طريق ما بين الكواكب السريع
«إنَّ السفر في الفضاء محض هراء.»
حين بدأ العلماء الاستشرافيون والمهندسون في التفكير بجدية بشأن الهبوط بالبشر على القمر، كانت إحدى مشكلاتهم الأولى هي تحديد الطريق الأنسب. لكلمة «الأنسب» معانٍ عديدة. غير أنَّ المتطلبات اللازمة في هذا السياق تتمثَّل فيما يلي: مسار سريع، والحد من الوقت الذي يقضيه رواد الفضاء المعرَّضون للضرر مندفعين عبر الفراغ في علبة صفيحية فخمة، وتقليل عدد مرات تشغيل محرك الصاروخ وقفله قدر الإمكان لتقليل احتمالية تعطله.
حين هبطت «أبولُّو ١١» برائدي فضاء على القمر، كان مسارها يتبع هذين المبدأين. ففي البداية وُضِعت المركبة الفضائية في مدار الأرض المنخفض، حيث يمكن التحقق من كل شيء للتأكد أنه لا يزال يتمتع بوظائفه. وبعد ذلك، أدت دفقة واحدة من المحركات إلى الإسراع بالمركبة باتجاه القمر. وحين اقتربت، أدت بضع دفقات إضافية إلى الإبطاء بها مجددًا ووضعتها في مدار القمر. نزلت وحدة الهبوط على السطح، وعاد نصفها العلوي مع الطاقم بعد بضعة أيام. طُرِحت المركبة بعد ذلك، وعاد الطاقم إلى الأرض بدفقة أخرى من المحرك لإخراجهم من مدار القمر. عند الاقتراب من الوطن، وصلوا إلى أكثر الأجزاء خطورةً في المهمة بأكملها، وهو استخدام الاحتكاك مع الغلاف الجوي للأرض بمثابة المكابح، لإبطاء كبسولة القيادة بما يكفي للهبوط باستخدام المظلات.
ظل هذا النوع من المسارات، الذي يُعرَف في أبسط صوره باسم مدار هوهمان الإهليلجي، يُستخدم في معظم البعثات الفضائية. ذلك أنَّ هذا المسار مثالي من ناحيةٍ ما. فهو أسرع من معظم البدائل رغم استخدامه كمية الوقود الصاروخي نفسها. غير أنه مع اكتساب البشر للخبرة في بعثات الفضاء، أدرك المهندسون أنَّ أنواعًا أخرى من البعثات تتطلب شروطًا مختلفة. أحد هذه الشروط على وجه التحديد أنَّ السرعة أقل أهمية في حالة إرسال آلة أو إمدادات.
بدلًا من التفكير في الأرض والهدف النهائي فحسب، بدأ المهندسون في التفكير بشأن جميع الأجرام التي قد تؤثِّر في مسار مسبار الفضاء. إنَّ مجالات جاذبيتها تجتمع لتشكل منظرًا من الطاقة، وتلك استعارة تناولناها فيما يتعلق بنقاط لاجرانج وكويكبات «جريك» و«تروجان». تتجول المركبة الفضائية المعنية حول الخطوط المحيطية لهذا المنظر. يتمثَّل أحد الاختلافات في أنَّ المنظر يتغير مع حركة الجسم. ويتمثل آخر في أنَّ هذا المنظر يقع في أبعاد عدة من الناحية الرياضية، لا في الأبعاد الثلاثة المعتادة فحسب؛ لأنَّ السرعة المتجهة مهمة وكذلك الموقع. أما الاختلاف الثالث فهو أنَّ الفوضى تلعب دورًا أساسيًّا؛ إذ يمكن استخدام تأثير الفراشة للحصول على نتائج كبيرة من أسباب صغيرة.
