نهر السماء العظيم
في العصور القديمة، لم تكن توجد في الشوارع إضاءة سوى شعلة من النيران بين الحين والآخر، وكان من المحال بالفعل ألا تلاحظ إحدى السمات الرائعة في السماء. أما اليوم، فالطريقة الوحيدة كي تراها هي أن تعيش في منطقةٍ لا يوجد بها سوى أقل القليل من الإضاءة الصناعية أو تزورها. إنَّ القدر الأكبر من سماء الليل منثور بنقاط لامعة من النجوم، لكنَّ ثمَّة شريطًا عريضًا غير منتظم من الضوء يمتد عبرها، وهو أشبه بنهر منه بمجموعة متناثرة من النقاط المضيئة. كان المصريون القدماء يعتقدون أنه نهر بالفعل، النظير السماوي للنيل. إننا لا نزال حتى اليوم ندعوه بالطريق اللبني، وهو اسم يعبِّر عن شكله المحيِّر. يطلق علماء الفلك على التركيب الكوني الذي يشكله اسم «مجرة»، وهي كلمة مشتقة من الاسمين اليونانيين القديمين: «لبني»، و«دائرة لبنية».
لقد استغرق الأمر ألف عام قبل أن يدرك الفلكيون أنَّ تلك المسحة اللبنية الممتدة عبر السماء هي، بالرغم مما تبدو عليه، شريط ضخم من النجوم، لكنه بعيد للغاية حتى إنَّ العين لا تراها على صورة نقاط منفصلة. وهذا الشريط في واقع الأمر هو قرص عدسي الشكل يُرى من الحافة، ونحن بداخله.
عندما بدأ الفلكيون في مسح السماء بتلسكوبات أقوى كثيرًا، لاحظوا وجود بقع أخرى خافتة تختلف في شكلها عن النجوم. بضعة منها يُرى بالعين الحادة النظر؛ فقد وصف الفلكي الفارسي الذي عاش في القرن العاشر الميلادي، عبد الرحمن الصوفي، مجرة «أندروميدا» بأنها غيمة صغيرة، وضمَّن سحابة ماجلان الكبرى في كتابه «النجوم الثابتة» عام ٩٦٤. في بداية الأمر، كان الفلكيون الغربيون يدعون هذه المسحات الخافتة المغبَّشة من الضوء باسم «السُّدُم».
غير أننا ندعوها الآن بالمجرات. ومجرتنا هي «المجرة». إنها التراكيب الضخمة الأكثر عددًا التي تُنظِّم النجوم. يتخذ العديد منها أنماطًا رائعة، أذرعًا حلزونية، لا تزال أصولها محل جدال حتى الآن. وبالرغم من الانتشار الواسع للمجرات، يوجد الكثير من سماتها التي لا نفهمها تمام الفهم.
•••
في عام ١٧٤٤، جمع شارل مسييه أول فهرس منهجي للسُّدم. تضمنت نسخته الأولى ٤٥ جسمًا، وزاد هذا العدد في نسخة العام ١٧٨١ إلى ١٠٣. وبعد فترة قصيرة من النشر، اكتشف مسييه ومساعده بيير ميشان، سبعة أجسام أخرى. لاحظ مسييه وجود سديم بارز على نحوٍ مميز في كوكبة «أندروميدا». وهو يُعرف باسم السديم «إم ٣١»؛ لأنه أتى في المرتبة ٣١ على قائمته.
