عوالم فضائية
«كان من الممكن أن يفحص علماء الفلك الفضائيون الأرضَ لأكثر من ٤ مليارات عام دون أن يرصدوا أية إشارة راديوية، رغم حقيقة أنَّ كوكبنا هو المثال النموذجي على الكواكب الصالحة للحياة.»
لطالما كان امتلاء الكون بالكواكب بندًا من بنود الإيمان بين كتَّاب الخيال العلمي. وما حفَّز وجود مثل ذلك الاعتقاد بصفة أساسية هو الضرورة السردية؛ فلا بد من وجود كواكب لتصير مواقع تدور فيها القصص المثيرة. بالرغم من هذا، دائمًا ما بدا ذلك وجيهًا من الناحية العلمية. فبالنظر إلى مقدار النفايات الكونية التي تأتي في جميع الأشكال والأحجام وتتحرك داخل الكون، لا بد من وجود الكثير من الكواكب.
منذ زمن بعيد يعود إلى القرن السادس عشر، قال جيوردانو برونو إنَّ النجوم شموس بعيدة ولها كواكبها الخاصة. ولما كان شوكة في ظهر الكنيسة الكاثوليكية، فقد أُحرِق على الوتد بتهمة الهرطقة. وفي نهاية كتابه «الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية»، كتب نيوتن: «إذا كانت النجوم الثابتة مراكز لأنظمة مشابهة [أي مشابهة للنظام الشمسي]، فستكون مبنية وفقًا لتصميم مشابه …»
اعترض علماء آخرون زاعمين أنَّ الشمس هي النجم الوحيد في الكون الذي يملك كواكب. غير أنَّ الغالبية العظمى دائمًا ما كانت تعتقد بوجود ما لا يُحصى من الكواكب الخارجية، مثلما يُطلق عليها. تتمثَّل أفضل النظريات بشأن تكوُّن الكواكب في انهيار غيمة غازية ضخمة تكوِّن الكواكب ونجمها المركزي في الوقت نفسه، ومثل هذه الغيوم موجود بكثرة. يوجد ٥٠ كنتيليون من الأجسام الكبيرة — النجوم — وعدد أكبر كثيرًا من الأجسام الصغيرة؛ جسيمات الغبار. سيكون غريبًا إذا كان ثمَّة نطاق الأحجام المتوسطة المحظور، وسيكون من الأغرب إذا حدث وتصادف مع الأحجام المعتادة للكواكب.
•••
لا بأس بالحجج غير المباشرة على الإطلاق، لكنَّ المشكلة الجلية التي كان الجميع يتحاشونها، لوحظت بسبب غيابها. فحتى وقت قريب، لم يكن ثمَّة دليل رصدي على وجود كواكب لأي من النجوم الأخرى. وفي عام ١٩٥٢، اقترح أوتو ستروف طريقة عملية لاكتشاف الكواكب الخارجية، لكنَّ أربعين عامًا قد مرت قبل أن تأتي بثمارها. رأينا في الفصل الأول كيف أنَّ الأرض والقمر يتصرفان كأنهما رجلٌ سمين وطفل يرقصان معًا. يظل الطفل يدور ويدور بينما يرتكز الرجل على قدميه. ينطبق الأمر نفسه على كوكب يدور بنجم؛ إذ يتحرك الكوكب الخفيف الوزن في مدارٍ إهليلجي كبير، بينما يتأرجح النجم الثقيل قليلًا.
اقترح ستروف استخدام منظار تحليل طيفي لاكتشاف هذا التأرجح. يتسبَّب تأثير دوبلر في أن تؤدي أي حركة للنجم إلى انزياح خيوطه الطيفية قليلًا. نعرف السرعة المتجهة للنجم من مقدار الانزياح، ونستدل على وجود الطفل الدوَّار بمراقبة الكيفية التي يتأرجح بها الرجل السمين. تنجح هذه الطريقة حتى في حالة وجود العديد من الكواكب؛ إذ يستمر النجم في التأرجح لكن بطريقة أكثر تعقيدًا. توضح الصورة كيفية تأرجح الشمس. يحدث الجزء الأكبر من الحركة بسبب المشتري، لكنَّ الكواكب الأخرى تساهم فيها أيضًا. تبلغ الحركة الإجمالية ثلاثة أضعاف نصف قطر الشمس تقريبًا.
أدَّى أسلوب استخدام مطيافية دوبلر الذي اقترحه ستروف إلى اكتشاف أول كوكب خارجي ثبت رصده في عام ١٩٩٢، على يد ألكسندر فولشتشان وديل فريل. ينتمي النجم الذي يدور حوله هذا الكوكب إلى نوع غريب من الأجسام النجمية يُعرف باسم النجم النابض. تطلق هذه الأجسام نبضات راديوية سريعة منتظمة. يفسِّر العلماء هذا السلوك الآن على أنها نجوم نيوترونية تدور بسرعة، وقد سُمِّيت بذلك لأنَّ معظم مادتها من النيوترونات. استخدم فولشتشان وفريل علم الفلك الراديوي لتحليل الاختلافات الطفيفة في النبضات المنبعثة من النجم النابض «بي إس آر ١٢٥٧ + ١٢»، واستنتجا منها وجود كوكبين على الأقل يدوران به. وهذا يغيِّر دورانه على نحوٍ طفيف ويؤثِّر في توقيت النبضات. ثبتت النتيجة التي توصَّلا إليها عام ١٩٩٤، مع التأكيد على وجود نجم ثالث.
