أخيل
شُدِه القومُ، ونظر بعضهم إلى بعض، ونهض الكاهن الوقور ذو اللحية المرتعشة يضرب في غَبشة الصبح متكئًا على عكَّازه الذي أحنتْه وأحنتْ صاحبَه السنون، ولم يكد يتسنَّم ذروة الجبل حتى أشرقت ذُكاء، فاختلط ذهب أشعتها بفضة لحيته، فزادته رهبةً وزاد البعد وقارًا، وملأ بهامته السامقة وطيلسانه القشيب قلوب العسكر وعيون القادة ألغازًا وأسرارًا.
•••
عاشت ذيتيس في كنف بليوس قانعةً راضيةً لا يعنيها من هذا العالم الرحب إلا الجنين الحبيب الذي يتقلَّب في أحشائها فتتقلب معه أكبر الآمال.
ومضت شهور ووضعتْه غلامًا بكَّاءً كثير الصخب، يضرب الهواء برجلَيه الصغيرتين فكأنما يضرب المشرقَين والمغربين، وينظر في السماء العميقة بعينيه الزرقاوين وكأنما يبحث في أغوارها عن جده، ومجده، وترى إليه أمه وتبتسم.
وشبَّ الغلام وأيفع؛ وتحدَّثت إلى أمه العرَّافات والكاشفات الغيب أن سيكون محاربًا عظيمًا تتحدث بذكره الركبان وتتعطر باسمه المحافل في كل زمان ومكان؛ وأن لا بد من رحلة به إلى الدار الآخرة — هيدز مملكة بلوتو — حيث تستطيع الأم غمس ابنها في أمواه ستيكس، نهر الخلود الزاخر، الذي أودعتْه الآلهة أسرارَها ونظمت فيه شعراء الأولمب أشعارها، واشتهرت بركاته في العالمين.
حدثْنها أنها إن غسلت ابنها في أمواه ستيكس فإنها تُكسب جسمَه مناعةً ضد الموت، وحِفاظًا من الفناء؛ لأن جلده يصبح كالدرع المسرودة من حديد، لا تنفذ فيه السهام، ولا يؤثر فيه طعن القَنا، ولا ضرب المشرفيات البيض.
ووقفت به على شواطئ ستيكس!
وهالها أن تنظر فترى إلى المنايا تقفز على غوارب الموج وتَثِب فوق نواصي الثَّبَج؛ تدمدم كأنها الذئاب، وتهوم كأنها البواشق، وترقص ظلالًا سُودًا كأنها الجن!
لقد رِيعت الأم المسكينة وكادت تنثني بطفلها المعبود إشفاقًا عليه من هول ما شاهدت، بيد أن الطفل … بيد أن أخيل الصغير، كان يصرخ وينتحب كلما بعدت به أمه عن النهر، في حين كان يهدأ ويبتسم كلما اقتربت به منه. فتعجبت ذيتيس وجلست ترقب من النهر فرصةً هادئةً فتغمر ابنها في مائِه لحظةً وتمضي لشأنها.
إلا أن جزءًا واحدًا من جسم أخيل لم يغمره الماء!
ذلك هو عقِب قدمه اليسرى، فيا للهول!
ثم أسلمتْ ذيتيس ولدَها الحبيب للسنتور العظيم شيرون مؤدب هرقل ومدربه، يُلقِّنه الفنون الحربية، ويُنشئه على أعمال الفروسية ويبثُّ فيه ذلك الروح الكبير الذي بثَّه في سائر تلاميذه من قبل، فكانوا فرسان كلِّ حلبة وصناديد كلِّ ميدان، ولقد نبغ أخيل في استعمال السيف واللعب بالرمح، وتوتير القِسِيِّ وثقف حِيل المصارعة والملاكمة، وقصارى القول أصبح فتى زمانه والهلع المُلقَى في قلوب أنداده وأقرانه، إن كان له أنداد وأقران.
وعاد إلى أمِّه فاحتفت به، وذهبت من فوْرها هذا إلى العرَّافات القُدامى وكهنة المعبد، فاستوحتهم ما عسى أن يكون في كتاب الغيب من حظ لابنها في الميدان.
