجُهد في توضيح مجالهم وتبريره. ولكن علوم الكمبيوتر لم تكن دائمًا المُستقبلة لسهام المقاومة. هناك حالتان مُهمَّتان كانت فيهما علوم الكمبيوتر هي المُوجِّهة لهذه السهام. الأولى: كانت حركة علوم الحوسبة في ثمانينيات القرن العشرين، والتي رفضها العديد من علماء الكمبيوتر. كان رد الفعل الشائع لإعلان من قسم الفيزياء أو الأحياء بأنهم ينشئون فرعًا لعلوم الحوسبة هو صرخة احتجاج على أن تلك الأقسام تتعدَّى على أراضي الحوسبة. فقد اعتقد بعض علماء الكمبيوتر أن الفيزياء والبيولوجيا، بعد أن أدركا أهمية الحوسبة، يُحاولان الاستيلاء على المجال الذي عارضوه بشدة من قبل. وفي النهاية، تغلَّب علماء الكمبيوتر على هذا الأمر وأصبحوا الآن يتعاونون مع علوم الحوسبة. وسوف نتحدَّث عن العلوم الحوسبيَّة في الفصل السابع.

حدث الشيء نفسه مع هندسة البرمجيات. فقد كان هناك تفرقة واضحة بين علوم الكمبيوتر وهندسة البرمجيات في الماضي؛ إذ إن أقسام علوم الكمبيوتر كانت تُركز على الأبحاث النظرية وكثيرًا ما كانت تقاوم المناهج العملية القائمة على المشاريع والتي يُفضلها مهندسو البرمجيات. وقد أدى هذا إلى جدلٍ مُستمر بشأن ما إذا كانت هندسة البرمجيات يجب أن تكون مجالًا مُنفصلًا عن علوم الكمبيوتر، أم جزءًا منها. وسوف نتحدَّث عن هذا الموضوع في الفصل الخامس.

(١) الظواهر المُحيطة بأجهزة الكمبيوتر

سرعان ما أدرك مُطوِّرو أجهزة الكمبيوتر الآلية المبكرة أن الآلات الجديدة تتطلَّب طريقة تفكير وتصميم مُختلفة عن أي شيءٍ موجود بالفعل في العلوم أو الهندسة. وأنشأت جمعية آلات الحوسبة ومعهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات دوريات علمية لهذا المجال الناشئ في بداية الخمسينيات من القرن العشرين. وكانت كلية مور، موطن مشروع المُكامل الرقمي الإلكتروني، من أولى الجهات التي بدأت تعليم الحوسبة في عام ١٩٤٦ بدورةٍ مكثفة مدتها شهران حول «نظرية تصميم أجهزة الكمبيوتر الرقمية الإلكترونية وتقنياتها». وفي الخمسينيات من القرن العشرين، منحت كلية مور درجةً علمية متعددة التخصُّصات في الحوسبة تضمنت التحليل العددي، والبرمجة، وتصميم لُغة البرمجة. وبدأت كليات أخرى برامجها الخاصة.

لم تُثمر هذه الجهود المبكرة لإرساء الحوسبة كتخصُّص أكاديمي مستقل إلا عن نتائج بطيئة. ولم يكن ما يعوق تقدُّمها هو فقط التردُّد الحذِر للتأكد من أن أجهزة الكمبيوتر جاءت لتبقى؛ بل كان شكًّا عميقًا فيما إذا كانت الحوسبة ذات جوهر أكاديمي يتجاوز الرياضيات والهندسة الكهربائية والفيزياء. وكان الذين هم خارج مجال الحوسبة في خمسينيات القرن العشرين يرَون أنه غابة فوضوية كثيفة من الحِيَل التكنولوجية الخاصة لا يمكن اختراقها. علاوة على ذلك، كانت وجهات النظر المُختلفة للتفكير في الحوسبة مُنقسمة: فكان أولئك الذين صمَّموا آلات الحوسبة غير مُدركين في الغالب للتطوُّرات المُهمة في نظرية الحوسبة؛ مثل تورينج فيما يختص بالأعداد القابلة للحوسبة، وتشيرش فيما يختصُّ بحساب لامدا، وبوست فيما يختصُّ بمعالجة سلاسل الأحرف، وكلين فيما يختص بالتعبيرات العادية، ورابين وسكوت فيما يخص الآلات غير المُحدَّدة، وتشومسكي فيما يخصُّ العَلاقة بين القواعد اللغوية وأنواع الآلات الذاتية التشغيل.1

واجه الأكاديميون الذين اقترحوا أقسامًا أو برامج كاملة لعلوم الكمبيوتر في الجامعات البحثية مقاومة قوية. فلم يُصدق العديد من المُنتقدين قيمة الطرق الجديدة للحوسبة؛ ومن الاعتراضات الشائعة: الافتقارُ إلى المحتوى الفكري الفريد والافتقار إلى الأساس النظري الكافي. وجادل الأصوليون بأن أجهزة الكمبيوتر كانت مصنوعات بشرية وليست أحداثًا طبيعية، ومن ثَم لا يمكن اعتبار دراستها ضمن العلوم الطبيعية الغَراء. علاوة على ذلك، شكَّك الكثيرون في استمرار الحوسبة. ولم يتمكن أحد من تأسيس قسم علوم الكمبيوتر إلا بعد أن توصَّلت العديد من الأقسام إلى توافُق في الآراء.