•••
توجد طرق عشر أخرى على الأقل لاكتشاف الكواكب الخارجية. من بين هذه الطرق التصوير المباشر، وذلك بتوجيه تلسكوب قوي للغاية نحو أحد النجوم والعثور على كوكب. وهو شبيه بعض الشيء بمحاولة رؤية عود ثقاب في وهج ضوء كشَّاف، لكنَّ تقنيات الحَجب البارعة التي تخفي ضوء النجم نفسه، تجعل الأمر ممكنًا في بعض الأحيان. أما أكثر الطرق شيوعًا لاكتشاف الكواكب الخارجية، فهي طريقة العبور. ذلك أنه إذا حدث وعبر الكوكب قرص النجم، فإنه يحجب جزءًا صغيرًا من خرج الضوء الصادر عن النجم، مثلما يُرى من الأرض. يشكِّل العبور انخفاضًا مميزًا في منحنى الضوء. من غير المرجح أن تتخذ غالبية الكواكب الخارجية مثل ذلك الاتجاه المواتي، لكنَّ نسبة الكواكب التي تقوم بالعبور، كبيرة بما يكفي لتكون الطريقة مجدية.
تمثل الصورة توضيحًا مبسطًا لطريقة العبور. عندما يبدأ الكوكب عبوره، يحجب بعضًا من ضوء النجم. وعندما يوجد قرص الكوكب بأكمله على قرص النجم، يستقر خرج الضوء ويظل ثابتًا تقريبًا لفترة إلى أن يقترب الكوكب من الحافة الأخرى للنجم. وبينما يخرج الكوكب عبر الحافة، يعود النجم إلى سطوعه الظاهري الأصلي. عادةً ما يبدو النجم في الواقع أقل سطوعًا بالقرب من حوافه، وقد ينحرف جزء من الضوء حول الكوكب إذا كان له غلاف جوي. وبعض النماذج الأكثر تعقيدًا تراعي هذه التأثيرات وتصحِّحها. توضح الصورة منحنى ضوء حقيقي (بالنقاط) لعبور الكوكب الخارجي «إكس أوه – ١ بي» عبر النجم «إكس أوه – ١»، مع نموذج معدَّل (المنحنى المتواصل).
إنَّ تحليل طريقة العبور رياضيًّا يمدنا بمعلومات عن حجم الكوكب وكتلته وفترته المدارية. وهي تخبرنا أحيانًا بالتركيب الكيميائي للغلاف الجوي للكوكب، وذلك من خلال مقارنة طيف النجم بالضوء المنعكس من الكوكب.
•••
اختارت ناسا طريقة العبور لاستخدامها مع تلسكوب «كيبلر» الذي تستخدمه، وهو مقياس ضوئي يقيس مستويات الضوء بدقة بالغة. بدأ تلسكوب «كيبلر» العمل في ٢٠٠٩، وكان يراقب خرج الضوء فيما يزيد عن ١٤٥٠٠٠ نجم. كان مخططًا أن يستمر التلسكوب في رصدها على مدار ثلاث سنوات ونصف، لكنَّ العجلات التفاعلية التي تُستخدم للحفاظ على محاذاة التلسكوب، قد بدأت في التداعي. وفي عام ٢٠١٣، تغيَّر تصميم المهمة بما يسمح للآلة المعطلة بإنتاج علوم مفيدة.
يُدعى أول كوكب خارجي اكتشفه «كيبلر» عام ٢٠١٠ «كيبلر-٤ بي». ويقع نجمه الوالِد «كيبلر-٤» على مسافة ١٨٠٠ سنة ضوئية في كوكبة «التنين»، وهو نجم يشبه الشمس لكنه أكبر قليلًا. يبلغ الكوكب حجم نبتون وكتلته تقريبًا، لكنَّ مداره أقرب كثيرًا إلى النجم. تبلغ فترة مداره ٣٫٢١ من الأيام، ويبلغ نصف قطره ٠٫٠٥ وحدة فلكية؛ أي عُشر المسافة تقريبًا من عطارد إلى الشمس. تبلغ درجة حرارة سطحه ١٧٠٠ درجة كلفن. ويتسم مداره بالانحراف المركزي بمقدار ٠٫٢٥.
بالرغم من عجلاته التفاعلية المتداعية، وجد «كيبلر» ١٠١٣ من الكواكب الخارجية التي تدور حول ٤٤٠ نجمًا، إضافة إلى ٣١٩٩ من الكواكب الأخرى المحتملة التي لم يجرِ التأكد منها بعد. من الأسهل إيجاد الكواكب الكبيرة لأنها تحجب قدرًا أكبر من الضوء؛ لذا فهي الأكثر تمثيلًا من بين الكواكب الخارجية التي اكتشفها «كيبلر»، غير أنه يمكن التعويض عن هذه الزيادة في احتمالية اكتشافها. فقد وجد «كيبلر» من الكواكب الخارجية ما يكفي لتوفير تقديرات إحصائية لعدد الكواكب الموجودة في المجرة، والتي تتسم بخصائص معينة. ففي عام ٢٠١٣، أعلنت ناسا أنَّ المجرة تحوي على الأرجح ما لا يقل عن ٤٠ مليارًا من الكواكب الخارجية التي يقترب حجمها من الأرض، وتتحرك في مدارات شبيهة بمدار الأرض، وتدور حول نجوم شبيهة بالشمس وبأقزام حمراء. وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ الأرض بعيدة كل البعد عن التفرد.
