الفدائي الأول
رَوِيت الآلهة إذن وشفت ما في أنفسها من ظمأ إلى دماء الضحايا وإن لم تغفرْ لديانا البارة — ديانا ربة القمر — إنقاذها للفتاة التعسة إفجنيا، وهي قاب قوسين من خناجر الكهنة والرِّبيين القُساة.
لقد أبت الآلهة إلا أن تشرب من ماء الحياة القرمزي المتدفق في عروق عُبَّادها المخلصين من أبناء هيلاس؛ فلما ذهب كالخاس — عرَّاف الحملة — يستوحي أربابَه في معبد دلفي هل لها مطلب آخر في ضحية أو قربان بعد تقدمة إفجنيا، ارتفع الصوتُ الخافت المنبعث من صميم مقصورة الإله الأكبر يقول: «لا … ولكم أن تقلعوا اليوم … فإذا كنتم عند شطآن طروادة، فإن لنا دمَ الفارس الأول الذي تطأ قدماه رمالَ الشاطئ، سيُقْتل، وسيكون لنا عِوضًا من إفجنيا.»
•••
وهبَّت الريح فخفقت أفئدةُ العسكر، وابتهجت أنفسُ القادة، واجتمع الميرميدون حول أخيل يترضَّونه، ويعتذرون عن رجمهم إياه يوم القربان المشئوم، ثم انتشرت الشراع ورُفعت المراسي، وهمت الفلك فاحتواها البحر اللجيُّ، وما عتمت أن صارت من الماء والسماء في خضرتين، ومن دروع الجند وزبد الموج في لبدتين، ومن قلوب الشعب الهاتف فوق الشاطئ الشاحب في بحرٍ من الآمال!
واضطرب البحر بعرائس الماء وأبكاره، أسرعْن من كل فجٍّ يُحيِّين أبطال هيلاس، يُخفين الوشائح السود التي ادخرْنها لأيام الفصل، إن أيام الفصل كانت ميقاتًا أيَّ ميقات!
وتوارت الشمس بالحجاب، وبزغ القمرُ يفضض حواشي الماء، وحملقت النجومُ ترى إلى هذا الأسطول اللجب يمخر عبابًا من خلفه عباب، ويطوي لجَّة من ورائها لجة، والملاحون دائبون ما يَنُونَ، مرسلين في اللانهاية ألحانهم، مرددةً الرياح أغانيهم وأنغامهم؛ والقادة متكبكبون حول القائد الأعلى — حول أجاممنون — يدرسون تلك الخطة وينقدون هذه الفكرة، ويدبِّرون من أمرهم ما يصل بهم إلى نصر عزيز.
وتنفَّس صبح اليوم الثالث.
وبدت طروادة العاتية في الأفق الشرقي متشحةً بالشفق النحاسي الذي صبغ سماءها بالبنفسج الرائع تتفجر منه أنهارٌ من الدم.
طروادة!
ذات الأبراج المشيدة، والقباب المنيفة!
يا ما أروعه منظرًا أن ترى إلى أبوللو العظيم يعزف على قيثارته المرنَّة، فتثبُ الحجارة وتتراقص وتقفز إلى مكانها من أسوارك يا إليوم!
طروادة يا ذات الحول!
أين تنام هيلين الساعة سالمةً حالمةً، وأيان تتقلَّب تِرْبُ فينوس ملء ذراعَي باريس!
ويحك يا منلوس!
إنه ينظر بعينَين مشدوهتين إلى أسوار طروادة يتمنَّى لو تندك على العاشقين الآثمين!
«أهو الآن يقبِّلها، ويجني جنا خدَّيها بفمه النهم المشتعل؟ أم هو يضمُّها إليه في عنف غير آبه لقلبي الخافق المضطرب!»
منلوس، لا بد مما ليس منه بدٌّ.
واقترب الأسطول من الشاطئ.
ولكن أحدًا لم يجسُر أن يجازف بنفسه؛ لأن القتيل الأول هو أول من يهبط إلى الأرض كما أخبرت النبوءة في معبد دلفي!
ومرَّت أيام والهيلانيون في سفائنهم ينظرون إلى أبراج طروادة وفجاجها، ويتحرقون شوقًا إلى لقاء جنودها، منلوس يحرق الأُرَّم هو الآخر؛ ولكن أحدًا لا يرضى أن يكون الفدائيَّ الأول؛ «لأني إذا نزلت إلى هذا البَرِّ المخوف فسيكون الموت محتومًا عليَّ، دون أن أستطيع إلى قتْل أحدٍ من هذا الجند من سبيل، وأنا لم أحضرْ إلى هنا لأكون قربانًا للآلهة، ولكن لأزاحم وأقاحم، وأنافح وأصول، فإن قُتلتُ بعدها فبعشرات وعشرات، لا كما يُقتل كلب البرية غير مفدى.»
بروتسيلوس البطل
بيدَ أن هيلانيًّا مقاحمًا، هيلانيًّا واحدًا من خِيرة القادة ومذاويدهم عزَّ عليه ألا يكون في هذا الجيش العرمرم على ما جمع من صناديد اليونان ومغاويرهم، فدائيٌّ واحد يتلقَّى الطعنة الأولى النجلاء بثَغْر باسم وقلب لا يجزع، ونفس مؤمنة مطمئنة لا تهلع في موقف الموت ولا تفرق إذا حُمَّ القضاء.
كبُر على بروتسيلوس أن يُرمَى قومه بجُبن ليست لهم يدٌ فيه، وكبُر عليه أن يقف ألف ألف لو شاءوا لدكوا الجبال وزلزلوا السموات من دون هذا البلد لا يتقدَّمون ولا يتأخرون كأنما حربهم هزل، ونفيرهم مُكاء وعزمهم تلفيق. أو كأنما ملئوا الدنيا وعيدًا لتمتلئ الدنيا عليهم سخريةً وضحكًا!