بدأ هذا التيار في التغيُّر عام ١٩٦٢، عندما أنشأت جامعة بوردو أول قسمٍ لعلوم الكمبيوتر وتبعتها ستانفورد بعد ذلك بوقت قصير. وعلى مدار العَقدَين التالِيَين، زاد عدد الأقسام، ببطء ولكن بثبات، إلى أكثر من مائةٍ في الولايات المتحدة الأمريكية وحدَها. ومع ذلك، واصل العديد من الأكاديميين التشكيك فيما إذا كانت علوم الكمبيوتر مجالًا علميًّا أو هندسيًّا مستقلًا.

حدث تحول رئيسي في السؤال حول أحقية الحوسبة بالاستقلال عام ١٩٦٧، عندما نشر ثلاثة من علماء الكمبيوتر المعروفين — ألِن نيُوويل، وألان برليس، وهيربرت سايمون — رسالة شهيرة في مَجلة «ساينس» تتناول هذا السؤال. كتبوا: «أينما وُجِدت الظواهر، يمكن أن يكون هناك عِلم لوصف تلك الظواهر وتفسيرها. ومن ثَمَّ، فعِلم النبات هو دراسة النباتات، وعلم الحيوان هو دراسة الحيوانات، وعلم الفلك هو دراسة النجوم، … وهكذا. الظواهر تُولِّد العلوم … تُوجَد أجهزة كمبيوتر. ومن ثَمَّ، وجدت علوم الكمبيوتر لدراسة أجهزة الكمبيوتر. فالظواهر المُحيطة بأجهزة الكمبيوتر مُتنوعة ومعقدة وغنية.»2 من هذا الأساس، سرعان ما رفضوا ستة اعتراضات، بما في ذلك الاعتراض على أن أجهزة الكمبيوتر من صنع الإنسان، وبناءً عليه فليست موضوعات تستحقُّ أن ينشأ لها عِلم مستقل. واعترض هيربرت سايمون، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، بشدةٍ على فكرة أنه لا يمكن أن يكون هناك عِلم يُحيط بالأشياء التي صنعها الإنسان، لدرجة أنه كتب كتابًا أضحى من الكتب الكلاسيكية حاليًّا بعنوان «علوم الاصطناعي» يدحض هذه الفكرة.3 وأعطى مثالًا على نظم المشاركة الزمنية (أجهزة الكمبيوتر التي تسمح بالعديد من المُستخدِمين المتزامِنين):

لم يكن من المُمكن أن يهتدي التطوير المُبكر لنظم المشاركة الزمنية بالنظريات؛ حيث لم تكن ثمة نظريات موجودة، وكانت معظم التوقُّعات حول سلوك نظم المشاركة الزمنية غير دقيقة بالمرة. لم يكن مِن المُمكن وضع نظرية لنظم المشاركة الزمنية دون إنشاء هذه النظم بالفعل، وبعد إنشائها، أدى البحث التجريبي حول سلوكها إلى وضع أساسٍ نظري ثري. بعبارة أخرى، لا يمكن للتفكير الحوسبي أن يتعامَل مع المشكلات من اتجاهٍ واحد فقط؛ ومن هنا تطوَّرت الجوانب الهندسية والجوانب العلمية الرياضية للحوسبة بطريقة تآزُرية لإنتاج عِلم لم يكن علمًا طبيعيًّا بحتًا.

سرعان ما اكتسبت فكرة الحوسبة، بوصفها دراسة للظواهر المُحيطة بأجهزة الكمبيوتر، قبولًا، وبحلول نهاية الستينيات من القرن العشرين، اعتُبرت تعريفًا للحوسبة. وبدأت رؤية فريدة للمجال تتشكَّل حول هذه الفكرة. واستُخدِم مصطلح «التفكير الخوارزمي» لوصف الجانب الأكثر وضوحًا لهذا النوع الجديد من التفكير. كانت الأهداف الفريدة للمجال، والمشكلات المعتادة فيه، وأساليب حل هذه المشكلات، وأنواع الحلول هي أساس التفكير الحوسبي.

وسَّع رواد الحوسبة التفكير الحوسبي إلى أبعد مما ورثوه من التاريخ الطويل للحوسبة. وركَّزوا على مبادئ إنشاء البرامج وآلات الحوسبة ونُظم التشغيل. ووضعوا عددًا كبيرًا من مفاهيم الحوسبة التي تُعَد اليوم من المُسلَّمات، بما في ذلك المُتغيرات المُسمَّاة، وهياكل التحكُّم، وهياكل البيانات، وأنواع البيانات، ولُغات البرمجة الشكلية، والروتينات الفرعية، وبرامج التحويل البرمجي، وبروتوكولات الإدخال والإخراج، وقنوات التعليمات، ونُظم المقاطعة، وعمليات الحوسبة، والتسلسُل الهرمي للذاكرة، والذاكرة المؤقتة، والذاكرة الافتراضية، والأجهزة الطرفية، والواجهات.