غير أنَّ التصنيف يختلف عن الفهم. فما هو السديم؟
منذ فترة مبكرة تصل إلى ٤٠٠ قبل الميلاد، اقترح الفيلسوف اليوناني ديموقريطوس أنَّ الطريق اللبني هو شريط من النجوم الضئيلة. وقد طوَّر أيضًا الفكرة القائلة بأنَّ المادة تتكوَّن من ذرات ضئيلة غير مرئية. نُسيت نظرية ديموقريطوس بشأن الطريق اللبني إلى حد كبير، حتى نشر توماس رايت كتابه «نظرية أصلية عن الكون أو فرضية جديدة»، وذلك في عام ١٧٥٠. أحيا رايت الاقتراح القائل بأنَّ «الطريق اللبني» قرص من النجوم لكنها أبعد كثيرًا من أن تُرى منفردة. وفكَّر أيضًا أنَّ السُّدم قد تكون مشابهة. في عام ١٧٥٥، غيَّر الفيلسوف إيمانويل كانط تسمية السُّدُم إلى «الجزر الكونية»؛ إذ كان يدرك أنَّ بقع الغيوم هذه تتكوَّن من عددٍ لا يُحصى من النجوم، أبعد كثيرًا من تلك الموجودة في «الطريق اللبني».
في الفترة ما بين ١٧٨٣ و١٨٠٢، وجد ويليام هيرشيل ٢٥٠٠ سديم آخر. وفي عام ١٨٤٥، استخدم اللورد روس تلسكوبه الجديد الفائق الضخامة، لتحديد نقاط منفردة من الضوء في بضعة من السدم، وهو أول دليل كان يمكن أن يؤكد صحة ما قاله كانط ورايت. غير أنَّ هذا الاقتراح كان خلافيًّا على نحوٍ مدهش. فالواقع أنَّ تحديدَ ما إذا كانت البقع الضوئية منفصلة عن «الطريق اللبني» بالفعل أم لا، أو ما إذا كان «الطريق اللبني» يشكل الكون بأكمله أم لا، قد ظل محلًّا للخلاف حتى عام ١٩٢٠، حين عقد هارلو شابلي وهيبر كورتيس «المناظرة الكبرى» في متحف سميثسونيان.
كان شابلي يرى أنَّ «الطريق اللبني» هو الكون بأكمله. وحاجج بأنه إذا كان السديم «إم ٣١» مثل «الطريق اللبني»، فلا بد أنه يقع على بُعد ١٠٠ مليون سنة ضوئية تقريبًا، وهي مسافة أكبر كثيرًا من أن تُصدَّق. أيَّده في ذلك أدريان فون مانين بزعمه أنه قد رصد مجرة «دولاب الهواء» وهي تدور بالفعل. ولو كانت بعيدة بالدرجة التي تتنبأ بها نظرية كورتيس، لكان بعض أجزائها يتحرك بسرعة أكبر من سرعة الضوء. غير أنَّ مسمارًا آخر قد دُقَّ في التابوت، وهو رصد مستعر في سديم «إم ٣١»، وذلك نجم واحد منفجر قد أنتج من الضوء لفترة مؤقتة أكثرَ مما ينتجه سديم بأكمله. كان من الصعب رؤية نجم واحد يفوق سطوعه ملايين النجوم.
حسم هابِل المناظرة عام ١٩٢٤، بفضل شموع ليفيت المعيارية. في عام ١٩٢٤، استخدم تلسكوب هوكر، أقوى التلسكوبات الموجودة، لرصد النجوم القيفاوية في «إم ٣١». أخبرته العلاقة التي صاغتها ليفيت بين المسافة واللمعان، بأنها تقع على بُعد مليون سنة ضوئية. وقد وضع هذا «إم ٣١» في مكانٍ أبعد كثيرًا من حدود «الطريق اللبني». حاول شابلي وآخرون إقناعه بعدم نشر هذه النتيجة غير المنطقية، لكنَّ هابِل لم يستمع لهم ونشرها في صحيفة «نيويورك تايمز» أولًا، ثم في ورقة بحثية. اتضح بعد ذلك أنَّ فون مانين كان مخطئًا، وأنَّ المستعر الذي رصده شابلي كان مستعرًا أعظم في حقيقة الأمر، وقد أنتج من الضوء أكثر مما تنتجه المجرة التي كان يوجد بها.