كبُر على بروتسيلوس ألا يكون هو شهيد هذا الموقف فارتخص نفسَه وهانتْ عليه الحياة، وتفهت في عينيه لذائذ هذا العيش الذليل، ثم استخار أربابه واستعاذ بسيد الأولمب، وما هو إلا أن لمح الشمس يذُرُّ قرنُها في خِدر الشرق فوق جبين طروادة حتى قذف بنفسه على الشاطئ، وأرسل في الخافقَين صيحة الحرب كأنها رعدٌ يميد به جانب الجبل وتهتزُّ من قصفه أسوارُ المدينة؛ ثم جال جولة هنا وجولة هناك، وإذا بالسهام ترشقه من كل مكان، وإذا هو مُلقًى على أديم الثرى مضرَّجًا بدمه معفَّر الجبين بأول نقع هذه الحرب.
•••
وذاعَ خبرُ مقتلِه حتى انتهى إلى تساليا حيث زوجتُه المفجَّعة، فحزنت عليه حزنًا أمضَّ قلبَها وشفَّ جسمها وأقضَّ مضجعها وصيَّر الحياة في عينيها حلكًا شديدًا وظلامًا قاتمًا، «بروتسيلوس! أهكذا يا حبيبي ذكرت كل شيء في ميدان المجد والشرف ونسيت فيه كل شيء؟ أهكذا يا حبيبي ذكرت التضحية والإقدام حيث تخاذل مواطنوك عن مَواطن التضحية والإقدام فغامرت بنفسك في هذا المعترك المضطرب، ونسيت أن وراءك قلبًا ينعقد رجاؤه بك، ونفسًا تَرِفُّ من خلف البحار فوقك، وروحًا لا سكنَ لها إلا صدرك الحنون، وعينَين لا تعرفان جمال الحياة إلا في وجهك المشرق، وأذنين ما التذَّتا إلا الموسيقى المنسكبة من فمك! بروتسيلوس! ما قيمة الحياة بعدك يا حبيبي؟! مَن لزوجتك التاعسة يوم يفخر النساء بأزواجهن؟ مَن للمحزونة الكاسفة لاءوداميا؟ ما أشقَّ الحياةَ عليَّ بعدك يا رجُلي ومَن كنتَ كلَّ شيء لي!
لا أسخط عليكم يا أربابي.
بل أنا أصلي لكم، أصلي لكم بدموعي وقلبي، أصلي لكم بأحشائي التي تتمزَّق، ورأسي الذي يحترق! أصلي لكم بلساني الذي يجف من شَرقٍ في حلقي، وكان حديث بروتسيلوس يُرطِّبه ويُندِّيه! أصلي لكم يا أرباب الأولمب عسى أن تلينَ قلوبُكم لي فأرى حبيبي وأموت!
رجيَّة يسيرة على مقدرتكم يا أرباب الأولمب! إما أن أقضيَ فأستريح من هذا الكمد المُمَض والبثِّ المؤلم، وإما أن تأذنوا فيعود بروتسيلوس، فأراه وأموت!
أتمنى عليكم أن يعود فأكلمه، أملأ أذني وقلبي من موسيقاه، أناديه باسمه ويناديني باسمي، يعانقني وأعانقه، يرى إلى عَبراتي وأنظر إلى عَبراته! يبتسم لي في رضاه وفرحه، وأبتسم له في انكساري ولَوعتي!
ائذنوا يا أرباب الألمب، فأنا ما أفْتأُ أصلي لكم، وأتوسَّل إليكم بدمه الزكي وروحه الأبي وقلبه الكبير!
ارحموا ذُلِّي ورِقُّوا لهواني وارثوا لحالي!»
•••
وصيَّرت بنُواحها إشراقَ الصباح ظلمةً من الحزن لا أول لها ولا آخر؛ وأرسلت في الليل البهم أنَّاتِها المؤلمة وزفراتِها الحارة؛ ووصلتْ بكاءها الطويل بصلاتها الخاشعة حتى ارتجفت قواعد الأولمب، واهتزت عروشه الذهبية، وانعقدت بينه وبين لاءوداميا قنطرةٌ من الحزن عبرت عليها بركاتُ الآلهة إلى فؤادها المكلوم، فمسحتْ عبراتها، وهدَّأت من روعها، وبشَّرتها بعودة بروتسيلوس.
وفي هدأة ليلة مقمرة، سكن هواؤها وصدح بلبلُها، وأنشد البدر لحْنَه الصافي على آراده الفضية؛ ليغمرها بهاءً وروعة، خرجت لاءوداميا المحزونة من قصرها المنيف لتلقَى روح بروتسيلوس يهدهده هرمز الكريم بين يديه، حتى يكون تلقاء زوجه، فترتمي بين ذراعَيه!
ويغرقان في طوفان من القُبَل!
ويغرقان في لجَّة من العَبرات!
ويقصُّ عليها بروتسيلوس أنباء مقتله، فتبكي، وتبكي، وتُعاتبه لاءوداميا، وتعذله، ولكن الساعات الثلاث التي سمحت بها الآلهة للقائهما تمرُّ كاللمح، فينبِّههما هرمز إلى انقضائها، وما تكاد تسمع نذير هرمز وتعرف أن زوجها عائد أدراجه إلى هيدز فيظلُّ فيها إلى الأبد حتى تصعقَ مكانها وتخرَّ مغشيًّا عليها، وتموت!
فوا رحمتَا للزوجين السعيدين اللذَين لن يفترقا بعد اليوم!
وما أجملَ هذين الطيفَين الحبيبين يعودان معًا إلى دار الخلود!