•••
تُعد بعثة «روزيتا» مثالًا على الطرق الجديدة لتصميم المسارات للمسابير الفضائية. وهي لا تستخدم تأثير الفراشة، لكنها توضح كيف أنَّ التخطيط التخيلي يمكن أن يؤدي إلى نتائج تبدو مستحيلة في البداية، وذلك من خلال الاستفادة من السمات الطبيعية لمنظر الجاذبية في النظام الشمسي. كانت بعثة «روزيتا» صعبة من الناحية التقنية، ويعود ذلك بدرجة كبيرة إلى المسافة وسرعة الهدف. ففي وقت الهبوط، كان المذنَّب «٦٧ بي» يبعد ٤٨٠ مليون كيلومتر عن الأرض، ويتحرك بسرعة تزيد عن ٥٠٠٠٠ كيلومتر في الساعة. وتلك سرعة تبلغ ستين ضعف ما تبلغه سرعة طائرة ركاب نفاثة. بسبب القيود الحالية في علم الصواريخ، فإنَّ طريقة «التوجيه والانطلاق» التي استُخدِمَت للهبوط على سطح القمر لن تنجح.
إنَّ الخروج من مدار الأرض بالسرعة الكافية صعب ومكلِّف، لكنه ممكن. وقد اتخذت بعثة «نيو هورايزونز» المتجهة إلى بلوتو، الطريق المباشر بالفعل. صحيح أنها اقترضت من المشتري بعض السرعة المتجهة الإضافية في الطريق، لكنها كانت ستصل إلى وجهتها دون ذلك باستغراق فترة زمنية أطول. كانت المشكلة الكبيرة هي الإبطاء من جديد، وقد أمكن حل هذه المشكلة دون محاولة حتى. لقد استخدمت «نيو هورايزونز»، أسرعُ مركبة فضائية أُطلِقت، صاروخًا قويًّا للغاية به خمسة من معزِّزات الوقود الصلب، ومرحلة إضافية نهائية للوصول إلى السرعة المطلوبة عند مغادرة الأرض. وقد خلَّفت البقية أيضًا بأسرع ما يمكن؛ فقد كانت ثقيلة لا يمكن حملها، وفارغة من الوقود على أي حال. حين وصل المسبار إلى بلوتو، انطلقت عبر النظام بسرعة كبيرة، وكان عليه أن يقوم بجميع مهامه الرصدية العلمية الأساسية في غضون يوم واحد تقريبًا. وفي أثناء ذلك الوقت، كان مشغولًا للغاية بما لا يسمح بالتواصل مع الأرض؛ فسادت فترة من التوتر بينما كان علماء البعثة والمشرفون عليها في انتظار معرفةِ ما إذا كان المسبار نجا من اللقاء أم لا؛ إذ كان يمكن أن يثبت أنَّ الاصطدام بذرة غبار واحدة فتاكًا.
على عكس ذلك، كان على «روزيتا» أن يلتقي بالمذنَّب «٦٧ بي» وأن «يظل معه» بينما يقترب المذنَّب من الشمس، مع رصده طوال الوقت. كان عليه أن يضع «فايلي» على سطح المذنَّب. وبالنسبة إلى المذنَّب، كان على «روزيتا» أن يبقى ثابتًا تقريبًا، لكنَّ المذنَّب كان يبعد ٣٠٠ مليون عام وكان يتحرك بسرعة هائلة تبلغ ٥٥٠٠٠ كيلومتر في الساعة. ومن ثمَّ؛ فقد كان يلزم تصميم مسار البعثة بما يسمح بوصوله إلى السرعة المطلوبة، على أن ينتهي المسبار في المدار نفسه الذي يوجد فيه المذنَّب. لقد كان التوصل إلى مسار مناسب مهمة صعبة، وكذلك كان إيجاد مذنَّب مناسب.
ما السبب في اختيار مثل ذلك المسار المعقَّد؟ إنَّ وكالة الفضاء الأوروبية لم توجِّه صاروخها إلى المذنَّب وتطلقه فحسب. فقد كان ذلك سيتطلب الكثير جدًّا من الوقود، وعند وصول الصاروخ، كان المذنَّب سيصبح في مكان آخر. عوضًا عن ذلك، أدَّى المسبار «روزيتا» رقصة كونية مصممة بعناية، بينما يقع تحت تأثير قوى جاذبية الشمس والأرض والمريخ وغير ذلك من الأجرام الوثيقة الصلة. صُمِّم مساره الذي جرى حسابه باستخدام قانون نيوتن للجاذبية، لمراعاة كفاءة الوقود. فكل مرة كان يمر المسبار فيها قريبًا من الأرض والمريخ، كانت تمنحه دفعة مجانية؛ إذ يقترض الطاقة من الكوكب. وحافظت الدفعات الصغيرة التي كانت تنطلق بين الحين والآخر من أربع دافعات، على بقاء المركبة في مسارها. جاء ثَمن حفظ الوقود متمثلًا في أنَّ «روزيتا» قد استغرق ١٠ سنوات كي يصل إلى وجهته. لكن من دون دفع ذلك الثمن، كان مجرد الإقلاع عن الأرض سيصبح مكلفًا للغاية.