•••
يعمل صائدو الكواكب بالفعل على تكييف أساليبهم للبحث عن سمات أخرى للأنظمة النجمية، ومن بينها الأقمار الخارجية والكويكبات الخارجية، التي يمكن أن تضيف إلى منحنيات الضوء ومضاتٍ إضافية ضئيلة بطريقة معقدة للغاية. يستخدم ديفيد كيبينج الكمبيوتر الفائق لإعادة فحص بيانات «كيبلر» عن ٥٧ من أنظمة الكواكب الخارجية، بحثًا عن أي دلالة عن الأقمار الخارجية. وقد أجرى رينيه هيلر حسابات نظرية تشير إلى أنَّ ثمَّة كوكبًا خارجيًّا يبلغ حجمه أضعاف حجم المشتري (وهو أمر ليس بغريب) ربما يكون له وجود قمر بحجم المريخ، ويمكن ﻟ «كيبلر» أن يجده مبدئيًّا. فقمر المشتري، «آيو»، يتسبَّب في حدوث دفقات راديوية تتفاعل مع المجال المغناطيسي للكوكب، وربما تحدث آثار مماثلة في أماكن أخرى؛ ولهذا يبحث خواكين نويولا عن إشارات راديوية من أقمار خارجية. وحين تطلق ناسا عام ٢٠١٨ التلسكوب التابع لها، «جيمس ويب»، وهو خليفة «هابل»، قد يتمكَّن من التقاط قمر خارجيٍّ ما مباشرة.
•••
قرَّر عالم الفلك الراديوي فرانك دريك اختبار فكرة كوكوني وموريسون من خلال تدشين مشروع «أوزما»، الذي كان يبحث عن مثل تلك الإشارات من النجمين القريبين «إبسيلون إريداني» و«تاو سيتي». لم يكتشف دريك أية إشارات، لكنه نظَّم مؤتمرًا عام ١٩٦١ عن «البحث عن ذكاء خارج الأرض». في ذلك الاجتماع، كتب معادلة رياضية تعبِّر عن عدد الحضارات الفضائية الموجودة في مجرتنا التي يمكنها التواصل بالإشارات الراديوية في الوقت الحالي، وذلك نتيجة لسبعة عوامل، مثل متوسط معدل تكوُّن النجوم، ونسبة الكواكب التي تتطور عليها حياة، ومتوسط الوقت الذي تستغرقه الحضارات لإرسال إشارات راديوية يمكن اكتشافها.
•••
يطمح الذكاء إلى الأفضل. وحتى وجود حياة فضائية لا تتسم بالذكاء سيغير مسار الأمور.
عند تقييم احتمالات وجود حياة فضائية، من السهل جدًّا أن نقع في فخ تصور أنَّ المكان المثالي لوجود كائنات فضائية لا بد أن يكون كوكبًا شبيهًا بالأرض؛ أي أن يكون في حجم كوكبنا تقريبًا، ويقع على مسافة مشابهة من نجم مشابه، ويجب أن يجمع سطحه بين الأرض الصخرية والمياه السائلة (مثل كوكبنا)، وأن يحتوي غلافه الجوي على الأكسجين (مثلنا أيضًا). صحيح أنَّ الأرض هو الكوكب الوحيد المأهول الذي نعرف بوجوده، لكننا لم نبدأ البحث إلا الآن. تبدو جميع الكواكب الأخرى الموجودة في النظام الشمسي قاحلة وغير صالحة للحياة، وإن كان يجدر بنا ألا نتسرع في إصدار الحكم، مثلما سنرى لاحقًا. إذن؛ يبدو أن المكان الأنسب للبحث عن الحياة يقع خارج النظام الشمسي.
تتحسَّن احتمالية وجود حياة في مكان آخر بمبدأ حيوي أساسي، وهو أنَّ الحياة «تتكيف» مع الظروف السائدة. حتى على الأرض، تشغل الكائنات الحية تنوعًا مذهلًا من المواطن: في أعماق المحيطات، وفي مرتفعات الغلاف الجوي، وفي المستنقعات، والصحاري، والينابيع التي تغلي مياهها، وتحت جليد القطب الجنوبي، وحتى على بُعد ثلاثة كيلومترات تحت الأرض. يبدو منطقيًّا إذن أن تشغل أشكال الحياة الفضائية نطاقًا أوسع كثيرًا من المواطن. ربما لا نستطيع «نحن» العيش هناك، لكنَّ البشر في حقيقة الأمر لا يستطيعون البقاء على قيد الحياة في معظم المواطن الأرضية دون مساعدة. فما يكون صالحًا للحياة يعتمد في حقيقة الأمر على ما يحيا فيه.
ترتبط جميع أشكال الحياة على الأرض بعضها ببعض؛ إذ يبدو أنها قد تطورت من نظام كيميائي حيوي بدائي واحد. وبهذا، فإنَّ «الحياة على الأرض» بجميع تنويعاتها الثرية تعود إلى نقطة بيانات «واحدة». يرى المبدأ الكوبرنيكي أنه ما من شيء شديد التميز بشأن البشر ولا بشأن بيئاتهم. وإذا كان هذا صحيحًا، فمن غير المرجَّح أن يكون كوكبنا مميزًا للغاية، لكنه لا يعني أيضًا أنه نموذجي دون شك. لقد صنع علماء الكيمياء الحيوية تنويعات غير اعتيادية من الجزيئات التي تشكل أساس الجينات الأرضية: جزيء الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين «دي إن إيه»، وجزيء الحمض النووي الريبوزي «آر إن إيه»، والأحماض الأمينية، والبروتينات، لمعرفةِ ما إذا كانت الجزيئات المستخدمة على الأرض وحدها هي التي تنجح. (وهي ليست كذلك.) كثيرًا ما تؤدي هذه الأسئلة إلى النمذجة الرياضية، إضافةً إلى علم الأحياء؛ لأننا لا نستطيع التيقن من أنَّ علم الأحياء في مكان آخر سيكون مطابقًا لما لدينا. فقد يستخدم كيمياء مختلفة، أو كيمياء مختلفة جذريًّا، أو لا تستخدم الكيمياء على الإطلاق بألا تكون جزيئية.