اتضح من اكتشافات لاحقة أنَّ قصة النجوم القيفاوية أكثر تعقيدًا. فقد ميَّز فالتر بادي بين نوعين مختلفين من المتغيرات القيفاوية يتسم كلٌّ منهما بعلاقة مختلفة بين الفترة واللمعان، وهما المتغيرات القيفاوية الكلاسيكية، والمتغيرات القيفاوية من النوع الثاني؛ مما أوضح أنَّ «إم ٣١» أبعد مما أعلنه هابِل. يبلغ التقدير الحالي للمسافة التي تبعدها مجرة «إم ٣١» ٢٫٥ مليون سنة ضوئية.
•••
كان هابِل مهتمًّا بالمجرات على نحوٍ خاص، واخترع نظامًا تصنيفيًّا يستند إلى شكلها المرئي. لقد ميَّز بين أربعة أنواع أساسية: المجرات البيضاوية، والمجرات الحلزونية، والمجرات الحلزونية المضلعة، والمجرات غير المنتظمة. تطرح المجرات الحلزونية على وجه التحديد قضايا رياضية مذهلة؛ لأنها توضح لنا تبعات قانون الجاذبية على نطاق ضخم، وما ينبثق عنها هو نمط ضخم بالقدر نفسه. صحيح أنَّ النجوم تبدو منثورة في سماء الليل عشوائيًّا، لكنك عندما تضع ما يكفي منها معًا، تحصل على شكل منتظم على نحوٍ غامض.
اعتقد العلماء لبعض الوقت أنَّ المخطط ربما يوضح التطور الطويل الأمد للمجرات؛ إذ تبدأ على صورة عناقيد بيضاوية متكتلة من النجوم، ثم تتوزع على سُمك أرفع وتتحول إما إلى أشكال حلزونية، أو إلى قضبان وأشكال حلزونية، وفقًا لتوليفة الكتلة والقُطر وسرعة الدوران. بعد ذلك، تصبح الأشكال الحلزونية فضفاضة للغاية، إلى أن تفقد المجرة كثيرًا من هيكلها وتكاد أن تصبح غير منتظمة. لقد كانت فكرة جذابة؛ لأنَّ مخطط راسل-هرتزبرونج للأنواع الطيفية للنجوم يمثل التطور النجمي إلى حدٍّ ما. غير أنَّ العلماء يعتقدون الآن أنَّ مخطط هابِل تصنيف للأشكال المحتملة، بينما لا تتطور المجرات على هذا النحو المرتب.
•••
مقارنةً بالتكتلات العديمة الشكل للمجرات البيضاوية، يصبح الانتظام الرياضي الذي تتسم به المجرات الحلزونية، والمجرات الحلزونية المضلعة بارزًا بوضوح. لماذا تتخذ الكثير جدًّا من المجرات الشكل الحلزوني؟ ومن أين يأتي القضيب المركزي الذي يوجد في نصفها تقريبًا؟ ولماذا لا يوجد في النصف الآخر منها أيضًا؟ ربما تعتقد أنَّ الإجابة عن هذه الأسئلة أمر سهل نسبيًّا: إعداد نموذج رياضي، التوصل إلى حله من خلال محاكاته على جهاز كمبيوتر على الأرجح، ثم مراقبة ما يحدث. ولأنَّ النجوم المكوِّنة للمجرات تنتشر على نحوٍ متناثر نسبيًّا، ولا تتحرك بسرعة تقترب من سرعة الضوء، فمن المتوقع أن تكون جاذبية نيوتن دقيقة بالدرجة الكافية.
