كرات عظيمة من النيران
«ربما نحدِّد أشكال الكواكب ومسافاتها وأحجامها وحركاتها، لكننا لن نستطيع أبدًا أن نعرف أيَّ شيء عن تركيبها الكيميائي.»
على ضوء ما اكتسبناه لاحقًا من معارف، يسهل علينا أن نهزأ من كونت المسكين، غير أنه لم يكن أحدٌ يتصوَّر على الإطلاق في عام ١٨٣٥ أننا سنستطيع معرفة تركيب كوكبٍ ما، فضلًا عن نجم. يخص كونت «الكواكب» بالذكر في هذه العبارة، لكنه يذكر في موضع آخر أنَّ معرفة التركيب الكيميائي لنجمٍ ما ستكون أكثر صعوبة. لقد كانت فكرته الأساسية هي وجود حدود لما يمكن للعلم أن يكتشفه.
مثلما يحدث غالبًا حين يعلن باحثون مرموقون استحالة شيءٍ ما، كانت فكرة كونت الأعمق صحيحة، لكنه اختار المثال الخاطئ تمامًا. فعلى عكس المتوقَّع، يُعد التركيب الكيميائي لنجمٍ ما، حتى وإن كان يقع على بُعد آلاف السنين الضوئية، أحدَ أسهل خصائصه التي يمكن رصدها. وإذا كنت لا ترغب في معرفة الكثير جدًّا من التفاصيل، فإنَّ الأمر نفسه ينطبق على المجرات التي تقع على بُعد ملايين السنين الضوئية. يمكننا أيضًا أن نعرف الكثير عن الأغلفة الجوية للكواكب التي تسطع عن طريق ضوء النجوم المنعكس.
تثير النجوم الكثير من الأسئلة علاوةً على الأسئلة المتعلقة بتركيبها. ما النجوم، وكيف تضيء، وكيف تتطور، وما المسافة التي تبعدها؟ من خلال الجمع بين الملاحظات والأنماط الرياضية، استنتج العلماء إجابات عن كل هذه الأسئلة، بالرغم من أنَّ زيارة نجم أمرٌ محال في واقع الأمر بالتقنيات المتاحة اليوم. أما الحفر بداخل أحدها فهو أمر أصعب كثيرًا.
•••
جاء الاكتشاف الذي حطَّ من قيمة مثال كونت مصادفة. بدأ جوزيف فراونهوفر حياته العملية متدربًا لصناعة الزجاج، وكاد أن يلقى حتفه حين انهارت ورشته. غير أنَّ ماكسيميليان الرابع جوزيف، الأمير المنتخب لبافاريا، أنقذ الشاب وأُعجِب به؛ فموَّل تعليمه. صار فراونهوفر خبيرًا في صناعة الزجاج للآلات البصرية، وأصبح بعد ذلك مديرًا لمعهد البصريات في بينيديكتبيورن. بنى العديد من التلسكوبات العالية الدقة والمجاهر، لكنَّ إنجازه العلمي الأكثر تأثيرًا جاء في عام ١٨١٤ حين اخترع آلة جديدة هي منظار التحليل الطيفي.
عمل نيوتن في مجال البصريات إضافة إلى عمله في مجال الميكانيكا والجاذبية، واكتشف أنَّ المنشور يقسم الضوء الأبيض إلى الألوان المكوِّنة له. توجد طريقة أخرى لتقسيم الضوء هي استخدام محزز الحيود، وهو سطحٌ مستوٍ يحتوي على خطوط محززة متقاربة. تتداخل موجات الضوء المنعكسة من محزز الحيود بعضها مع بعض. وتشير هندسة الموجات إلى أنَّ الضوء عند طول موجي محدَّد (أو تردُّد ما؛ أي سرعة الضوء مقسومة على الطول الموجي) ينعكس بأقوى صورة عند زوايا محددة. عند هذه الزوايا، تتزامن قمم الموجات فتعزز إحداها الأخرى. على العكس من ذلك، لا ينعكس أي ضوء على الإطلاق تقريبًا عند الزوايا التي تتداخل عندها الموجات على نحوٍ تحطيمي؛ إذ تلتقي قمة إحدى الموجات بقاع موجة أخرى. جمع فراونهوفر بين المنشور ومحزز الحيود والتلسكوب لابتكار آلة يمكن أن تقسم الضوء إلى مكوناته وتقيس أطوالها الموجية بدقة عالية.
من بين اكتشافاته الأولى أنَّ الضوء المنبعث من نارٍ يتسم بدرجة لون برتقالية مميِّزة له. تساءل فراونهوفر عمَّا إذا كانت الشمس في جوهرها كرةً من النار؛ فوجَّه منظاره الطيفي إليها بحثًا عن ضوءٍ يتسم بذلك الطول الموجي. وبدلًا من ذلك، رصد طيفًا كاملًا من الألوان مثلما حدث مع نيوتن من قبل، لكنَّ آلته كانت شديدة الدقة حتى إنها كشفت عن وجود خطوط سوداء غامضة عند العديد من الأطوال الموجية. كان ويليام ولاستون قد لاحظ وجود ستة من هذه الخطوط في وقت سابق، أما فراونهوفر فقد وجد ٥٧٤ خطًّا في نهاية المطاف.
بحلول العام ١٨٥٩، كان الفيزيائي جوستاف كيرشوف والكيميائي روبرت بنزن الذي اشتُهِر بموقده، قد أوضحا أنَّ هذه الخطوط تظهر لأنَّ ذرات العديد من العناصر تمتص الضوء الصادر عن أطوال موجية معينة. لقد اختُرِع موقد بنزن لقياس هذه الأطوال الموجية في المختبر. إذا كنت تعرف الأطوال الموجية التي ينتجها البوتاسيوم على سبيل المثال، ووجدت خطًّا مناظِرًا في طيف الشمس، فلا بد أنَّ الشمس تحتوي على البوتاسيوم. طبَّق فراونهوفر هذه الفكرة على «سيريس»، ورصد بها أول طيف نجمي. حين نظر إلى نجوم أخرى، لاحظ أنَّ لديها أطيافًا مختلفة. لقد كان أثر ذلك عظيمًا؛ إذ لم يكن يعني أننا نستطيع معرفةَ ما تتركب منه النجوم فحسب؛ بل يعني أيضًا أنَّ النجوم المختلفة تتركب من أشياء مختلفة.