إنَّ هذا النوع من أنواع المسارات الذي يلتف مرارًا دخولًا وخروجًا، للحصول على دفعاتِ سرعةٍ متزنة من الكواكب والأقمار، صار شائعًا في بعثات الفضاء حين لا يكون عامل الوقت جوهريًّا. فحين يمر مسبار فضائي ما خلف كوكب في أثناء حركته حول مداره، يستطيع أن يسرق بعضًا من طاقة الكوكب في مناورة من نوع المقلاع. «يبطئ» الكوكب في حقيقة الأمر، لكنَّ سرعته تقل بدرجة طفيفة للغاية حتى إنَّ أكثر الأجهزة حساسية لا تستطيع رصد ذلك. وبهذا، يحصل المسبار على دفعةٍ للسرعة دون استهلاك أي مقدار من الوقود الصاروخي.
دائمًا ما يكمن الشيطان في التفاصيل. ومن أجل تصميم مثل هذا المسار، لا بد أن يكون المهندسون قادرين على التنبؤ بحركات جميع الأجرام المعنية، وينبغي عليهم أن يجعلوا جميع عناصر الرحلة متلائمة معًا للوصول بالمسبار إلى وجهته. وعلى هذا النحو يكون تخطيط البعثة مزيجًا من الحسابات والسحر الأسود. ذلك أنَّ كل شيء فيها يتوقف على مجال من النشاط البشري نادرًا ما يُشار إلى دوره أصلًا في استكشاف الفضاء، غير أنه لا يمكن تحقيق أي شيء من دونه. فحين تبدأ وسائل الإعلام في الحديث عن «نماذج الكمبيوتر» أو «الخوارزميات»، بوسعك أن تفترض أنهم يقصدون «الرياضيات» في واقع الأمر، لكنهم خائفون للغاية من ذكر الكلمة، أو يعتقدون أنها ستخيفك «أنت». ثمَّة أسباب وجيهة لعدم إزعاج الأفراد بالتفاصيل الرياضية المعقَّدة، غير أنَّ التظاهر بعدم وجود واحدة من أقوى طرق التفكير التي توصَّلت إليها البشرية، ضررٌ كبير.
•••
كانت الخدعة الديناميكية الأساسية للمسبار «روزيتا» هي مناورة المقلاع. فبخلاف تلك اللقاءات المتكررة، تبع المسبار مجموعة من مدارات هوهمان. وبدلًا من التحرك في مدار المذنَّب «٦٧ بي»، سار في مدار إهليلجي قريب حول الشمس. غير أنَّ هناك خدعة مختلفة أكثر إثارة للاهتمام تغيِّر قواعد اللعبة، وتُحدث ثورة في تصميم مسارات البعثات. ومن المدهش أنها تعتمد على الفوضى.
لقد شرحت في الفصل التاسع أنَّ الفوضى بالمعنى الرياضي ليست مصطلحًا فخمًا للسلوك العشوائي المضطرب. وإنما هي السلوك الذي «يبدو» عشوائيًّا ومضطربًا، لكنه يخضع لنظام خفي من القواعد الحتمية الصريحة. وفي حالة الأجرام السماوية تتمثَّل تلك القواعد في قوانين الحركة والجاذبية. للوهلة الأولى، لا تساعدنا القواعد بدرجة كبيرة لأنَّ دلالتها الأساسية أنَّه لا يمكن التنبؤ بالحركة الفوضوية على المدى الطويل. فثمَّة أفق للتنبؤ، وفيما بعده، سيطغى أي خطأ ضئيل حتمي في قياس الحالة الحالية على أي حركة جرى التنبؤ بها. لا يمكن التنبؤ بأي شيء خارج الأفق. ولهذا تبدو الفوضى أمرًا سيئًا برُمَّته.
