فتح طروادة١
لم يبرح فيلوكتيتس يُرسل سهامه على الطرواديين، ولم تبرح المنايا تتخطَّفهم، ولكن المدينة ذات الكبرياء ما برحت أمنع من عُقاب الجو على الغزاة الجبارين.
وذهب «كالخاس» عرَّاف الحملة إلى آلهته يستوحيها، ثم هرع إلى سادته قادة الجيش، فذكر لهم أنه ما دام تمثال مينرفا المقدَّس — البالاديوم المشهور — في طروادة فلن يفتحها على أهلها فاتحٌ، ولو عاونته الأرباب جميعًا!
وانطلق أوليسيز، وانطلق معه ديوميديز، فتنكَّرا، واحتالا على حارس البوابة الإسكائية الكبرى ففتحها لهما وذهبا قدمًا إلى هيكل مينرفا، وسرقا البالاديوم المقدس، وعادا به، وكلُّ همِّهما أن تبطل نبوءات العم «كالخاس» التي أخذت تترى، ويأخذ بعضُها برقاب بعض، وكرَّت الأيام، ومع ذلك لم تُفتح طروادة!
ثم بدا لأوليسيز أن يصطنع الحيلة.
فعرض على زعماء الحملة أن يُدعى مهرة النجَّارين والمثالين فيصنعوا حصانًا هُولةً كبير الحجم، خاوي الجسم، فيكون بداخله جمهرةٌ من أقوى شجعان الهيلانيين وأبسلهم، ثم يوهم الأسطول أنه أبحر بجنود الحملة، فإذا مضى شطرٌ من الليل، وأقبل الطرواديون على الحصان فأدخلوه مدينتهم تذكارًا لهذه الحرب الضَّروس التي أكلت أخضرَهم، وأحرقتْ يابسَهم، وذهبت بالزهرة اليانعة من شبابهم … ثم إذا كان الهزيع الخير من الليل، خرج الأبطال المختبئون ففتحوا أبواب إليوم، وانقض الجيش المرابط فاحتلَّ المدينة العاتية التي رغمت تحت أسوارها أنوفٌ، وذلَّت جباه، وذابت أنفس، وذهبت أرواح دون أن ينال منها أحدٌ.
وطرب القادة لهذه الحيلة التي بدههم بها أوليسيز …
وانصرفوا عن القتال وهم له كارهون، وانصرف الطرواديون فاعتصموا بأسوارهم، ورابطوا داخل صياصيهم، ومهرة النجارين وكبار المثالين دائبون على حصانهم الهولة حتى فرغوا منه.
وأقلع الأسطول.
وانكشفت الساحةُ من هذا الجراد المنتشر الذي لبث ينوء فوقها عشر سنين.
واختبأ أوليسيز داخل الحصان ومعه نخبةٌ من شياطين الميرميدون، وعلى رأسهم بيروس النجيب ابن أخيل الخالد، وعصبةٌ قوية من فرسان الإغريق البواسل.
ودقَّ الطرواديون البشائر.
وجاءوا يُهرعون إلى الساحة ويتكبكبون حول الحصان الهولة، ويكلمون سينون الذي تركه الهيلانيون عند الحصان ليخدع الطرواديين ولينصح لهم بنقله إلى المدينة ليكون آخر الدهر تذكارًا لهذه الحرب التي شنَّها قومُه على طروادة ظلمًا، فباءوا منها بالبوار.
… هؤلاء الهيلانيون اللؤماء، الذين انصبَّت عليهم أحقادُ الآلهة، وثار بهم كبيرُ الأولمب وسيدُه الأعظم، وسُلِّطت عليهم الزوابعُ والأنواء حتى كادت تفنيهم لولا أن أُمِروا بتضحية قربانٍ بشريٍّ يُنجيهم من غضب السماء … ولكن؟ … مَن منهم أصاخ إلى الأمر المقدَّس؟ ومَن منهم سمع إلى هتاف الأولمب؟ لقد جبنوا جميعًا، ولم يشأ واحدٌ منهم أن يُضحِّيَ بنفسه لينقذَ الجميع حتى أوليسيز نفسه! هذا الداهية المغفَّل! لقد جبن هو أيضًا! وفي الوقت نفسه حاول أن يُرغمني أنا! أنا سينون المسكين، على أن أقبل التضحية، وأن أهبَ دمي للآلهة لتهدأ ثورتُها.
ولكني رفضتُ في شَمَم، وامتنعتُ في إباء، لا خوفًا من الذبح؛ ولكن ضنًّا بدمي النقي الطاهر عن أن يُهرَق في سبيل هؤلاء الجبناء … الذين تكأكئوا وفزعت نفوسُهم من صيحة السماء!