وكانت أساليب البرمجة وبِنَى نظم الكمبيوتر هي القوى الدافعة الرئيسية في تطوير التفكير الحوسبي. وبحلول عام ١٩٧٠، اتفق معظم علماء الكمبيوتر على أن طرق الحوسبة المُميزة في التفكير والممارسة — التي يُطلَق عليها اليوم التفكير الحوسبي — تشمل كل المعارف والمهارات المُتعلقة بأجهزة الكمبيوتر.

انقسم التفكير الحوسبي في وقتٍ مبكر إلى جانبين: الأجهزة والبرامج. وتابع مهندسو الكمبيوتر جانب الأجهزة في كلية الهندسة؛ بينما تابع مُصمِّمو البرامج وواضعو نظريات الحوسبة الجانب الخاص بالبرامج في كلية العلوم.

(٢) البرمجة فنًّا وعلمًا

كانت الستينيات من القرن العشرين فترة نُضج للحوسبة، أنتجت ثراءً كبيرًا في الطرُق التي فكَّر بها علماء الكمبيوتر في عملهم ومجالهم. فقد ظهر فرع نظم التشغيل في أوائل الستينيَّات من القرن العشرين لإتاحة الحوسبة التفاعلية الرخيصة في مجتمعات المستخدِمين الكبيرة؛ ومن ثم اكتسب التفكير الحوسبي توجهًا متكاملًا يقوم على المنظومة الكاملة. وظهر فرع هندسة البرمجيات في أواخر الستينيات من القرن العشرين بسبب القلق من أن النماذج الحالية للبرمجة غير قادرة على تطوير برامج إنتاجٍ موثوقٍ بها يُمكن الاعتماد عليها؛ ومن ثَم اكتسب التفكير الحوسبي توجُّهًا هندسيًّا. وظهر فرع الشبكات في عام ١٩٦٧ عندما بدأ مشروع شبكة وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة (أَرْبا نِت)، وعندها اكتسب التفكير الحوسبي توجهًا شبكيًّا.

مع وجود أساس تكنولوجي قوي وموثوقٍ به، تحول اهتمام المجال إلى البرامج والبرمجة. وظهرت العديد من لُغات البرمجة جنبًا إلى جنبٍ مع طرق البرمجة القياسية. ونشأ اهتمام كبير بالتحقق الشكلي من البرامج، سعيًا وراء طريقةٍ قائمة على النظرية لإثبات أن البرامج موثوقٌ بها وصحيحة. كما نشأ اهتمام مُماثل بالتعقيد الحوسبي، سعيًا وراء طرق تحليلية لتقييم مقدار العمل الحوسبي الذي تتطلَّبه الخوارزميات المختلفة.

البرامج هي تعبيرات عن الخوارزميات بلُغةٍ شكلية تتحكم في أفعال الآلة عند ترجمتِها إلى شكلٍ قابل للتنفيذ بواسطة الآلة. والبرامج ضرورية لمُعظم عمليات الحوسبة؛ إذ يستخدِم معظم المحترفين والباحثين في الحوسبة البرامجَ بطريقةٍ أو بأخرى. في أجهزة الكمبيوتر الأولى ذات البرامج المُخزَّنة التي كانت موجودة في الأربعينيات من القرن العشرين، كانت البرمجة تُنفَّذ بلُغاتِ التجميع التي كانت تُحوِّل الأكواد القصيرة المختصرة للتعليمات سطرًا تلوَ الآخر إلى تعليمةِ آلةٍ يستطيع الكمبيوتر تشغيلها. على سبيل المثال: سيضع الأمر ADD R1, R2, R3 مجموع السجِلَّين R1 وR2 في السجل R3. وكان هذا الأمر يُحوَّل إلى تعليمة آلةٍ عن طريق استخدام ADD وR1 وR2 وR3 بدلًا من الرموز الثنائية. وكانت كتابة البرامج بلُغة التجميع أمرًا مُمِلًّا للغاية ومُعرَّضًا للأخطاء.

اختُرعت لُغات البرمجة لتوفير تعبيرات دقيقة عالية المستوى لما يريد المبرمج، والتي يمكن ترجمتها بشكلٍ لا الْتباس فيه بواسطة برنامج التحويل البرمجي إلى تعليمة آلة. وقد أدى ذلك إلى تبسيط وظيفة البرمجة تبسيطًا هائلًا، مما جعلها أكثر إنتاجيةً وأقل عرضةً للأخطاء. وقد أَدخلَت لُغات البرمجة الأولى مجموعةً كبيرة من مفاهيم التفكير الحوسبي الجديدة التي لم تكن لها نظائر في المجالات الفكرية الأخرى، أو كانت لها نظائر قليلة.