وُلِد فرع جديد من فروع علم الفلك هو التحليل الطيفي النجمي.
ثمَّة آليتان أساسيتان تشكلان الخطوط الطيفية. يمكن للذرات أن تمتص الضوء الصادر عن طول موجي معيَّن فتشكِّل بذلك خط امتصاص، أو يمكن أن تبعثه فتشكِّل خط انبعاث. فاللون الصفراوي المميِّز لمصابيح الصوديوم المستخدمة في إضاءة الشوارع، هو خط انبعاث الصوديوم. من خلال العمل معًا في بعض الأحيان، أو عمل كل بمفرده في أحيان أخرى، استخدم كيرشوف وبنزن أسلوبهما لاكتشاف عنصرين جديدين هما السيزيوم والروبيديوم. بعد ذلك بفترة قصيرة، تفوَّق عليهما فلكيان آخران هما جول يانسن ونورمان لوكير؛ إذ اكتشفا عنصرًا، لم يكن قد اكتُشِف على الأرض إطلاقًا في ذلك الوقت.
•••
ولاختصار قصة طويلة، سنكتفي بالقول إنَّ الجهود المجتمعة لهؤلاء العلماء قد أدت إلى اكتشاف ثاني أكثر العناصر شيوعًا في الكون بعد الهيدروجين. غير أنَّ الهيليوم ليس شائعًا «هنا». فنحن نحصل على القدر الأكبر منه من خلال تقطير الغاز الطبيعي. للهيليوم العديد من الاستخدامات العلمية المهمة، مثل بالون الطقس، وفيزياء درجة الحرارة المنخفضة، وماسحات التصوير بالرنين المغناطيسي التي تُستخدم للأغراض الطبية. ومن المحتمل أن يُستخدم أيضًا وقودًا أساسيًّا في مفاعلات الاندماج إذا تمكَّن العلماء من استخدامه بنجاح؛ إذ إنه رخيص ويُعد أحد أشكال الطاقة الآمنة نسبيًّا. فعلامَ نهدر هذا العنصر الضروري؟ البالونات اللعبة في حفلات الأطفال.
يوجد معظم الهيليوم في النجوم والغيوم الغازية فيما بين النجوم. ذلك أنه قد تشكَّل في الأصل في المراحل الأولى من الانفجار العظيم، وهو أيضًا الناتج الأساسي لتفاعلات الاندماج في النجوم. ونحن لا نراه في الشمس لأنها لا تتكوَّن منه فحسب، إضافةً إلى الكثير من الهيدروجين والكثير من العناصر الأخرى بكميات أقل: إنه يصنعها من الهيدروجين.
تتكوَّن ذرة الهيدروجين من بروتون واحد وإلكترون واحد. وتتكوَّن ذرة الهيليوم من اثنين من البروتونات واثنين من النيوترونات واثنين من الإلكترونات، ويلغي جسيم ألفا الإلكترونين. في النجوم، تُنزع الإلكترونات وتقتصر التفاعلات على نواة الذرة. وفي باطن الشمس حيث تبلغ درجة الحرارة ١٤ مليون كلفن، تنسحق أربع ذرات من الهيدروجين معًا؛ أي أربعة بروتونات، بفعل قوى الجاذبية الضخمة. تتحد هذه البروتونات معًا لتكوين جسيم ألفا واحد، واثنين من أجسام البوزيترون واثنين من أجسام النيوترينو، والكثير من الطاقة. يسمح اثنان من أجسام البوزيترون بأن يتحول اثنان من البروتونات إلى اثنين من النيوترونات. ينبغي لنا أن نتناول مكوِّن الكواركات عند مستوًى أعمق، لكنَّ هذا الوصف يكفي. إنَّ تفاعلًا مشابهًا لهذا يؤدي إلى انفجار «قنبلة هيدروجينية» بقوة مدمِّرة، وتنطلق الطاقة بسبب هذا التفاعل، لكنها تتضمن نظائر أخرى للهيدروجين: الديوتريوم والتريتيوم.
•••
إنَّ المراحل الأولى من فرع جديد في العلوم شديدةُ الشبه بجمع الفراشات: أمسِك بكلِّ ما تستطيع الإمساك به، ثم حاول ترتيب عيناتك على نحوٍ منطقي. قام علماء التحليل الطيفي بجمع الأطياف النجمية، وصنَّفوا النجوم وفقًا لها. في عام ١٨٦٦، استخدم أنجلو سيكي الأطياف لتقسيم النجوم إلى ثلاث فئات مختلفة وفقًا لألوانها السائدة على وجه التقريب: فئة الأبيض والأزرق، وفئة الأصفر والبرتقالي، وفئة الأحمر. وبعد ذلك أضاف فئتين أخريين.
يرتبط لمعان النجم بحجمه، وتتخذ فئات اللمعان المختلفة أسماءً تبدأ من العمالقة الفائقة، إلى العمالقة الضخمة، إلى العمالقة، ثم أشباه العمالقة، ثم الأقزام (أو نجوم النسق الأساسي)، ثم أشباه الأقزام. وبهذا، يمكن وصف أحد النجوم بأنه عملاق أزرق، أو قزم أحمر، وما إلى ذلك.
لم يستسلم علماء الفلك حتى ثلاثينيات القرن العشرين؛ إذ أدركوا أنَّ النجوم تكتسب معظم طاقتها من التفاعلات النووية لا انهيار الجاذبية، وأنَّ المسار التطوري المقترَح خاطئ. ووُلِد مجال جديد من مجالات العلوم هو الفيزياء الفلكية. يوظِّف هذا المجال النماذج الرياضية المعقَّدة في تحليل ديناميكيات النجوم وتطورها بدايةً من لحظة الميلاد إلى لحظة الموت. وتُستَخلص المكونات الأساسية لهذه النماذج من الفيزياء النووية وعلم الديناميكا الحرارية.