بالرغم من هذا، فمن المنطقي جدًّا أن «نبدأ» من نقطة البيانات الحقيقية الواحدة تلك، ما دمنا لا ننسى أنها خطوة واحدة أولى فحسب نحو احتمالات أكثر غرابة. ويؤدي ذلك بنا حتمًا إلى أحد الأهداف الوشيكة لصائدي الكواكب، وهو العثور على كوكب خارجي شبيه بالأرض.
تشهد دوائر الأحياء الفلكية اهتمامًا كبيرًا بما يُسمى «المنطقة الصالحة للحياة» حول النجم. ولا يشير هذا المصطلح إلى المنطقة التي يمكن أن تكون صالحة للحياة حول النجم. وإنما هي المنطقة المحيطة بالنجم والتي يمكن لنجم افتراضي يتسم بالضغط الجوي الكافي ليدعم وجود مياه سائلة. فحين تقترب للغاية من النجم تتحول المياه إلى بخار، وحين تبتعد للغاية تتحول المياه إلى جليد. وبين هذا وذاك، تكون درجة الحرارة «ملائمة بالضبط»، وقد اكتسبت هذه المنطقة في النهاية لقب «منطقة جولديلوكس».
توجد المنطقة الصالحة للحياة في النظام الشمسي بين ٠٫٧٣ وحدة فلكية من الشمس، و٣ وحدات فلكية من الشمس، غير أنَّ هذه الأعداد تقريبية والأعداد الدقيقة محل جدال. يلامس كوكب الزهرة الحافة الداخلية، وتمتد الحافة الخارجية بعيدًا حتى «سيريس»، بينما يقبع كوكب الأرض والمريخ في المنتصف. إذن، يمكن لسطحي الزهرة والمريخ «نظريًّا» أن يسمحا بوجود مياه سائلة. غير أنَّ الأمر أكثر تعقيدًا من الناحية العملية. فمتوسط درجة حرارة السطح على كوكب الزهرة ٤٦٢ درجة مئوية، وهي مرتفعة بما يكفي لصهر الرصاص؛ وذلك لأنَّ الزهرة يشهد درجة عالية للغاية من مفعول الدفيئة؛ إذ يحبس الحرارة في غلافه الجوي. ومن ثمَّ يبدو وجود المياه السائلة غير محتمل على الإطلاق على أقل تقدير. أما المريخ، فتبلغ درجة حرارته «سالب» ٦٣ درجة مئوية؛ لذا كان العلماء يعتقدون بصفة عامة أنَّ المريخ لا يتكوَّن إلا من جليد صلب. بالرغم من ذلك، فقد اكتشفوا عام ٢٠١٥، أنَّ كميات صغيرة من المياه قد ذابت في الصيف المريخي، وانحدرت على جوانب بعض الفُوَّهات. وقد كانوا يحتملون حدوث ذلك لبعض الوقت، بسبب ظهور شرائط داكنة، لكنَّ الدليل القاطع هو وجود أملاح مُمَيَّهة في الصيف، حين تزداد الشرائط طولًا. من المرجَّح أنَّ سطح المريخ كان يحتوي على الكثير من المياه قبل ٣٫٨ مليارات عام، لكنه فقد الكثير من غلافه الجوي بعد ذلك؛ إذ دفعته الرياح الشمسية بعيدًا حين ضعف المجال المغناطيسي للكوكب. تبخَّر جزء من المياه وتجمَّد الجزء الآخر. وهي تظل على هذا النحو في معظم الأحيان.
ليست المسافة من النجم الرئيسي هي المعيار الوحيد إذن وحسب. إنَّ مفهوم المنطقة الصالحة للحياة يوفر مبدأً توجيهيًّا بسيطًا ويمكن استيعابه، لكنَّ المبادئ التوجيهية ليست صارمة. فقد لا توجد المياه السائلة داخل المنطقة الصالحة للحياة، وتوجد خارجها. ذلك أنه إذا كان أحد الكواكب قريبًا للغاية من نجمه، فإنه يكون في منطقة شديدة الحرارة، لكن إذا كانت نسبة الرنين بين دورانه الذاتي ودورانه المداري ١:١، فإنَّ أحد جانبيه يواجه النجم على الدوام؛ لذا يكون ساخنًا للغاية، بينما يكون الجانب البعيد مفرط البرودة. وفي المنتصف، توجد منطقة معتدلة عند الزوايا القائمة على خط الاستواء. (يوجد جليد على عطارد الفائق الحرارة، مختبئًا في الفُوَّهات القطبية التي لا يتخللها ضوء الشمس أبدًا. بالرغم من عدم وجود رنين بنسبة ١:١.) وقد يكون لكوكب جليدي السطح مصدر داخلي للحرارة؛ فالأرض تضم مثل ذلك المصدر على أية حال، وهو يصهر بعضًا من الجليد. ووجود غلاف جوي سميك يحتوي على قدر كبير من ثاني أكسيد الكربون أو الميثان، سيدفئ الكوكب أيضًا. يمكن لتذبذب المحور أيضًا أن يساعد على بقاء الكوكب دافئًا خارج المنطقة الصالحة للحياة من خلال توزيع الحرارة دون تساوٍ. ويمكن لكوكب يتسم مداره بالانحراف المركزي أن يخزِّن الطاقة حين يكون قريبًا من نجمه، ويطلقها بينما يبتعد، حتى وإن لم يكن في المنطقة الصالحة للحياة في المتوسط. وقد يوجد نجم قزم أحمر بالقرب من كوكب له غلاف جوي غيمي سميك، مما يؤدي إلى توزيع الحرارة على نحوٍ أكثر توازُنًا.
