التعبئة
عاد منلوس من رحلته في الحدود، ولَيته لم يَعُد!
لقد جُنَّ جنونه حينما علم من أمر زوجه وضيفه ما علم!
«علامَ إذن كانت كلُّ هذه الضجَّة التي أحدثتْها تلك اللعينة قُبيل زواجها؟ لقد تركت عُشَّاقها الكثيرين صرعَى حول قصر أبيها، وظلَّت تتيه وتدلُّ وتتأبَّى وترفض، وفيهم شجعان هيلاس وحُماتها وأباتها وملوكها الصيد وفرسانها الصناديد!
فيمَ إذن كانت كلُّ هذه الضجة؟
هل منحتْني جسمها فقط يوم اختارتني بعلًا لها؟ وهل ذخرت قلبَها للعشق الأثيم والهوى الفاجر حتى ترزقها شياطينُ الفتنة هذا الشاب الغُرانق اللاهي المستهتر فراحت تُقدِّمه فوق مذبح جماله قربانًا للذَّتها النجسة وتقدمةً لشبابها الرجيم؟ وا حربَا! هل اختارتني بعلًا لها لا لشيء إلا لأني ملك وسليل آلهة؟!
يا للفاجرة!
أفي ذلك البيت الرفيع الذُّرى، ظلَّت تتقلَّب التاعسة في ذراعَي هذا الخائن شيقةً متلذذةً؟ هل ظلَّ هو يضمُّها إلى صدره الثائر في شدة وعنف؟! هل كانت تستزيده؟
أيتها الجدران الحزينة! كم قُبلةٍ دنسةٍ أصمَّت آذانك، وكم صرخةٍ فاجرةٍ دوتْ كالرعد في حناياك؟ حدثْني أيها الهواء المسمَّم عما كنتَ تشهد في صميمهما حين كانا ينفثانك من صدرَيهما سمًّا قتَّالًا! خبِّري أيتها الستائر، أيتها المصابيح، يا شموع قصري، أيتها الأرض الملوثة، أيها العرش المهين، أيها التاج الذليل، أيتها الكئوس المتناثرة، والأكواب المقلوبة، تحدَّثي إليَّ!
حدثْني يا كل شيء هنا عن مهازل الفسق ومذابح الشرف!
آه! الشرف؟! الخرافة الكبرى!
الحرب! الحرب! الانتقام! الانتقام من الفاجرة، اقتلوا الخائن يا حلفائي، تنداريوس، ادعُ حلفاءك، لقد أقسموا جميعًا، لقد كنت تتوقع هذه النهاية يا تنداريوس، استيقظ، استيقظي يا أسبرطة، جنودي، شعبي، هلموا إليَّ.»
وهكذا أرسلها منلوس صرخةً مدوِّيةً تجاوبت أصداؤُها في جميع أجواء هيلاس، واستجاب لها كلُّ قادر على الحرب فيها إلا القليل.
أوليسيز
كبر في نفس أوليسيز أن يتقدم لخطبة هيلين فترفضه فيمن رفضت وهو مع ذاك ملك إيثاكا وبطلها الحلاحل، وفارس هيلاس الذي لا يُشَقُّ له غبار، وكبر في نفسه أن تؤثر عليه منلوس، وهو مع ذاك دونه شجاعةً وأقل منه إقدامًا حين يُثَار النقع وتستحر الحرب، وكَبِر في نفسه أيضًا ألا تكونَ له زوجةٌ يُفاخر بها هيلين وأتراب هيلين وآل هيلين، فذهب من فوره إلى عمِّها فتزوَّج ابنتَه الجميلة الرائعة بنلوب: «الزهرة التي تهتزُّ للندى، وترقص لخيوط الشمس الذهبية، وتغني مع الأطيار ويسكر النسيم إذا داعب خدَّيها، قُبلة الحب الخالد على خدود الجمال الطليق، وابتسامة السماء الضاحكة في قلوب المحبِّين المعذبين بنلوب، الوديعة كالأطفال، الحلوة كالرضى، الصافية كقطرة الندى بين أوراق الورد، المرحة كسطور الغرام في خطاب الحب، بنلوب، التي تفخر الأرض بأنها تحملها، والهواء بأنها تستنشقه، والسماء بأنها تظلُّها وتُشرف عليها، والجبل بأنها تنظر إليه، والبحر بأنه يغسل قدمَيها المعبودتين!
بنلوب، ذات الفم العطري والخد اللامع المورد، والجبين الناصع الوضَّاح، والعنق الناهضة الجَيداء، ربيبة الآلهة ولمحة الأولمب، وبندورا الثانية.
تزوج أوليسيز من بنلوب هذه فأخلصت له الحُبَّ، وأصفاها المودة والغرام، وولدت له طفله الجميل المتلألئ تليماخوس (تلماك)، فزادت محبَّتُها له وتضاعفت عبادتُه لها بعد هذا الرباط القدسي الكريم.