تمثلت إحدى أوجه النقد الأولى التي وُجِّهَت إلى «نظرية الفوضى» في أنَّ الفوضى لا يمكن التنبؤ بها؛ ومن ثمَّ فهي تطرح صعوباتٍ أمام البشر في فَهْم الطبيعة. فما الجدوى من نظريةٍ تجعل كل شيءٍ أصعب؟ إنها ليسَت عديمة الجدوى فحسب؛ بل هي أسوأ من ذلك. بدا أنَّ المحاججين بهذا الأمر يتخيلون أنَّ الطبيعة سترتِّب نفسها بمعجزةٍ ما لتتجنب الفوضى وتساعدنا. أو ربما أنَّنا إن لم «نلاحظ» أنَّ بعض الأنظمة لا يمكن التنبؤ بها، فسوف تكون قابلة للتنبؤ بدلًا من ذلك.
إنَّ العالم لا يسير بهذه الطريقة. فهو لا يشعر بأي اضطرار لإرضاء البشر. ووظيفة النظريات العلمية أن تساعدنا على فهم الطبيعة، أما تحسين التحكم في الطبيعة فهو ناتج شائع وليس الهدف الأساسي. فنحن نعرف على سبيل المثال أنَّ لب الأرض يتكوَّن من الحديد المنصهر؛ إذن لا يوجد أي احتمال حقيقي للوصول إليه، وإن كان ذلك بماكينة حفر ذاتية التحكم. يا لها من نظرية سخيفة! يا لها من نظرية عديمة الجدوى. غير أنها صحيحة مع الأسف. والحق أنها مفيدة أيضًا؛ فهي تساعد في تفسير المجال المغناطيسي للأرض، مما يساعدنا في البقاء على قيد الحياة من خلال تحويل الإشعاع.
ينطبق الأمر نفسه على نظرية الفوضى، التي يتمثَّل هدفها الأساسي في أنَّ الفوضى «موجودة» في العالم الطبيعي. وفي الظروف الملائمة المعتادة، لا تكون سوى نتيجة حتمية لقوانين الطبيعة، كتلك الأنماط اللطيفة البسيطة، ومنها المدارات الدورية الإهليلجية التي بدأت الثورة العلمية. ولأنها موجودة بالفعل، فلا بد لنا من أن نعتاد عليها. حتى وإن كان النفع الوحيد لنظرية الفوضى هو تنبيه البشر بأن يتوقعوا وجود السلوكيات العشوائية في الأنظمة المستندة إلى القواعد، فإنَّه سيكون أمرًا جديرًا بالمعرفة. ذلك أنه سيوقفنا عن البحث عن تأثيرات خارجية غير موجودة قد نظن لولا معرفتنا بنظرية الفوضى أنها السبب في عدم الانتظام.
الحق أنَّ ﻟ «نظرية الفوضى» المزيد من النتائج المفيدة. فالفوضى تنبثق من القواعد؛ ومن ثمَّ يمكن استخدام الفوضى في الاستدلال على القواعد، واختبارها، والتوصل إلى استنتاجات منها. ولما كانت الطبيعة تتصرَّف بفوضويَّةٍ في معظم الأحيان، فمن الأفضل أن نفهم الكيفية التي تعمل بها الفوضى. غير أنَّ الحقيقة لا تزال أكثر إيجابية. ويمكن للفوضى أن تكون مفيدةً لك بفعل تأثير الفراشة. ذلك أنَّ الاختلافات الأولية الصغيرة يمكن أن تتسبَّب في تغييراتٍ كبيرة. لنفكِّر في هذا الأمر على نحو عكسي. فلنفترض أنك تريد أن تتسبَّب في حدوث إعصار. تبدو مهمة ضخمة. بالرغم من ذلك، يوضح لنا تيري براتشيت في روايته «أوقات مشوقة» أنَّ كلَّ ما عليك فعله هو إيجاد الفراشة المناسبة وبعد ذلك، «ستخفق» هي بأجنحتها.
إنَّ مسألة الأجسام المتعددة في علم الفلك فوضوية. وتسخير تأثير الفراشة في ذلك السياق يتيح لنا إعادة توجيه مسابير الفضاء دون استخدام أي مقدار يُذكر من الطاقة الدافعة. يمكننا على سبيل المثال، أن نركل مسبارًا قمريًّا باليًا خارج مدار موته حول القمر، ونرسله ليلقي النظر على مذنَّبٍ ما. يبدو ذلك غير مرجَّح أيضًا، لكنَّ تأثير الفراشة قادر على تحقيق ذلك مبدئيًّا.
