الجذب عن بُعد
لمَ تقع الأشياء؟
بعضها لا يقع. ماكافيتي لا يقع بالطبع. وكذلك لا تقع الشمس أيضًا ولا القمر وكلُّ ما هو موجود «بالأعلى» في السماء تقريبًا. غير أنَّ الصخور تقع أحيانًا من السماء، مثلما اكتشفت الديناصورات للأسف. أما هنا بالأسفل، فإذا أردنا تحرِّي الدِّقة في وصف الأمر، فسوف نقول إنَّ الحشرات والطيور والوطاويط تطير، لكنها لا تبقى بالأعلى إلى أجلٍ غير مسمًّى. كلُّ ما عدا ذلك تقريبًا يقع، ما لم يمسك به شيء آخر. أما في السماء، فلا شيء يمسك بالأشياء هناك، ومع ذلك لا تقع.
تبدو الأمور بالأعلى مختلفة جدًّا عمَّا هي عليه هنا بالأسفل.
لم يكن الاختلاف الحقيقي أنَّ التفاح يسقط بينما لا يسقط القمر. وإنما أنَّ التفاح لا يتحرَّك جانبيًّا بالسرعة الكافية لئلا يصطدم بالأرض.
كان نيوتن عالم رياضيات (وعالم فيزياء وكيمياء وباحثًا في الروحانيات)؛ لذا فقد أجرى بعض الحسابات لتأكيد فكرته الجذرية. أجرى حسابات للقوى التي لا بد أنها تؤثِّر في التفاحة والقمر لتجعل كلًّا منهما يتبع طريقه الخاص. ومع مراعاة الاختلاف بين كتلتيهما، اتضح أنَّ القوى متطابقة. أقنعه هذا أنَّ الأرض تسحب كلًّا من التفاحة والقمر إليها بالتأكيد. كان من الطبيعي افتراض أنَّ ذلك النوع نفسه من الجذب ينطبق على أي جسمَين أرضيَّين كانا أم سماويَّين. عبَّر نيوتن عن قوى الجذب هذه في معادلةٍ رياضية: قانون من قوانين الطبيعة.
من النتائج المهمة أنَّ الأمر لا يتلخَّص في جذب الأرض للتفاحة فحسب؛ بل إنَّ التفاحة تجذب الأرض أيضًا. وينطبق الأمر نفسه على القمر وكل شيء آخر في الكون. غير أنَّ تأثير التفاحة على الأرض شديد الصغر بدرجةٍ لا يمكن معها قياسه على عكس تأثير الأرض على التفاحة.
لقد كان هذا الاكتشاف انتصارًا ضخمًا؛ إذ مثَّل رابطًا دقيقًا وعميقًا بين الرياضيات وبين العالم الطبيعي. نتجت عنه أيضًا نتيجة أخرى مهمة، كان من السهل إغفالها في خضم الحسابات الرياضية التقنية، وهي أنه بالرغم من المظاهر، توجد تشابهات في بعض الجوانب الأساسية بين ما هو «هناك في الأعلى» وما هو «هنا في الأسفل». فالقوانين متطابقة. ما يختلف هو السياق الذي تنطبق فيه.
إننا ندعو قوة نيوتن الغامضة باسم «الجاذبية». ويمكننا حساب آثارها بدقة بالغة. غير أننا لا نفهمها حتى الآن.
•••
لقد ظللنا نعتقد على مدار وقت طويل أننا نفهم الجاذبية. فقرابة العام ٣٥٠ قبل الميلاد، قدَّم الفيلسوف اليوناني أرسطو سببًا بسيطًا لسقوط الأشياء، وهو أنها تنشد موضع سكونها الطبيعي.
ولتجنب التبرير الدائري، شرح أيضًا معنى «الطبيعي». كان يرى أنَّ كل شيء يتألَّف من أربعة عناصر أساسية: الأرض والماء والهواء والنار. موضع السكون الطبيعي للأرض والماء هو مركز الكون، والذي يتطابق بالطبع مع مركز الأرض. والدليل على ذلك أنَّ الأرض لا تتحرَّك؛ فنحن نعيش عليها وكنا سنلاحظ بالتأكيد إذا كانت تتحرَّك. ولأنَّ الأرض أثقلُ من المياه (فالأرض تغوص، أليس كذلك؟) نجد أنَّ المناطق الأكثر انخفاضًا تشغلها الأرض على شكل كرة. تليها بعد ذلك قشرة كروية من المياه، ثم قشرة كروية من الهواء (الهواء أخف من الماء: فالفقاقيع ترتفع). وفوق ذلك، لكن تحت الكرة السماوية التي تحمل القمر، يكمن عالم النار. وجميع الأجسام الأخرى تميل إلى الارتفاع أو السقوط وفقًا للنِّسب التي تحتوي عليها من هذه العناصر الأربعة.
أدَّت هذه النظرية بأرسطو إلى القول بأنَّ سرعة الجسم الساقط تتناسب مع وزنه (فالريش يسقط بدرجةٍ أبطأ من تلك التي يسقط بها الحجر) وتتناسب عكسيًّا مع كثافة الوسط المحيط (تسقط الحجارة في الهواء بأسرع مما تسقط في الماء). وبعد أن تصل إلى حالة سكونها الطبيعية، يظل الجسم هناك ولا يتحرَّك إلا أن تؤثِّر فيه قوةٌ ما.
