الجانب المظلم
«لم يكن هناك من شيء في الظلام لم يكن موجودًا حين كانت المصابيح مضاءة.»
انتهى الفصل الثاني عشر بكلمة «عفوًا». وقد كانت تعليقًا على اكتشاف أنَّ سرعات الدوران المحوري للمجرات غير منطقية. فبالقرب من المركز، تدور المجرة ببطء نسبيًّا، لكنَّ سرعة دورانها تبدأ في الزيادة مع الابتعاد عن المركز، ثم تبدأ في الاستقرار. غير أنَّ كلًّا من جاذبية نيوتن وأينشتاين، تقضيان بانخفاض معدل الدوران في الأجزاء الخارجية من المجرة.
يحل علماء الكونيات هذه المعضلة بافتراض أنَّ معظم المجرات تقع في منتصف هالة كروية شاسعة من المادة غير المرئية. كانوا يرجون في وقت من الأوقات أن تكون هذه المادة عادية فحسب لكنها لا تبعث من الضوء ما يكفي لأن نراها من مسافات بين المجرات، وأطلقوا عليها اسم المادة المظلمة الباردة. ربما كانت مقدارًا كبيرًا من الغاز أو الغبار فحسب، وهو يضيء على نحوٍ خافت للغاية لا يسمح لنا برؤيته. بالرغم من ذلك، فمع ظهور المزيد من الأدلة، لم يَعد هذا الطريق السهل للخروج من المعضلة متاحًا. فالمادة المظلمة، كما نفهمها اليوم، لا تشبه أي شيء آخر نعرفه، حتى في مسرِّعات الجسيمات العالية الطاقة. إنها قوة غامضة لا بد أنه يوجد الكثير للغاية منها.
لعلك تتذكر أنَّ النسبية تقول بأنَّ الكتلة تكافئ الطاقة. ويشير النموذج القياسي لعلم الكونيات، إضافةً إلى البيانات المأخوذة من «مسبار بلانك» التابع لوكالة الفضاء الأوروبية، إلى أنَّ إجمالي الكتلة/الطاقة في الكون المعروف يتألف من ٤٫٩٪ فحسب من المادة العادية ومن ٢٦٫٨٪ من المادة المظلمة. وذلك يترك نسبة أكبر تبلغ ٦٨٫٣٪ تُعزى إلى الطاقة المظلمة. يبدو أنَّه يوجد من المادة المظلمة خمسة أضعاف ما يوجد من المادة العادية، وفي مناطق الكون على مستوى المجرات، تبلغ كتلة المادة المظلمة زائد الكتلة الفعالة للطاقة المظلمة «٢٠ ضعفًا» من كتلة المادة العادية.
إنَّ الحجة التي تؤيد وجود المادة المظلمة بكميات ضخمة بسيطة ومباشرة. فنحن نستدل على وجودها من خلال مقارنة تنبؤات معادلة كيبلر بالملاحظات. لقد احتلت هذه الصيغة دائرة الضوء في الفصل الثاني عشر. وهي تنص على أنَّ إجمالي كتلة المجرة، حتى نصف قطر محدد، يساوي نصف ذلك القطر مضروبًا في مربع سرعة الدوران المتجهة للنجوم التي تقع على تلك المسافة، ومقسومًا على ثابت الجاذبية. توضح الصور الواردة في الفصل الثاني عشر لمنحنى الدوران مثلما تتنبأ به قوانين نيوتن ومنحنيات الدوران المرصودة لست مجرات أنَّ الملاحظات تتعارض بدرجة كبيرة مع هذا التنبؤ. فبالقرب من قلب المجرة، تكون سرعة الدوران المرصودة صغيرة للغاية، وتصبح كبيرة للغاية في المناطق الخارجية. الواقع أنَّ منحنيات الدوران تظل ثابتة تقريبًا حتى مسافات أكبر كثيرًا من تلك التي تبقى المادة المرصودة ثابتة في نطاقها، وهو ما يمكننا رؤيته بصفة أساسية من خلال الضوء الذي تبعثه.
إذا استخدمت السرعات المرصودة لحساب الكتل، فستجد أنَّ قدرًا ضخمًا من المادة يوجد ولا بد فيما وراء نصف القطر المرئي. ولإنقاذ معادلة كيبلر التي بدا استنتاجها مؤكدًا، اضطُر علماء الفلك إلى افتراض وجود كميات كبيرة من المادة المظلمة غير المرصودة. وقد التزموا بهذه القصة منذ ذلك الحين.