عزَّ على أوليسيز أن ينأى عن زوجته الجميلة وطفله العزيز المحبوب، لا لشيء يجرُّ عليه مغنمًا أو رفعةً، ولكن ليحارب حربًا لا تعلم إلا الآلهة كيف تنتهي؛ فقد تكون عقباها القتلَ أو الغرق أو الأسْر، فتعيش الزوجة الجميلة أيِّمًا محزونةً، ويحيا الطفل يتيمًا مُفجعًا، وثمن ماذا كل هذه المصائب وتلك الآلام؟ ثمن امرأة أذلَّت سادة هيلاس، وجرحت كبرياء زوجها وفضحت أباها، ثم هتكتْ عرضها — إذا كان لها عِرض — بفرارها مع هذا العاشق الفاجر الأثيم!
لم يشأ أوليسيز أن يُقامر بسعادته وحياته في هذه الحرب إذن، ولو كان في ذلك — كله أو بعضه — الحنث العظيم، فما يمين شرفٍ هذه التي يتمسك بها ملكٌ كبير كملك إيثاكا من أجل امرأة ليس لها شرف؟
ليقعد إذن عن هذه الحرب، وليصمَّ أذنيه دون صيحتها الكبرى، فإذا ألحَّ عليه الملحُّون فليتظاهر بأنه مجنون مأفون، لا تهديه مسكةٌ من عقل ولا تُرَشِّده أثارةٌ من تفكير.
أرسلوا إليه رسولهم السياسي الكبير بالاميدز يحضُّه على الحرب ويذكِّره بيمينه التي آلاها ويحرِّضه على «الطرواديين اللؤماء الذين يوشكون أن يفضحوا الهيلانيِّين في أعراضهم»، ولكنه ألفاه يحرث شاطئ البحر بمحراث هائل يجرُّه ثورٌ ذو خُوار، وحصان عربي أصيل!
– «عَمْ صباحًا أيها الملك.»
– «…! …»
– «ماذا يصنع مولاي؟»
– «أحرث هذا الحقل الخصيب!»
– «أي حقل؟»
– «الحقل الذي ترى، أليس لك عينان تسمع بهما، وأذنان تريان ما أفعل؟»
– «عينان تسمعان وأذنان تريان؟»
– «اذهب، لا تشغلني، أريد أن أبذر حقلي هذا الصباح.»
– «وماذا عساك أن تبذر أيها الملك؟»
– «لست ملكًا فلا تهزأ بي، نحن الفلاحين نطعمكم ونسمنكم ثم يكون جزاؤنا أن تسخروا بنا، اذهب، اذهب.»
– «وماذا عسيت أن تزرع؟»
– «سأزرع مِلْحًا.»
– «تزرع ملحًا؟! وتحصد ماذا؟»
– «أزرع ملحًا وأحصد … سمكًا … ها ها … لا لا … سأحصد باذنجانًا … ولكن لماذا تقف هكذا قريبًا مني؟ لماذا لا تذهب؟»
– «ألا تعرفني يا مولاي؟»
– «أرجوك! أنا لست مولاك ولا مولى أحد! اذهب ودعني أشتغل.»
– «أنا بالاميدز يا مولاي! وا أسفاه! إن هيلاس كلها تنتظرك ليومها المشهود!»
– «تنتظرني؟ إنها لا بد جائعة يا بالا، يا باما، يا بالاديز.»
– «لست بالاديز يا مولاي، أنا بالاميدز.»
– «الحرب يا مولاي، الأساطيل في أوليس.»
– «أي حرب وأي أساطيل يا رجل؟»
– «سنُحارب طروادة!»
– «ولمَ لمْ تذهبوا بعدُ؟»
– «نريد أن تكون معنا، فالكل يهتف بك ويدعوك.»
– «أنا؟ يدعوني أنا؟ أنت يا رجل لا تريد أن أزرع هذا الحقل ملحًا، وماذا أصنع في الحرب؟ هل أخبروك أنني فارس؟ اذهب، اذهب، سأسأ، سأسأ.»
– «ألا تعرف من أنت يا مولاي؟»
– «وهل تعرف أنت من أنت؟»
– «أنا بالاميدز، وأنت؟»
– «أنا؟ أتريد أن أرسل اسمي إلى الميدان؟ أتتركني بغير اسم يا رجل؟»
•••
لم يستطع بالاميدز أن يفوز من أوليسيز بطائل، فقد مثل ملك إيثاكا دور المجنون تمثيلًا متقنًا يحاول أن يُفلت من هذه الحرب التي لا شاة له فيها ولا جمل، والتي قد يُقتل فيها أو يُؤسر من أجل زوجة خائنة لا شرف لها ولا عرض. بيد أن بالاميدز لم ييأس حين رأى ما شدهه من جنون الملك، فإن وسواسًا وقر في قلبه أن هذا البله قد يكون تَبالهًا، وأن ما بالملك من مسٍّ إن هو إلا حيلة يحاول أن يُفلتَ بها من أرزاء الحرب وأهوالها، ثم هو حيلة كذلك للتحلُّل من اليمين التي أقسمها عشاق هيلين.