وفقًا لتعريف النظريات، ليست هذه النظريات بالسيئة. وهي تتفق مع الخبرات الحياتية اليومية تحديدًا. فعلى مكتبي الآن وأنا أكتب، توجد نسخة أولى من رواية «ثلاثي الكواكب»، التي أقتبس منها حكمة الفصل الثاني. إذا تركتها وشأنَها فسوف تبقى حيث هي. وإذا أثَّرتُ عليها بقوةٍ ما، ودفعتها مثلًا، فسوف تتحرَّك بضعة سنتيمترات وتتباطأ في أثناء ذلك ثم تتوقَّف.
كان أرسطو على حق.
وهكذا بدا الأمر على مدارِ ما يقرب من ألفي عام. فبالرغم من أنَّ الفيزياء الأرسطية نوقِشت على نطاق واسع، فقد كانت الغالبية العظمى من المفكرين حتى نهاية القرن السادس عشر يَقبلون بها. من الاستثناءات على ذلك، الباحث العربي الحسن بن الهيثم الذي ناهض وجهة نظر أرسطو في القرن الحادي عشر استنادًا إلى أسسٍ هندسية. غير أنَّ الفيزياء الأرسطية لا تزال تتوافق حتى اليوم مع إدراكنا البديهي، بأكثر مما تتفق معه أفكار جاليليو ونيوتن التي حلَّت بدلًا منها.
وفقًا للتفكير الحديث، تنطوي نظرية أرسطو على ثغرات كبيرة. تتمثَّل إحدى هذه الثغرات في الوزن. لمَ تكون الريشة أخفَّ من الحجارة؟ ومنها أيضًا الاحتكاك. فلتفترض أنني وضعت نسختي من رواية «ثلاثي الكواكب» على إحدى حلبات التزلج على الجليد، ثم أعطيتها دفعة. ماذا سيحدث؟ سوف تصل إلى مسافة بعيدة، وستصل إلى مسافةٍ أكثر بُعدًا إذا وضعتها على زوجين من الزلاجات. فالاحتكاك يزيد من بطء حركة الجسم في وسط دِبْق لزج. يوجد الاحتكاك في كل شيء في حياتنا اليومية؛ ولهذا تتوافق الفيزياء الأرسطية مع إدراكنا البديهي أكثرَ مما تتوافق فيزياء جاليليو ونيوتن. لقد طوَّرت أدمغتنا نموذجًا داخليًّا للحركة والاحتكاك متأصلًا فيه.
صرنا نعرف الآن أنَّ الجسم يسقط باتجاه الأرض لأنَّ جاذبية الكوكب تسحبه. لكن ما هي الجاذبية؟ كان نيوتن يعتقد أنها قوة، لكنه لم يقدِّم تفسيرًا لكيفية ظهور القوة. لقد كانت «موجودة» فحسب. ويظهر تأثيرها عن بُعد مع عدم وجود شيء في المنتصف. لم يشرح أيضًا كيفية تنفيذها لهذا التأثير، لقد كانت «تنفِّذه» فحسب. استبدل أينشتاين منحنى الزمكان بالقوة، مما جعل «الفعل عن بُعد» غير ذي صلة، وكتب معادلات توضِّح كيفية تأثُّر المنحنى بتوزيع المادة، لكنه لم يشرح «السبب» في تصرُّف المنحنى بهذه الطريقة.
ظلَّ البشر على مدار آلاف الأعوام يَحسُبون بعض ظواهر الكون مثل الكسوف والخسوف قبل أن يدرك أحدٌ وجود الجاذبية. غير أننا حين أدركنا وجودها، صارت قدرتنا على حساب الكون أكثرَ فعالية. العنوان الفرعي للجزء الثالث من كتابه «الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية» والذي يصف قوانين الحركة والجاذبية كان «عن نظام العالم». لم تكن تلك سوى مبالغة طفيفة. فقوة الجاذبية والطريقة التي تستجيب بها الأجسام للقوى، تكمن في صميم معظم الحسابات الكونية. لذا فقبل أن نتناول أحدث الاكتشافات، مثل كيفية تلفُّظ الكواكب المحلقة للأقمار أو الكيفية التي بدأ بها الكون، يجدر بنا أولًا أن نوضح بعض الأفكار الأساسية عن الجاذبية.
•••
قبل اختراع إنارة الشوارع، كان معظم البشر يعرفون القمر والنجوم معرفتهم للأنهار والأشجار والجبال. فبعد غروب الشمس، كانت النجوم تبزغ. وكان القمر يشعُّ بحرية، فيظهر أحيانًا في النهار ظلًّا شاحبًا، لكنه يضيء بسطوعٍ أكبر كثيرًا في الليل. بالرغم من ذلك، كانت توجد بعض الأنماط. فأي شخصٍ يراقب القمرَ لبضعة شهور، حتى وإن كانت مراقبة عابرة، كان سيلاحظ سريعًا أنه يتبع إيقاعًا محدَّدًا، ويتغيَّر شكله من هلال نحيف إلى قرص دائري، ثم يعيد الكرَّة كل ٢٨ يومًا. وهو يتحرَّك أيضًا على نحوٍ ملحوظٍ كل ليلة، فيتبع مسارًا مغلقًا متكررًا في السماء.