وهربت يا مولاي! يا مولاي بريام العظيم … ولُذْتُ بظلال طروادة الخالدة، طروادة المنيفة القوية، وجعلت أصلي لأربابي حتى استجابت لي، وأرسلت إليهم مَن أنذرهم بسوء المنقلب إذا هم لم يُقلعوا هذا المساء! قاتلهم سيد الأولمب! وقاتلهم الآلهة جميعًا!
والآن! ها هم أولاء قد تركوا هذا التمثال الرائع الذي أعدُّوه ليوم نصرهم، فجعلتْه الآلهة آيةَ فشلهم! انقلوه يا مولاي إلى المدينة واجعلوه تذكارَ هذه النوبة الجنونية التي شنُّوها عليكم، فحاق بهم سوءُ ما كانوا يمكرون، ألا فليكن قربةً لمينرفا!
ولقد سمعتُ هاتفًا في صلاتي يقول: «الويل لمن يصيب هذا التمثال بشَرٍّ! تنقضُّ عليه رجومُ السماء، وتنخسف من تحته الأرض، وتميد من فوقه الجبال! وطوبى لمن احتفظ إلى الأبد به! إذن يحميه شرُّ حدثان الزمان وعوادي الأيام …»
وكان سينون الداهية يمزجُ كلماتِه بدموع الصلاح والورع، ويُشعل فيها جمرات الإخلاص والصدق … وكان يُرسل آهاتِه من الأعماق! حتى استطاع أن ينفذ إلى سويداء الملك، ويستولي على مشاعر الطرواديين؛ وحتى ثار الطرواديون أنفسُهم على قدِّيسهم الوقور لاوكون، راهب نبتيون الأكبر حين نصح ألا تجوز عليهم هذه الكلمات المعسولة، والنفثات السحرية التي يتلجلجُ بها لسانُ سينون، وأن يدَعوا الحصان مكانه، «فإنه إن دخل طروادة جلَب عليها الشرَّ، وكان فأْلُ السوء للضحايا والشهداء، ولا تُصدِّقوا أن الهيلانيين قد تركوا هذا الحصان تكرمةً لنبتيون كما يدَّعي هذا الآفاقي المأفون، بل هم قد صنعوه حيلةً منهم لغرضٍ سيء، وها هي ذي ابنتك أيها الملك … كاسندرا العزيزة فاسألْها … فإنَّ لديها سرَّ السماء …»
وسأل الملك كاسندرا فأفتتْ بما أفتى به لاوكون.
ولكن … مَن يُصدِّق كاسندرا ولا تزال نقمة أبوللو تنصبُّ فوق رأسها، وقد جعلها إله الشمس عرضةً لكل مستهزئ، وضحكة كلِّ ساخر لعَّاب!
وزاد الناس استهزاءً بالقديس لاوكون، حين رأوا إليه تفترسُه حيَّتان عظيمتان على سيف الهلسبنت؛ إذ هو يقدِّم قربانه لربِّه نبتيون، فتقتلانِه وولدَيه، عقب تحذيره الطرواديين ألا يقربوا الحصان المشئوم وألا يُدخلوه مدينتهم!
وتعاون الطرواديون جميعًا فجرُّوا الحصان الهولة، وهدموا بأيديهم جزءًا كبيرًا من سور إليوم المنيع لتتَّسع البوابة للتمثال الهائل، فكانوا كالتي نقضت غزلها أنكاثًا!
•••
وكان الأسطول قد اختبأ في ظلال الأيك النامي فوق جزيرة تندوس، فلما كان النصف الثاني من تلك الليلة الخرافية الحالكة — وكانت طروادة كلُّها قد استسلمت للنوم العميق الذي يسبق القضاء الصارم عادةً في مثل هذه الأحوال — هبَّ سينون الخبيث ففتح الباب السِّريَّ الذي لا يعرف إلا هو مكانه من الحصان، وخرج الأبطال فقتلوا الحرَّاس النائمين لدى الأبواب، وأشعلوا النيران فرآها الجنود الذين عاد بهم الأسطول في دُجى الليل، فانطلقوا سراعًا إلى إليوم الخالدة … المستسلمة … فدخلوها … وأعملوا السيف، وشرعوا الرماح، واستباحوا المدينة، وهتكوا الأعراض النقية، وأحلُّوا حرمة الهياكل، وأضرموا النيران في القصور، وأتلفوا الحدائق الفينانة، وهشَّموا تماثيل الآلهة في الميادين العامة، وقتلوا الصبية والأطفال، وجعلوا المدينة أطلالًا!