استهدفت معظم لُغات البرمجة المساعدةَ في أتمتة الوظائف المهمة مثل تحليل البيانات العلمية وتقييم النماذج الرياضية (فورتران في عام ١٩٥٧)، وإجراء الاستنتاجات المنطقية (ليسب في عام ١٩٥٨)، أو تتبع عمليات الجرد في الشركات والحفاظ على قواعد بيانات العملاء (كوبول في عام ١٩٥٩). وهدَفت لُغات قليلة إلى السماح للأشخاص بتحديد المواصفات الدقيقة للخوارزميات التي يمكن دمجُها في لُغاتٍ أخرى. وطُورت لغة ألجول (١٩٥٨) من هذا المنظور.

أصبحت فكرة أن اللغات توفر متطلبات طرق مُعينة للتفكير في المشكلات تُسمَّى «أنماط البرمجة». على سبيل المثال: البرمجة الأمرية ترى البرامج كسلسلة من الوحدات النمطية (تُسمى «الإجراءات») التي تُوجِّه أوامر إلى الآلة عن طريق تعليماتها. وتنتمي لغات البرمجة «فورتران» و«كوبول» و«ألجول» جميعها إلى هذه الفئة. أما البرمجة الموجهة نحو الكائنات، فهي تتعامَل مع البرامج كمجموعاتٍ من الوحدات شِبه المُستقلة ذاتيًّا، أو «الكائنات» التي تتفاعل بعضها مع بعض ومع العالم الخارجي عن طريق تبادُل الرسائل. وتنتمي اللغات اللاحقة مثل «سمولتوك» و«جافا» إلى هذه الفئة. وتعاملت البرمجة الوظيفية مع البرامج كمجموعاتٍ من الدوالِّ الرياضية التي تُولِّد بيانات الإخراج من بيانات الإدخال. ومن أمثلتها لغة «ليسب».

كان يُنظر إلى أنماط البرمجة في السبعينيات من القرن العشرين على أنها أنماط مختلفة من التفكير الخوارزمي. وكانت جميعها تهدف إلى برامج تحتوي على تعبيراتٍ واضحة يستطيع البشر قراءتها وتنفيذها بشكلٍ صحيح وفعَّال عند تجميعها وتنفيذها. وقد قام كلٌّ من دونالد كنوث في كتابَيه الشهيرَين «فن برمجة الكمبيوتر» و«البرمجة الحرفية»، وإدسجر دايكسترا في عمله عن البرمجة الهيكلية، بتجسيد الفكرة القائلة بأن الحوسبة تدور حول الخوارزميات بهذا المعنى. وبحلول ثمانينيات القرن العشرين، أوضح معظم علماء الكمبيوتر أن التفكير الحوسبي هو مجموعة من المهارات والمعرفة المتعلقة بالخوارزميات وتطوير البرامج.

ولكن الأمور أصبحت صعبةً عندما اضطُر أنصار التفكير الخوارزمي إلى وصف المقصود بالتفكير الخوارزمي وأوجُه اختلافه عن أنواع التفكير الأخرى. قارن كنوث أنماط التفكير في كتب الرياضيات وكتب الحوسبة، وحدَّد الأنماط النموذجية في كليهما.4 وخلص إلى أن التفكير الخوارزمي يختلف عن التفكير الرياضي في العديد من الجوانب: من خلال الطرق التي يختزل بها المشكلات المُعقدة إلى مشكلات بسيطة مترابطة، ويركز على هياكل المعلومات، ويهتم بكيفية تأثير الإجراءات على حالات البيانات، ويصوغ تمثيلاتٍ رمزية للواقع. في دراساته الخاصة، فرَّق دايكسترا بين علماء الكمبيوتر والرياضيين من خلال قدرتهم على التعبير عن الخوارزميات بلغاتٍ طبيعية وكذلك شكلية، وصياغة الرموز التي تبسط عمليات الحوسبة، والتغلُّب على التعقيد، والانتقال بين مستويات التجريد، وابتكار المفاهيم والكائنات والرموز والنظريات عند الضرورة.5
لم تعُد الأوصاف الحالية لأدوات التفكير الحوسبي العقلية موجهةً نحو الرياضيات مثلما كانت الكثير من الأوصاف القديمة للتفكير الخوارزمي. على مرِّ الزمن، رأى الكثيرون أن البرمجة والتفكير الخوارزمي مهمَّان مثل القراءة والكتابة والحساب — وهي الأسس الثلاثة التقليدية للتعليم — ولكن اقتراح إضافتهما كأساسَين جديدَين إلى هذه القائمة لم يُقبل بعد. ولدى روَّاد الحوسبة تاريخ طويل من الخلاف حول هذه النقطة. اعتبر بعض روَّاد الحوسبة أن طريقة التفكير الحوسبي أداة عامة للجميع، مثلها مثل الرياضيات واللغة.6 واعتبر البعض الآخر أن التفكير الخوارزمي هو قدرة فطرية نادرة إلى حدٍّ ما؛ يتمتع بها شخص واحد تقريبًا من كل خمسين شخصًا.7 ويدعم الرأي الأول عددٌ أكبر من المُختصين في التعليم لأنه يتبنَّى فكرة أن الجميع يمكنهم تعلُّم التفكير الحوسبي؛ فالتفكير الحوسبي هو مهارة يجب تعلُّمها وليس مَلَكة يولَد بها المرء.8
أنتجت رؤية البرمجة والخوارزميات للحوسبة إضافاتٍ جديدة إلى مجموعة أدوات التفكير الحوسبي. وقدَّم الجانب الهندسي والتقني برامج التحويل البرمجي (لتحويل البرامج التي يستطيع البشر قراءتها إلى تعليمات آلة قابلة للتنفيذ)، وأساليب التحليل (لتقسيم عبارات لغة البرمجة إلى عناصرها الأساسية)، وتحسين التعليمات البرمجية، ونظم التشغيل، وأساليب الاختبار وتصحيح الأخطاء التجريبية (للعثور على الأخطاء في البرامج). بينما قدَّم الجانب الرياضي العلمي مجموعة من أساليب تحليل الخوارزميات مثل الترميز O لتقدير كفاءة الخوارزميات، ونماذج مختلفة للحوسبة، وإثباتات لصحَّة البرامج. وبحلول أواخر السبعينيات من القرن العشرين، كان من الواضح أن الحوسبة تحرَّكت على مسارٍ فكري مع مفاهيم ومخاوف ومهارات تختلف تمامًا عن التخصُّصات الأكاديمية الأخرى.