للنجوم أيضًا إيقاعها الذي تتبعه. فهي تدور مرةً في اليوم حول نقطة ثابتة في السماء، وكأنما هي مرسومة داخل وعاء دوَّار. يتحدَّث «سفر التكوين» عن قبَّة السماء، والكلمة العبرية التي تُترجَم إلى «قبَّة» تعني «وعاء».
معظم الأفراد تقبَّلوا الأضواء مثلما هي عليه، على النحو نفسه الذي تقبَّلوا به وجود الأنهار والأشجار والجبال. غير أنَّ قِلة منهم طرحت الأسئلة. ما هذه الأضواء؟ لمَ توجد هناك؟ كيف تتحرَّك، ولماذا؟ لمَ تبدو الأنماط في بعض الحركات، ولا تبدو في البعض الآخر؟
قدَّم السومريون والبابليون بيانات رصدية أساسية. فقد كتبوا على الألواح الطينية بالنقوش المسمارية التي تشبه الإسفين. وكان من بين الألواح البابلية التي وجدها علماء الآثار، فهارس للنجوم تذكر مواقع النجوم في السماء، ويعود تاريخها إلى العام ١٢٠٠ قبل الميلاد تقريبًا، لكنها على الأرجح نسخٌ لألواح سومرية أقدمَ منها. كان الفلاسفة اليونانيون وعلماء الهندسة الذين ساروا على خطاهم أكثر وعيًا بالحاجة إلى المنطق والبرهان والنظرية. كانوا ينشدون الأنماط، حتى إنَّ الجماعة الفيثاغورثية اتخذت منحًى متطرفًا في ذلك النهج؛ إذ كانوا يعتقدون أنَّ الكون كله محكوم بالأعداد. واليوم يتفق معظم العلماء مع هذا الرأي وإن كانوا لا يتفقون في التفاصيل.
يُنسَب الفضل في التأثير الأكبر على التفكير الفلكي لدى الأجيال اللاحقة إلى عالم الهندسة اليوناني كلولديوس بطليموس الذي كان عالمًا في الفلك والجغرافيا. أتت باكورة أعماله تحت عنوان «المجسطي» وهي تسمية عربية لعنوانه الأصلي الذي كان في البداية «التصنيف الرياضي» ثم تحوَّل إلى «التصنيف العظيم»، ثم إلى «المجسطي» الأكبر. قدَّم كتاب «المجسطي» نظريةً مكتملة عن حركة الكواكب، تستند إلى ما كان اليونانيون يرون أنه أكثر الأشكال الهندسية مثالية: الدوائر والأفلاك.
لا تتحرَّك الكواكب في دوائر في حقيقة الأمر. ولم يكن ذلك ليصبح بالنبأ الجديد على البابليين لأنه لا يتفق مع جداولهم. ذهب اليونانيون إلى أبعد من ذلك متسائلين عمَّا سيتطابق معها. وجاءت إجابة بطليموس على النحو التالي: مجموعة من الدوائر تدعمها مجموعة من الأفلاك. ويتمركز الفلك الأكثر عمقًا «الناقل» على الأرض. ويقع محور الفلك الثاني أو «فلك التدوير» مثبَّتًا داخل الفلك. ويكون كل زوج من الأفلاك منفصلًا عن البقية. لم تكن تلك بالفكرة الجديدة. فقبل ذلك بقرنين من الزمان، طوَّر أرسطو بعض الأفكار الأقدم واقترح نظامًا معقدًا يتألف من ٥٥ من الأفلاك المتحدة المركز، ويقع محور كل فلك بداخل الفلك الذي يقع بداخله. استخدم تعديل بطليموس عددًا أقلَّ من الأفلاك، وكان أكثرَ دقة، لكنه كان ما يزال معقدًا بعض الشيء. كلا النظامين أدَّى إلى التساؤل عمَّا إذا كانت الأفلاك موجودة بالفعل أم أنها كانت تخيُّلات ملائمة، أم أنَّ شيئًا مختلفًا تمامًا هو ما يحدث بالفعل.
•••
على مدار الأعوام الألف التالية وأكثر، اتجهت أوروبا إلى قضايا لاهوتية وفلسفية، وأسَّست فهمها للعالم الطبيعي على ما قاله أرسطو قرابة عام ٣٥٠ قبل الميلاد. كان يُعتَقد بأنَّ الأرض هي مركز الكون، وبأنَّ كل شيء يدور حول الأرض الساكنة. انتقلت شعلة الابتكار في علم الفلك والرياضيات إلى أرض العرب والهند والصين. غير أنها انتقلت إلى أوروبا من جديد مع فجر النهضة الإيطالية. ونتيجةً لذلك، أدَّى ثلاثة من عمالقة العلم أدورًا رئيسة في تقدُّم المعرفة الفلكية: جاليليو وكيبلر ونيوتن. وكان الفريق المساعد ضخمًا للغاية.