كان هذا السلوك الشاذ لمنحنيات الدوران المجرية هو الدليل الأول على وجود كميات كبيرة من المادة غير المرئية في الكون بلا شك، وهو لا يزال الأكثر إقناعًا. بعض الملاحظات الإضافية وأوجه الشذوذ في الجاذبية تزيد أيضًا من ثِقل الفكرة، وتشير إلى أنَّ المادة المظلمة ليست مادة عادية لا تصدر الضوء فحسب. وإنما هي نوع مختلف تمامًا من المادة يتفاعل مع كل شيء آخر عبر قوة الجاذبية. ومن ثمَّ؛ فلا بد أنها تتكوَّن من جسيمات دون ذرية تختلف كليًّا عن أي شيء رصدناه من قبل في مسرِّعات الجسيمات.
إنَّ المادة المظلمة هي نوع من المادة لا تعرفه الفيزياء.
•••
من المنطقي أن يكون جزء كبير من المادة الموجودة في الكون غير قابل للرصد، لكنَّ قصة المادة المظلمة في الكون تفتقر حاليًّا إلى خاتمة. ستكون الحجة الفاصلة هي تشكيل جسيمات جديدة تتمتع بالخواص المطلوبة في إحدى مسرعات الجسيمات، مثل «مصادم الهدرونات الكبير». لقد توصَّل هذا الجهاز المدهش حديثًا إلى الملاحظة المذهلة المتمثلة في رصد بوزون هيجز، وهو جسيم يشرح السبب في أنَّ العديد من الجسيمات (وليس كلها) لديها كتلة. بالرغم من ذلك، فلم تُكتَشف أي من جسيمات الطاقة المظلمة في تجارب المسارع حتى الآن. ولم يوجد أي شيء أيضًا في الأشعة الكونية؛ أي الجسميات العالية الطاقة التي توجد في الفضاء الخارجي، وتصطدم بالأرض بكميات كبيرة.
إذن، فالكون مليء بهذه المادة، وهي أكثر انتشارًا من المادة العادية، لكننا لا نرى سوى المادة العادية في كل مكان ننظر فيه.
يشير علماء الفيزياء إلى سوابق. فالجسيمات الافتراضية الغريبة تتمتع بسجل جيد. يُعَد النيوترينو حالة كلاسيكية على ذلك؛ إذ استدل العلماء على وجوده بتطبيق قانون حفظ الطاقة على تفاعلات محددة للجسيمات. كان غريبًا بالضرورة مقارنة بالجسيمات المعروفة آنذاك؛ فليس له شحنة كهربية، ولا كتلة تقريبًا، ويستطيع اختراق جسم الأرض بالكامل دون أن يعوقه شيء. بدا الأمر غير منطقي، لكنَّ التجارب قد كشفت عن وجود النيوترينو. ويقوم بعض العلماء الآن بالخطوات الأولى في علم فلك النيوترينو، مستخدمين هذه الجسيمات في فحص العوالم البعيدة من الكون.
ومن ناحية أخرى، اتضح أنَّ الكثير من الجسيمات الافتراضية مختلقة من خيالات المنظِّرين المفرطة.
لا بد من وجود نوع جديد تمامًا من الجسيمات. ولا بد أن يكون شيئًا قد فكَّر العلماء فيه، أو يستطيعون التفكير فيه، ولا بد بالطبع أن يكون شيئًا لا نعرف بوجوده حتى الآن. وبهذا فإنَّنا نرتمي باندفاع في عالم التخمين.
لكنه لم يرصد شيئًا من ذلك على الإطلاق.
لقد استكشف مصادم الهدرونات الكبير مجموعةً من الطاقات التي تتضمن ١٠٠ جيجا إلكترون فولت، ولم يرَ شيئًا لا يفسره النموذج القياسي.
لم يستطِع العديد من التجارب الأخرى التي تهدف لاكتشاف الجسيمات الضخمة الضعيفة التفاعل أن تجد أي شيء. لم يُعثَر لها على أي أثر أيضًا في الانبعاثات الواردة من المجرات القريبة، وهي تغيب على نحو ملحوظ أيضًا في التجارب المختبرية التي تهدف إلى اكتشاف بقايا تصادماتها مع الأنوية. يستمر الكاشف الإيطالي «داما/ليبرا» في رصدِ ما يبدو أنه إشارات الجسيمات الضخمة الضعيفة التفاعل، والتي ينبغي أن تولِّد دفقة من الضوء حين تصطدم ببلورة من يوديد الصوديوم. تصدر هذه الإشارات بانتظام في شهر يونيو كل عام؛ مما يشير إلى أنَّ الأرض تمر بحزمة من الجسيمات الضخمة الضعيفة التفاعل في مكان محدَّد من مدارها. المشكلة أنَّ التجارب الأخرى يجب أن تكشف هي أيضًا عن هذه الجسيمات الضخمة الضعيفة التفاعل، وذلك لا يحدث. إنَّ «داما» يرصد شيئًا ما، لكنه لا يرصد الجسيمات الضخمة الضعيفة التفاعل على الأرجح.
