التفاحة
نشيد الزمان!
وقصيدة الماضي!
وغناء السلف!
وحُداء القافلة التي لا تفتأ تخبُّ في بيداء الأزل، إلى الواحة المفقودة في متاهة الأبد؛ رُكبانها الآلهة، وأبوللو وكيوبيد ومَلؤهما وِلدانها المخلَّدون!
•••
أنشد يا هوميروس،
واملأ الأحقاب موسيقى،
واللانهاية جمالًا وسِحرًا!
فالأرواح ظامئة، والقلوب متعبة، والإنسانية واجفة، والآذان مكدودة من دويِّ العصر، فهي أبدًا تحنُّ إلى سكون الماضي.
•••
لن تصمت يا هوميروس،
فالقيثارة الخالدة لا تزال بيديك،
والقلوب هي القلوب!
فدع أوتارها تملأ الدنيا رنينًا؛ فلقد أوسعتْنا هذه الدنيا أنينًا، ورنينُك العذْب أذهبُ لأنين الشاكين ولَوعة الباكين!
١
رآها تخطر فوق الثَّبَج، وتميس على رءوس الموج، فهامَ بها، وشغلتْه زمانًا عن أزواجه في قصور الأولمب، فكان يقضي عند شاطئ البحر أيامًا يترقَّب الفرصة السانحة، ويفتش في كل موجة عن حبيبته «ذيتيس»، عروس الماء الفاتنة، «ذات القدمين الفضيتين»، ابنة نريوس — رب الأعماق — الثاوي مع زوجته الصالحة دوريس في قصور المرجان، هناك، هناك تحت العُباب.
ورقَّت له الفتاة حين علمت أنه ربُّ الأرباب وسيد آلهة الأولمب، زيوس العظيم، فوصلت بحبالها حبالَه تطمع الخبيثة أن تصبح زوجةً أولمبية عظيمة، تصاول حيرا أم مارس وفلكان، وتفاخر لاتونا أم ديانا وأبوللو، وتَدِلُّ على ديون أم فينوس، وعلى سائر ربات الأولمب!
ولقد شاء حسنُ طالع الإله الأكبر أن يفعل؛ إذ أخبرْنَه أن ذيتيس الجميلة التي يهواها سيدُ الأولمب تلدُ غلامًا لا يزال يقوى ويشتدُّ حتى يخلعَ أباه ويستأثر بالملك من دونه، أو على الأقل؛ تكسف شمسُ عظمتِه شمسَ أبيه فيعيش إلى جانبه إمَّعةً لا شأنَ له، وهوَّلْن؛ فحدَّثْنه عما يكون للغلام من مقام حين يُثَار النقع ويستحِرُّ القتال بين شعبه «الإغريق» وجيرانهم «الطرواديين».
لذلك قصر هواه وأصدر على غفلة من كل آلهة الأولمب إرادةً ساميةً تقضي بأن تتزوج ذيتيس من بلْيوس ملك فيتيا؛ الذي كان هو الآخر مولعًا بها مشغوفًا بجمالها، حتى لقد خطبها إلى أبيها غير مرة فرفض رب الأعماق أن تبنيَ ابنته على بَشريٍّ هالك ولو كان ملكًا.
بيْد أنه صدع بأمر الإله الأكبر وقبِل بليوس لابنته بعلًا.
وحزنت ذيتيس وانعكفت في غرفتها المرصعة باللآلئ تشكو وتبكي؛ فلما علم زيوس بما حلَّ بها زارها من فوره وطفِق يلاطفها ويترضاها حتى رضيت أن تكون زوجةً لبليوس الملك: «على أن تحضر بنفسك، أنت وجميع الآلهة ليلة الزفاف، وليعزف أبوللو على موسيقاه، ولترقص ديانا ربة القمر.»
٢
ودُقَّت البشائر، واضطرب بطن اليمِّ، وانشقَّ الماءُ عن طريق رحب يتهادى فيه موكبُ الآلهة إلى قصر نريوس في أعماق المحيط، ووقفت الأوسيانيدُ والنيرييد وسائر عرائس الماء صفوفًا صفوفًا تُحيِّي الضيوف الأعزاء الأودِّاء الأحبِّاء، وتُغني وتنشد وترسل ألحانها الخالدة موقَّعة على الموسيقى المشجية.