وهكذا، وفي سكرة الليل، وهدأة الظلام، تمَّ للهيلانيين الاستيلاءُ على تلك المدينة العتيدة، وهبَّت من تحت الثرى عشرة أعوام طوال مضرَّجة بالدم، ملطَّخة بالإثم، حافلة بالذكريات، غارقة في الدموع … تشهد إلى الفتح المجرم، وترى إلى المأساة الظالمة في آخر فصولها!
وكان إيناس اليافع بن فينوس الهلوك من أنخيسيز، فتى طروادة وأميرها الجميل ذو القسمات يَغِطُّ في نومه العميق ملء سريره الذهبي الوثير … مطمئنًّا آمنًا … لا يدور بخلده أن تحلَّ تلك الكارثة بإليوم في هذه الغفوة من الفجر.
وكان إيناس محبَّبًا إلى الآلهة، ولم يكن قد جاء أجلُه بعدُ، فسخَّرتْ إليه ربَّات الأقدار طيفَ هكتور يزوره في نومه، ويُريه حلمًا مفزعًا، ويُنذره: «أن هب يا إيناس؛ فقد سقطتْ طروادة، وانجُ بنفسك وبأهلك؛ فالأسطول ينتظرك، واستنقذ التحف المقدَّسة والآثار العلوية؛ فقد دنَّسها الفاتحون!»
وذُعر إيناس، وهبَّ من نومه لهفان صعقًا، وفزع إلى سلاحه، ثم أشرف على المدينة المروعة، فشهد المأساة تحلُّ بها.
وهالَه أن يرى الوحوش الضواري من بُغاة الميرميدون وغُزاة الهيلانيين يسوقون أتراب طروادة وبيض خدورها المكنون، عاريات أو نصف عاريات، إلى الأسطول، ليكنَّ إماءً في بيوت هيلاس، ورقيقًا في أسواقها!
وكاسندرا! كاسندرا نفسها! ابنة بريام الملك، حبيبة السماء وصفية الآلهة! التي حذَّرت أباها يومًا من قبول باريس أن يحلَّ البلاءُ بالمملكة وينزل الشؤم بالناس! ها هي ذي مسوقة في قبضة أجاممنون نفسه، أجاممنون سيد القوم وقائدهم العام إلى سفينته!
وفكَّر إيناس فلم يجد لإنقاذ المدينة وأهلها من سبيل، فأشار إلى بعض رجال قصرِه، فقتلوا نفرًا من جند الإغريق المتخلفين عن الجيش الغازي، كانوا مشغولين بالسَّلَب والنهب في متجر قريب، ثم نزعوا عنهم ثيابَهم فلبِسها إيناس وصحبُه ليستخْفُوا بها عن أعين المغيرين؛ وانطلقوا إلى القصر الملكي، وبوُدِّهم لو استطاعوا أن يحموا الملك في هذا الروع الأكبر، ولكن وا أسفاه! لقد كان بيروس بن أخيل قد سبقهم إليه في عسكر مجر من أباسلة الميرميدون؛ وكان بوليتيس بن بريام، وآخر فرع من دوحته الباسقة آبقًا أمامه، مكروبًا مفزعًا، فارًّا إلى ذراعي أبيه الضعيف الشيخ، يلتمس الحماية في أوهى حمًى، فلم يزل بيروس ينهب الأرض في إثره، حتى قتله بين يدي أبيه، وانقضَّ على الملك التاعس فوضع حدًّا لهذه الحياة الطويلة المملولة الشقية التي لطخها الدمُ البريء وصهرتْها جحيمُ الشدة، ولم يغنِ عن بريام المسكين توسُّلات هذه الزوجة المعذَّبة التي وقفت بينه وبين بيروس، هكيوبا! الملكة المرزأة! التي بقيتْ وحدها لتجرع الثمالة الباقية في كأس الحياة مرًّا وعلقمًا.
وهكذا صَعِدت روح الملك إلى سماء طروادة.
تتلفَّت حولها! ترى إلى المدينة الخالدة تضطرم.
النيران في جنباتها، وتندكُّ صروحُها العزيزة.
في الرغام، وتتهادى أبراجُها المنيفة التي
كانت تسجد تحتها آسيا الجبارة، والآن!
ها هو ذا على ثرى إليوم لقًى لا نفَس فيه!