يشتهر جاليليو بابتكار تحسينات على التلسكوب، وهو ما مكَّنه من اكتشاف وجود بقعٍ على الشمس، ووجود أربعة أقمار (على الأقل) تدور بكوكب المشتري، ومرور كوكب الزهرة بأطوار كأطوار القمر، ووجود أمرٍ غريب بشأن زحل، وهو ما فُسِّر لاحقًا بأنه نظامه الحلقي. قاده هذا الدليل إلى رفض نظرية مركزية الأرض، والاقتناع بالنظرية المنافسة التي وضعها نيكولاس كوبرنيكوس بشأن مركزية الشمس، والتي تقول بدوران الكواكب والأرض حول الشمس، مما أوقع جاليليو في المتاعب مع كنيسة روما. غير أنه توصَّل أيضًا إلى اكتشافٍ يبدو أكثر تواضعًا، لكنه أهمُّ في نهاية المطاف، وهو وجود نمط رياضي في حركة الأجسام مثل قذيفة المدافع. فهنا في الأسفل، نجد أنَّ الجسم المتحرك بحرية يتسارع (عند السقوط) أو يتباطأ (عند الارتفاع) بمقدار ثابت على مدار فترة زمنية ثابتة «صغيرة». ومعنى هذا باختصار أنَّ تسارُع الجسم ثابت. لمَّا كان جاليليو يفتقر إلى وجود ساعات دقيقة، فقد لاحظ هذه التأثيرات عن طريق دحرجة الكرات على منحدرات لطيفة.
أما الشخصية الرئيسة التالية فهو كيبلر. كان رئيسه في العمل تيخو براهي قد أجرى قياسات دقيقة للغاية لمواقع المريخ. وحين تُوفِّي براهي، ورِث كيبلر منصبه بصفته فلكيًّا لدى الإمبراطور الروماني المقدَّس ردولف الثاني، وورِث أيضًا ملاحظاته، ثم بدأ في حساب الشكل الفعلي لمدار المريخ. وبعد ٥٠ محاولة فاشلة، استنتج أنَّ المدار على شكل القطع الناقص؛ أي يتخذ شكلًا بيضاويًّا كدائرة منبعجة. واكتشف أنَّ الشمس تقع عند نقطة مميزة هي بؤرة القطع الناقص.
كان علماء الهندسة من اليونانيين القدماء يعرفون القطوع الناقصة، وقد عرَّفوها بأنها مقاطع مستوية من مخروط، وهذه «المقاطع المخروطية» تتضمن الدوائر والقطوع الناقصة والقطوع المكافئة والقطوع الزائدة.
حين يتحرَّك كوكب في مدارٍ على شكل القطع الناقص، تختلف المسافة بينه وبين الشمس. تزيد سرعته حين يقترب من الشمس، وتقل حين يكون أكثر بعدًا. ومن المدهش بعض الشيء أنَّ هذه التأثيرات تتعاون لتخلق مدارًا يتخذ الشكل نفسه عند الطرفين. لم يتوقَّع كيبلر هذا، وظل مقتنعًا لفترة طويلة بأنَّ القطع الناقص إجابة خاطئة بالتأكيد. نصف القطر الأصغر.
يمكن تحديد شكل المدار الإهليلجي وحجمه من خلال عددين. وعادةً ما يقع الاختيار على قيمة نصف القطر الأكبر واللامركزية. ويمكن التوصُّل إلى نصف القطر الأصغر منهما. يبلغ نصف القطر الأكبر للأرض ١٤٩٫٦ مليون كيلومتر، وتبلغ لا مركزيتها ٠٫٠١٦٧. ويبلغ نصف القطر الأصغر ١٤٩٫٥٨ مليون كيلومتر؛ ومن ثمَّ فإنَّ المدار يقترب كثيرًا من شكل الدائرة، مثلما يتضح من القيمة الصغيرة للامركزية. يتخذ مستوى مدار الأرض اسمًا مميزًا: مدار الشمس.
يمكن تحديد الموقع المكاني لأي مدار إهليلجي آخر حول الشمس عن طريق ثلاثة أعداد أخرى، وكلها زوايا. يمثِّل أول هذه الأعداد الميلان بين المستوى المداري وبين مدار الشمس. ويقدِّم ثانيها اتجاه المحور الأكبر في ذلك المستوى. ويقدِّم ثالثها اتجاه الخط الذي يلتقي عليه المستويان. وأخيرًا نحتاج إلى معرفة موقع الكوكب في المدار؛ مما يستدعي معرفة زاوية أخرى. إذن فتحديد مدار الكوكب وموقعه في ذلك المدار يستلزم معرفة عددَين وأربع زوايا: ستة عناصر مدارية. وقد تمثَّل أحد الأهداف الأساسيَّة لعلم الفلك المبكِّر في حساب العناصر المدارية لكل كوكبٍ وكُوَيكبٍ مكتشَف. فبعد معرفة هذه الأعداد، يمكن التنبؤ بحركة الجسم في المستقبل إلى أن تؤديَ التأثيرات المجتمعة لأجسامٍ أخرى إلى اضطراب مداره اضطرابًا ملحوظًا على أقل تقدير.