(٣) الحوسبة كأتمتة

إن رؤية الحوسبة على أنها دراسة الخوارزميات وتصميمها كانت تُعَد رؤيةً ضيقة للغاية، على الرغم من كل ما تنطوي عليه من ثراء. وبحلول أواخر السبعينيات من القرن العشرين، كان هناك العديد من الأسئلة الأخرى التي تحتاج إلى إجابات. كيف تُصمِّم لغةَ برمجة جديدة؟ كيف تَزيد من إنتاجية المبرمج؟ كيف تُصمم نظام تشغيل آمنًا؟ كيف تصمم أجهزةً ونظمًا برمجية قادرة على تحمُّل الأخطاء؟ كيف تنقل البيانات بشكلٍ موثوق به عبر شبكة من حُزَم البيانات؟ كيف تحمي النظم من سرقة البيانات من قِبل المُتسلِّلين أو البرامج الضارة؟ كيف تجد نقاط الاختناق في نظام الكمبيوتر أو في الشبكة؟ كيف تجد وقت استجابة النظام؟ كيف تجعل النظام يؤدِّي عملًا سبق إنجازه بواسطة مُشغِّلين بشريِّين؟

ركزت دراسة الخوارزميات على خوارزميات فردية ولكنها نادرًا ما ركَّزت على تفاعلاتها مع البشر أو تأثيرات عمليات الحوسبة الخاصة بها على المُستخدِمين الآخرين للنظم والشبكات. ومن ثَم لم يكن مِن المُمكن أن تقدِّم إجاباتٍ كاملةً عن هذه الأسئلة. نشأت فكرة أن العامل المشترك في كل هذه الأسئلة، وأن جوهر التفكير الحوسبي، هو أن الحوسبة تسمح بالأتمتة في العديد من المجالات. والأتمتة، بشكلٍ عام، تعني أحد شيئَين: إما التحكُّم في العمليات بطرُق ميكانيكية مع الاستعانة بالبشر في أضيق الحدود، أو تنفيذ العملية بواسطة آلة. وأراد الكثيرون العودة إلى مفهوم الستينيات بأن الأتمتة هي الغاية النهائية وراء أجهزة الكمبيوتر وأنها من أكثر المسائل إثارة للاهتمام في العصر الحديث. وكان مِن الواضح أن الأتمتة هي العامل المشترك بين جميع علوم الكمبيوتر، وأن التفكير الحوسبي يهدف إلى جعل الأتمتة فعَّالة.

في عام ١٩٧٨، أطلقت المؤسسة الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة مشروعًا شاملًا لتحديد ما هو ضروري في الحوسبة. وأُطلقَ على هذا المشروع اسم «دراسة أبحاث علوم الكمبيوتر والهندسة». وفي عام ١٩٨٠، أصدرَت كتاب «ما الذي يمكن أتمتته؟» وهو مجلَّد من ألف صفحة يتناول بالبحث العديد من جوانب الحوسبة وتطبيقاتها من وجهة نظر الأتمتة الفعَّالة.9 وأجابت هذه الدراسة عن العديد من الأسئلة أعلاه، ولسنواتٍ عديدة، قدم تقرير «دراسة أبحاث علوم الكمبيوتر والهندسة» الصورة الأكثر اكتمالًا للحوسبة والتفكير الحوسبي في ذلك العصر. ولا يزال مرجعًا مُهمًّا للغاية لأي شخصٍ يريد موجزًا مكتوبًا من قبل روَّاد الحوسبة المشهورين حول العديد من الموضوعات والمشكلات والأسئلة الجوهرية في الحوسبة.