لذلك لجأ بالاميدز إلى الحيلة هو الآخر فانقطع أيامًا ظلَّ يرقب الملك فيها عن كثَب بحيث لا يراه أوليسيز، ولكن الجواسيس كانت تحمل أخبار السياسي الداهية أولًا فأولًا إلى رئيس البلاط، وهذا يحملها بدوره إلى مولاه الذي يفطن إلى مكر بالاميدز فيُبالغ في ادِّعاء الجنون، وينزل إلى البحر يحرث موجه بعد إذ فرغ من حرث شاطئه.
ويسقط في يد بالاميدز فيطلق آخرَ سهم في كِنانته.
ذلك أنه تحايل فسرق تليماخوس الصغير، ولي عهد أوليسيز، والأعز عليه من نفسه ومن الدنيا وما فيها، سرقه فذهب به إلى حيث والدُه يحرث الشاطئ ويحرث البحر، فطفق يضع الغلام أمام المحراث ليرى ما يكون من جنون الملك، هل يقتل ابنه ويكون بذلك مجنونًا حقًّا، أو يتفاداه ويكون جنونه محضَ ادِّعاء وبَلَهُه تلفيقًا في تلفيق؟!
ولكن الملك كان أحرص على ولي عهده وقرة عينه من أن تتمَّ فيه حيلة بالاميدز الداهية، فكان كلما تعرَّض ابنُه لخطر الموت لوَى عنان الثور، وذاد الفرس متفاديًا الطفل إلى الناحية التي لا يكون عليه فيها خطر.
فتضاحك بالاميدز وفضح جنون الملك، وأخجل حيلته، ثم لم يزل به حاضًّا محرِّضًا حتى أقنعه بوجوب خوض هذه الحرب مع إخوانه الهيلانيين.
•••
ازدحمت جحافل الهيلانيين في أوليس وانعقد المجلس الحربي لانتخاب القائد الأعلى، فاختير ابن الشمس البكر، أجاممنون، شقيق منلوس وصفيُّه بالإجماع.
اختير أجاممنون للقيادة العامة وإن لم يكن خير أعضاء المجلس الحربي، وكيف يكون كذلك ومن أعضاء هذا المجلس أوليسيز العظيم ملك إيثاكا، وأجاكس بطل الأبطال وفارس كل نزال، ونسطور أحكم من أشار بخطة في معمعان، وديوميدز المحارب الصنديد، إلى آخر هذه العصبة المختارة من جيرة الأولمب والسادة النجب من فرسان هيلاس.
اختير أجاممنون إذن؛ لأنه شقيق منلوس وممثله في الحرب، ثم لأنه أكبر أعضاء المجلس الحربي سنًّا وهو مع ذاك أحدُ شجعان هيلاس المعدودين.
•••
انتظمت صفوفُ الجند وأخذوا في مران عنيف أيامًا معدودات، ركبوا بعدها في سفائن أسطولهم العظيم وظلُّوا ينتظرون إذْن القائد الأعلى أمير البر والبحر بالإقلاع فتجري بهم الجواري المنشآت في موج كالجبال إلى طروادة، يحملون إليها المنايا الصفر، والغوائل السُّود في شفار المشرفيات البيض.
ولكن أمير البحر والبر لم يأذن لهم بالإقلاع.
ذلك أن بعض أعضاء المجلس الحربي أشار بوجوب استيحاء الآلهة عما إذا كانت حملتهم العظيمة هذه قد كُتب لها الظفر والانتصار أو الهزيمة والانكسار؟ ليكونوا من أمرهم على بينة، وليكونوا أيضًا قد استخاروا أربابهم فتخِيرُ لهم، واستشاروها فتخلص لهم المشورة، ويمضون بعد ذلك على بركتها وفي حراستها.
وارتقبوا نبوءة الآلهة بقلوب فارغة ونفوس مبتهلة، ومضت أيام.
ثم رأوا إلى تيرزياس كاهن المعبد يدلف نحوهم في هدأة فجر صامت فشخصت أبصارهم إليه، وظنوا فيه الظنون.
وجلس الكاهن المسن يقلب في القادة عينَيه الكبيرتين وصمت لحظةً، ثم قال: «أين ابن بليوس أيها الملأ؟»
ونظر القادة بعضهم إلى بعض ولم يحيروا.
فقال الكاهن: «ابن بليوس رب الأعماق من زوجته ذيتيس! أليس فيكم أخيل؟! …»
فأجاب أجاممنون: «ومن أخيل أيها الأب المقدس؟!»
فقال الكاهن: «هو ابن ذيتيس التي قالت فيها ربات الأقدار إنها تلد غلامًا يكسف مجدُه مجدَ أبيه، ابحثوا عنه، فلن تُفتح طروادة إلا أن يكون معكم، ولن ينفعكم أن تذهبوا بدونه، هكذا قالت الآلهة.»