بعد مصرع هكتور
انتصر أخيل!
وعاد بجثة هكتور ليجد أمَّه لا تزال تسقي بتروكلوس خمرًا! ولا تزال تدفع عن القتيل المسجَّى فوق سرير الموت أسرابَ الذباب! ولا تزال تذرف الدموعَ الغوالي!
ويهرول زعيم الميرميدون، ويهرول معه جنودُه حول جثة صديقه ثلاثًا، ثم يقف فوق الرأس المتَّشح بجلال الفناء. ويقول: «السلام عليك يا بتروكلوس؛ فلقد ثأرت لك! السلام عليك فأنت خيرٌ حياةً من كثيرين ممن ينعمون بالحياة، وإن تكن تسبح في لا نهاية هيدز!
هاك غريمك هكتور سأتركه جزَرَ السباع وكواسر الطير، وسأضحي لك باثني عشر من خير شباب إليوم … أذبحُهم عند قدمَيك بيدي!
ابكوا بتروكلوس يا رفاق!»
فيبكي الميرميدون على بطل أبطالهم، ويُعْوِلون حتى تخفق السماء بأنَّاتهم، وتضطرب الأرض بزفراتهم، ويمتلئ الهواء من حولهم أسًى وشجونًا!
ويقبل الهيلانيون من كل فجٍّ يهنئون ويعزُّون: يهنئون بقتل هكتور، ويعزُّون ويا حرَّ ما يُعَزُّون في بتروكلوس!
وتفرَّق الهيلانيون بعد أكلٍ شهي ورِي، ونهض الميرميدون إلى خيامهم يخلعون عددهم ويستجمون من عناء اليوم الحافل، ولبث أخيل وحده على الشاطئ الشاحب يرقب أواذيه الصاخبة ويرى إلى أعراف الموج تنتطح هنا وهناك وترتدُّ ثم ترتدُّ حتى تغيبَ في لا نهاية الماء!
ثم غفا إغفاءةً فتمدَّد على العشب وأسلم جفنيه لنوم عميق.
ورأى ظلًّا حزينًا يُطيف به، ولا يكاد يبين، فتقلَّب ذات اليمين وذات الشمال مما تأخذه الرؤيا به، ولكن الشبح ما يفتأ يُهوِّم ثم يُهوِّم، ويقترب ثم يقترب حتى يكون عند رأسه، وحتى يقرَّ النائم فما تبدو منه حركةٌ، ويسكن فما يتردَّد فيه نفَس، ويَحْسِر الزائر لثامَه، فإذا هو بتروكلوس!
لقد أقبل روحه الكبير يتحدَّث إلى مولاه، فيقول: «أخيل! أهكذا تنام ملءَ عينيك وتدع صديقَك يهيم في مملكة الظلمات دون أن يُؤْذنَ له بعبور ستيكس الفائض بالحميم، ليقر في عدوته الأخرى مع المؤمنين! إنني يا صديقي سأبقى طريدًا شريدًا ما دمتَ أنت متوانيًا عن تأدية الطقوس التي يتطلَّبها بلوتو وتفرضها السماء!
ماذا تبتغي بعد أن ثأرتَ لي يا أخيل؟ ألا يشجيك أن أظلَّ معذَّبًا في هذا التيه الذي لا نهاية له، كاسف البال مسبوه اللبِّ؛ لأنك تأبَى أن تؤدِّيَ لي فرائض الآخرة!
أتحسب أنَّا ملتقيان في دنياك كرَّةً ثانيةً يا أخيل، فأنت تنتظر هذا اللقاء؟ لا، لا يا صديقي؛ نحن لا نلتقي إلا هنا! في هذه الدار الجميلة الهادئة التي لا صخب فيها ولا ضجيج … سنلتقي هنا … وسنلتقي سريعًا … ولن أزعجك إذا أخبرتُك بما علمته هنا! … لأنك ملاقٍ حتفَكَ تحت أسوار طروادة، لا تنزعج يا أخيل، فأنت بطل، والأبطال أمثالك لا يرهبون الموت، والبطل الذي لا يجرع الكأس طافحةً في حومة الوغى يموت موتةً لا تشرفه، فاطمئن! إنما ذكرتُ لك ذلك لأن لي رجيَّةً عندك أتمنَّى لو أديتَها لي، ذلك أن توصي فتُدفَن رُفاتك في نفس الرَّمْس الذي يضم رُفاتي لنظلَّ آخر الدهر متقاربين كما كنا أول الدهر متقاربين، ولنقضي أحقاب الموت في مربع معًا كما قضينا شرخ الشباب في ملعب معًا.
إيه يا ذكريات الماضي السعيد!