وانبرى أبوللو يوقع على قيثارته الذهبية. أبوللو الذي اشترك في بناء أسوار طروادة، فلم يكن يصنع شيئًا أكثر من أن يلعب بأنامله على أوتار القيثارة، فتقفز الحجارة مترنحةً من الطرب إلى مكانها من الأسوار!
وانطلقت ديانا ترقص، فما علم أحد من الآلهة أَخطرات نسيم تهبط من القمر الفضي وتعلو في السماء، أم ديانا الهيفاء ترقص في القلوب والأحشاء؟!
ونهض الجميع إلى المقصف الفاخر الذي تفنَّنت في تنويع آكاله وأشرباته أيدٍ إلهية ماهرة، فأكلوا ما لذَّ، وشربوا ما طاب، وأخذوا في سمر جميل. وكان هرمز يُرسل نكاتِه الطريفة فيقرقع المكان الحاشد بالضحك، وتدوِّي الأكفُّ بالتصفيق!
ظهرت إيريس غضبى مُحنقةً؛ لأن القائمين بالدعوة إلى العُرس أغفلوها فلم يرسلوا إليها بالدعوة التي أُرسلت إلى الأرباب جميعًا. وهم قد قصدوا إلى ذلك عن عمد؛ لأنهم خشُوا على العروسين من أذاها الذي ما تفتأ تُثيره في كل مكان وَطِئتْه قدماها، أليست هي ربة الخصام النافخة في نار العداوة التي تتضرم منذ الأزل في الجوانح والقلوب؟
لكنها لم تنسَ لهم هذا الإهمال، بل أقبلت وهي تتميَّز من الغيظ لتقلب هذا العرس الكريم إلى مأتم أليم.
ولقد أوجس الآلهةُ جميعًا خِيفةً حين رأَوا إليها تُقلِّب فيهم ناظرَيها المشتعلين، غير أنهم اطمأنوا قليلًا حين رأوها تنصرف بعد إذ ألقت على الخِوان الفخم تفاحةً كبيرة من الذهب، نقشت عليها هذه الكلمة المقتضبة: «للأجمل!»
٣
باريس
درجت عادةُ القدماء على أنه كلما وُلِد لأحدهم غلامٌ توجَّه مَن توِّه إلى الهيكل يقدم القرابين ويزف الهَدي؛ ثم يستوحي المعبود عما يكون من مستقبل ولده وما يفيض به من سعادة أو شقاء، ليأخذ للأمر أهبتَه وليعد لكل شيء عدَّته.
فلما وضعت هكيوبا — ملكة طروادة — غلامَها باريس، حمله أبوه الملك بريام إلى هيكل أبوللو ليرى رأى الإله فيه.
واربدَّ وجهُ الملك الشيخ وتغضَّنت أساريرُه حين قال له كاهن المعبد: إن ولده سيكون كارثةً على قومه وعلى بلده، وسيأتي من الإثم ما يجر إلى قتْل ذويه وبني جِلدته ويُفضي إلى سقوط طروادة في يد أعدائها.
وتحدَّث بريام إلى هيكيوبا في ذلك، فصمَّما على الخلاص من الطفل بتركه في العَراء فوق إحدى جنبات الجبل ينوشه طيرٌ جارح أو تفترسه ذئاب البرية. وأنفذا فعلتَهما الشنعاء، ولكن القضاء ينبغي أن يتمَّ والقدَر يجب أن يأخذ مجراه، فلقد جاز بهذا المكان من الجبل أحدُ رعاة الأغنام فوجد الغلام وفرِح به واتخذه لنفسه ولدًا؛ ثم سهر عليه واعتنى به ونشَّأه على الفروسية التي كانت أحبَّ مزاولات الحياة في هذا الزمن.
وشبَّ باريس فتًى يافعًا جميلًا ممشوقًا فعمل مع الراعي الذي أنقذه. وكان مولعًا بالبحر تشوقه أمواجُه وتفتنه أواذيه، فكان يختلف إليه ريثما تفيء الأغنام من الحر، يلهو بالسباحة ويتريض بمصارعة الموج. وبدت له إحدى عرائس الماء — إيونونيه — وكانت قسيمةً وسيمةً فهويها وعَلِقها قلبُه، وما لبثت أن أصبحت أعزَّ شيء عليه في هذه الحياة.