أيمكن أن تكون المادة المظلمة نوعًا من الجسيمات أثقل كثيرًا؛ جسيمًا ضخمًا ضعيفَ التفاعل «وحشيًّا»؟ ربما. فالتلسكوب الراديوي «بيسيب ٢» يقدِّم أدلة مقنعة على أنَّ الكون في مراحله الأولى كان يمتلك من الطاقة ما يكفي لتشكيل ذلك المتضخم المراوغ، والذي يمكن أن يكون قد تحلل إلى جسيمات ضخمة ضعيفة التفاعل «وحشية». لا بأس بذلك كله، لكنَّ هذه الوحوش عالية الطاقة للغاية حتى إننا لا نستطيع صنعها، وهي تمر بالمادة العادية وكأنها غير موجودة؛ لذا لا نستطيع رصدها. بالرغم من ذلك، فقد نستطيع أن نرصد ما تنتجه حين تصطدم بمواد أخرى، وها هي ذي تجربة «مكعب الثلج» في القطب الشمالي تبحث عن ذلك. من بين جسيمات النيوترينو العالية الطاقة التي وجدتها في منتصف العام ٢٠١٥، والتي يبلغ عددها ١٣٧، ربما يكون ثلاثة منها قد تولدت عن الجسيمات الضخمة البطيئة التفاعل «الوحشية».
إذا لم يكن الحل أيًّا مما سبق، فماذا يكون؟
يُعد النيوترينو مثالًا رائعًا على الجسيمات الغريبة التي كان يبدو اكتشافها مستحيلًا. تنتج الشمس أعدادًا كبيرة منها، لكنَّ الكواشف المبكرة لم تكتشف سوى ثلث العدد المتوقع من النيوترينوات الشمسية. غير أنَّ النيوترينوات تنقسم إلى ثلاثة أنواع، ومن المؤكد الآن أنها تتحول من نوع إلى آخر في أثناء انتقالها. لم تتمكن الكواشف الأولى إلا من الكشف عن نوع واحد. وحين جرت ترقيتها لاكتشاف النوعين الآخرين، زاد العدد بمقدار ثلاثة أضعاف. والآن، من المحتمل أن يوجد نوع رابع يُدعى بالنيوترينو العقيم. إنَّ نيوترينوات النموذج القياسي تتخذ اتجاه اليسار، أما النيوترينوات العقيمة، فسوف تتخذ اتجاه اليمين؛ إن كانت موجودة. (المصطلح التقني لهذه الحالة هو عدم التناظر المرآتي، وهو يميِّز الجسيمات عن انعكاسها المرآتي.) إذا كانت النيوترينوات العقيمة موجودة بالفعل، فإنها ستجعل النيوترينوات مشابهةً لجميع الأجسام الأخرى، وتفسِّر أيضًا كتلة النيوترينو، وسيكون ذلك رائعًا للغاية. وربما تكون هي الإشعاع المظلم، الذي يتوسط بين التفاعلات التي تجري بين الجسيمات المظلمة إذا كانت موجودة. أُجري العديد من التجارب لاكتشافها. فلم تكتشف تجربة «ميني بون» التي أجراها مختبر «فيرمي لاب» في عام ٢٠٠٧ أيَّ شيء، ولم يكتشف القمر الاصطناعي «بلانك» أيَّ شيء أيضًا عام ٢٠١٣. بالرغم من ذلك، ففي تجربة فرنسية على جسيمات النيوترينو المنبعثة من مفاعل نووي، اختفى ٣٪ من النيوترينوات المضادة دون سابق إنذار. ربما كانت من النيوترينوات العقيمة.