وجثةً هامدةً لا تحمل اسمَها بعدُ، ورأسًا
وزاغ بصرُ إيناس حين شهد هذا المنظر الرهيب، ووقَر في نفسه أن مثل هذه النهاية المحزنة قد تحلُّ بأبيه الشيخ أنخيسيز؛ وبزوجته الهيفاء كروزا، وبطفله المعبود إيولوس، فلم يبالِ أن يقتحم صفوف الأعداء إلى قصره الذي خلا غابُه اليوم من أُسْدِه، وبُدِّل الشوك من ورده، وعاث فيه جنودُ الهيلانيين فأصبح قاعًا صفصفًا، كأن لم يَشْدُ في دوحه بلبل، ولم يحنَّ فيه فؤادٌ إلى فؤاد!
وهناك … في إحدى الردهات المنعزلة، وجد هيلين! نعم، هيلين! سبب هذه الكوارث المتلاحقة التي حلَّت بطروادة والطرواديين … هيلين التي لم تبالِ أن تتزوج ديفبوس — أخا باريس — عقب مقتل حبيبها بأيام معدودة!
وجدها هنالك … تنقدح المصائبُ شررًا من عينها، وتتدجَّى غواشي الكروب فوق هامتها، وتنعقد ظلماتُ الكوارث على جبينها المغضن الكريه … الجميل!
وهمَّ إيناس أن يفتكَ بها لما ذكر من الأرزاء التي حاقت بطروادة من جرَّائها، لولا أن بدتْ له أمُّه … فينوس، فأنذرته ألا يفعل، ثم كشفت له حجابَ الغيب المحرم على أعين البشر، فرأى إلى الآلهة أنفسهم يعملون بأيديهم في تخريب طروادة وتدمير الطرواديين، وعلى رأسهم شيخ الأولمب وسيده … زيوس … كبير الأرباب!
«فانجُ بنفسك يا بني … ولُذْ بالبحر … ولتنزحْ عن هذه الديار …»
وانطلق إلى أبيه فنصح له أن يهرب معه، ولكن أباه استكبر وأبى، بحجة أنه ينتظر نبوءةً من السماء تُوحي إليه بما توحي … فغِيظ إيناس وأغلظ لوالده القولَ؛ ثم أمره أن يهبَّ من فوره غير مستأنٍ فيركب كاهلي ابنه وإلا قتلوا في الحال!
ولم يسَعْ أنخيسيز إلا أن يُطيعَ، فسار ابنُه يحمله، وسار ولدُه الصغير أيولوس بجانبه، وتبعتْهم زوجُه الجميلة كروزا.
كان قد اتفق مع أتباعه قبل أن يقصد إلى قصر الملك أن ينتظروه في هيكل خرب قريب من مياه الهلسبنت، فلما أقبل نحوهم يحمل أباه اتفقوا على أن يُبحروا في الحال، ولكنه، وا أسفاه! افتقد زوجَه فلم يجدْها، زوجه كروزا التي كانت الساعة فقط تتبعُه! لقد قتلها كلبٌ من شياطين الميرميدون! ولما رجع إيناس ليبحث عنها لقِيَه طيفُها الجميل، عند تمثال مينرفا، فخاطبه قائلًا: «هلمَّ يا إيناس! غادرْ هذه الديار في الحال، واذهب إلى شطآن التيبر؛ فإن الآلهة قضت أن تبنيَ بيديك رومة أم القرى!» وأبحر إيناس وأبحرت فلولُ الطرواديين معه وعينُه تفيض من الدمع على كروزا!
وفي غبشة الصبح المضطرب، كان صوت الطبل الكبير يقصف كالرعد في خرائب طروادة. وكانت الجموع الحاشدة تُهرول نحو الأسطول، وكان السبي الكثير من عذارى طروادة وسائر نسائها يهرولْن هن الأخريات نحو البحر، فكنت ترى هكيوبا الملكة وأندروماك الحزينة التي اغتصبها بيروس لنفسه، وكاسندرا … تلك التي أحبَّتْها السماء، فأصبحت في جملة السبي من سُرِّيَّات أجاممنون وغانياتِه … وكنت ترى غيرهن يُهرولْنَ في الصباح الباكي إلى شاطئ الهلسبنت، ليركبْنَ البحر فيَغبْنَ عن أرض الوطن إلى الأبد.
وكانت كاسندرا تنظر إلى المأساة وتبتسم.