أبدًا لن أنسى يوم حملني مولاي الأمين أمفيد أماس من نجاد أوبوس إلى بلاط بليوس، حيث نشأتُ وترعرعتُ في ظلال القصر الذي ترعرعتَ فيه يا أخيل، وأبدًا لن أنسى هذا الحنان الذي كانت تغمرني به ذيتيس أمُّكَ الرءوم حتى اشتدَّ ساعدانا وسار الركبان باسمينا في كل ناد.
هلمَّ يا أخيل، انهض يا زعيم الميرميدون، واذكر ما قلتَه لك.»
ويذرف أخيل عَبرةً غاليةً ويجيب بتروكلوس فيقول: «بتروكلوس! إليَّ يا أعز الناس عليَّ! سأفعل كلَّ ما تريد، ولكن … اقترب … اقترب قليلًا … لنُسَرِّ من أحزاننا يا أخي! هبْ لي أن أعانقك فأنا مشوق إليك!»
وهب من نومه مذعورًا مادًّا ذراعيه لعناق بتروكلوس، ثم ضمَّهما فجأةً … ولكن!
وا أسفاه! لقد ضمَّ أخيل إليه الهواء! لأن الشبح العزيز قد ولَّى بعيدًا عنه … هناك … هناك … في ظلمات السُّفْل … في ديجور الدار الآخرة … في مملكة بلوتو الجبار … حيث الأرواح والأشباح … وحيث العذاب والنعيم!
وصرخ الزعيم المفئود صرخةً زلزلت عماد المعسكر، واجتمع لها القادة مشدوهين مروَّعين، وروَّعهم أكثر هذا الحديث الطويل عن الرؤيا المشجية، فأنفذ أجاممنون الملك عُصبةً قويةً إلى غابات الصنوبر والشاهبلوط القريبة، فجمعت أحمالًا ثقالًا من جذوع الأيك وحطام الدوح اليابس، وأقبلت فكومت ما جمعت كومةً واحدةً عاليةً؛ ثم أمر أخيل جنودَه فاصطفُّوا حول الكومة بعَدَدهم وعُدَدهم وخيولهم وعرباتهم، وأقبل فوجٌ منهم يحمل جثمان بتروكلوس، موارًى في شَعَرٍ كثير انتزعه الفرسان من رءوسهم حزنًا على قائدهم بالأمس؛ وكان أخيل يتعثَّر خلف القتيل وقد حطَّمه الحزن، ورزأتْه المصيبةُ في أعز أصدقائه، وغَشِيَه من الهمِّ ما لو كان بعضه بوَضَحِ الضحى لأحاله ليلًا من الوجد مظلمًا … ونزع شعر رأسه هو الآخر فغطَّى به وجهَ صاحبه، ومدَّ ذراعيه المرتجفتين فرفع الجثمان الطاهر، يُعاونه نفرٌ من الميرميدون ووضعوه فوق الكومة التي تسامتْ وسمقتْ حتى غدا ارتفاعُها مائة قدم أو تزيد. وأمر أخيل فذُبِحت ألوفٌ من العجول والخنازير والنَّعَم، ونُزِعت عنها شحومُها جميعًا، فوضعها بيده على الكومة من حول بتروكلوس، ثم أشار إلى حَمَلة الزِّقاق فطفقوا يصبُّون الزيت والعسل المصفَّى ليزيدا في ضرام الوقود.
وارتفع ضجيجٌ بعيد وضوضاء فتلفَّت القوم وإذا فريق من الميرميدون يسوقون الشبَّان الطرواديين الاثني عشر الذين أسرَهم أخيل في ملحمة الأمس، وقد كُبِّلوا في الأصفاد ورهقتْهم قترةٌ مظلمة من الروع والحزن؛ فلما شارفوا، تقدَّم أخيل المغضب الحَنِق، فاستلَّ خنجرَه، وشرع يمسح بأعناقهم ويَبقُر بطونهم، ويُروي سِنانَه من قلوبهم … والبشرية البائسة تتلفَّت يمنةً ويسرةً … وتتعذب … وتبكي!
وأمر الزعيم فصُفَّت الضحايا الاثنتا عشرة حول الكومة.
أما هكتور! فقد حدجه أخيل بنظرة ساخرة، وأقسم ألا يحرق جثمانه فينفد روحه إلى هيدز، بل يتركه ثمة حتى تنوشَه الطيرُ، وتأكله كلابُ البرية، وتُلقَى عظامُه في اليمِّ، غير كريمة ولا مرجوة!
بيدَ أن منظرًا عجبًا خلب ألباب القوم، وأذهلهم عن أنفسهم … ذلك أنهم رأوا إلى شبح جميل أبيض، يصبُّ دهن الورد فيجعل منه حَنوطًا مباركًا لجثمان هكتور، ورأوا كذلك إلى ضبابة ذات أفياء وظلال باردة تقف من فوقه فتذود عنه أشعة الشمس المحرقة حتى لا ينتن أو يتعفن.