لقد تعرفنا في الفصل الأول على كيفية تشكُّل النجوم حين تنهار غيمة بدائية شاسعة من الغاز تحت وطأة جاذبيتها. وقد ركزنا حينها على الجزء المتعلق بالديناميكا، لكنَّ التفاعلات النووية تضيف تفاصيل جديدة. يصدر الانهيار طاقة جذبوية تؤدي إلى تسخين الغاز لتشكيل نجم بدائي يتمثَّل في جسم شبيه بالكرة من الغاز الدوَّار. والمكوِّن الأساسي له هو الهيدروجين. إذا بلغت درجة الحرارة عشرة ملايين درجة كلفينية، فستبدأ أنوية الهيدروجين-البروتونات في الاندماج معًا؛ فتنتج الديوتيريوم والهيليوم. إنَّ النجوم البدائية التي تقل كتلتها الابتدائية عن ٠٫٠٨ من كتلة شمسنا لا تبلغ هذه الدرجة من السخونة أبدًا، وتفتر لتشكِّل أقزامًا بنية. تسطع هذه النجوم على نحوٍ خافت بفعل ضوء اندماج الديوتيريوم في الغالب، ثم تختفي.
أما النجوم التي تبلغ الدرجة الكافية من السخونة للسطوع، فهي تبدأ باستخدام تفاعل بروتون-بروتون المتسلسل. في البداية، يندمج اثنان من البروتونات معًا لتكوين ثنائي البروتون (هو شكل خفيف من الهيليوم)، وفوتون واحد. بعد ذلك، يطلق أحد البروتونات في ثنائي البروتون، بوزيترون واحد ونيوترينو واحد ويصبح نيوترونًا، والآن يصير لدينا نواة ديوتيريوم. وبالرغم من أنَّ هذه الخطوة بطيئة نسبيًّا، فهي تصدر مقدارًا صغيرًا من الطاقة. يتصادم البوزيترون مع أحد الإلكترونات، ويفني أحدهما الآخر لتشكيل اثنين من الفوتونات وقدرٍ أكبر قليلًا من الطاقة. بعد أربع ثوانٍ تقريبًا، تندمج نواة الديوتيريوم مع بروتون آخر لتشكيل نظير للهيليوم، هو الهيليوم-٣، ويصدر حينها مقدارٌ أكبر كثيرًا من الطاقة.
في هذه المرحلة، توجد ثلاثة خيارات. يؤدي الخيار الأساسي إلى اندماج اثنتين من أنوية الهيليوم-٣ لتشكيل هيليوم-٤ اعتيادي، إضافةً إلى نواتي هيدروجين مع مقدار أكبر وأكبر من الطاقة. تستخدم الشمس هذا المسار في ٨٦٪ من الوقت. يؤدي الخيار الثاني إلى تشكيل نواة البيريليوم، الذي يتحول إلى الليثيوم الذي يندمج مع الهيدروجين لتكوين الهيليوم. وتنطلق العديد من الجسيمات الأخرى أيضًا. تستخدم الشمس هذا المسار في ١٤٪ من الوقت. أما المسار الثالث، فهو يتضمن نواة البيريليوم والبورون، وتستخدمه الشمس في ٠٫١١٪ من الوقت. يوجد خيار رابع من الناحية النظرية، وهو يتمثَّل في اندماج الهيليوم-٣ مع الهيدروجين لتكوين الهيليوم-٤ مباشرةً، لكنه نادر للغاية حتى إنه لم يُرصَد قط.
يمثل علماء الفيزياء الفلكية هذه التفاعلات من خلال معادلات على غرار:
إذا كانت كتلة النجم عُشر حجم الشمس، فإنه يظل في النسق الأساسي لفترة تتراوح من ٦ إلى ١٢ تريليون عام، ثم يصبح قزمًا أبيض في نهاية المطاف.
وإذا كان النجم في حجم الشمس فإنه يكوِّن باطنًا من الهيليوم الخامل محاطًا بطبقة لاحتراق الهيدروجين. يؤدي هذا إلى تمدد النجم، ومع انخفاض درجة حرارة طبقاته الخارجية، يصبح عملاقًا أحمر. ينهار القلب إلى أن تصبح مادته متحللة. يطلق الانهيار مقدارًا من الطاقة يؤدي إلى زيادة درجة حرارة الطبقات المحيطة التي تبدأ في نقل الحرارة بالحمل بدلًا من إشعاعها فحسب. تصبح الغازات مضطربة وتتدفق من القلب باتجاه السطح، ثم تتدفق ثانية في طريق العودة. وبعد مليار عام تقريبًا، يصبح باطن الهيليوم المتحلل ساخنًا للغاية حتى إنَّ أنوية الهيليوم تندمج لتكوين الكربون، إضافةً إلى البيريليوم بصفته وسيطًا قصير الأجل. وفقًا لعوامل أخرى، يمكن للنجم أن يتطور حينها إلى عملاق مقارب. بعض النجوم من هذا النوع تتذبذب ويتناوب فيها التمدد والانكماش، وتتذبذب درجات الحرارة فيها أيضًا. وفي نهاية المطاف، يبرد النجم ويتحول إلى قزم أبيض.
لا يزال أمام الشمس ٥ مليارات عام تقريبًا قبل أن تصبح عملاقًا أحمر. في تلك المرحلة، ستبتلع الشمس عطارد والزهرة مع تمددها. وعند تلك النقطة، ستتحرك الأرض على الأرجح في مدار خارج سطح الشمس فحسب، لكنَّ القوى المدية والاحتكاك مع الغلاف اللوني ستبطئ من حركتها. وستُبتَلَع هي أيضًا في نهاية المطاف. لن يؤثر ذلك على مستقبل الجنس البشري؛ إذ إنَّ متوسط حياة النوع لا يزيد عن بضعة ملايين الأعوام فحسب.
إذا كان النجم ضخمًا بالدرجة الكافية؛ أي أكبر كثيرًا من الشمس، فإنه يبدأ في دمج الهيليوم قبل أن يتحلل باطنه، وينفجر ليشكل مستعرًا أعظم. وإذا كانت كتلة النجم تزيد عن ٤٠ ضعفًا من كتلة الشمس، فإنه يدفع القدر الأكبر من مادته بعيدًا بفعل ضغط الإشعاع، ويظل ساخنًا للغاية، ويبدأ في سلسلة من المراحل يُستعاض فيها عن العنصر الأساسي في باطنه، بعنصر آخر أعلى منه درجة في الجدول الدوري. يصبح باطن النجم مقسَّمًا إلى طبقات متحدة المركز: الحديد، والسيليكون، والأكسجين، والنيون، والكربون، والهيليوم، والهيدروجين. يمكن أن ينتهي الأمر بأن يصبح باطن النجم قزمًا أبيض أو قزمًا أسود، وهو قزم أبيض فقد الكثير جدًّا من الطاقة حتى إنه يتوقف عن السطوع. أما إذا كان الباطن المتحلل ضخمًا بالدرجة الكافية فإنه قد يكوِّن نجمًا نيوترونيًّا، أو ثقبًا أسود في بعض الحالات النادرة (انظر الفصل الرابع عشر).