خضعت نظريات عديدة من ذلك النوع للدراسة. وما من تفسير محدَّد قد تقدَّم على غيره، لكنَّ بضعًا من هذه النظريات يتلاءم مع الملاحظات على نحوٍ أفضل مما يتلاءم به معظمها. قبل ٥٠ عامًا فحسب، كان معظم علماء الفلك يعتقدون أنَّ المجالات المغناطيسية هي السبب في اتخاذ المجرات الشكل الحلزوني، لكننا نعرف الآن أنَّ هذه المجالات أضعف كثيرًا من أن تفسِّر الأشكال الحلزونية. واليوم، ثمَّة اتفاق عام على أنَّ الشكل الحلزوني ينتج عن قوى الجاذبية بصفة أساسية. أما الكيفية المحددة لحدوث ذلك، فتلك قضية أخرى.
إحدى أولى النظريات التي تحظى بقبول واسع النطاق كانت من اقتراح بيرتيل ليندبلاد عام ١٩٢٥، وهي تقوم على أساس نوع محدَّد من الرنين. على غرار بوانكاريه، تخيَّل ليندبلاد وجودَ جسيم في مدار دائري تقريبًا، في منظر جذبوي دوَّار. وفقًا للتقدير المبدئي، يدخل الجسيم بالنسبة إلى الدائرة ويخرج، بتردد طبيعي محدد. يحدث رنين ليندبلاد حين يتخذ هذا التردد علاقة كسرية مع تردد التقاء الجسيم بقمم متتابعة في المنظر.
أدرك ليندبلاند أنَّ أذرع المجرة الحلزونية لا يمكن أن تكون من البنى الدائمة. ففي النموذج الشائع للكيفية التي تتحرك بها النجوم في مجرةٍ ما، تختلف سرعاتها وفقًا للمسافة القطرية. وإذا ظلت النجوم نفسها في الذراع نفسها طوال الوقت، فستصبح الذراع ملتفَّة بإحكام للغاية؛ وكأنك أفرطت في لف عقارب ساعةٍ ما. وبالرغم من أننا لا نستطيع رصد مجرة على مدار ملايين الأعوام لنرى ما إذا كان اللف يصبح أكثر إحكامًا أم لا، فثمَّة الكثير من المجرات ولا يبدو أيها مفرط الالتفاف. فاقترح ليندبلاند أنَّ النجوم تنزع لإعادة التدوير مرارًا وتكرارًا عبر الأذرع.
في عام ١٩٦٤، اقترح شيا-شياو لين وفرانك شو أنَّ الأذرع هي موجات كثافة تتراكم فيها النجوم مؤقتًا. تتحرك الموجة، مبتلعة نجومًا جديدة بينما تترك النجوم السابقة خلفها، كما أنَّ موجة المحيط تتحرك فيه لمئات الأميال دون أن تحمل مياهًا معها (إلى أن تقترب من اليابسة، وحينها تتراكم المياه وتندفع نحو الشاطئ). تستمر المياه في التعاقب فحسب، بينما تمر الموجة. استخدم ليندبلاد وبير أولوف ليندبلاد هذه الفكرة وعملا على تطويرها. وقد اتضح أنَّ رنين ليندبلاد يمكن أن يشكِّل موجات الكثافة هذه.
تتمثَّل النظرية البديلة الأساسية في أنَّ هذه الأذرع هي موجات صدمية في الوسيط بين النجمي، حيث تتراكم المادة؛ وهو ما يدشِّن تكوُّن النجوم حين تصبح على درجة كافية من الكثافة. ومن المحتمل أيضًا أن يتمثَّل السبب في توليفة تجمع بين الآليتين.
•••
سادت هاتان النظريتان بشأن تكوُّن أذرع المجرات الحلزونية لأكثر من ٥٠ عامًا. غير أنَّ التقدُّمات الرياضية الحديثة تقترح شيئًا مختلفًا للغاية. والمثال الأساسي على ذلك هو المجرات الحلزونية المضلعة؛ فهي تتضمن الأذرع الحلزونية المميزة، لكنها تحتوي أيضًا على قضيب مستقيم في منتصفها. وتُعد المجرة «إن جي سي ١٣٦٥» من أمثلتها النموذجية.