ولكنها حزنت ودهاها من الهمِّ ما دهاها حين قال لها الكاهن الأكبر مؤمِّنًا على ما تنبأت به العرَّافات من أن أخيل سيُدعى للقتال في صفوف الإغريق، وأنه سيلقى حتفَه تحت أسوار طروادة بسهم يرميه به ألدُّ أعدائه، يُصيب منه مقتلًا في موضع دقيق من جسمه، هو — وا أسفاه — عقِب قدمِه اليسرى التي لم تغمرْها مياه ستيكس!
حزنت ذيتيس وتجهَّمت للحياة المشرقة وتجهمت الحياة المشرقة لها؛ وآلتْ إلا أن تحول بين ابنها وبين حملة طروادة التي كانت الصيحة لها تجوب آفاق هيلاس في تلك الآونة.
وجلست تفكِّر.
وبدا لها أن تُرسل بأخيل حيث يحلُّ ضيفًا على ليقوميدس ملك سيروس الكريم المضياف، وأن تنتحل الأعذار الواهية فتعرض على الملك أن يسمح لولدها بالتنكُّر؛ بأن يُصفِّف طُرَّته ويُرسل غدائره، ويُزجِّج عينيه وحاجبيه، ويصبغ خدَّيه وشفتيه، ويُضفي عليه من وشى العرائس، وأفواف الإناث، وحِبَر القِيَان الغِيد، ما يبدو به كأنه واحدة من بنات الملك أو إحدى سراريه! تحسب المسكينة أنها بذلك تعفيه مما قدر له، وهو أينما كان يدركه القتل ولو كان في برج مشيَّد!
•••
واشتدَّ طلبُ الإغريق لأخيل، ولبث الأسطول الضخم يرقب مجيئَه في كل لحظة عدة أيام، وخشيَ أجاممنون إن هو أقلع بالفلك، ورسا عند شطآن طروادة أن ترسل الآلهة ريحًا صرصرًا تسخِّرها عليه فتأتي على أسطوله، أو يظل تحت أسوار أعدائه مرابطًا أبدًا، لا يتقدَّم ولا يتأخر، وتكون إقامته ثمة بالهزيمة أشبه، وإلى الانخذال أقرب، فأخذ يبعث الرسول يتلو الرسول للبحث عن أخيل الذي أنبأتِ الآلهةُ أن فتْح طروادة مستحيل بدونه؛ ولكن عبثًا حاول أحدٌ من الرسل العثور بأخيل أو بظلِّ أخيل؛ بل كانوا يعودون جميعًا وهم يتعثَّرون بأذيال الخيبة ويلملمون أطراف الفشل.
وهنا نهض البطل الملك أوليسيز، فتى إيثاكا؛ وندب نفسه للبحث عن أخيل، وأقسم لا يعودَنَّ إلا به.
ومع أن بعض القادة من أعضاء المجلس الحربي أوجسَ خيفةً من أن يفرَّ أوليسيز، وأن يكون ندبه لنفسه بحجة البحث عن أخيل، إن هو إلا حيلة يريد بها أن يُفلتَ من تبِعات الحرب وأهوالها إلا أن أجاممنون نفسه وهو القائد الأعلى للجيوش والأساطيل قبِل أن يذهب أوليسيز كيما يقصَّ أثر أخيل، بعد أن أخذ عليه «يمينًا على حدِّ الحُسام المهنَّد!»
•••
استطاع أوليسيز أن ينفذ إلى مملكة بليوز في أعماق المحيط، واستطاع أيضًا أن يختلط بالخدم وحاشية القصر، وأمكنه أن يستدرج بعضَ الأمراء المقرَّبين من رجال الأسرة المالكة فيعلم منهم أين يختبئ أخيل، وكيف يمارس حياة العذارى في بلاط ليقوميدس — ملك سيروس — كأنه إحداهن، وعلِم أيضًا أن أخيل نشأ نشأةً عسكريةً على يدي شيرون العظيم ومن كان تلميذ شيرون فأَخلِقْ به ألا يستنيم لهذه الحياة الناعمة التي لا تليق إلا بأبكار الخدور وربات الحجال لا بالأبطال وصناديد الرجال، فانطلق إلى سيروس من فَوره.