أؤكد مرةً أخرى أنَّ التفاصيل غير مهمة في هذا السياق، وقد عرضتُ شجرة معقَّدة من التواريخ التطورية المحتملة بتبسيط كبير. تحكم النماذج الرياضية التي يستخدمها علماء الفيزياء الفلكية نطاق الاحتمالات، وترتيب ظهورها، والظروف التي تؤدي إليها. فكل تلك المجموعة الثرية من النجوم التي تتنوع في أحجامها ودرجات حرارتها وألوانها، يجمع بينها أصل مشترك: الاندماج النووي الذي يبدأ من الهيدروجين، ويخضع لقوى ضغط الإشعاع والجاذبية المتنافسة.
ومن الخيوط الأساسية التي تمر في القصة بأكملها هو تحويل الاندماج لأنوية الهيدروجين البسيطة إلى أنوية أكثر تعقيدًا: الهيليوم والبيريليوم والليثيوم والبورون وغير ذلك.
ويقودنا هذا الخيط إلى سبب آخر لأهمية النجوم.
•••
غنَّت جوني ميتشل: «نحن غبار النجوم». إنه قول شائع مبتذل، غير أنَّ الأقوال الشائعة غالبًا ما تكون صحيحة. وقد عبَّر آرثر إيدينجتون عن الأمر نفسه سابقًا في «نيويورك تايمز ماجازين»؛ إذ قال: «إننا أجزاء من مواد النجوم التي بردت مصادفةً، نحن أجزاء من النجوم اتخذت الاتجاه الخاطئ.» فلتحاول توفيق «ذلك» على الموسيقى.
وفقًا للانفجار العظيم، كانت «النواة» الوحيدة لعنصرٍ ما في بدايات الكون هي نواة الهيدروجين. وفي فترة تتراوح بين ١٠ ثوانٍ و٢٠ دقيقة بعد ظهور الكون، وباستخدام تفاعلات كتلك التي وصفناها للتو، شكَّل التخليق النووي في الانفجار العظيم الهيليوم-٤، إضافةً إلى كميات ضئيلة من الديوتيريوم، والهيليوم-٣، والليثيوم ٧. ظهر التريتيوم الإشعاعي القصير الأجل أيضًا، وكذلك البيريليوم-٧، لكنهما سرعان ما اضمحلا.
كان الهيدروجين وحده كافيًا لتشكيل الغيوم الغازية التي انهارت لتكوين النجوم البدائية، ومن ثمَّ النجوم. وُلِدت المزيد من العناصر في الاضطرابات النووية العظيمة بداخل النجوم. في عام ١٩٢٠، اقترح إيدينجتون أنَّ النجوم تستمد طاقتها من اندماج الهيدروجين إلى الهيليوم. وفي عام ١٩٣٩، درس هانز بيته تفاعل بروتون-بروتون المتسلسل وغيره من التفاعلات النووية التي تجري في النجوم، فمنح نظرية إيدينجتون مزيدًا من التفاصيل. وفي أربعينيات القرن العشرين، جادل جورج جاموف بأنَّ جميع العناصر بأكملها تقريبًا قد تشكَّلت أثناء الانفجار العظيم.
توقَّفت القصة في ذلك الوقت عند نواة الحديد؛ لأنها أضخم نواة يمكن أن تنتج من عملية احتراق السيليكون، وهي سلسلة من التفاعلات التي تبدأ بالسيليكون. يؤدي الاندماج المتكرر مع الهيليوم إلى إنتاج الكالسيوم، ثم يؤدي بعد ذلك من خلال سلسلة من نظائر التيتانيوم غير المستقرة، إلى إنتاج الكروم والحديد والنيكل. يشكِّل النظير، نيكل-٥٦، حاجزًا يعوق المزيد من التقدم؛ إذ إنَّ حدوث خطوة أخرى من اندماج الهيليوم سيستهلك الطاقة بدلًا من إنتاجها. ينحل نظير النيكل إلى النظير المشع كوبلت -٥٦، الذي يتحول إلى النظير المستقر، حديد-٥٦.
لإنتاج عناصر أكبر من الحديد، كان على الكون أن يخترع خدعة جديدة.
المستعرات العظمى.
يُعرَّف المستعر الأعظم بأنه نجم منفجر. وثمَّة شكل أقل نشاطًا يُعرف باسم المستعر سيحيد بنا عن الموضوع. رأى كيبلر أحد المستعرات عام ١٦٠٤، وهو آخر مستعر قد لوحظ حدوثه في المجرة، بالرغم من العثور على بقايا لاثنين آخرين أحدث منه. يُعد المستعر الأعظم في جوهره نسخة عنيفة من انفجار قنبلة نووية، وحين يحدث هذا يغمر النجم المجرة بضيائه. يصدر عن هذا الانفجار قدرٌ هائل من الإشعاع يساوي ما تصدره الشمس على مدار حياتها. ثمَّة سببان لهذا. يمكن لقزمٍ أبيض أن يكتسب قدرًا إضافيًّا من المادة من خلال ابتلاع نجم قرين، مما يزيد من درجة حرارته وينشِّط اندماج الكربون، «يستمر» هذا الاندماج دون رقابة فينفجر النجم. أما السبب الآخر، فهو أن ينهار باطن نجم ضخم للغاية، وتحفِّز الطاقة الصادرة مثل ذلك الانفجار.
في كلتا الحالتين، يتمزق النجم إلى أجزاء في مِعشار سرعة الضوء، مما يشكل موجة صدمية. يؤدي هذا إلى جمع الغاز والغبار؛ فيتكون غلاف نامٍ، تلك هي بقايا المستعر الأعظم. وتلك هي الطريقة التي تكوَّنت بها عناصر الجدول الدوري الأكبر من الحديد، وانتشرت على مسافات تمتد عبر المجرات.