في عام ٢٠١٣، اكتشف التلسكوب «كيبلر» كوكبين خارجيين كانا هما الأقرب شبهًا إلى الأرض حتى ذلك الوقت. يدور كلاهما بالنجم نفسه «كيبلر-٦٢» في كوكبة «القيثارة»، ويُعرفان باسم «كيبلر-٦٢ إي» و«كيبلر-٦٢ إف». يزيد قطر كلٍّ منهما عن قطر الأرض بمقدار ٥٠٪، قد يكونان من أمثلة كواكب الأرض الفائقة، وهي الأجسام الصخرية الأضخم من الأرض لكنها لا تصل إلى ضخامة نبتون. وربما أيضًا يتشكلان من الجليد المنضغط. يقع كلاهما قَطعًا في منطقة «جولديلوكس» للنجم «كيبلر-٦٢»؛ لذا فمع توفُّر الظروف المناسبة في السطح مثل وجود غلاف جوي شبيه بغلافنا، يمكن أن توجد عليهما مياه سائلة.
في بداية عام ٢٠١٥، أعلنت ناسا اكتشاف كوكبين خارجيين جديدين يشبهان الأرض بدقة أكثر. أولهما «كيبلر ٤٣٨ بي»، وهو أكبر من الأرض بمقدار ١٢٪، ويستقبل من نجمه، الذي يقع على بُعد ٤٧٩ سنة ضوئية، طاقة أكثر بمقدار ٤٠٪. والنجم الثاني هو «كيبلر ٤٤٢ بي» الذي يزيد حجمه عن حجم الأرض بمقدار ٣٠٪ ويستقبل من نجمه، الذي يقع على بعد ١٢٩٢ سنة ضوئية، طاقةً أقل بمقدار ٣٠٪. لا يمكن تأكيد وجودهما من خلال الكشف عن الذبذبات المناظرة في نجومهما. وبدلًا من ذلك، يستخدم علماء الفلك مقارنات دقيقة للقياسات، والاستدلال الإحصائي. وهما من الكواكب الصخرية على الأرجح وفقًا لحجمهما، لكنَّ كتلتهما غير معروفة. وبما أنهما يدوران داخل المنطقة الصالحة للحياة، فقد يحتويان على مياه سائلة.
وقد اكتشف فريق ساسيلوف، على عكس التوقعات، أنَّ الانجراف القاري شائع على الأرجح في أماكن أخرى، ويمكن أن يحدث على كواكب أكبر من الأرض. ستكون الصفائح أرق مما هي عليه هنا وتتحرك بسرعة أكبر. ومن ثمَّ؛ فسيكون مناخ الكواكب من نوع الأرض الفائقة أكثر استقرارًا من مناخنا، مما سيسهِّل عملية تطور حياة معقدة. إنَّ العدد المحتمل للكواكب الشبيهة بالأرض كبير للغاية، لكنَّ وجود مثل هذه الكواكب نادر نسبيًّا. بالرغم من ذلك، لا بد أنه يوجد الكثير جدًّا من كواكب الأرض الفائقة، مما يحسن احتمالية وجود حياة «شبيهة بالحياة الأرضية». انتهى أمر «الأرض النادرة». وعلاوةً على ذلك، ليست الأرض «مناسبة تمامًا» للصفائح التكتونية. لقد نجحنا في اللحاق بالحد الأدنى من نطاق الحجم الملائم بصعوبة بالغة.
يكفينا ذلك عن منطقة «جولديلوكس».
•••
ربما لا تحتاج الحياة إلى كوكب على الإطلاق.
يجدر بنا ألا نيئس بشأن نظامنا النجمي بسهولة كبيرة. إذا كان ثمَّة وجود للحياة في مكان آخر بالنظام الشمسي، فأين ستوجد على الأرجح؟ إنَّ الكوكب الوحيد المأهول في المنطقة الصالحة للحياة حول الشمس، هو الأرض بحسب معرفتنا؛ لذا تبدو الإجابة للوهلة الأولى أنها «لا توجد في أي مكان.» والحق أنَّ الأماكن الأكثر ترجيحًا لوجود حياة عليها، وإن كان تعقيدها لا يزيد عن البكتيريا على الأرجح، لكنها حياة على أية حال، هي «أوروبا»، و«جانيميد» و«كاليستو» و«تيتان» و«إنسيلادوس». ويُعَد «سيريس» والمشتري احتمالَين مستبعدَين.
فالكوكب القزم، «سيريس»، يقع في الحافة الخارجية من المنطقة الصالحة للحياة، وغلافه الجوي رقيق ويحتوي على بخار الماء. وقد كشفت بعثة «دون» عن وجود بقع زاهية داخل إحدى فُوَّهاته، واعتقد العلماء في بادئ الأمر أنها جليد، لكنها تُعرف الآن بأنها نوع من ملح الماغنيسيوم. لو أنها كانت جليدًا بالفعل، لكان «سيريس» يحتوي على أحد المكوِّنات الأساسية للحياة الشبيهة بحياة الأرض، وإن كان متجمدًا. ومن المرجح وجود جليد على أعماق أبعد.