حتى منتصف التسعينيات من القرن العشرين، تم تبنِّي فكرة الحوسبة كأتمتة في الكتب والتقارير البحثية ووثائق السياسة المؤثرة باعتبارها «السؤال الأساسي الكامن وراء الحوسبة.» وقد تردَّد صدى هذه الفكرة في تاريخ التفكير الحوسبي؛ وكما ناقشنا في الفصول السابقة، حققت الحوسبة الآلية حُلم علماء الرياضيات التطبيقية والمهندسين في سرعة الحساب ودقَّته دون الاعتماد على الحدس البشري والأحكام البشرية. وكان واضعو النظريات، مثل آلان تورينج، مفتونِين بفكرة مَيكنة الحوسبة. ورأى المُمارسون أن البرامج عبارة عن أتمتةٍ للمهام. وبحلول عام ١٩٩٠، أصبح «ما الذي يمكن أتمتته؟» شعارًا رائجًا في شرح الحوسبة للوافدين وموضوعًا أساسيًّا من موضوعات التفكير الحوسبي.

وللمفارقة، أدى سؤال «ما الذي يمكن أتمتته؟» إلى تعطيل تفسير الأتمتة؛ لأن الحدود الفاصلة بين ما يمكن أتمتته وما لا يمكن أتمتته غير واضحة. وما كان من المُستحيل أتمتته سابقًا ربما يُصبح ممكنًا الآن بفضل خوارزميات جديدة أو أجهزة أسرع. وبحلول السبعينيات من القرن العشرين، طوَّر علماء الكمبيوتر نظريةً غنيةً مَعنية بالتعقيد الحوسبي، وصنَّفت هذه النظرية المسائل وَفقًا لعدد الخطوات الحوسبيَّة التي تحتاجها الخوارزميات لحلِّها. على سبيل المثال: البحث عن عنصرٍ مُعين في قائمة غير مرتَّبة مكوَّنة من عدد N من العناصر يستغرق وقتًا يتناسب مع عدد N من الخطوات. ويُعد فرز قائمة مكونة من عدد N من العناصر فرزًا تصاعديًّا مهمةً أكثر تعقيدًا؛ إذ يستغرق الأمر وقتًا يتناسب مع عدد من الخطوات في بعض الخوارزميات، وعدد N log N من الخطوات في أفضل الخوارزميات، فيما يُعرف بدرجة تعقيد الخوارزمية. وتستغرق طباعة قائمة بجميع المجموعات الفرعية لعدد N من العناصر وقتًا يتناسب مع . تُعَد مسألة البحث ذات «صعوبة خطية»، ومسألة الفرز ذات «صعوبة تربيعية»، ومسألة الطباعة ذات «صعوبة أُسِّية». فالبحث سريع، والسرد بطيء؛ ومن وجهة نظر واضعي نظرية التعقيد الحوسبي فإن الإجراء الأول «سهل» والأخير «صعب».
لفهم مدى اتساع الفارق بين المسائل السهلة والصعبة، تخيل أن لدَينا جهاز كمبيوتر يُمكنه تنفيذ مليار (١٠٩) تعليمة في الثانية. إن البحث في قائمة مكونة من ١٠٠ عنصر يتطلب ١٠٠ تعليمة أو ٠٫١ ميكرو ثانية. أما إعداد قائمة بجميع المجموعات الفرعية المكونة من ١٠٠ عنصر، فإنه يستغرق ٢١٠٠ تعليمة، وهي عملية تستغرق حوالي ١٠١٤ أعوام. وهذا أطول بعشرة آلاف مرة من عمر الكون، الذي يبلغ تقريبًا حوالي ١٠١٠ أعوام. وعلى الرغم من أنه يُمكننا كتابة خوارزمية للقيام بذلك، فلا يوجد كمبيوتر يُمكنه أن يكمل المهمة في وقتٍ معقول. بتطبيق ذلك على مسألة الأتمتة، قد تستغرق خوارزمية الأتمتة وقتًا طويلًا جدًّا إلى الحد الذي يجعلها مستحيلة. ليس بالضرورة أن يكون كل شيءٍ لدينا خوارزمية له قابلًا للأتمتة. وبمرور الوقت، تمكَّنت أجيال جديدة من الأجهزة الأكثر قوة من أتمتة المهام التي كان من الصعب أتمتتها سابقًا.

إن الخوارزميات التجريبية تجعل مسألة الصعوبة الحوسبيَّة أكثر إثارة للاهتمام. تُطالبنا مشكلة حقيبة الظهر الشهيرة بتعبئة مجموعةٍ من العناصر في حقيبة ظهر ذات وزنٍ محدود لاختيار العناصر الأعلى قيمة. والخوارزمية المُستخدَمة في ذلك تُشبه تلك المستخدَمة في مسألة سرد العناصر التي تَحدَّثنا عنها، وسوف تستغرق وقتًا طويلًا على نحو يستحيل معه تنفيذها بالنسبة لمعظم حقائب الظهر. ولكنَّ لدَينا روتينًا قائمًا على التجرِبة العملية مفاده أن «نُقيِّم كل عنصر بنسبة قيمته إلى وزنه، ثم نضع العناصر في الحقيبة حسب الترتيب التنازلي للنِّسَب حتى تمتلئ حقيبة الظهر.» هذا الروتين القائم على التجرِبة العملية يؤدي إلى حَزم حقائب الظهر بطريقةٍ جيدة جدًّا وبسرعة، ولكن ليس بالضرورة أن يكون ذلك بالطريقة الأفضل. وهذا هو الحال في العديد من المسائل الصعبة. توجَد خوارزميات تجريبية سريعة تعمل جيدًا ولكنها قد لا تكون الأفضل. ولا يُمكننا أتمتتُها إلا إذا وجدنا خوارزميةً تجريبية جيدة.