لقد ذكرتُ أنَّ نِسب العناصر التي تتنبأ بها النظرية تتطابق «في معظمها» مع الملاحظات. ثمَّة استثناء بارز هو الليثيوم: فالكمية الفعلية من ليثيوم-٧ لا تزيد عن ثُلث ما تتنبأ به النظرية، بينما يوجد آلاف الأضعاف الإضافية من ليثيوم-٦. يعتقد بعض العلماء أنَّ ذلك خطأ طفيف يمكن إصلاحه على الأرجح من خلال إيجاد مسارات جديدة أو تصورات جديدة لتشكُّل الليثيوم. ويعتقد علماء آخرون أنها مشكلة خطيرة قد تستلزم نظريات فيزيائية جديدة تتجاوز حدود الانفجار العظيم.
إنَّ هذه الاستجابة بشأن تباين الليثيوم تثير مشكلةً محتملة مع تنبؤات نظرية التخليق النووي في الانفجار العظيم. لنفترض أنك تحسب وفرة العديد من العناصر. من المرجح أنَّ التفاعلات النووية الأكثر شيوعًا تفسِّر ما حدث بالفعل، مما يؤدي إلى قيم لا تختلف كثيرًا عن الواقع في معظم الأحيان. والآن، تبدأ بالعمل على أوجه التباين. القليل جدًّا من الكبريت؟ حسنًا، فلنكتشف مسارات جديدة للكبريت. حين نفعل ذلك، وتبدو الأعداد مواتية وأننا قد حللنا أمر الكبريت، ننتقل إلى الزنك. غير أننا لا نستمر في البحث عن مسارات جديدة للكبريت. لست أعني أنَّ أحدًا يفعل ذلك الأمر عمدًا، لكنَّ حوادث التسجيل الانتقائي من هذا النوع معتادة جدًّا، وقد حدثت في مجالات أخرى في العلوم. ربما لا يكون الليثيوم هو المثال الوحيد على التباين. وعند التركيز على الحالات التي تكون فيها النسب ضئيلة للغاية، قد نغفل بعض الحالات التي يمكن أن تكون النسب فيها كبيرة للغاية من خلال إجراء عملية حسابية موسعة.
من السمات الأخرى للنجوم التي تعتمد اعتمادًا كبيرًا على النماذج الرياضية، بنيتها التفصيلية. يمكن وصف غالبية النجوم في مرحلة محددة من تطورها بأنها مجموعة من الأغلفة متحدة المركز. لكل غلاف منها تركيبه المميز، وهو «يحترق» بالتفاعلات النووية الملائمة. بعض الأغلفة يستقبل الإشعاع الكهرومغناطيسي، وتشع الحرارة إلى الخارج. وبعضها الآخر لا يفعل ذلك، وتُنقَل الحرارة فيه من خلال الحَمل. ترتبط هذه الاعتبارات البنيوية ارتباطًا وثيقًا بتطور النجوم والكيفية التي تُخلِّق بها العناصر الكيميائية.
•••
هذا ما لم تكن طاقة الكربون قريبة للغاية من طاقة البيريليوم-٨ والهيليوم مجتمعتَين. يمثل هذا رنينًا نوويًّا، وقد قاد هويل إلى التنبؤ بحالةٍ من حالات الكربون لم تكن معروفة آنذاك، وهي تحدث عندما تساوي الطاقة ٧٫٦ ميجا إلكترون فولت؛ أي أعلى من أكثر حالات الطاقة انخفاضًا. بعد ذلك ببضع سنوات، اكتُشِفت حالة أخرى عند طاقة تبلغ ٧٫٦٥٤٩ ميجا إلكترون فولت. غير أنَّ مجموع طاقة البيريليوم-٨ والهيليوم يساوي ٧٫٣٦٦٧ ميجا إلكترون فولت؛ ومن ثمَّ فإنَّ حالة الكربون حديثة الاكتشاف تتضمن طاقة أعلى بعض الشيء.
فمن أين تأتي هذه الطاقة؟ إنها تساوي كمية الطاقة نفسها تقريبًا التي توفرها درجة حرارة عملاق أحمر.
لا بد أنَّ عقلًا يتمتع بقدرات حسابية فائقة قد صمَّم خواص ذرة الكربون، وإلا فستكون احتمالية إيجاد مثل هذه الذرة عبر قوى الطبيعة العمياء ضئيلة للغاية. ويشير التأويل المنطقي للحقائق إلى أنَّ عقلًا فائقًا قد تلاعب بالفيزياء والكيمياء والأحياء أيضًا، وأنه ما من قوى عمياء في الطبيعة تستحق الذكر.
يبدو الأمر لافتًا، ولا يمكن أن يكون مصادفة بالطبع. وهو ليس كذلك بالفعل. غير أنَّ السبب يكشف زيف الضبط الدقيق. فلكل نجم ضابط حراري خاص به يتمثَّل في حلقة تغذية راجعة سلبية حيث يعدِّل كلٌّ من درجة الحرارة والتفاعل من أحدهما الآخر كي يتلاءما. وهذا الرنين «المضبوط بدقة» في تفاعل ألفا الثلاثي، ليس بأكثر روعة من نيران حارقة للفحم في درجة الحرارة الملائمة لذلك تمامًا. وهذا هو ما تفعله حرائق الفحم. الحق أنه ليس أكثر روعة من كون أرجلنا بالطول المناسب لبلوغ الأرض. فتلك حلقة تغذية راجعة أيضًا: العضلات والجاذبية.
لقد كان تصرفًا سيئًا من هويل بعض الشيء أن يصوغ تنبؤه في سياق الوجود البشري. فالنقطة الفعلية هي أنَّ «الكون» يحتوي على قدر ضئيل للغاية من الكربون. لا يزال من المدهش بالطبع أنَّ العمالقة الحمراء والأنوية الذرية توجد على الإطلاق، وأنها تصنع الكربون من الهيدروجين، وأنَّ بعض الكربون يدخل في تركيبنا في نهاية المطاف. غير أنَّ هاتين قضيتان مختلفتان تمامًا. فالكون بالغ التعقيد والثراء، وجميع أنواع الأمور الرائعة تحدث فيه. ومع ذلك، لا ينبغي أن نخلط بين النتائج والأسباب، ونتخيل أنَّ الغرض من الكون هو صناعة البشر.