توصَّل كيبلر في نهاية المطاف إلى مجموعةٍ تتكوَّن من ثلاثة أنماط رياضيَّة أنيقة، تُسمَّى الآن بقوانين كيبلر لحركة الكواكب. ينصُّ القانون الأول على أنَّ الكوكب يدور حول الشمس في قطعٍ ناقصٍ تحتلُّ الشمس إحدى بؤرتَيه. وينص القانون الثاني على أنَّ الخط الواصل بين الشمس والكوكب يقطع مساحات متساوية في فترات زمنية متساوية. ويذكر القانون الثالث أنَّ مربع الفترة المدارية للكوكب يتناسب مع مكعب المسافة.
•••
أعاد نيوتن صياغة ملاحظات جاليليو بشأن الأجسام الحرة الحركة في صورة قوانين الحركة الثلاثة. ينصُّ القانون الأول على أنَّ الأجسامَ تستمرُّ في الحركة في خطٍّ مستقيمٍ وبسرعةٍ ثابتةٍ ما لم تؤثِّر عليها قوة. وينص القانون الثاني على أنَّ حاصل ضرب تسارع الجسم في كتلته يساوي القوة المؤثرة عليه. وينص القانون الثالث على أنَّ أيَّ فعلٍ ينتج ردَّ فعلٍ مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه. وفي عام ١٦٨٧، أعاد صياغة قوانين كيبلر الكوكبية في صورة قاعدةٍ عامةٍ تصفُ حركة الأجسام السماويَّة — قانون الجاذبيَّة — وهو صيغة رياضيَّة لقوة الجاذبية التي يجذب بها أيُّ جسم جسمًا آخر.
الحق أنه «استنتج» قانون القوة الذي وضعه من قوانين كيبلر من خلال افتراضٍ واحدٍ فقط، وهو أنَّ الشمس تبذل قوة جاذبة تتجه دائمًا نحو مركزها. وبناءً على هذا الافتراض، أثبت نيوتن أنَّ القوة تتناسب عكسيًّا مع مربَّع المسافة. تلك هي الطريقة الراقية لقولنا إنَّ ضرب كتلة أيٍّ من الجسمَين في ثلاثةٍ على سبيل المثال، يضاعف القوة بمقدار ثلاثة أضعاف أيضًا، أما ضربُ المسافة بينهما في ثلاثة، فيقلِّل القوة إلى تُسع المقدار. أثبت نيوتن العكس أيضًا، وينطوي «قانون التربيع العكسي» للجاذبية هذا على قوانين كيبلر الثلاثة.
تقبَّل هوك أنَّ نيوتن وحده هو مَن استنتج أنَّ المدارات المغلقة تتخذ شكل القطع الناقص. وكان نيوتن يعرف أنَّ قانون التربيع العكسي يسمح أيضًا بوجود مدارات تتخذ شكل القطع المكافئ والقطع الزائد، لكن هذه المدارات ليست منحنيات مغلقة؛ ولهذا لا تتكرَّر الحركة بصفة دورية. ثمَّة تطبيقات فلكية لهذين النوعين من المدارات أيضًا، وهي تُستخدم في المذنَّبات بصفة أساسية.
يتفوق قانون نيوتن على قانون كيبلر بسبب خاصية إضافية، وهي تنبؤ أكثر منها نظرية. لقد أدرك نيوتن أنه لمَّا كانت الأرض تجذب القمر، فمن المنطقي أن يؤثِّر القمر أيضًا بقوة جذب على الأرض. فهما أشبه براقصين ريفيين يمسكان الأيدي ويدوران ثم يدوران. يشعر كل راقص بالقوة التي يبذلها عليه الآخر وكلٌّ منهما يشد ذراع الآخر. يبقى كل راقص في مكانه بفعل هذه القوة: إذا تخلَّيا عنها، فسوف يدوران بعيدًا على أرضية الرقص. بالرغم من ذلك، فالأرض أضخم كثيرًا من القمر؛ لذا فالأمر أشبه برجلٍ سمين يرقص مع طفل صغير. ويبدو أنَّ هذا الرجل يظل في مكانه بينما يدور الطفل الصغير حوله. غير أنك إذا دقَّقت النظر، فسوف ترى أنَّ الرجل يدور أيضًا: تلتف قدماه في دوائر صغيرة، والمركز الذي يدور حوله أقرب قليلًا إلى الطفل مما كان سيغدو عليه إذا كان الطفل يدور بمفرده.