فما العائق؟ (دائمًا ما يوجد عائقٌ ما. فثمَّة ثَمن لكل شيء.)
والإجابة هي إيجاد الفراشة الصحيحة.
•••
إنَّ مدارًا من نوع مدارات هوهمان الإهليلجية يربط مدار الأرض بمدار آخر حول العالَم المستهدف، ومع قدر من التعديل، يغدو خيارًا جيدًا للغاية للبعثات التي تضم بشرًا. فحين تنقل سلعًا قابلة للتلف (بشرًا)، فسوف تحتاج إلى الوصول إلى وجهتك سريعًا. أما حين لا يكون عامل الوقت جوهريًّا، فثمَّة طرق بديلة تستغرق وقتًا أطول، لكنها تستهلك وقودًا أقل. وللاستفادة من تأثير الفراشة، نحتاج إلى مصدر للفوضى. يتألف مدار هوهمان من ثلاثة مدارات مختلفة (شكل إهليلجي ودائرتين) تتشابك معًا ويضم كلٌّ منها جِرمين، وذلك باستخدام دفعات من أجهزة الدفع لتغيير مكان المسبار من مدار إلى آخر. غير أنَّ مسألة الجسمين لا تنطوي على أي قدر من الفوضى. أين نجد الفوضى المدارية؟ في معضلة الأجسام الثلاثة. لذا، فإنَّ ما ينبغي علينا التفكير بشأنه هو تجميع مدارات «ثلاثية الأجرام». يمكننا أن نضيف مدارات ثنائية الجِرم أيضًا إن كان هذا سيفيد، لكننا لن نكتفي بها.
في نهايات ستينيات القرن العشرين، أوضح تشارلز كونلي وريتشارد ماجيهي أنَّ كلًّا من مثل هذه المسارات يُحاط بمجموعة متداخلة من الأنابيب، كلٌّ منها بداخل الأخرى. يتناظر كل أنبوب مع خيار محدد للسرعة؛ فكلما ابتعدت السرعة عن المقدار الأمثل، زاد اتساع الأنبوب. ويظل إجمالي الطاقة على سطح أيٍّ من هذه الأنابيب ثابتًا. إنها فكرة بسيطة تنتج عنها نتيجة بارزة. فمن أجل زيارة عالَم آخر على نحو موفِّر للوقود، اتبع طريقة الأنبوب.
ترتبط الكواكب والأقمار والكويكبات والمذنَّبات معًا من خلال شبكة من الأنابيب. دائمًا ما كانت هذه الأنابيب موجودة، لكنها لا تُرى إلا من خلال العين الرياضية، وجدرانها هي مستويات الطاقة. إذا استطعنا تكوين تصوُّر لمنظر مجالات الجاذبية المتغير على الدوام، والذي يتحكم في الكيفية التي تتحرك بها الكواكب، فسوف نتمكن من رؤية الأنابيب تدور مع الكواكب في رقصة الجاذبية البطيئة الجليلة التي تؤديها. غير أننا نعرف الآن أنَّ الرقصة قد تكون غير قابلة للتنبؤ.
لنتناول المذنَّب أوتيرما مثالًا، وهو مذنَّب جامح للغاية. قبل قرن من الزمان، كان مدار أوتيرما يقع خارج مدار المشتري بمسافة بعيدة. وبعد لقاء تقاربي، تبدَّل مداره وصار بداخل مدار المشتري. وبعد ذلك، تبدَّل وصار خارجه مرة أخرى. سيستمر أوتيرما في تغيير مداره كل بضعة عقود، وليس ذلك لأنه يخرق قانون نيوتن؛ بل لأنه يتبعه. يقع مدار أوتيرما داخل أنبوبين يلتقيان بالقرب من المشتري. يقع أحد الأنبوبين داخل مدار المشتري، ويقع الآخر خارجه. وعند نقطة الالتقاء، إما أن يبدِّل المذنَّب الأنبوبتين أو لا يبدلهما، تبعًا للتأثيرات الفوضوية لجاذبية المشتري والشمس. بالرغم من ذلك، فور أن يصير أوتيرما بداخل أحد الأنبوبين، فإنه يظل عالقًا هناك إلى أن يعود الأنبوب لنقطة الالتقاء. كقطار لا بد له أن يبقى على القضبان لكنه يستطيع تغيير مساره إلى مجموعة أخرى من القضبان إذا بدَّل أحد النقاط، يتمتع أوتيرما ببعض الحرية في تغيير خط سيره، لكنها حرية محدودة.