من الأسباب التي دعتني إلى ذكر ذلك (بخلاف كرهي لادعاءات الضبط الدقيق المبالَغ فيها) هي أنَّ القصة كلها قد صارت غير ذات صلة بعد اكتشاف طريقة جديدة تصنع النجوم بها الكربون. ففي عام ٢٠٠١، اكتشف إريك فايجلسن وزملاء له ٣١ من النجوم الحديثة السن في سديم الجبار. جميع هذه النجوم في حجم الشمس تقريبًا، لكنها بالغة النشاط حتى إنَّ وهج الأشعة السينية الذي تطلقه أقوى من الوهج الشمسي اليوم بمائة ضعف، وهي تطلقه بتتابع يزيد مائة ضعف أيضًا. وتكفي طاقة البروتونات الموجودة في هذه التوهجات لتشكيل جميع أنواع العناصر الثقيلة في قرص من الغبار حول النجم. إذن، فلا حاجة لوجود مستعر أعظم للحصول عليها. ويشير هذا إلى أننا نحتاج إلى مراجعة الحسابات المتعلقة بنشأة العناصر الكيميائية بما فيها الكربون. فربما تكون النتائج التي تبدو مستحيلة نابعة من فقر الخيال البشري فحسب. وربما تتغير النسب التي تبدو صحيحة إذا منحناها المزيد من التفكير.
•••
كان فلاسفة اليونان يرون أنَّ الشمس تجسيد مثالي للهندسة السماوية، كرة لا تشوبها شائبة. غير أنَّ الفلكيين الصينيين القدماء حين رأوها عبر الضباب، رأوا أنها مرقَّطة. لاحظ كيبلر بقعة على الشمس عام ١٦٠٧، لكنه ظنَّ أنها المريخ في مروره بالشمس. وفي عام ١٦١١، نشر يوهانس فابريتسيوس «تعليق على البقع المرصودة على الشمس، ودورانها الواضح مع الشمس» الذي يفصح عنوانه عن فحواه. وفي عام ١٦١٢، رصد جاليليو بقعًا داكنة على الشمس، وسجَّلها في رسومات توضح أنَّها تتحرك، مما يؤكد زعم فابريتسيوس بدوران الشمس. إنَّ وجود البقعة الشمسية قد هدم الاعتقاد الراسخ بمثالية الشمس، وأشعل نزاعًا ساخنًا على الأسبقية.
يختلف عدد البقع الشمسية من عام إلى عام، لكنها تتسم بنمط منتظم نسبيًّا يتمثَّل في دورة تمتد على مدار ١١ عامًا، وهي تبدأ بعدم وجود بقع تقريبًا، إلى مائة بقعة أو أكثر في العام. شهد هذا النمط خللًا في الفترة من ١٦٤٥ إلى ١٧١٥؛ إذ لم يُرَ سوى عدد قليل للغاية من البقع. تُعرف هذه الفترة باسم «حد موندر الأدنى».
تبدو البقعة الشمسية داكنة مقارنةً بمحيطها فحسب؛ إذ تبلغ درجة حرارة البقعة الشمسية ٤٠٠٠ درجة كلفن، بينما تبلغ درجة الغازات من حولها ٥٨٠٠ درجة كلفن. إنها تشبه عواصف مغناطيسية في البلازما الشمسية الفائقة السخونة. تخضع قواعدها الرياضية للديناميكا المغناطيسية، وهو علم دراسة البلازما المغناطيسية الذي يتسم بالتعقيد الشديد. تبدو البقع الشمسية على أنها الأطراف العليا لأنابيب الفيض المغناطيسي، والتي تنشأ في أعماق الشمس.
عادةً ما يكون المجال المغناطيسي للشمس ثنائي القطبين كقضيب من المغناطيس له قطب شمالي وآخر جنوبي، بينما تتدفق خطوط المجال من أحدهما إلى الآخر. يقع القطبان بمحاذاة محور الدوران، وفي أثناء الدورة المعتادة للبقع الشمسية، تتجه الأقطاب إلى الاتجاه المعاكس كل ١١ عامًا. إذن، فالقطب المغناطيسي الذي يقع في «النصف الشمالي» من الشمس، يكون هو القطب المغناطيسي الشمالي أحيانًا، ويكون جنوبيًّا في أحيان أخرى. عادةً ما تظهر البقع الشمسية في صورة أزواج يتصل أحدها بالآخر، مع وجود مجال يشبه قضيبًا مغناطيسيًّا يتخذ اتجاه الشرق-الغرب. تتخذ البقعة التي تظهر أولًا اتجاه القطبية الذي يتخذه أقرب قطبي المجال المغناطيسي الأساسي، بينما تتخذ البقعة الثانية التي تتذيل في الخلف، اتجاه القطبية المعاكس.
ينتج المولِّد الشمسي الذي يدفع مجالها المغناطيسي بسبب الأعاصير الحملية التي تحدث في أبعد ٢٠٠ ألف كيلومتر من الشمس إلى الخارج، وذلك بالتزامن مع كيفية دوران النجم: أسرع عند خط الاستواء منه عند القطبين. تكون المجالات المغناطيسية في البلازما «محصورة»، وغالبًا ما تتحرك معها؛ ومن ثمَّ فإنَّ المواقع الابتدائية لخطوط المجال، والتي تلتف بين القطبين بزوايا قائمة على خط الاستواء، تبدأ في الاستقرار؛ إذ تسحبها المنطقة الاستوائية أمام الخطوط القطبية. يؤدي هذا إلى التواء خطوط المجال من خلال ضفر مجالات متضادة في قطبيتها. ومع دوران الشمس، تصبح خطوط المجال مشدودة للغاية، وحين يصل الإجهاد إلى القيمة الحرجة، تتجعَّد الأنابيب وتصطدم بالسطح. تتمدد خطوط المجال، وتنجرف البقع الشمسية المرتبطة بها نحو القطب. تصل البقعة المتذيلة إلى القطب أولًا، ولأنها تتخذ القطبية المعاكسة، تتسبب بمساعدة العديد من الأحداث المشابهة، في تغيير اتجاه المجال المغناطيسي للشمس. وتتكرَّر الدورة بمجال معكوس.