الأبحاث المُبكرة حول ما لا يمكن فعله في الحوسبة، سواء بسبب استحالته أو استهلاكه الكثير من الوقت، أدَّت إلى تشاؤم حول ما إذا كان من المُمكن أن تساعد الحوسبة في حلِّ معظم المشاكل العملية.10 ولكنِ اليومَ تغيرت الأمور إلى الأفضل. يستخدِم مَن يستعينون بالتفكير الحوسبي فهمًا متطورًا لتعقيد الحوسبة، والمنطق، وأساليب التحسين لتصميم خوارزميات تجريبية جيدة.

على الرغم من أن جميع أجزاء الحوسبة تلعب دورًا في عملية الأتمتة، فقد برَز الذكاء الاصطناعي كمجالٍ رئيسي في الحوسبة لأتمتة المهام المعرفية لدى البشر وغيرها من الأعمال البشرية. ضمَّ صندوق أدوات التفكير الحوسبي أساليب تجريبية للبحث في نطاقاتِ حلول الألعاب، ولاستخلاص النتائج من المعلومات المُعطاة، ولأساليب تعلم الآلة التي تجد حلولًا للمشكلات من خلال وضع تعميماتٍ بناءً على الأمثلة.

(٤) الحوسبة بوصفها عمليات معلوماتية شاملة

كان انتشار الحوسبة في العديد من المجالات في تسعينيات القرن العشرين أحد العوامل الأخرى التي أسهمت في تراجُع الاعتقاد السائد في الأوساط الأكاديمية بأن الكثير من المهام يمكن أتمتتُها بسهولة بالاستعانة بالتفكير الحوسبي. كان من الواضح أن العلماء الذين يستخدمون الكمبيوتر في إجراء عمليات المحاكاة أو تقييم النماذج الرياضية يستخدمون التفكير الحوسبي، ولكن هدفهم الأساسي لم يكن هو أتمتة المهام البشرية. بل كانوا يستكشفون الكون من منظور الحوسبة (انظر القسم التالي، «الكون بوصفه كمبيوتر»). دُقَّ المِسمار الأخير في نعش الأتمتة عندما بدأ العلماء من مجالات أخرى حوالي عام ٢٠٠٠ يقولون إنهم تعرفوا على عمليات معلوماتية تحدث في الطبيعة دون تدخُّل بشري. على سبيل المثال: قال علماء الأحياء إن العملية الطبيعية لنسخ الحمض النووي هي في الأساس عملية حوسبيَّة. وتحوَّل التركيز من أتمتة هذه العمليات الطبيعية إلى فهمها وتعديلها.

والأمر لا يقتصر على علم الأحياء فحسب. فعلماء الإدراك يرَون العديد من العمليات التي تتمُّ في الدماغ عملياتٍ حوسبيَّة. كذلك يرى علماء الكيمياء العديد من العمليات الكيميائية عمليات حوسبيَّة، وصمموا موادَّ جديدة عن طريق حوسبة التفاعُلات التي تؤدي إليها. كما تستخدِم شركات الأدوية المحاكاة والبحث بدلًا من التجارِب المعملية المملَّة لاكتشاف مُركَّبات جديدة لعلاج الأمراض. ويرى علماء الفيزياء أن ميكانيكا الكم هي وسيلة لتفسير جميع الجسيمات والقوى كعملياتٍ معلوماتية. والقائمة تطول. علاوة على ذلك، فإن العديد من الابتكارات الجديدة مثل: المدوَّنات، والتعرُّف على الصور، والتشفير، وتعلُّم الآلة، ومعالجة اللغات الطبيعية، وسلاسل الكتل، هي كلها ابتكارات أصبحت مُمكنة بفضل الحوسبة. ولكن لم يكن أيٌّ مما سبق أتمتةً لعملية موجودة؛ بل أنشأ كلٌّ منها عملية جديدة تمامًا.

يا له من تغيير جذري مقارنةً بأيام نيوويل، وبرليس، وسايمون! حينها تعرضت فكرة علوم الكمبيوتر نفسها للهجوم؛ لأنها لا تدرس العمليات والظواهر الطبيعية. أما الآن، فقد أصبحت علوم الكمبيوتر ضرورية لفهم هذه العمليات الطبيعية.