•••
في بعض الأحيان تواجه المادة المظلمة مشكلة بسبب وجود الكثير للغاية منها. لعلك تتذكر أنَّ العناقيد الكروية هي كرات صغيرة نسبيًّا من النجوم تدور بمجرتنا والكثير غيرها من المجرات. لا تتفاعل المادة المظلمة إلا من خلال الجاذبية؛ ومن ثمَّ فهي لا تصدر أي إشعاع كهرومغناطيسي. وبهذا فإنها لا تستطيع التخلص من الحرارة، وهو شرط أساسي للانكماش بفعل الجاذبية؛ لذا فهي لا تستطيع تكوين تكتلات بصغر العناقيد الكروية. ومن ثمَّ فإنَّ العناقيد الكروية لا يمكن أن تحتوي على الكثير من المادة المظلمة. بالرغم من ذلك، يجد سكاربا أنَّ النجوم في مجرة «أوميجا سنتوري» أكبر العناقيد الكروية، تتحرك بسرعة أكبر كثيرًا مما يمكن تفسيره بالمادة المرئية. ولأنَّ المادة المظلمة يجب ألا توجد في هذه الحالة، فربما يكون المسئول عن ذلك الانحراف هو شيء آخر: قانون مختلف للجاذبية مثلًا.
لا يمكن إنكار أنَّ الاستدلال على وجود مادة غير مرئية من خلال ملاحظة أوجه الانحراف في مدارات النجوم أو الكواكب هي طريقة لها تاريخ طويل ومميز. لقد أدت إلى التنبؤ الناجح بوجود نبتون. وحالفها الحظ مع بلوتو أيضًا إذ كانت الحسابات تستند إلى افتراضات اتضح خطؤها، لكنَّ جِرمًا قد اكتُشِف بالقرب من الموقع الذي تنبأت به الحسابات على أية حال. وقد أدت أيضًا إلى اكتشاف العديد من الأقمار الصغيرة للكواكب العملاقة. ثم إنها أكدت النسبية عند تطبيقها على انحراف في التقدم المداري للحضيض الشمسي لدى عطارد. علاوةً على ذلك، فقد اكتُشِفَ العديد من الكواكب الخارجية استنتاجًا من الطريقة التي تؤدي بها إلى تأرجح نجمها.
من ناحية أخرى، ثمَّة حادثة واحدة على الأقل أتت فيها هذه الطريقة بنتيجة أقل تميزًا للغاية؛ فولكان. مثلما رأينا في الفصل الرابع، فإنَّ التنبؤ بهذا الكوكب غير الموجود، الذي كان يُفترَض دورانه على مسافة أقرب إلى الشمس من كوكب الزهرة، كان محاولة لتفسير التقدم المداري للحضيض الشمسي لعطارد، من خلال تفسير الانحراف إلى الاضطراب بفعل كوكب غير مرصود.
وفي سياق هذه الحوادث السابقة، يتمحور السؤال الأهم حول ما إذا كانت المادة المظلمة كحالة نبتون أم كحالة فولكان. يقول الاعتقاد الفلكي السائد بأنها كحالة نبتون. غير أنه إذا كان هذا صحيحًا، فإن حالة نبتون ينقصها سمة أساسية في الوقت الحالي: نبتون نفسه. وعلى عكس وجهة النظر التقليدية، لا بد أن نعرض الاقتناع المتزايد، لا سيما بين بعض الفيزيائيين والرياضيين بأنها حالة فولكان.
•••
لما كانت المادة المظلمة خجولة للغاية متى ما بحث عنها أيُّ شخص فعليًّا، فربما علينا أن نفكر في احتمالية عدم وجودها. إنَّ تأثيرات الجاذبية التي أدت بعلماء الكونيات إلى افتراضها تبدو مؤكدة؛ لذا ربما يجدر بنا البحث عن تفسير آخر. ربما يجدر بنا مثلًا أن نحاكي أينشتاين ونبحث عن قانون جديد للجاذبية. لقد نجحت هذه الطريقة معه.
ليس ذلك فحسب؛ بل يوضح الاكتشاف أيضًا أنَّ وجهات نظرنا الحالية تقلل كثيرًا من تقدير كمية المادة العادية. والحق أنَّ هذا التقليل في التقدير لا يكفي لاستبدال المادة العادية بالمادة المظلمة؛ بل يكفي لأن يستلزم إعادة التفكير في جميع حسابات المادة المظلمة. ومن أمثلة ذلك حسابات «عنقود الطلقة».