فلما كان في حاضرة المملكة يمَّمَ شطرَ قصر الملك، وكان الوقت ضحًى؛ ثم طفق يصيح باللهجة السيروسية معدِّدًا أسماء السلع التي: «استحضرناها حديثًا من مصر الجميلة المتفننة، والشام الصناع العبقري، وفارس الغنية الكسروية، والهند العظيمة، والسِّند اﻟ … ونحن لا نبيع إلا للملوك وأبناء الملوك؛ لأن الشعب فقير لا يقدِّر بضائعنا الغالية، ونحن معروفون في مصر — لا يشتري فرعون إلا منَّا — وفي الشام، وفي فارس، وفي الهند، حيث الأقيال العظام واﻟ…».
وأرسلت بنات الملك فأحضرْن هذا التاجر المفاخر بما معه واجتمعْن حوله يتفرَّجن ويتلهَّين؛ هذه تختار منديلًا من حرير الهند، أو منطقة من خزِّ الشام، وتلك تشتري من أصباغ مصر وعطورها وخرزها، وثالثة تفتتن بتصاوير فارس، فتشتري كلَّ ما مع الرجل منها.
ولكن فتاةً ملثَّمةً وقفت وحدها ترمق سائر الفتيات بنظرات ساخرة، ولا تكاد تُبين إلا عن عينَين زرقاوين متألِّقتين، تقدَّمت في خطوات متزنة ومشية منتظمة، وأخذت الحقيبة من الرجل فقلَّبتها، وما كادت ترى إلى المشرفيات الرقاق الظُّبى حتى تهلَّلت وبدا البِشر في عينَيها، وتناولت حُسامًا مرهفًا وشرعت تلعب به في الهواء ها هنا وها هنا كأنما تطيح به رءوس أعدائها الذين تتصورهم في لوحة الخيال البعيد المنطبع على أسوار طروادة!
وشُدِه أوليسيز مما رأى!
إنه هو نفسه لا يستطيع أن يُلاعب السيف كما تلاعبه هذه الفتاة!
وإن فتاةً تغازل السيف هكذا، لا يستطيع عشرة آلاف فارس أن يقفوا في وجهها إذا جمعتهم وإياها حَلْبةٌ للوغى!
إنها تأخذ على الهواء مسلكه؛ فالهواء نفسه ذبيحُ هذه الضربات القاسيات.
وانقشع الشكُّ عن نفس أوليسيز وأيقن أنه أمام البطل المنشود، فصاح بصوته الجهوري وكأن الرعدَ ينبري من بين شِدقَيه: «أخيل! …»
وكأن كل ما في الأرض والسماء راح يُردِّد صيحة أوليسيز: «أخيل … أخيل … أخيل …»
ووقف أخيل لحظةً جامدًا، شارد اللُّبِّ، زائغ العينين، كأنه مستيقظ من حلم كريه مفزع؛ ثم ما هو إلا أن نثر لثامَه ومزَّق الغلالة الحريرية التي كانت تحبس جسمه العظيم في سجن امرأة، وصاح بأوليسيز، وقد بدا في بُرْد الأسد.
– «أنا هو، أنا أخيل، فمرحى يا رجل!»
– «أنت هو؟!»
– «أجل، أخيل بن بليوز، أبي إله عظيم وأمي بنت إله عظيم، فلبيك وسعديك!»
– «وأنت مختبئ هنا في خدور النساء خشيةَ الحرب التي احتشد لها قومُك دفاعًا عن الوطن؟!»
– «أية حرب يا رجل؟!»
– «بين هيلاس وبين طروادة.»
– «ومَن أثارها؟»
– «لقد سرق باريس بن بريام، هيلين ملكة أسبرطة.»
– «سرقها؟ ولمَ لم تقتلْه الفاجرة؟»
– «فرَّت معه، ولم تُبالِ بأن تُلقيَ شرفَ هيلاس في الوحل!»
– «ولمَ لم تذهب أنت إلى الحَومة ويبدو لي أنك محاربٌ كبير؟»
– «بل أقبلتُ من الصفوف لأبحث عنك!»