ماذا؟! آه! إنها فينوس الوفية التي تصبُّ دهن الورد فوق هكتور، وإنه أبوللو المحزون الذي ينشر الضبابة من فوقه تحميه من الشمس وتذود عنه حرارتها!
وصلَّى أخيل صلاةً قصيرة، ونذر لآلهة الريح إذا هي أقبلتْ تروح على النيران حتى تذكوَ، أن يذبح لها ويُقرِّب لها القرابين! وما كاد يفرغ من صلاته حتى تقلَّب البحر واضطرب، ومار اليمُّ واصطخب، وثارت العاصفة الهوجاء في بطن الدأماء، وأقبل زيفروس وإخوته آلهة الريح فحاصروا الكومة، وما هي إلا لمحات حتى كانت ضرامًا في ضرام ولظًى يتأجَّج في لظى.
وسكنت اللهب، وخفت أُوار النار، وتقدَّم أخيل وحَملة الزِّقاق فصبُّوا على الجمر خمرًا حتى خبا.
وهِيل الترابُ على الميت وعمل الكلُّ في ذلك حتى كانت كومةً عاليةً من الردم ستظلُّ آخر الدهر رمزَ البطولة الخالدة، وتحية الدار الآخرة لهذه الدنيا المشحونة بالأشجان!
وكان من دأب الهيلانيين إذا مات أحدُ أبطالهم أن يحرقوه كما حرَّقوا بتروكلوس، ثم تتلو ذلك حفلة ألعاب يشترك فيها أبطالهم، ويُساهم فيها الجنديُّ الصغير إلى جانب القائد العظيم، وقد يفوز عليه فينال الجائزة من دونه، وكانوا يعدُّون هذه الحفلة تتمَّةً للجناز لا يكمل إلا بها؛ فلما انتهوا من إقامة الشعائر الدينية للشهيد الكبير نهض أخيل فأعلن القوم ببدء حفلة الألعاب ثم دعا للمشاركة في سباق العربات الحربية، وعدَّد الجوائز فذكر أن للفائز الأول غانيةً من أبرع غانيات طروادة جمالًا، وأوفرهن حسنًا، وأنبغهن في القيام بشئون المنزل، ثم آنيةً عظيمةً من الذهب الخالص، غالية الثمن، عالية القيمة، لا تُقَدَّر بمال لما بُذِل في زخرفتها ونقشها من فنٍّ، وما أُضفيَ عليها من عبقرية؛ وأن للفائز الثاني مُهرةً صافنًا تَسبق الريحَ وتلحق البرق؛ وللثالث كوبًا من الفضة الناصعة، عظيم القدر، غالي الثمن، وللرابع بدُرَّتين من الذهب الإبريز، وللخامس إبريقًا فضيًّا للخمر وكأسين للشراب.
واشترك في هذا السباق لهاذمُ أبطال الإغريق، وصناديدهم الصيد؛ وكان أول من نزل إلى الحلبة يوميلوس الملك ابن أدميتوس العظيم، وتلاه ديوميد الحُلاحل ابن تيديوس؛ ثم منلوس سليل السماء، وفرع الآلهة بن أتريوس الكبير؛ وكان رابعهم أنتيلوخوس المشهور بن نسطور الحكيم، الذي أخذ أعين القوم بقامته السامقة، وعودِه اللدن، وقوامه الأهيف السمهري الممشوق، والذي تقدَّم إليه أبوه فقبَّله في حرِّ الجبين، وزوَّده بنصائحه الغوالي؛ وكان خامسهم مريونيس الهائل، صاحب الذكر البعيد، والشأْو المجيد، في كل مثار نقع وفي كل ميدان.
وكان على الفارس العظيم فونيكس أن يلاحظ السباق، فكان في مركزه هذا حكمًا عدلًا وقاضيًا ماهرًا.
وأعطى أخيل الإشارة، فانطلقت الجياد تزلزل الأرض، وتُثير عجاجةً قائمةً من ثرى الميدان، وتضرب الصخر بحوافرها فينقدح الشَّرَر، ويميد جانب الجبل، وتتصل أبصارُ القوم بالريح التي تتعثَّر في أدبار الخيل، ويتحسَّس كلٌّ منهم قلبَه، متمنِّيًا قصبَ السبقِ لصاحبه الذي هو من شيعته … ثم … تتدخَّل الآلهة في هذا اللهو البريء، فتغيِّر دفَّة المقادير، وتتحمس مينرفا للبطل العظيم ديوميد، حينما ينزع أبوللو السوط من يده، ويلقي به على الأرض، فتعيده إليه؛ وتلحظ أن أبوللو يصنع هذا ليظفر يوميلوس ويفوز بالسبق، فتذهب من فورها إلى ابن أدميتوس، وتنزع إحدى عجلتي عربته، فيهوي البطل ويوشك رأسُه أن يتحطم على الجلاميد المتراكمة على جانبي الطريق.