في المجمل، يمكن لديناميكا نيوتن المعدَّلة أن تفسِّر معظمَ ما يتعلق بالجاذبية من ملاحظات شاذة، ومعظمها يقبل العديد من التأويلات المتعارضة على أية حال. بالرغم من ذلك، فهي لا تحظى بالتأييد الكبير بين علماء الكونيات الذين يجادلون بأنَّ صياغتها عشوائية. أنا شخصيًّا لا أرى فيها من العشوائية أكثر مما أراه في افتراض وجود كميات هائلة من نوع جديد ومختلف تمامًا من المادة، لكني أعتقد أنَّ كلَّ ما في الأمر هو أنَّ ذلك يسمح لهم بالاحتفاظ بمعادلاتهم الثمينة. ذلك أنك إذا غيرت المعادلات، فسوف تحتاج إلى أدلة جديدة تؤيد اختيارك من المعادلات الجديدة، وحقيقة «ملاءمتها للملاحظات» لا تثبت على وجه التحديد الحاجة إلى «ذلك التعديل». لم تقنعني هذه الحجة أيضًا؛ لأنَّ الأمر نفسه ينطبق على الأنواع الجديدة من المادة. لا سيما وأنَّ أحدًا لم يكتشف هذه المادة قط إلا من خلال الاستدلال على وجودها من آثارها المفترَضة على المادة المرئية.
ثمَّة نزعة لافتراض وجود احتمالين فقط؛ إما ديناميكا نيوتن المعدلة وإما المادة المظلمة. غير أنَّ نظرية الجاذبية ليست نصًّا مقدسًا، ويمكن تعديلها بعدد ضخم من الطرق. إذا لم نستكشف ذلك الاحتمال، فربما نكون قد وضعنا رهاننا على الحصان الخاطئ. وليس من الإنصاف أن نقارن النتائج الأولية التي توصَّل إليها بضعة من رواد تلك النظريات بالجهود الضخمة التي بذلها علم الكونيات التقليدي والفيزياء في مسعى المادة المظلمة. أنا وكوهين نسمي هذه الحالة «معضلة رولز-رويس»؛ فما من تصميم جديد من السيارات سيُنفَّذ إذا أصررت على أنَّ النموذج الأولي لا بد أن يكون أفضل من سيارة «رولز» جديدة.
وفقًا لهذا الاقتراح، فإنَّ كونًا ثابتًا متجانسًا في البداية، سيمر بتمدد متسارع؛ إذ تضخِّم الجاذبية من التقلبات الكمومية. وهذا يلغي الحاجة إلى المادة المظلمة. يكتب ريبالدا بشأن المادة المظلمة: «إحدى أكثر السمات إثارة للاهتمام في المادة المظلمة أنَّ توزيعها الظاهري يختلف عن توزيع المادة. فكيف يمكن هذا إذا كانت «المادة المظلمة» تتفاعل عبر الجاذبية وتتبع الخطوط الجيوديسية نفسها التي يتبعها جميع المادة والطاقة؟» بدلًا من ذلك، يستخدم ريبالدا تشبيهًا بالكهرباء الاستاتيكية ليقترح أنَّ الهالة الكروية التي تتألف من المادة المظلمة ويُفترَض أنها تحيط بالمجرة، هي في واقع الأمر فراغ كروي في منطقة ينتشر فيها توزيع المادة المشيرة إلى الماضي.
وحتى إذا كانت هذه النظرية خاطئة، فإنها توضح أنَّ تغيير بضعة افتراضات بشأن هندسة الزمكان، يمكِّننا من الاحتفاظ بالصورة القياسية من معادلات أينشتاين للمجال، مع التخلص من «التدخل الغيبي» المتمثل في التضخم والطاقة المظلمة والمادة المظلمة، واستنتاج سلوك يتفق على نحو منطقي مع الملاحظات. ومع مراعاة معضلة «رولز-رويس»، يجدر بنا التفكير في نماذج أكثر ابتكارًا بدلًا من الالتزام بمعارف فيزيائية جذرية من دون أدلة كافية تدعمها.
•••
لقد ظللت محتفظًا بطريقة محتملة للإبقاء على القوانين المعتادة للطبيعة مع إلغاء المادة المظلمة من المعادلة تمامًا. ليس ذلك بسبب وجود بدائل مثيرة؛ بل لأنَّ الحسابات التي يبدو أنها تثبت وجود المادة المظلمة قد تكون خاطئة.
إذا كان هذا صحيحًا، فالأرجح أنَّ المادة المظلمة «فولكان» آخر.