يمكن لخطوط المجال التي تشق طريقها فوق طبقة الغلاف الضوئي أن تشكِّل شواظًا شمسيًّا، وهي عبارة عن حلقات ضخمة من الغاز الساخن. يمكن لهذه الحلقات أن تنفصل ثم تتصل من جديد، مما يسمح للبلازما وخطوط المجال المغناطيسي أن تهب بعيدًا مع الرياح الشمسية. يؤدي هذا إلى ظهور الوهج الشمسي الذي يمكن أن يتسبَّب في تعطيل الاتصالات وتدمير شبكات الطاقة الكهربية والأقمار الاصطناعية. وكثيرًا ما يُتبَع ذلك بانبعاثات الكتلة الإكليلية الشمسية؛ إذ تنطلق كميات ضخمة للغاية من المادة من الإكليل، وهو منطقة رقيقة خارج الغلاف الضوئي، ويُرى بالعين خلال الكسوف الشمسي.
•••
ثمَّة سؤال أساسي هو: ما المسافة التي تبعدها عنا النجوم؟ والحق أنَّ السبب الوحيد الذي يمكِّننا من معرفة الإجابة بخصوص أي شيء يقع على مسافة تزيد على بضع عشرات من السنين الضوئية؛ يعتمد أيضًا على الفيزياء الفلكية، وإن كانت الملاحظة الأساسية تجريبيَّة في بادئ الأمر. لقد وجدت هنريتا ليفيت شمعة قياسية، وجعلتها معيارًا للنجوم.
في القرن السادس قبل الميلاد، قدَّر الفيلسوف وعالم الرياضيات اليوناني، طاليس، ارتفاع أحد الأهرامات المصرية باستخدام الهندسة من خلال قياس ظل الهرم، وظله الخاص. كانت النسبة بين ارتفاع الهرم وطول ظله هي النسبة نفسها بين ارتفاع طاليس وطول ظله «الخاص». يمكن قياس ثلاثة من هذه الأطوال بسهولة؛ ومن ثمَّ يمكن معرفة الطول الرابع. لقد كانت طريقته المبتكرة مثالًا بسيطًا على ما نسميه اليوم بعلم حساب المثلثات. فهندسة المثلثات تربط بين زواياها وأضلاعها. طوَّر الفلكيون العرب هذه الفكرة لصنع الآلات، واستُخدِمَت مرةً أخرى على الأرض في إسبانيا في العصور الوسطى لمسح الأرض. فمن الصعب قياس المساحات؛ إذ كثيرًا ما توجد معوقات في الطريق، لكنَّ الزوايا يسهل قياسها. يمكنك استخدام عمود وخيط، أو مِهْداف تلسكوبي، وهو الأفضل، لقياس اتجاه جسم بعيد. تبدأ بقياس خطٍّ معروف للقاعدة بدقة كبيرة. بعد ذلك تقيس الزاويتَين بدايةً من أي الطرفين إلى نقطة أخرى وتحسب المسافتين إلى تلك النقطة. الآن صار لديك طولان آخران معروفان؛ ومن ثمَّ تستطيع تكرار هذه العملية؛ أي «تثليث» المساحة التي ترغب في تخطيطها، وتحسب جميع المسافات من خط القاعدة المقيس فحسب.
اشتهر إيراتوستينس باستخدام الهندسة لحساب حجم الأرض من خلال النظر في بئر. لقد قارن بين زاوية منتصف النهار في الإسكندرية وفي سين (أسوان حاليًّا)، وحسب المسافة بينهما من الوقت الذي تستغرقه الجِمال في السفر من إحداهما إلى الأخرى. وبمعرفة حجم الأرض، يمكنك رصد القمر من موقعَين مختلفَين واستنتاج المسافة إلى القمر. بعد ذلك، يمكنك استخدام هذا لمعرفة المسافة إلى الشمس.
كيف؟ قرابة العام ١٥٠ قبل الميلاد، أدرك هيبارخوس أنه حين يكون القمر في طور التربيع تحديدًا، يتعامد الخط الواصل من القمر إلى الشمس على الخط الواصل من الأرض إلى القمر. وعند قياس الزاوية التي تقع بين خط القاعدة هذا وبين الخط الواصل من الأرض إلى الشمس، تستطيع حساب المسافة التي تبعدها الشمس. وقد كان تقديره الذي بلغ ثلاثة ملايين كيلومتر صغيرًا للغاية، فالقيمة الصحيحة هي ١٥٠ مليون كيلومتر. كان تقديره خاطئًا لأنه اعتقد أنَّ الزاوية تبلغ ٨٧ درجة بينما هي قريبة للغاية من الزاوية القائمة في واقع الأمر. يمكنك الحصول على تقدير دقيق باستخدام معدات أفضل.
تنطوي هذه العملية التمهيدية على خطوة إضافية. يمكنك استخدام مدار الأرض بصفته خطَّ قاعدة لإيجاد المسافة إلى نجمٍ ما. فالأرض تكمل نصف دورة حول مدارها كل ستة شهور. ويعرِّف علماء الفلك «اختلاف المنظر» لنجمٍ ما، بأنه نصف الزاوية التي تقع بين خطي رؤية النجم، عند رصده من طرفين متقابلين على مدار الأرض. تكون مسافة النجم متناسبة على نحوٍ تقريبي مع اختلاف المنظر، واختلاف منظر ثانية قوسية واحدة يساوي ٣٫٢٦ سنوات ضوئية. وهذه الوحدة هي الفرسخ الفلكي («اختلاف المنظر» لثانية قوسية واحدة)، والعديد من علماء الفلك يفضلونها على السنين الضوئية لهذا السبب.