لقد اقترح كارل سيجان في ستينيات القرن العشرين، أنَّ الحياة البكتيرية، وربما كائنات أكثر تعقيدًا شبيهة بالبالونات، يمكن أن تطفو في الغلاف الجوي للمشتري. تتمثَّل العقبة الأساسية في أنَّ المشتري يطلق قدرًا كبيرًا من الإشعاع. بالرغم من ذلك، تنمو بعض أنواع البكتريا عاليًا في الغلاف الجوي للأرض حيث ترتفع مستويات الإشعاع، ويمكن ﻟ «بطيئات المشية»، وهي كائنات صغيرة تشتهر باسم «دببة الماء»، أن تحيا في مستويات متطرفة من الإشعاع ودرجات الحرارة الباردة والساخنة، والتي لا يمكننا العيش فيها.
إنَّ الأجرام الخمسة الأخرى التي ذكرتُها ليست كواكب ولا كواكب قزمة؛ بل أقمار، وهي تقع خارج المنطقة الصالحة للحياة. «أوروبا» و«جانيميد» و«كاليستو» من أقمار المشتري. مثلما ذكرنا في الفصل السابع، تحتوي هذه الأقمار على محيطات جوفية تشكلت؛ لأنَّ التسخين المدي الناتج عن المشتري يذيب الجليد. ومن المحتمل وجود فتحات حرارية مائية في قيعان هذه المحيطات؛ مما يوفِّر موطنًا لكائنات حية لا تختلف عمَّا يوجد في الفتحات المماثلة الموجودة في محيطات الأرض، كتلك الموجودة في سلسلة جبال الأطلنطي. ففي هذا المكان، تنفصل الصفائح التكتونية للأرض بعيدًا بعضها عن بعض، ويسحبها حزام نقل جيولوجي فتتقطع إربًا بينما تندس حوافها الخارجية تحت قارتي أوروبا وأمريكا. يمثل المزيج الغني من المواد الكيميائية البركانية، مع الدفء الصادر من الغازات البركانية الساخنة، موطنًا مريحًا للديدان الأنبوبية وأنواع الروبيان، وغير ذلك من الكائنات المعقدة نسبيًّا. إنَّ بعض علماء الأحياء التطورية يعتقدون أنَّ الحياة على الأرض قد نشأت بالقرب من تلك الفتحات. إذا حدث ذلك على الأرض، فلماذا لا يحدث على «أوروبا»؟
•••
ما نناقشه تاليًا، هو القمر الأكثر غرابة من بينها على الإطلاق، وهو «تيتان» قمر زحل. يبلغ قطره نصف قطر قمر الأرض، وبخلاف أي قمر آخر في النظام الشمسي، يمتلك «تيتان» غلافًا جويًّا كثيفًا. يتكوَّن الجسم الأساسي ﻟ «تيتان» من خليط من الصخر والجليد المائي، وتبلغ درجة حرارة سطحه حوالي ٩٥ درجة كلفن تقريبًا (سالب ١٨٠ درجة مئوية). وقد اكتشفت بعثة «كاسيني» أنَّ به بحيراتٍ وأنهارًا من الميثان السائل والإيثان، وهما يوجدان على الأرض في صورة غازات في درجة حرارة الغرفة. يتكوَّن معظم الغلاف الجوي من النيتروجين (٩٨٫٤٪)، زائد ١٫٢٪ من الميثان، و٠٫٢٪ من الهيدروجين، وبقايا من بعض الغازات الأخرى مثل الإيثان والأسيتلين والبروبان وسينايد الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون وأول أكسيد الكربون والأرجون والهيليوم.
العديد من هذه الجزيئات عضوي؛ أي أنَّ أساسها هو الكربون، وبعضها من الهيدروكربونات. يعتقد العلماء أنها تتكوَّن حين يفصل الضوء فوق البنفسجي الصادر من الشمس الميثان، ويشكِّل ضبابًا دخانيًّا كثيفًا برتقالي اللون. وذلك لغز في حد ذاته؛ إذ لا ينبغي أن يستغرق الأمر سوى ٥٠ مليون عامًا لكي ينفصل جميع الميثان الموجود في الغلاف الجوي، غير أنه لا يزال موجودًا. لا بد أنَّ شيئًا ما يجدده. فإمَّا أنَّ النشاط البركاني يطلق الميثان من مستودع جوفي ضخم، أو أنَّ الميثان الفائض ينتج عن كائن غريب وبدائي على الأرجح. إنَّ اختلال توازن الكيمياء علامة محتملة على وجود الحياة، والأكسجين الموجود على الأرض من الأمثلة الواضحة على ذلك؛ إذ كان سيختفي منذ فترة طويلة لولا عملية البناء الضوئي التي تقوم بها النباتات.
•••
إذا تطوَّر بشرٌ على المريخ، فكيف سيختلفون عنا؟
سؤال سخيف. فالبشر «لم» يتطوروا على المريخ. وإذا تطورت حياة على المريخ (ويُحتمَل أنها تطورت بالفعل قبل وقت طويل بحسب ما نعرفه، وربما لا تزال كائنات في مستوى البكتيريا تعيش هناك)، فإنها ستتبع مسارها التطوري الخاص، الذي سيكون مزيجًا من الصدفة والديناميكيات الانتقائية. إذا نقلنا البشر إلى المريخ، فسيموتون قبل أن يتمكنوا من التطور كي يتكيفوا مع الظروف الموجودة هناك.