وكانت أمُّها ترمقها بعينين دامعتين، وتسألها عن سبب ابتسامتها، فتفترُ كاسندرا، وتقول: «أمَّاه ليس حظُّ هؤلاء الغزاة المنتصرين بخير من حظِّ أبطالنا، ها أنا ذي أقرأ ألواح القضاء، انظري … ها هو ذا مصرع أجاممنون بيد زوجته كليتمنسترا العاشقة … إنها تُفضِّل اليوم حضنَ عاشقِها الآثم على جَنَّة يكون فيها زوجها … إنها ستقتله، ستذبحه بيديها … حينما تطأ قدماه أرضَ الوطن!
وانظري يا أمَّاه … ها هو ذا أوليسيز تعصف به الريحُ، ويلعب به الموج، ويؤرجحه البحرُ اللجيُّ، والعشاق يتقاتلون من حول زوجه … وتليماك المسكين يضطرم غيرةً ولا يستطيع أن يفعل شيئًا …
وانظري يا أماه … ها هو ذا منلوس … بائس … كم أنت بائس يا منلوس، لقد ظن المسكين أن هيلين نقية كما هي! لقد نسي الناعس أنها تقلَّبت في أحضان أزواج غيره! انظري إليه يقذفه البحرُ إلى شطآن مصر، وانظري إليه ذليلًا بين يدي هيلين يتوسَّل إليها وكان أحرى لو أنه قتلها.
•••
ونسي الهيلانيون في نشوة النصر أن يُقرِّبوا القرابين للآلهة التي نصرتْهم وأيَّدتْهم وأظفرتهم بأعدائهم؛ قبل أن يُبحروا، فأثاروا غضب الأولمب، واستنزلوا لعنة السماء، واستحقوا حنقَ حيرا ونبتيون ومينرفا، ونقمة زيوس!
لقد ثارت ثائرةُ مينرفا، فانطلقت إلى أبيها وشكت إليه ما فرَّط هؤلاء الجاحدون في جنبها وجنب الآلهة، واتفق الجميع على أن يُسخِّرَ نبتيون الجبار إله البحر أرياحَه العاتية على أساطيلهم فتُمزقها، وتُضلِّلها تضليلًا.
فما كادت الأساطيل تَمخَر عُبابَ الماء، وما كادت تبتعد عن شواطئ إليوم، حتى بدأت العاصفة تدوِّم، وحتى أخذت الأمواجُ تُرسل أعرافها حول السفائن، وحتى نثَر الثَّبَج حبابَه فوقها، وحتى ارتعدت فرائصُ القوم، ونظر بعضُهم إلى بعض، كأنهم في يوم حشر، فهم لا ينبسون.
ولقد صدقت كاسندرا!
فها هي ذي الأساطيل الكثيفة تتمزق فوق سطح البحر، وها هي ذي جواري منلوس المنشآت تدفعها العاصفة في طريقها إلى … مصر، وها هي ذي مراكب أجاممنون تنكسر على الصخور الناتئة في عرض اليمِّ، وما يكاد يصل هو إلى مملكته أرحوس حتى تقتلَه زوجتُه العاشقة مؤثرةً عليه أحضانَ عاشقها الأثيم إيجستوس، وها هي ذي سفين أوليسيز تضلُّ في البحر الشاسع، وتتكسر بما عليها من سلَب، ويظلُّ البطل المغوار في نُقلةٍ وترحُّل … عشر سنوات، وتظل زوجُه بنلوب تنتظره، وعشاقها يقتتلون حول قصرها، وتليماك — ابنها البائس — ينتظر أوبةَ أبيه، حتى يعود بعد شدة وبعد أهوال، فيدمِّر العشاق الآثمين.
•••
وهكذا يا صديقي القارئ تنتهي تلك الملحمةُ الطويلة الدامية؛ فإن أحسستَ أنت أنها لم تنتهِ بعدُ، فأنت صادق؛ لأن المأثور أن هوميروس قد نظم ملاحمَ طويلة عن أوبة كل من أبطاله إلى بلاده، ولم يبقَ منها — وا أسفاه — غير درَّته اليتيمة الخالدة.
الأوديسة
وهي التي سنقدمها لك قريبًا إن شاء الله مرويةً بطريقتنا التي آثرنا أن نروي بها روائع الأدب اليوناني، الذي تسمع به جمهرةُ قرائنا ولا تعرف عنه إلا اسمَه.
وليس من شكٍّ في أن الأوديسة — كما أشرتُ إلى ذلك في مقدمتنا عن هوميروس — هي أروع آيات الأدب اليوناني كله، إن لم تكن آيةَ آياتِ الأدب القديم جميعه، نسأل اللهَ أن يُلهمَنا السداد، وأن يهَبَنا من لدنه العناية وحسن التوفيق.