من الطرق التي يمكن استخدامها لفهم ديناميكيات المجرة، إعداد محاكاة الأجسام «ن»، مع وضع قيم كبيرة ﻟ «ن»؛ وذلك لتصميم نموذج للكيفية التي يتحرك بها كل من النجوم، استجابة لشد الجاذبية الناتج عن جميع النجوم الأخرى. يستلزم التطبيق الواقعي لهذه الطريقة وجود بضع مئات المليارات من الأجسام، غير أنه لا يمكن إجراء الحسابات لهذا العدد؛ لذا تُستخدَم نماذج أبسط بدلًا من ذلك. يقدِّم أحدها تفسيرًا للنمط المنتظم الذي تتخذه أذرع المجرات الحلزونية. ومن المفارقات أنَّ هذا النمط ينتج عن الفوضى.
إذا كنت تعتقد أنَّ مصطلح «الفوضى» ليس سوى مرادف أنيق لكلمة «العشوائية»، فسيصعب عليك إدراك أنَّ السبب في ظهور نمط منتظم قد يكون فوضويًّا. يحدث هذا لأنَّ الفوضى ليست عشوائية في حقيقة الأمر. وإنما هي نتيجة لقواعد حتمية. وتمثل تلك القواعد من ناحيةٍ ما، أنماطًا خفية تشكل أساسًا للفوضى. ففي المجرات الحلزونية المضلعة تتسم النجوم، كلٌّ على حدة، بالفوضوية، لكنَّ حركتها تحتفظ للمجرة بشكلها الحلزوني العام. فبينما تتحرك النجوم بعيدًا عن تكتلاتها باتجاه الأذرع الحلزونية، تتخذ مكانها نجوم جديدة. إنَّ إمكانية وجود أنماط في الديناميكيات الفوضوية، تمثل تحذيرًا للعلماء الذين يفترضون أنَّ النتيجة التي تتخذ نمطًا ما، لا بد أن يكون لسببها نمط أيضًا.
في أواخر سبعينيات القرن العشرين، صمَّم جورج كونتوبولوس وزملاء له نماذج لمجرات حلزونية مضلعة، بافتراض وجود قضيب مركزي يدور على نحو ثابت، وباستخدام نماذج الأجسام «ن» لتحديد ديناميكيات النجوم في الأذرع الحلزونية، والتي يتسبَّب فيها دوران القضيب المركزي. إنَّ هذا الإعداد يتضمن افتراض بنية القضيب، لكنه يوضح أنَّ الشكل المرصود منطقي. وفي عام ١٩٩٦، اكتشف ديفيد كوفمان وكونتوبولوس أنَّ الأجزاء الداخلية من الأذرع الحلزونية، والتي تتفرع على ما يبدو من أطراف القضيب، تظل موجودة بفعل النجوم التي تتبع مدارات فوضوية. فالمنطقة المركزية، لا سيما القضيب، تدور كجسم متصلب، ويُعرَف هذا التأثير باسم الدوران المتزامن. تنتمي النجوم التي تشكِّل الأذرع الداخلية إلى ما يُعرف باسم «المجموعة الساخنة»، وهي تتجول على نحوٍ فوضوي دخولًا إلى المنطقة المركزية وخروجًا منها. أما الأذرع الخارجية، فهي تتشكَّل من نجوم تتبع مدارات أكثر انتظامًا.
يتسم القضيب الدوار بمنظر جاذبية شديد الشبه بذلك الذي تتخذه معضلة الجسمين ونصف التي وضعها بوانكاريه، لكنهما يختلفان في الهندسة. لا تزال هناك خمس من نقاط لاجرانج؛ حيث تظل شذرة الغبار ساكنة في إطار مرجعي يدور مع القضيب، لكنها تتخذ ترتيبًا جديدًا مختلفًا على شكل الصليب. غير أنَّ النموذج يتضمن الآن ما يقرب من ١٥٠ ألف شذرة غبار تؤثر هي والنجوم الأخرى بعضهما على بعض بالقوى، لكنها تؤثِّر على القضيب. من الناحية الرياضية، يمثل هذا النموذج محاكاة ﻟ ١٥٠ ألف جسم في منظر جذبوي ثابت لكنه دوَّار.