وعشقتْه إيونونيه وأخلصت له الحبَّ، وكانت تنتظر أوبتَه من رعي الغنم كما ينتظر الظمآن جرعةَ الماء والعليل برد الشفاء.
وا أسفاه!
٤
اجتمع الغانياتُ حول التفاحة كلٌّ تريدها لنفسها، وكلٌّ تدَّعي أنها أجمل مَن في الحفل جميعًا، ثم ساد صمتٌ عميق حينما نهضتْ حيرا ومينرفا وفينوس، مُيمِّماتٍ شطر الجهة التي يتنازع فيها الغانيات من سائر الربات على التفاحة الثمينة.
– «أنتِ تفاخرين بملك الأولمب، وبالجاه والسلطان؟ إذن أين جمال الحكمة وأُبَّهة الموعظة الحسنة وجلال الرأي السديد؟ بل أنا مينرفا، ربة الهدى والسبيل الحق، أحق منك بهذه التفاحة.»
– «فيمَ تختصمان يا أختَيَّ العزيزتين؟ أليس قد كُتب الحُكم على التفاحة نفسها؟ أليست هي للأجمل؟ أو لستُ أنا … فينوس جميعًا … ربة الجمال؟ لمَ تربعت على عرش الفتنة إذن؟ هي لي من دونكما!»
واختلفت الآلهة، وساد الهرج والمرج، ولم يجسُرْ أحد ممن احتشد حول الخِوان أن يفوه بكلمة يفضل بها إحدى الربَّات الثلاث حتى لا يقعَ في سخط الأُخريَين وحتى لا يكونَ أبدًا عرضةً لنقمتهما.
وتفرَّق الجمع بدَدًا.
وقصدتِ الربات الثلاث جبلًا شامخًا يُشرف على البحر فتلبثْن به، واتفقْن على أن يفصل أولُ عابر مهما يكن شأنه بينهن في أمر التفاحة، وتعاهدْن بالأيمان المغلظة أن يخضعْن لحُكمه، وأن تكون كلمتُه فصلَ الخطاب فيما اختلفْن فيه.
وتنظرن طويلًا؛ وكان البحر يضطرب من تحتهن فيقذف باللآلئ والمرجان، كأن إلهًا حاول أن يشبع نهَم الربَّات بالجواهر الغالية فلا يتشاجرْن من أجل تفاحة، ولكنهن ما كنَّ يأبهنَّ لحصباء الدر المنثور على الشاطئ، بل ما كانت أعينهن تريم عن لُقية إيريس!
وكانت عروسٌ فتانة من عرائس الماء تعلو وتهبط مع الموج ولا تفتر تُحدق ببصرها في الجهة التي جلست بها الربات يتربصْن.
وكانت إيونونيه من غير ريب، وكان الجبل مُستراد باريس الذي يُريح فيه قطعانه، ثم ينطلق للقاء حبيبته فيتباثَّان ويتشاكيان.
وأقبل باريس يشدو لشائِه ويغنِّي فزلزل قلب إيونونيه، وهلعت نفسها وفرَقت على حبيبها فرَقًا شديدًا؛ ذلك أن أخبار النزاع الذي انتهى إليه يوم الزفاف من أجل تفاحة إيريس كانت قد شاعت، وتسامع بها كلُّ عرائس البحار؛ فلما عرفت إيونونيه ما اجتمع الربات من أجله اضطربت أيما اضطراب، وقلقت على باريس أيما قلق؛ لأنه وحده هو الذي يجوز بهذا الطريق حين ينفذ إليها يحلمان ويتناجيان. وكان مصدرُ قلقها هو ما عساه أن يجرَّه على نفسه — إذا قضى بينهن — من سخط الربَّتين اللتين لا يقضى لهما بالتفاحة.