وقد أدَّى هذا التسويغ بنيوتن إلى الاعتقاد بأنَّ «كل» جسم في الكون يجذب كل جسم آخر. لا ينطبق قانون كيبلر إلا على نوعين من الأجسام هما الشمس والكوكب. أما قانون نيوتن فهو ينطبق على أي نظام من الأجسام أيًّا كان؛ لأنه يقدِّم كلًّا من المقدار والاتجاه ﻟ «جميع القوى التي تحدث.» لمَّا كانت هذه التوليفات من القوى مدرجةً في قوانين الحركة، فإنها تحدِّد تسارع كل جسم في أي لحظة؛ ومن ثمَّ سرعته المتجهة؛ ومن ثمَّ موقعه. لقد كان الإعلان عن قانونٍ كونيٍّ للجاذبية لحظةً ملحمية في التاريخ وفي تطوُّر العلوم؛ إذ كان كشفًا للآلية الرياضية الخفية التي تحافظ على استمرار الكون.
•••
بدأت قوانين نيوتن للحركة والجاذبية تحالفًا مستمرًّا بين علم الفلك والرياضيات؛ فأدَّت إلى الكثير مما نعرفه اليوم بشأن الكون. بالرغم من ذلك، فحتى عندما نفهم القوانين، لا يكون تطبيقها على المشكلات المحددة أمرًا مباشرًا. فقوة الجاذبية على وجه التحديد «غير خطية»، وهو مصطلح تقني تتمثَّل نتيجته الأساسية في أننا لا نستطيع حل معادلات الحركة باستخدام صيغ لطيفة. ولا نستطيع حلها حتى بصيغ بغيضة.
بعد نيوتن، تغلَّب الرياضيون على هذه المعضلة إما بالتعامل مع مسائل اصطناعية (لكنها مثيرة للاهتمام)، مثل الكتل الثلاث المرتَّبة في مثلثٍ متساوي الأضلاع، وإما باشتقاق حلول تقريبية لمشكلاتٍ أكثر واقعية. صحيح أنَّ النهج الثاني عملي بدرجة أكبر، لكنَّ الكثير من الأفكار المفيدة قد أتى من النهج الأول في حقيقة الأمر بالرغم من طبيعته الاصطناعية.
لقد قضى ورثة نيوتن في العلم زمنًا طويلًا كان عليهم فيه أن يُجروا الحساباتِ بأيديهم، وتلك مهمة بطولية في معظم الأحيان. ومن الأمثلة على ذلك تشارلز أوجين ديلوناي الذي بدأ عام ١٨٤٦ في حساب صيغة تقريبية لحركة القمر. استغرقت المهمة ٢٠ عامًا، ونشر نتائجه في كتابين. جاء هذان الكتابان فيما يزيد على ٩٠٠ صفحة، وكان الكتاب الثاني بأكمله يتألَّف من الصيغة. وفي نهاية القرن العشرين، جرى التحقُّق من إجابته باستخدام الجبر الحاسوبي (وهي أنظمةٌ برمجية يمكنها معالجة الصيغ لا الأعداد فحسب). لم يوجد سوى خطأين صغيرين كان أحدهما نتيجةً للآخر. ولم يكن لكلا الخطأين سوى تأثيرٍ طفيفٍ للغاية.
تنتمي قوانين الحركة والجاذبية إلى نوعٍ خاص من المعادلات، يُعرف بالمعادلات التفاضلية. تحدِّد هذه المعادلات المعدَّل الذي تتغير به الكميات مع مرور الوقت. فالسرعة المتجهة هي معدَّل التغير في الموقع، والتسارع هو معدَّل التغير في السرعة المتجهة. فالمعدل الذي تتغيَّر به كميةٌ ما في الوقت الحالي، يتيح لنا التنبؤ بقيمتها في المستقبل. إذا كانت إحدى السيارات تتحرك ١٠ أمتار في الثانية، فبعد ثانية من الآن، ستكون قد تحرَّكت ١٠ أمتار. غير أنَّ هذا النوع من الحسابات يتطلب أن يكون معدل التغير ثابتًا. وإذا كانت السيارة تتسارع، فبعد ثانية من الآن، ستكون قد تحرَّكت أكثر من ١٠ أمتار. تتغلب المعادلات التفاضلية على هذه المشكلة من خلال تحديد المعدل اللحظي للتغير. والواقع أنَّها تتعامل مع فترات زمنية قصيرة للغاية حتى يمكن اعتبار معدل التغير ثابتًا خلال تلك الفترة الزمنية. وقد استغرق الأمر مئات الأعوام كي يتمكَّن الرياضيون من تسويغ تلك الفكرة بدقة منطقية كاملة؛ إذ لا يمكن أن توجد فترة زمنية نهائية لحظية إلا أن تكون صفرًا، ولا شيء يتغير في صفر من الوقت.
خلقت أجهزة الكمبيوتر ثورة منهجية. فبدلًا من حساب صيغ تقريبية للحركة، ثم وضع الأعداد في الصيغ، يمكنك وضع الأعداد من البداية. فلنفترض أنك ترغب في التنبؤ بالموقع الذي سيوجد فيه نظام من الأجسام، وليكن أقمار المشتري على سبيل المثال، بعد ١٠٠ عام. ستبدأ بالمواقع الابتدائية والحركات للمشتري وأقماره، وأي جسم آخر قد يكون مهمًّا مثل الشمس وزحل. بعد ذلك، ستتقدَّم خطوة ضئيلة في الزمن بخطوة ضئيلة في الزمن، وتحسب مدى تغيُّر الأعداد التي تصف «جميع» الأجسام. ستكرِّر تلك الخطوات إلى أن تصل إلى ١٠٠ عام، ثم تتوقَّف. ولا يمكن لإنسان لا يستخدم سوى ورقة وقلم رصاص أن يطبِّق هذه الطريقة على أي مشكلة واقعية. ذلك أنها ستستغرق أعمارًا عديدة. أما باستخدام جهاز كمبيوتر سريع، فتصبح الطريقة ملائمة تمامًا. ولا شك في أنَّ أجهزة الكمبيوتر الحديثة سريعة للغاية بالفعل.