وتعدو الخيل.
وتخفق قلوب القوم، ثم ينظرون فيرون إلى ديوميد قد أنهى الشوط، ونزل من عربته فصافح فونيكس، واستحق بذلك الجائزة الأولى.
وتلاه أنتيلوخس، ثم منلوس الملك ثم مريونيس وكان أبطأهم.
وسكن القوم قليلًا، وإذا هم يبصرون يوميلوس المقدام يسوق جِيادَه، وخلفها عربتُه التي حطمتْها مينرفا، فيُثير مَرْآه قهقهةً عاليةً وصخبًا لا يقطعهما إلا أخيل بصيحة راجفة تُعيد إلى الملأ وقارَهم، ويقضي ليوميلوس بالجائزة الرابعة «لأنه لولا الحظُّ العاثر لكان صاحبَ الجائزة الأولى!»
واشرأبَّت الأعناقُ حين أعلن أخيل عن دورة الملاكمة.
وشارك فيها من الأبطال إبيوس فتى مفتول السواعد مكتنز العضل، رحب الصدر، له قبضتان كأنهما حراشف جذور بارزة من جذع شجرة، ألقت بها الريحُ في يوم عاصف، ونهض إلى جانبه شابٌّ قوي بادي البأس، لم يلبث القوم أن عرفوا فيه يوريالوس بن مسيتوس، الذي طالما شارك في أولمبيات الملك أوديبوس، وكان أبدًا فتاها وفارس حَلبتها.
وأرهفت الأسماع حين نهض أخيل يُعلن عن دورة المصارعة التي لم يجرؤ أحدٌ أن يتقدَّم إليها حتى أوشك زعيمُ الميرميدون أن يُلغيَها لو لم ينهض أوليسيز ويتبعه أجاكس متثاقلين!
وأهطعت الرقاب ذاهلةً نحو الزعيمَين الهَولتَين، وشخصت الأبصارُ ترى إلى الجبل يأخذ بتلابيب الجبل، والبحر ذي العباب يصاول البحرَ ذا العباب، والشهاب الراصد يندقُّ على الشهاب الراصد، لا هذا ينال فرصةً من ذاك، ولا ذاك يرى ثغرةً ينفذ منها إلى هذا، والقلوب أثناء ذلك تخفق وتخفق، والقشعريرة الباردة تشيع في أصلاب هؤلاء وهؤلاء، كلٌّ يتمنَّى أن يفوز رجله … حتى ثارت عَجاجةٌ حول البطلين انجلتْ عنهما صريعَين فوق الأرض، لم يَنلْ أحدُهما من الآخر! فكان القضاء العادل من السماء!
وحاولا أن يعودا إلى صراعهما الأول، فحال بينهما أخيل؛ لأن الدورة كانت لا تنتهي إذن … فكان بحسبهما أن ينالا جائزتين متساويتين!
وبدأ سباق العدَّائين، واشترك فيه أوليسيز وأجاكس أيضًا، ثم أنتيلوخوس الذي استطاع أن يفوز بالجائزة الأولى، لما كان يبدو على منافسَيه من نصَبٍ من جرَّاء صراعهما السابق.
وتبع ذلك سباقُ المبارزة، وشارك فيه أجاكس أيضًا، ثم ديوميد العظيم الذي استطاع بعد لأْيٍ أن يجرحَ خصمَه في عنقه، فينبثق الدمُ من الجرح، فينال الحزام الفضيَّ بذلك!
ثم كان حمل الأثقال، وهو سِباقٌ يحبُّه الإغريق كثيرًا، وقد شارك فيه بوليبوتيس وإبيوس وليونتيوس … ثم … أجاكس! الذي فاز بالجائزة الأولى.
وتلا ذلك سباقُ الرماية، واشترك فيه البطلان تيوسير ومربونيس، وفاز الأخير بأسنى الجائزتين للبراعة الفائقة التي أبداها في إصابة الغرض «وكان حمامةً تنطلق وتنطلق … حتى تكون خلف السحب …!»
ثم كان سباق إصابة الغرض بقذْف الرمح، وقد تقدَّم إليه قائدُ الحملة العظيم … أجاممنون الملك … ثم … مريونيس الشجاع وأحد أتباع الملك إيدومنيوس … وقد هال أخيل أن ينافس أحد قائد الحملة، فتقدَّم إليه معترفًا بتفوقه على الجميع في كل شيء، وقدم له الجائزة الأولى … ثم قدم الرمح لمريونيس … وكانت مجاملةً طيبةً من أخيل تقبَّلها الجميعُ بثغور باسمة.