في نهاية المطاف، يعود الكثير من هذه النجوم إلى منطقة الدوران المتزامن، ويحدث كل شيء من جديد، لكنه لا يحدث على فترات زمنية منتظمة بسبب الفوضى. وبهذا؛ فما نراه هو زوج من الأذرع الحلزونية التي تنبثق من أطراف القضيب بزاوية، بينما يدور الشكل بأكمله على نحوٍ ثابت. لا تبقى النجوم المنفردة في أماكن ثابتة في الأذرع. وإنما هي أشبه بالشرر الذي تطلقه إحدى الألعاب النارية المروحية في أثناء دورانها. باستثناء أنَّ هذا الشرر يعود إلى المنتصف في النهاية، ليُلفَظ بعد ذلك مجددًا، وتتنوع مساراته على نحو فوضوي.
توضح الصورة الموجودة على اليسار مواقع النجوم في وقت نموذجي واحد في محاكاة للأجسام «ن» من هذا النموذج. يتضح في الصورة ذراعان حلزونيتان وقضيب. توضح الصورة الموجودة على اليمين المشاعب غير المستقرة المتناظرة، والتي تتطابق مع أكثر المناطق كثافة في الصورة الموجودة على اليسار. وتوضح الصورة التالية أي أجزاء المجرة تشغله النجوم في مجموعات متنوعة من المدارات المنتظمة والفوضوية. تقتصر المدارات المنتظمة على منطقة الدوران المتزامن، والتي توجد فيها مدارات فوضوية أيضًا مثلما هو متوقع، لكنَّ الثانية تسود خارج هذه المنطقة حيث توجد الأذرع الحلزونية.
يجدر بنا مقارنة هذه النظرية بتلك السلسلة الملتفة من المدارات الإهليلجية التي تظهر في الصورة التي توضح كيف أن الطريقة التي تدور بها النجوم في مدارات إهليلجية يمكن أن تشكِّل موجة كثافة حلزونية، وهي تتخذ في هذه الحالة شكلًا حلزونيًّا مضلعًا. شكَّلت المدارات الإهليلجية نمطًا لإخراج أحدها. غير أنَّ ديناميكيات الأجسام «ن» الفعلية، لا تنتج مدارات إهليلجية لأنَّ الأجسام تؤدي إلى اضطراب بعضها بعضًا؛ ومن ثمَّ فإنَّ النمط المقترح لا يوفِّر أي تفسير منطقي، إلا أن يكون بمثابة تقدير تقريبي معقول لشيء آخر يوفِّر تفسيرًا منطقيًّا. يؤدي النموذج الفوضوي إلى تشكيل القضيب المركزي بصفته افتراضًا مباشرًا، لكن كل شيء آخر ينبثق من نظام حقيقي لديناميكيات الأجسام «ن». تكون الفوضى هي ما نحصل عليه — مثلما قد نتوقع ذلك — لكننا نحصل أيضًا على النمط الحلزوني الذي تخلقه الفوضى. ينطوي ذلك الأمر على رسالة: إذا تناولت الرياضيات بجدية، فسوف تظهر الأنماط من تلقاء نفسها. أما إذا فرضت الأنماط على نحو اصطناعي، فإنك تغامر بالحصول على نتيجة غير منطقية.
يوضح الصف الأول من الصورة التالية أربعة أمثلة نموذجية للمجرات الحلقية. ويوضح الصف الثاني رسومات تؤكد على بُناها الحلزونية والحلقية. ويوفر الصف الثالث أمثلة متطابقة من النموذج الرياضي. ويقدم الصف الرابع منظرًا أماميًّا للمجرات، لا منظرًا بزاوية.