حسن إذن. فلنفترض أنَّ كائنات فضائية قد تطورت على كوكب خارجي. ماذا سيكون شكلها؟ والحق أنَّ هذا السؤال ليس أكثر منطقية إلا بدرجة طفيفة. لتتذكر أنَّ الأرض تحفل بملايين الأنواع المختلفة. فما شكلها؟ بعضها يمتلك أجنحة، وبعضها يمتلك أرجلًا، وبعضها يمتلك الاثنين، وبعضها يعيش على بُعد كيلومترات في أعماق المحيطات، وبعضها يزدهر في الأماكن المتجمدة، وغيرها في الصحراء. فحتى الحياة الأرضية شديدة التنوع وتتسم بطبيعة حيوية غريبة؛ إذ تنقسم الخميرة إلى ٢٠ نوعًا جنسيًّا، وتأكل ضفادع «القيطم» صغارها.
على العكس من ذلك، فالسمة الشاملة سمة عامة توفِّر مزايا واضحة للبقاء على قيد الحياة. ومن أمثلة ذلك، القدرة على اكتشاف الأصوات والضوء والقدرة على الطيران في الغلاف الجوي. ومن علامات السمة الشاملة أن تكون قد تطورت بصفة مستقلة لمرات عديدة على الأرض. فالطيران على سبيل المثال قد تطوَّر في الحشرات والطيور والوطاويط، من خلال مسارات مستقلة. تختلف هذه المسارات في سماتها المحدودة؛ فجميعها يستخدم الأجنحة، لكنَّ تصميم الجناح يختلف للغاية في كل حالة من الحالات. بالرغم من ذلك، فقد اختيرت هذه التصميمات كلها لأداء السمة الشاملة الرديفة لها.
غير أنَّ هذا الاختبار ينطوي على عيب؛ فهو يربط السمة بالتاريخ التطوري للأرض على نحو مباشر. وليس ذلك جيدًا للغاية عند التفكير بشأن الكائنات الفضائية. فهل الذكاء في المستوى البشري (أو أعلى) سمة شاملة؟ لقد تطور الذكاء بصفة مستقلة في الدلافين والأخطبوطات على سبيل المثال، لكنه لم يصل إلى المستوى البشري؛ لذا فليس من الواضح ما إذا كان الذكاء يستوفي اختبار «التطور المتعدد» أم لا. بالرغم من ذلك، يبدو الذكاء بالفعل حيلة عامة «قد» تتطور بصفة مستقلة، وهي توفر مزايا واضحة قصيرة المدى للبقاء على قيد الحياة؛ مما يمنح مالكها ميزة يتفوق بها على بيئته. إذن يمكن القول بأنَّ الذكاء سمة شاملة.
ليست تلك بتعريفات، والفرق بين السمات الشاملة والمحدودة ضبابي على أفضل تقدير. غير أنه يركِّز الانتباه على ما سيكون عموميًّا على الأرجح، وما سيكون عرضيًّا إلى حد كبير. إذا وُجِدت حياة فضائية على وجه التحديد، قد تتسم ببعض السمات الشاملة الشبيهة بتلك الموجودة على الأرض، لكن من غير المرجح أن تتشارك معنا في أيٍّ من السمات المحددة. فالكائنات الفضائية الشبيهة بالبشر، والتي تتطور بصفة مستقلة على كوكب آخر، مثلنا تمامًا، ينبغي أن تتمتع بالكثير جدًّا من السمات المحددة كي يمكن الاقتناع بوجودها. المرفقان على سبيل المثال. غير أنَّ كائنات فضائية تمتلك طرفًا من نوعٍ ما، تستطيع تحريكه طوعًا، تستغل سمة شاملة.
إنَّ أي تصميم محدد للكائنات الفضائية سيكون مليئًا بالسمات المحددة. إذا كان مصممًا على نحو منطقي، فقد يكون «شبيهًا» بأحد أشكال الحياة الفعلية التي توجد في مكانٍ ما ذي بيئة مشابهة. سيتمتع أيضًا بسمات شاملة ملائمة. بالرغم من ذلك، فالاحتمال ضئيل بأن تظهر جميع السمات المحددة في الكائن الحقيقي نفسه. فلتصمِّم فراشةً ذات أجنحة فاخرة الألوان، وقرون استشعار دقيقة، وخطوط على الجسم. والآن، حاول أن تعثر على فراشة حقيقية تشبهها «تمامًا». ومن غير المرجح أن تجدها.
بما أننا نناقش احتمالات وجود حياة فضائية، فمن المنطقي أن نتساءل بشأنِ ما يمكن وصفه بأنه «حياة». إنَّ تحديد معنى المصطلح «حياة» يساعدنا أيضًا على تقليل خطر استخدام السمات المحددة لتعريف الكائنات العالية التعقيد التي يُعد اعتبارها من الكائنات الحية أمرًا واضحًا. لتفادي هذا الخطر، علينا الالتزام بالسمات الشاملة. فالكيمياء الحيوية الأرضية على وجه التحديد، سمة محددة «على الأرجح». ذلك أنَّ التجارب توضح إمكانية وجود عدد لا يُحصى من التنويعات الصالحة للحياة من نظام البروتينات، والأحماض الأمينية، والحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين الخاص بنا، والذي نألفه. وإذا قابلنا كائنات فضائية قد طوَّرت حضارة مرتادة للفضاء، ولم تكن تمتلك الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين، سيكون من الحمق الإصرار على أنها كائنات غير حية.