•••
لقد أدرك بناة السكك الحديدية في العصر الفيكتوري أهمية الاستفادة من السمات الطبيعية للأرض. فمدُّوا السكك الحديدية عبر الوديان وعلى طول الخطوط المحيطية، وحفروا الأنفاق في التلال لتفادي سير القطار على قممها. إنَّ تسلُّق تل في اتجاه معاكس للجاذبية يكلِّف الكثير من الطاقة. وتظهر هذه التكلفة في زيادة استهلاك الوقود التي تكلِّف بدورها المال. ينطبق الأمر نفسه على السفر بين الكواكب، لكنَّ منظر الطاقة يتغير مع حركة الكوكب. وهو يتخذ أبعادًا كثيرة للغاية على عكس موقع القطار الذي لا يتخذ سوى بُعدين. تمثل هذه الأبعاد كميتين فيزيائيتين مختلفتين؛ الموقع والسرعة المتجهة. تسافر المركبات الفضائية عبر منظر رياضي ذي ستة أبعاد لا بُعدين. وتُعد الأنابيب ونقاط التقائها من السمات الخاصة لمنظر الجاذبية في النظام الشمسي.
تتضمن المناظر الطبيعية تلالًا وأودية. ويستهلك تسلُّق أحد التلال قدرًا من الطاقة، لكنَّ القطار يمكن أن يكتسب طاقة من خلال الانحدار إلى أحد الوديان. ثمَّة نوعان من الطاقة يؤديان دورًا في هذا السياق. فالارتفاع فوق سطح البحر يحدِّد طاقة وضع القطار التي تعود إلى قوة الجاذبية. ولدينا أيضًا طاقة الحركة التي تتناظر مع السرعة. حين ينحدر قطارٌ ما على أحد الوديان ويتسارع، يبادل بطاقة الوضع طاقة حركية. وحين يتسلق تلًّا ويبطئ، تسير عملية التبادل في الاتجاه المعاكس. يظل إجمالي الطاقة ثابتًا؛ ومن ثمَّ تتبع الحركة خطًّا محيطيًّا في منظر الجاذبية. غير أنَّه يوجد مصدر ثالث للطاقة في القطارات: الوقود. فمن خلال حرق وقود الديزل أو استهلاك الطاقة الكهربية، يمكن للقطار تسلُّق سطح مائل أو الإسراع، محرِّرًا نفسه من مساره الطبيعي حر الجريان. لا بد لإجمالي الطاقة أن يظل ثابتًا في جميع الأحيان، وما سوى ذلك كله قابل للتفاوض.
ينطبق الأمر نفسه تقريبًا في حالة مركبات الفضاء. فمجالات جاذبية الشمس والكواكب وغيرها من الأجرام توفِّر طاقة الوضع. وتتناظر سرعة مركبة الفضاء مع الطاقة الحركية. وتضيف طاقتها المحركة مصدرًا آخر للطاقة يمكن تشغيله أو إيقافه حسب الرغبة. تؤدي الطاقة دور الارتفاع في المنظر الطبيعي، ويُعد المسار الذي تتبعه مركبة الفضاء خطًّا محيطيًّا من نوعٍ ما، ويظل إجمالي الطاقة ثابتًا على مداره. الأمر الأهم أنه لا يلزم التقيد بخط محيطي محدَّد؛ إذ يمكن استهلاك قدر إضافي من الوقود للانتقال إلى آخر، والتحرك إلى «أعلى التل»، أو «أسفله».