•••
يمكن تقدير السرعة التي تتحرك بها النجوم في إحدى المجرات باستخدام المنظار الطيفي. وحين قام علماء الفلك بذلك، كانت النتائج محيرة للغاية. وسوف أذكر هذا اللغز المحير هنا، وأترك الحل الحالي له إلى الفصل الرابع عشر.
يقيس علماء الفلك سرعة دوران المجرات باستخدام تأثير دوبلر. إذا كان المصدر المتحرك يصدر ضوءًا له طول موجي محدد، فإنَّ هذا الطول الموجي يتغير وفقًا للسرعة المتجهة التي يتحرك بها المصدر. ينطبق التأثير نفسه على الموجات الصوتية، والمثال الأشهر على ذلك هو انخفاض حدة نغمة سرينة سيارة الإسعاف حينما تمر بك. وفي عام ١٨٤٢، حلل الفيزيائي كريستيان دوبلر هذا التأثير في ورقة عن النجوم الثنائية، باستخدام الفيزياء النيوتونية. وتتنبأ نسخة التحليل التي تستخدم نظرية النسبية بالسلوك الأساسي نفسه، لكنها تنطوي على اختلافات كمية. ذلك أنَّ الضوء يتخذ العديد من الأطوال الموجية بالطبع، لكنَّ التحليل الطيفي يوضح بعض الأطوال الموجية المعينة في صورة خطوط داكنة في الطيف. وحين يتحرك المصدر، تتغير تلك الخطوط بمقدار ثابت، ويمكن حساب السرعة المتجهة من مقدار التغير بصورة مباشرة.
في حالة المجرات، يتمثَّل الخط الطيفي القياسي المستخدم لهذا الغرض في خط هيدروجين ألفا. وفي حالة المصدر الساكن، يوجد هذا الخط في الجزء الأحمر المركزي من الطيف المرئي، وهو يظهر حين ينتقل أحد الإلكترونات في ذرة هيدروجين من ثالث أدنى مستويات طاقته إلى ثاني أدنى مستوى. ولما كان الهيدروجين هو أكثر العناصر شيوعًا في الكون، فإنَّ خط هيدروجين ألفا غالبًا ما يكون بارزًا.
يمكن أيضًا قياس سرعة دوران المجرات غير البعيدة «للغاية»، وهي على مسافات مختلفة من مركز المجرة. تحدِّد هذه الحسابات منحنى دوران المجرة، وقد اتضح أنَّ سرعة الدوران لا تتوقف إلا على المسافة من المركز. فبدرجة تقريبية جيدة، تتحرك المجرات مثلما تتحرك مجموعة من الحلقات متحدة المركز التي يدور كلٌّ منها على نحوٍ ثابت، لكنَّ السرعة يمكن أن تتغير من حلقة إلى حلقة. ويستدعي هذا الوصف نموذج لابلاس لحلقات زحل (الفصل السادس).
من الصعب قياس توزيع الكتلة مباشرة، لكنَّ ثمَّة تنبؤًا واحدًا مستقلًّا عن مثل تلك الاعتبارات، وهو الكيفية التي يتصرف بها منحنى الدوران في أنصاف الأقطار الكبيرة بالدرجة الكافية. ففور أن يقترب من نصف القطر المرصود للمجرة، يصبح إجمالي الكتلة داخل نصف القطر ذاك مساويًا لإجمالي كتلة المجرة. إذن فحين يكون نصف القطر كبيرًا بما يكفي، تتناسب السرعة الدورانية طرديًّا مع مقلوب الجذر التربيعي لنصف القطر. توضح الصورة العليا تمثيلًا بيانيًّا لهذه الصيغة التي تتضاءل إلى الصفر مع زيادة نصف القطر.
وللمقارنة، توضح الصورة السفلى منحنيات الدوران المرصودة لست مجرات، ومنها مجرتنا. وبدلًا من التضاؤل، تزيد السرعة الدورانية ثم تظل ثابتة تقريبًا.
عذرًا!