الحق أنَّ الأمر «ليس» بتلك السهولة. فبالرغم من أنَّ الخطأ الذي يحدث في كل خطوة (بسبب افتراض معدل تغيُّر ثابت، بينما هو يختلف قليلًا في الواقع) صغير للغاية، يتعيَّن عليك استخدام عدد مهول من الخطوات. وليس من الأكيد أن ينتج لنا العدد الكبير المضروب في خطأ صغير، نتيجة صغيرة، لكنَّ الطرق المعدة بعناية تَحُد من الأخطاء. ثمَّة فرع من الرياضيات يعالج هذه المسألة بالتحديد، وهو فرع التحليل العددي. من الملائم أن نشير إلى هذه الطرق باسم «المحاكاة»؛ مما يعكس الدور الأساسي لجهاز الكمبيوتر. من المهم أن نفهم أننا لا نستطيع حل مسألة من خلال «إدخال الأعداد إلى الكمبيوتر» فحسب. فلا بد أن يقوم شخصٌ ما ببرمجة الآلة بالقواعد الرياضية التي تجعل حساباتها مطابقة للواقع.
بالغة هي دقةُ تلك القواعد حتى إنَّ علماء الفلك يستطيعون التنبؤ بحدوث كسوف الشمس وخسوف القمر في الموعد المحدَّد بالثانية، ويتنبئون بموقع حدوثهما على الكوكب في نطاق بضعة كيلومترات، ولمئات الأعوام في المستقبل. يمكن أيضًا إجراء هذه «التنبؤات» عكسيًّا، لتحديد المكان والزمان الدقيقين اللذين شهدا ظواهر الكسوف والخسوف التي سجَّلها التاريخ. وقد استُخدِمت هذه البيانات في تأريخ الملاحظات التي رصدها على سبيل المثال، علماء الفلك الصينيون قبل آلاف الأعوام.
•••
إنَّ غيوم الغاز المنهارة تشكِّل مدارات مستوية؛ لذا فمن غير المرجَّح أن يتكوَّن كوكب في مثل ذلك المدار. غير أنَّ كوكبًا أو كويكبًا مضطربًا في مدار شديد الانحراف، قد يؤسر في أحيان نادرة في نظام ثنائي النجوم وينتهي به الأمر في الدوران اللولبي بين النجمين. ثمَّة دليل مبدئي يشير إلى أنَّ «كيبلر ١٦ بي»، وهو كوكب يدور حول نجم بعيد، قد يكون أحدها.
•••
من الناحية العملية، يمكننا تطبيق قانون الجاذبية دون القلق بشأن الآلية التي تنقل القوة من جسم إلى آخر. وذلك ما فعله الجميع في المجمل. غير أنَّ قلةً من الفيزيائيين يتمتعون بمسحة فلسفية، وسنجد في ألبرت أينشتاين مثالًا مدهشًا على هذا. لقد غيرت نظرية النسبية الخاصة التي وضعها ونُشِرت عام ١٩٠٥ رؤية الفيزيائيين للمكان والزمان والمادة. وجاءت نظرية النسبية العامة عام ١٩١٥ امتدادًا لها لتغير رؤيتهم للجاذبية، وكمسألة جانبية، حلت السؤال الشائك بشأن الكيفية التي يمكن بها لقوة أن تعمل عن بُعد. وقد فعلت ذلك بالتخلص من القوة نفسها.
لقد استنتج أينشتاين النسبية الخاصة من مبدأ جوهري واحد، وهو أنَّ سرعة الضوء تبقى ثابتة لا تتغير حتى حين يتحرك الملاحظ بسرعة ثابتة. وفقًا للميكانيكا النيوتونية، إذا كنت في سيارة مفتوحة السقف، وقذفت بكرة في اتجاه حركة السيارة، فإنَّ سرعة الكرة حين يقيسها ملاحظ ساكن على جانب الطريق، ستساوي سرعة الكرة بالنسبة إلى السيارة، «زائد» سرعة السيارة. وينطبق الأمر نفسه إذا أضأت شعاع كشاف أمام السيارة، فإنَّ سرعة الضوء حين يقيسها شخص على جانب الطريق يجب أن تكون سرعته المعتادة زائد سرعة السيارة.