٥
وصاحت حيرا: «قف أيها الراعي الجميل فاحكم بيننا فيما نحن مختلفات فيه: تلك تفاحة من الذهب ساقتها السماء إلينا منحةً منها لأكثرنا جمالًا وأسطعنا رونقًا، وأنا حيرا، مليكة الأولمب، وذات الحَول والطَّول فيه، وربة التاج والصولجان، وصاحبة القوة والسلطان، وآثر أزواج ربك، كبير الآلهة، وأحبهن إليه، أنا حيرا ذات الجبروت، وولدي مارس إله الحرب، ورب الطعن والضرب، أقوى أبناء زيوس العظيم، وولدي فلكان كذلك، إذا شئتَ سرَد لك الدروع من حديد فتصبح سيد أبطال العالم، لا يُشَقُّ لك غبار ولا يُجْرَى معك في مضمار، إذا خضتَ حربًا حماك مارس وأيَّدك ونصرك فلكان وآزرك، ألستَ ترى إذن أيها الراعي الجميل أنني أحقُّ من هاتين بتلك التفاحة؟ أنا حيرا مليكة الأولمب سأمنحك الثروة التي لا تفنَى والسلطان الذي لا يبيد، سأجعلك ملك هذه الديار التي ترى، ستكون صاحب عرش وتاج، وستستريح إلى الأبد من هذه الحياة الضنك التي تحياها، أنت جميل يا فتى، وأنت بعرش عظيم أولى منك بهذا القطيع الذي يثغو.»
وصمتتْ حيرا، وجعل باريس يُقلِّب في التفاحة ناظرَيه، وفي قلبه مما رأى وما سمع فرَق عظيم.
لقد كانت حيرا تختال في ثوبها الأولمبي الموشى، وكان طاووسها الجميل — الذي اتخذته منذ الأزل رمزًا لها — يتشبَّث بناصيتها ويميس فيزيدها جلالًا وكبرياء.
وأوشك الفتى الراعي أن يقدم التفاحة لحيرا لولا أن صاحت به مينرفا: «على رِسلك أيها الشاب، اسمع منَّا جميعًا ثم اقضِ بيننا، أنا لن أزخرف عليك بملك ولا سلطان، فأنت أعقل من أن تنخدع بالعرَض الزائل وأعلى من أن يهيمن جسمُك على عقلك، وهواك على قلبك. أنا مينرفا ربة الحكمة وإلهة الروح الأعلى المقدس، سأمنحك السداد، سأكشف لك حجب الجهالة، وسيضيء مصباحُ المعرفة بين يديك فتكون أهدى الناس وأعلم الناس وأحكم الناس.»
وسكتت مينرفا؛ وسُمِع هاتف من جهة البحر يصيح: «باريس، أعطها لمينرفا يا باريس.» وكانت إيونونيه ما في ذلك شك.
وكاد باريس يُلقي بالتفاحة في يد مينرفا لولا أن تقدَّمت فينوس الصناع، فينوس الحلوة، فينوس الساحرة، فينوس ذات الدلِّ، فينوس التي تكفي غمزة ماكرة من طرفها الفاتر الساجي لإذلال ألف قلب، لولا أن تقدَّمت فينوس كلها تطارد قلب باريس وتحاصر عينيه حتى ما يقعان إلا على عينيها، تقدمت فينوس ترنو وتبتسم، وتتبرج وتهتز وتشد هذا الثدي وتثني هذه الذراع، وتميل رأسها الذي كله خدود وعيون وأصداغ، تقدَّمت فينوس تبسم للراعي الجميل عن فمٍ حلو رقيق تتلألأ ثناياه ويتضوَّع عبيرَ خمرِه، وقالت: «باريس، هل لك عينان تعرفان الغزَل، وقلب يعرف الحب؟ باريس، أنا فينوس التي صليت لها بالأمس، والتمست منها التوفيق، ها أنا ذي يا باريس، أليست التفاحة للأجمل! ألست تحب أن أهبَك أجمل زوجة في العالم؟ ستكون زوجتك مثلي تغمرك بجمال لا نهائي لا حدود له، ولن تشعر معها إلا أنك تعيش منها في جنة، قُبَل، نظرات حلوة، خدٌّ مورَّد، أهدابٌ كظلال الخلد، ساق ملتفة عبلة، جسم ممشوق طوال، جِيد مهتز ناضج، ثدي مثمر يتحلَّب نعيمًا، هاتها يا باريس هاتها يا حبيبي.»
وقبل أن تُتمَّ الخبيثةُ سحرَها كان الفتى البائس قد ألقى التفاحة في يديها الجميلتين برغم الصيحات المتتالية التي كانت تهتف به من البحر: «لا يا باريس، لا يا باريس، أعطها لمينرفا يا باريس!»
وجرَّ على نفسه غضبَ حيرا ومينرفا وكُتِبت التعاسةُ عليه وعلى قومه، ولم يلقَ إيونونيه بعدها!