تراجع الاعتقاد السائد بأن علوم الكمبيوتر هي المجال الذي يدرس عملية الأتمتة في مُستهل القرن الجديد. ودُقَّ المسمار الأخير في نعش الأتمتة عندما بدأ العلماء من مجالات أخرى يقولون إنهم تعرفوا على عمليات معلوماتية تحدث في الطبيعة.

(٥) الكون بوصفه جهاز كمبيوتر

يقول بعض الباحثين إننا على شفا فهمٍ جديد للكون، يتمثل في فكرة أن الكون نفسه عبارة عن كمبيوتر عملاق. ووفقًا لهذه النظرية، فكلُّ ما نعتقد أننا نراه، وكل ما نُفكر فيه، هو نتيجة لعمليات حوسبيَّة داخل هذا الكمبيوتر الكوني. وبدلًا من استخدام الحوسبة أداةً لفهم الطبيعة، فإننا — حسب قولهم — سنقبل في النهاية أن كلَّ شيءٍ في الطبيعة هو نتاج للحوسبة. في هذه الحالة، فإن التفكير الحوسبي ليس مجرد مهارة أخرى يجب تعلُّمها، بل هو السلوك الطبيعي للدماغ.

يُحب كتَّاب سيناريوهات هوليوود هذا الخط السردي. ولذلك فقد استغلُّوه في العديد من أفلام الخيال العلمي الشهيرة القائمة على فكرة أن كلَّ ما نعتقد أننا نراه يُنتَج لنا بواسطة محاكاة باستخدام الكمبيوتر، وفي الواقع فإن كل فكرة نُفكر فيها هي وهْم أنتجته لنا عملية حوسبة. قد تكون قصة جذَّابة، ولكن هناك القليل من الأدلة لدعمها.

هذا الادعاء هو تعميم لفكرة مألوفة في الذكاء الاصطناعي. يشير «الذكاء الاصطناعي القوي» إلى الاعتقاد بأن الآلات المبرمجة بشكلٍ مناسب يمكن أن تكون ذكيةً بكل ما تحمل الكلمة من معنًى. أما «الذكاء الاصطناعي الضعيف»، فيشير إلى الاعتقاد بأنه من خلال البرمجة الذكية، يُمكن للآلات محاكاة الأنشطة العقلية بشكلٍ جيد بحيث تبدو ذكيةً دون أن تكون ذكية. على سبيل المثال: تطبيقا المساعد الافتراضي «سيري» و«أليكسا» ينتمِيان إلى الذكاء الاصطناعي الضعيف؛ لأنهما يقومان بعملٍ جيد في التعرُّف على الأوامر الشائعة وتلبيتِها دون «فهمها».

استحوذ السعي وراء الذكاء الاصطناعي القوي على أجندة الذكاء الاصطناعي منذ تأسيس مجاله في عام ١٩٥٠ حتى أواخر التسعينيات. ولكن هذا لم يُثمر عن تقدُّمٍ يُذكر، ولم تُصمَّم أي آلة يمكن اعتبارها ذكيةً بما يتماثل مع ذكاء البشر. ومن ثَمَّ أصبح السعي وراء تطبيقات الذكاء الاصطناعي الضعيف المُتخصِّصة في الصدارة بدءًا من تسعينيات القرن العشرين، وكان مسئولًا عن الابتكارات المُذهلة في الشبكات العصبية وتحليل البيانات الضخمة.

وعلى غرار تمييز الذكاء الاصطناعي إلى ضعيف وقوي، فإن رؤية الكون باعتباره كمبيوتر «قويًّا»، تفترض أن الكون نفسه، بالإضافة إلى كلِّ الكائنات الحية، عبارة عن كمبيوتر رقمي. وكل بُعد من أبعاد الزمكان مُنفصل، وكل حركة للمادة أو الطاقة هي عملية حوسبيَّة. على النقيض من ذلك، فإن رؤية الكون باعتباره كمبيوتر «ضعيفًا» لا تزعم أن العالم يُجري عملياتٍ حوسبة، وإنما ترى أن التفسيرات الحوسبيَّة للعالم مُفيدة جدًّا في دراسة الظواهر؛ إذ يُمكننا نمذجة العالم ومحاكاته ودراسته باستخدام الحوسبة.

تُعَد رؤية العالم باعتباره كمبيوتر قويًّا رؤيةً تخيُّليةً للغاية، وعلى الرغم من أن هناك مَن يدعمونها بحماس، فإنها تواجِه العديد من المشاكل التجريبية والفلسفية. ويمكن تفهُّم ظهور هذه الرؤية على أنه استمرار للسعي المُستمر نحو فهم العالم من خلال أحدث التقنيات المتاحة. على سبيل المثال: في عصر التنوير قُورن العالم بالساعة. وقورن الدماغ بالطاحونة، ونظام التلغراف، والنظم الهيدروليكية، والنظم الكهرومغناطيسية، والكمبيوتر على التوالي. وكانت أحدث مرحلة في هذا التطوُّر هي تفسير العالم لا باعتباره كمبيوتر تقليديًّا وإنما باعتباره كمبيوتر كَمِّيًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