في الميكانيكا النيوتونية، لا شيء من هذه الأمور الغريبة يحدث. فالمكان مكان والزمان زمان، ولا يلتقي الاثنان أبدًا. في النسبية الخاصة، يمكن التبديل بين المكان والزمان إلى حدٍّ ما، وهذا الحد محكوم بسرعة الضوء. فهما يشكِّلان معًا امتداد الزمكان. وبالرغم من تنبؤاتها الغريبة، صارت النسبية الخاصة مقبولة بصفتها أكثر النظريات التي نمتلكها دقةً في وصف الزمان والمكان. ومعظم نتائجها الأكثر غرابة لا تظهر إلا حين تتحرك الأجسام بسرعة كبيرة للغاية؛ ولهذا لا نلاحظها في حياتنا اليومية.
وفقًا لفيزياء نيوتن، تنحني هذه المسارات لوجود قوة تُحوِّل الجسيم عن مساره في خط مستقيم. وفي النسبية العامة، يحدث تأثير مشابه بسبب انحناء الزمكان. لنفترض أنَّ النجم يشوِّه المستوى ويشكِّل واديًا دائريًّا — «بئر جاذبية» يكون النجم في قاعه — ولنفترض أنَّ الجسيمات المتحركة تتبع المسار الأقصر أيًّا كان. ثمَّة مصطلح تقني لهذا المسار الأقصر، وهو «الخط الجيوديسي». ولأنَّ امتداد الزمكان منحنٍ، لا تعود الخطوط الجيوديسية خطوطًا مستقيمة. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يُحبس أحد الجسيمات في وادٍ، ويستمر في الدوران على ارتفاع محدَّد، مثل كوكب يدور في مدار مغلق.
وبدلًا من القوة الافتراضية التي تتسبَّب في انحناء مسار الجسيم، عوَّض عنها أينشتاين بزمكان منحنٍ «بالفعل»، يؤثِّر انحناؤه في مسار جسيم متحرك. لا حاجة لوجود «الفعل عن بُعد»؛ فالزمكان منحنٍ لأنَّ هذا هو ما تفعله به النجوم، وتستجيب الأجسام المدارية للانحناء القريب. إنَّ ما نشير إليه نحن ونيوتن بالجاذبية، ونتخيله على صورة قوة، هو في حقيقة الأمر انحناء للزمكان.
أتظن أنَّ هذا كله ضرب من الجنون؟ لقد ظنَّ الكثيرون ذلك في البداية. غير أنَّ جميع مَن يستخدمون الملاحة بالأقمار الصناعية في سياراتهم يعتمدون على النسبية الخاصة والعامة كلتيهما. فالعمليات الحسابية التي تخبرك بأنك على مشارف بريستول وتتوجَّه جنوبًا على الطريق السريع إم ٣٢، تعتمد على إشارات التوقيت من الأقمار الاصطناعية المدارية. والرقاقة الموجودة في سيارتك، والتي تحسب موقعك، يجب أن تصحِّح تلك التوقيتات وفقًا لعاملين: السرعة التي يتحرك بها القمر الصناعي، وموقعه في بئر جاذبية الأرض. يستلزم الأول النسبية الخاصة، ويستلزم الثاني النسبية العامة. وبدون هذه التصحيحات، سيضعك نظام الملاحة في غضون بضعة أيام في قلب المحيط الأطلنطي.
•••
توضِّح النسبية العامة أنَّ فيزياء نيوتن «ليست» هي «نظام العالم» الصحيح الدقيق، الذي كان نيوتن وجميع العلماء الآخرين تقريبًا قبل القرن العشرين يعتقدون بوجوده. غير أنَّ ذلك الاكتشاف لم يسدل ستار النهاية على فيزياء نيوتن. الواقع أنها تُستخدم الآن على نطاقٍ أكبر كثيرًا. ذلك أنَّ الفيزياء النيوتونية أبسط كثيرًا من النسبية، وهي «جيدة بالدرجة الكافية للأعمال الحكومية»، مثلما يُقال حرفيًّا. فالاختلافات بين النظريتين لا تظهر غالبًا إلا عند معالجة الظواهر الغريبة، مثل الثقوب السوداء. ولهذا، لا يزال علماء الفلك ومهندسو البعثات الفضائية الذين يعملون غالبًا لصالح الحكومات أو وفقًا لعقود بين الحكومات والمنظمات مثل ناسا وإيسا؛ يستخدمون الميكانيكا النيوتونية في الغالبية العظمى من الحسابات. ثمَّة استثناءات قليلة هي التي يكون التوقيت فيها حساسًا للغاية. ومع تكشُّف جوانب القصة، سنرى تأثير قانون نيوتن للجاذبية مرارًا وتَكرارًا. إنه على تلك الدرجة من الأهمية بالفعل؛ فهو أحد أعظم الاكتشافات العلمية على الإطلاق.
بالرغم من ذلك، في علم الكونيات، وهو دراسة الكون بأكمله لا سيما نشأته، علينا أن ننحِّي فيزياء نيوتن جانبًا. فهي لا تقدِّم تفسيرًا للملاحظات الأساسية. وبدلًا منها، علينا أن نستدعي النسبية العامة، ويساعدها على ذلك باقتدار ميكانيكا الكم. وحتى هاتان النظريتان العظيمتان في حاجةٍ إلى مساعدة إضافية على ما يبدو.