ما يهم لنجاح هذا الأمر هو القيام به في المكان الصحيح. لقد كان مهندسو السكك الحديدية في العصر الفيكتوري يعون جيدًا أنَّ التضاريس الأرضية تتسم بسمات مميزة، مثل قمم التلال وقيعان الوديان، وشكل السروج الذي تتخذه الممرات الجبلية. لهذه السمات المميزة أهميتها؛ فهي تشكِّل هيكلًا عظميًّا للشكل الهندسي الكلي الذي تتخذه المخططات المحيطية. فبالقرب من قمة على سبيل المثال، تشكِّل المخطَّطات المحيطية منحنًى مغلقًا. وفي القمم، تبلغ طاقة الوضع أقصى حد لها موضعيًّا، وتكون في أدنى حد لها موضعيًّا في الوديان. أما الممرات الجبلية فتجتمع فيها سمات من الاثنين؛ إذ تبلغ الحد الأقصى في بعض الاتجاهات وتبلغ الحد الأدنى في اتجاهات أخرى، وهي تتيح لنا عبور الجبال بأقل كلفة من المجهود.
ينطبق الأمر نفسه على منظر الجاذبية في النظام الشمسي إذ يتخذ سمات خاصة. أبرز هذه السمات هي الشمس والكواكب والأقمار التي توجد في قاع آبار الجاذبية. ثمَّة سمة أخرى أقل وضوحًا لكنها على القدر نفسه من الأهمية، وهي قمم التلال وقيعان الوديان والممرات الجبلية، التي توجد في منظر الجاذبية. تنظم هذه السمات الشكل الهندسي الكلي، الذي يشكل بدوره الأنابيب. وأكثر السمات المعروفة في منظر الجاذبية بخلاف آبار الجاذبية، هي نقاط لاجرانج.
لقد حاول الرياضيون والمهندسون الذين كانوا يرغبون في تكرار تلك الخدعة والتوصل إلى خدعٍ أخرى من النوع نفسه، أن يفهموا السبب الحقيقي وراء نجاحها. توجَّهوا مباشرةً نحو تلك الأماكن المميزة في منظر الطاقة، والتي تناظر الممرات الجبلية. تمثل هذه الأماكن «أعناق زجاجات» لا بد للمسافرين المستقبليين من عبورها. ثمَّة ممرات «وفود» محدَّدة وممرات «مغادرة» محدَّدة أيضًا، تتناظر مع المسارات الطبيعية التي توجد في الممرات. ولاتباع مسارات الوفود والمغادرة هذه على نحوٍ دقيق، لا بد من السفر بالسرعة المناسبة تمامًا. بالرغم من ذلك، إذا اختلفت سرعتك بدرجة طفيفة، يمكنك أن تظل قريبًا من تلك المسارات. ومن أجل تخطيط ملف للبعثة يتسم بالكفاءة، ينبغي تحديد الأنابيب ذات الصلة. تسير المركبة الفضائية عبر أول أنبوب للوفود، وحين تصل إلى نقطة لاجرانج، تعيد دفعة سريعة من المحركات توجيهها عبر أنبوب للمغادرة. يتدفَّق بها هذا الأنبوب نحو آخر للوفود، وهكذا دواليك.
في عام ٢٠٠٠، قام كلٌّ من وانج سانج كون، ومارتن لو، وجيرولد مارسدن، وشين روس، باستخدام الأنابيب لتصميم جولة لأقمار المشتري، مع دفع جذبوي بالقرب من «جانيميد» متبوع برحلة أنبوبية إلى أوروبا. وثمَّة مسار آخر أكثر تعقيدًا ويستلزم قدرًا أقل من الطاقة، يتضمن «كاستيلو» أيضًا. يستخدم هذا المسار ديناميكيات أجسام خمسة: المشتري والأقمار الثلاثة والمركبة الفضائية.
ربما يزيد تأثير الأنابيب عن ذلك. فقد اكتشف ديلينتس نظامًا طبيعيًّا من الأنابيب يربط المشتري بكلٍّ من الكواكب الداخلية. يشير ذلك إلى أنَّ المشتري، وهو الكوكب المهيمن في النظام الشمسي، يؤدي دور «المحطة الفضائية المركزية الكبرى». فثمَّة احتمال كبير بأن تكون أنابيبه هي التي نظَّمت تكوين النظام الشمسي بأكمله، محدِّدةً بذلك المسافات التي تفصل بين الكواكب الداخلية. إنَّ هذا الاحتمال لا يفسِّر قانون تيتيوس-بوديه ولا حتى يؤيده، وإنما يوضح أنَّ التنظيم الحقيقي للأنظمة الكوكبية ينبع من الأنماط الخفية للديناميكيات غير الخطية.