لقد استخدمت مصطلح «تحديد» لا «تعريف»؛ لأنه ليس من الواضح أنَّ «تعريف» الحياة يمكن أن يشكل أيَّ معنًى. يوجد الكثير جدًّا من المناطق الرمادية، وثمَّة استثناء لأي صيغة كلامية على الأرجح. فاللهيب يتسم بالكثير من خصائص الحياة، بما في ذلك القدرة على التكاثر، لكننا لا نَعده من الكائنات الحية. وهل الفيروسات كائنات حية أم لا؟ يتمثَّل الخطأ في أننا نتخيل وجود «شيء» نسميه بالحياة، وأنَّ علينا تحديد ماهية ذلك الشيء. غير أنَّ الحياة مفهوم استخلصتْه أدمغتنا من تعقيد ما يوجد حولنا، ونراه مهمًّا. إننا نستطيع اختيار ما تعنيه الكلمة.
معظم علماء الأحياء في الوقت الحالي تلقَّوا تدريبًا في الأحياء الجزيئية، وهم يفكرون تلقائيًّا في الجزيئات العضوية (ذات الأساس الكربوني). وقد أثبتوا براعة استثنائية في اكتشاف آلية عمل الحياة على هذا الكوكب؛ فلا غرو إذن أن يكون تصوُّرهم الافتراضي عن الحياة الفضائية شديد الشبه بما تبدو عليه الحياة هنا. بينما ينزع الرياضيون وعلماء الفيزياء إلى التفكير البنيوي. وما يهم بشأن الحياة من هذا المنظور، حتى وإن كانت الحياة على هذا الكوكب، ليس ما تتكوَّن منه. وإنما «الكيفية التي تتصرف بها.»
ابتكر ستيوارت كوفمان، وهو من مؤسسي نظرية التعقيد، إحدى الخصائص الأكثر شمولًا ﻟ «الحياة». فهو يستخدم مصطلحًا مختلفًا: العامل المستقل. وهو «شيء يستطيع استنساخ نفسه، والقيام بدورة عمل ديناميكية حرارية واحدة على الأقل.» ومثل جميع المحاولات، يهدف هذا التعريف إلى تلخيص السمات الأساسية التي تجعل الكائنات الحياة مميزة. وهو تعريف غير سيئ. فهو يركِّز على السلوك لا المكونات. ثم إنه يتفادى تعريف الحياة من خلال التركيز على حدودها الضبابية بدلًا من تحديد اختلافاتها المميزة عن معظم الأنظمة الأخرى.
إذا وجدنا شيئًا على كوكب آخر يتصرف كما تتصرف برامج الكمبيوتر، فلن نعلن أنه شكل من أشكال الحياة الفضائية. وإنما سنبحث عن الكائن الذي كتبه. أما إذا وجدنا شيئًا يستوفي شرطي كوفمان، فأعتقد أننا سنعده من الكائنات الحية على الأرجح.
•••
وهو مثال قد حدث بالفعل.
فقبل عدة سنوات، صمَّمت أنا وكوهين أربع بيئات فضائية لمشروع متحف. وكان نموذج البيئة الأكثر غرابة، والتي سميناها «نيمبوس»، مصممًا إلى حدٍّ ما، على غرار «تَيتان». كان الوصف الأصلي يتضمن مقدارًا أكبر كثيرًا من التفاصيل، مثل التاريخ التطوري والهيكل الاجتماعي.
أما اليوم، فالسمات الظاهرة الأكثر بروزًا هي قلاع خيالية: أنظمة معقَّدة من جدران سيليكونية فلزية متراكزة تقريبًا، وتضم بِركًا من الإيثان/الميثان. تمثِّل هذه البِرك أساسات لاستيلاد الرقائق، وهي كائنات إلكترونية نشأت من البُسُط. وهذه الرقائق هي قطع رفيعة مسطحة من صخور السيليكا، ومغطاة بدوائر إلكترونية سيليكونية فلزية. تخضع هذه الرقائق لسباقات تسلح تطورية معقدة، تستولي فيها على دوائر الرقائق الأخرى. وفي كثير من الأحيان، تظهر دوائر جديدة أفضل في الاستيلاء على الدوائر الأخرى. وقد صارت ماهرة في ذلك. ويتمثَّل جوهر تكاثرها في نسخ القالب. فالرقاقة المتحركة تطبع صورة كيميائية لدائرتها على صخرة بِكر. تُعد هذه الصخرة قالبًا تنمو عليه نسخة طبق الأصل من الدائرة. بعد ذلك، تنقسم الصخرة بفعل النسخة. تسمح أخطاء النسخ بحدوث الطفرات، ويؤدي الاستيلاء على الدوائر إلى توليفات جديدة للعناصر مما يقدم مزايا للبقاء في السباق المسلح.
يُذاع أنَّ إحدى وصيفات الملكة فيكتوريا قد علَّقت على تمثيل سارة برنار لدور كليوباترا قائلة: «ما شدَّ اختلاف ذلك عن الحياة التي نحياها في بيوتنا، أيتها الملكة العزيزة.» والأمر نفسه ينطبق في هذه الحالة أيضًا؛ فلا يوجد أكسجين ولا مياه ولا كربون ولا منطقة صالحة للحياة ولا جينات، وثلاثة أجناس … إنَّ ما يوجد يتسم بما يكفي من التعقيد ليُعدَّ شكلًا من أشكال الحياة، وإن كان غير تقليدي للغاية، وهو يستطيع التطور من خلال الانتقاء الطبيعي. غير أنَّ السمات الأساسية واقعية من الناحية العلمية.
لست أزعم أنَّ مثل هذه الكائنات توجد بالفعل، الحق أنه ما من تصميم «معيَّن» للحياة الفضائية من المرجَّح أن يوجد بالفعل؛ لأنه سيتضمن الكثير من السمات المحددة. غير أنها توضح التنوع الثري الذي تتسم به الاحتمالات الجديدة التي قد تتطور على كواكب شديدة الاختلاف عن كوكبنا.