– «ومَن أنت حتى ينتدبَك الجيش للبحث عن أخيل؟»
– «ومَن أنا؟! وماذا يسرُّك أن أكون؟»
– «مَن أنت يا رجل؟»
– «أيسرُّك أن ملكًا هو الذي يبحث عنك يا أخيل بن بليوز؟»
– «ماذا تعني؟ أأنت ملك إذن؟ ملك ماذا؟»
– «ملك إيثاكا يا أخيل.»
– «أنت ملك إيثاكا؟ أنت أوليسيز؟ ها ها، وما تلك الحقيبة إذن؟»
– «هي وسيلتي إليك، لقد مزقت بها خمارك وهتكت بما فيها أستارك.»
– «أنت تهينُني!»
– «لا عليك؛ ما دام محدِّثُك أوليسيز.»
– «أفي الحق أنك هو؟»
– «وفيمَ كنت تحرث شاطئ البحر إذن؟ لقد ذُكِر أنك زرعتَه ملحًا فهل حصدتَ سمكًا يا أوليسيز؟»
– «أخيل، الأسطول ينتظرنا، ألف ألف يتحرقون شوقًا لرؤياك، وأنت أكرم من أن تفرَّ من حرب، فهلمَّ!»
– «هلم إلى أين؟»
– «إلى أوليس أيها العزيز، إلى حياة البطولة والمجد والشرف!»
– «البطولة والمجد والشرف! ماذا تقول؟»
– «لم يخلق تلاميذ شيرون للتقلُّب في قصور الراحة، والتلذُّذ بما في العيش من طراوة ونعومة، هلمَّ يا أخيل نخُضِ المعمعة ونلقَ طروادة العاتية، ونُلقنْها درسًا داميًا في الذَّود عن كرامة الوطن! لا تقتل وقتنا فقد حرصنا جميعًا على أن تكون معنا، وتحدثتْ إلينا آلهتنا أن طروادة لا تُفتح إلا عليك، ولا تعنو إلا لك، وقد اتفقت المقادير أن ترميَها بك، لا تترك لخصومك فرصةً أن يقولوا فرَّ أخيل وتقاعس، فأين أبطال هيلاس؟! هلم هلم، فقومك بنو الكريهة وقروم الحرب وحتوف الأعادي، لو رأيت إليهم مُستلْئمين في سلاحهم مُقنَّعين في حديدهم مُلملَمين في سفينهم، لزهاك عسكرهم الجرَّار، وبهرك خميسهم العرمرم! وتمنَّيت أن تكون أحدهم بالدنيا وما فيها.
دع الغِيد يفاخرن بالقلائد والعقود، وتعالَ نحن نَعُدُّ ما في أجسامنا من ضربات السيوف ووخزات الرماح ومواقع السهام، فهذه أعزُّ مفاخر الرجال يا أخيل.
أخيل، رُدَّ عليَّ! قلْ سأحضر معك. كلُّنا ننتظرك يا أخيل؛ لن تُفتح طروادة إلا عليك، فأيُّ فخر ينتظرك تحت أسوارها، وأيُّ مجد يكلِّل هامتك يا أعز أبطالها!
ماذا؟ تبكي؟ لا لا يا أخيل، لترقأ دموعك فهي أغلى من أن تنسكب هكذا، أكرمْ بك هيلانيًّا رقيق القلب، بارًّا ببلادك، مناضلًا عن رايتها في ساحة المجد.
لتشربْ من دموع أخيل يا ثرى الوطن.
لتُروِكَ هذه العبارات الغاليات، فهي ترياقك إذا حزبَك أمرٌ، أو ادلهمَّت بك الخطوب.»
•••
وهكذا كان أوليسيز ماهرًا في إثارة النخوة في قلب البطل!
وهل أحلى من كلمات البطولة، وأوقع من حديث المجد في نفس شاب مثل أخيل؟ لقد تقدَّم مختارًا طائعًا، فقبَّل جبين أوليسز، ولثَم سيفَه، ثم ودَّع بنات الملك، وحيَّا القصر، وتزوَّد من الحدائق نظَرات.
وانطلق في إثر أوليسيز!
إلى …
أوليس!