حاول جيمس برادلي قياس اختلاف منظر أحد النجوم عام ١٧٢٩، لكنَّ جهازه لم يكن دقيقًا بما يكفي. وفي عام ١٨٣٨، استخدم فريدريش بيسل أحد هيلومترات فراونهوفر، وهو تصميم جديد وحساس من التلسكوبات قد نُفِّذ بعد موت فراونهوفر لرصد النجم «٦١ سيجني». بلغ اختلاف المنظر الذي قاسه ٠٫٧٧ ثانية قوسية، وهو ما يمكن تشبيهه بعرض كرة تنس تبعد ١٠ كيلومترات، وينتج عن ذلك مسافة ١١٫٤ سنة ضوئية، وهي قيمة قريبة للغاية من القيمة الفعلية. إنَّ تلك المسافة تساوي ١٠٠ تريليون كيلومتر، مما يوضح مدى ضآلة عالمنا مقارنةً بالكون الذي يحيط به.
لم يكن تضاؤل البشرية قد انتهى بعد. فمعظم النجوم، حتى تلك الموجودة في مجرتنا، لا يبدو أنَّ منظر اختلافها قابل للقياس، مما يشير إلى أنها أبعد كثيرًا من النجم «٦١ سينجي». غير أنه حين لا يوجد اختلاف منظر يمكن الكشف عنه، ينهار التثليث. يمكن لمسابير الفضاء أن تمدنا بخط قاعدة أطول، لكنها تكون أطول بمقدار قيم أسية، وهو ما يلزم في حالة النجوم البعيدة والمجرات. كان على علماء الفلك أن يفكروا في شيء مختلف للغاية ليواصلوا الصعود على سلم المسافات الكونية.
•••
عليك أن تستخدم ما هو ممكن. وإحدى السمات التي يمكن ملاحظتها على الفور في النجوم، هي سطوعها الظاهري. يتوقف هذا على عاملين؛ مقدار السطوع الفعلي للنجم، أي سطوعه ولمعانه الجوهري؛ والمسافة التي يبعدها عنا. فالسطوع شبيه بالجاذبية؛ يقل بمقدار التربيع العكسي للمسافة. إذا كان مقدار السطوع الجوهري لأحد النجوم مساويًا للسطوع الجوهري للنجم «٦١ سينجي»، وكان سطوعه الظاهري تُسع ذلك المقدار، فإنه يكون أبعد بمقدار ثلاثة أضعاف.
من سوء الحظ أنَّ السطوع الجوهري يتوقف على نوع النجم، وحجمه، والنوع المحدد للتفاعلات النووية التي تحدث بداخله. لكي تنجح طريقة السطوع الظاهري، نحتاج إلى «شمعة قياسية»، وهي نوع من النجوم يعرف العلماء مقدار سطوعها الجوهري، أو يمكنهم استنتاجه «بدون» معرفة المسافة التي يبعدها. وهنا تدخلت ليفيت. لقد وظَّفها بيكيرنج في عشرينيات القرن العشرين، لكي تعمل بمثابة «كمبيوتر» بشري يقوم بالمهمة الرتيبة المتمثلة في قياس لمعان النجوم الموجودة في الألواح الفوتوغرافية بمرصد كلية هارفارد، وتصنيفها.
تتسم معظم النجوم بالسطوع الظاهري نفسه طوال الوقت، لكنَّ بعضها متغير ويزيد سطوعه الظاهري أو ينقص في نمط دوري منتظم، مما يثير بالطبع اهتمامًا خاصًّا بها بين علماء الفلك. درست ليفيت هذه النجوم المتغيرة على نحوٍ خاص. يوجد سببان أساسيان لتغيرها. فالعديد من هذه النجوم من الأنظمة الثنائية؛ أي نجمين يدوران حول مركز كتلة مشترك. وإذا حدث وكانت الأرض تقع في مستوى هذين المدارين، فإنَّ النجمَين يمرَّان أمام أحدهما الآخر على فتراتٍ منتظمة. وحين يحدث ذلك، «تكون» النتيجة شبيهةً بالكسوف بالطبع؛ إذ يوجد أحد النجمين في طريق الآخر ويحجب الضوء الصادر منه مؤقتًا. إنَّ هذه «الأنظمة الثنائية الكاسفة» من النجوم المتغيرة، يمكن تمييزها من خلال كيفية تغيُّر السطوع المرصود: ومضات قصيرة الأجل على خلفية ثابتة. إنها شموع معيارية عديمة الجدوى.
بالرغم من ذلك، يوجد نوع آخر من النجوم المتغيرة يبشِّر بفائدة أكبر، وهي المتغيرات الداخلية. تلك هي النجوم التي يتقلب خرج طاقة التفاعلات النووية التي تحدث بداخلها بصفة دورية، ويتكرر النمط نفسه من التغيرات مرارًا وتكرارًا. يتقلب الضوء الذي تصدره أيضًا. ويمكن تمييز المتغيرات الداخلية أيضًا لأنَّ ما يحدث بها من تغيرات في الضوء «ليس» ومضات فجائية.
كانت ليفيت تدرس نوعًا معينًا من النجوم المتغيرة يُسمى نجم «سِيفيد» (قيفاوي)؛ لأنَّ أول نجم قد اكتُشِف من هذا النوع هو النجم «دلتا سيفي». وباستخدام طريقة إحصائية مبتكرة، اكتشفت ليفيت أنَّ النجوم القيفاوية الأكثر خفوتًا تتسم بفترات أطول، وفقًا لقاعدة رياضية معينة. بعض النجوم القيفاوية قريب بما يكفي للسماح بقياس اختلاف المنظر؛ ومن ثمَّ فقد استطاعت حساب المسافة التي تبعدها. وبناءً على هذا، استطاعت حساب سطوعها الجوهري. عُمِّمَت تلك النتائج بعد ذلك على جميع النجوم القيفاوية باستخدام الصيغة التي تربط بين الفترة والسطوع الجوهري.
كانت النجوم القيفاوية هي الشموع المعيارية التي طال البحث عنها. وقد أتاحت لنا، هي والأداة المعيارية المرتبطة بها؛ أي الصيغة التي تصف تغير السطوع الظاهري للنجم مع المسافة، أن نصعد خطوة أخرى على سلَّم المسافة الكونية. تضمنت كل خطوة من هذه الخطوات مزيجًا من الملاحظات والنظريات والاستدلال الرياضي: الأعداد والهندسة والإحصائيات والبصريات والفيزياء الفلكية. غير أنَّ الخطوة الأخيرة، وهي خطوة عملاقة للغاية، لم تكن قد أتت بعدُ.