يتركز اهتمام ساري الوحيد على البنية الرياضية للنموذج الرياضي القياسي الذي يستخدمه علماء الفلك لاشتقاق معادلة كيبلر. وتشكك حساباته فيما إذا كان هذا النموذج ملائمًا أم لا. إنه اقتراح جذري لكنَّ ساري خبير في رياضيات معضلة الأجسام «ن» والجاذبية بصفة عامة؛ لذا فإنَّ تبريره المنطقي جدير بالذكر. سأعفيكم من ذكر الحسابات التفصيلية، ويمكنكم الاطلاع عليها إن أردتم في ورقته البحثية.
ولهذا يصمِّم علماء الفلك افتراض النمذجة الذي يؤدي عند جمعه بمبرهنة رياضية أنيقة، إلى تبسيط المجرة إلى جسم واحد. بعد ذلك، يحللون حركة نجمٍ ما حول هذا الجسم لاستنتاج منحنى الدوران النظري من معادلة كيبلر. يتمثَّل الافتراض في أنه عند النظر إلى المجرات على النطاقات المجرية، فإنها تبدو أشبه بسائل متدفق — حساء من النجوم — أكثر مما تبدو نظامًا يتمثَّل في «ن» من الأجسام. في هذه الحالة من «الاتصال» تنطبق مبرهنة لطيفة أثبتها نيوتن. (كان قد استخدمها لتبرير التعامل مع الكواكب الكروية على أنها كتل نقطية.) معنى هذا أنَّه وفقًا لبعض افتراضات التناظر المنطقية، يبلغ إجمالي القوة المبذولة داخل وعلى أي غلاف كروي محدَّد صفرًا، بينما تكون القوة المبذولة خارجيًّا مساوية لما كانت لتصبح عليه إذا كانت جميع المادة بداخل الغلاف متكثفة في النقطة المركزية.
تخيَّل نجمًا في إحدى المجرات، ولنسمِّه نجم الاختبار، وتخيَّل غلافًا كرويًّا له مركز مطابق لمركز المجرة، وهو يمر عبره. الكتلة الموجودة بداخل الغلاف هي ما كنت أسميه من قبل «الكتلة بداخل نصف القطر ذاك». بصرف النظر عمَّا تفعله النجوم الموجودة بداخل ذلك الغلاف، يمكن تطبيق مبرهنة نيوتن لتركيز إجمالي كتلتها في مركز المجرة، من دون التأثير على القوة الكلية التي يشهدها نجم الاختبار. لا تبذل النجوم الموجودة خارج الغلاف أيَّ قوة على الإطلاق؛ لأنَّ نجم الاختبار يقع على ذلك الغلاف. وبهذا، تُختصَر حركة نجم الاختبار حول المجرة إلى مشكلة «الجسمين»؛ نجم يدور حول نقطة ثقيلة للغاية من الكتلة. تنتج معادلة كيبلر من هذا مباشرةً.
يتمثل افتراض التناظر اللازم لتطبيق مبرهنة نيوتن في أنَّ جميع النجوم تتبع مدارات دائرية، وأنَّ النجوم التي تقع على المسافة نفسها من المركز تتحرك بالسرعة نفسها. معنى هذا أنَّ الديناميكيات تتسم بالتناظر الدوراني. بعد ذلك يسهل اشتقاق الحلول الدقيقة لمعادلات الحركة في حالة حساء النجوم. يمكنك اختيار صيغة توزيع الكتلة أو صيغة منحنى الدوران، ثم استخدام معادلة كيبلر لاستنتاج الحل الآخر. ثمَّة شرط واحد بالرغم من ذلك، وهو أنَّ الكتلة لا بد أن تزيد بزيادة نصف القطر.
وبهذا، يكون نموذج حساء النجوم ذاتي الاتساق؛ إذ يتفق تمامًا مع جاذبية نيوتن ويتبع معادلة كيبلر. ويبدو أنَّ الافتراض الضمني بالتناظر الدائري يتفق هو أيضًا مع الملاحظات. وهكذا نحصل على نموذج عريق يستند إلى رياضيات بارعة وصالحة، ويتيح حل المسألة. لا عجب إذن أنَّ علماء الفلك يحبونه.
بالرغم من ذلك، فهو معيب من الجانب الرياضي مع الأسف. ونحن لا نعرف مدى خطورة هذا العيب حتى الآن، لكنه مؤذٍ وقد يكون مهلكًا.
يتشكك العلماء في سمتين من سمات هذا النموذج. السمة الأولى هي افتراض المدارات الدائرية لجميع النجوم. غير أنَّ السمة الأهم هي مقاربة الاتصال؛ حساء النجوم. تتمثَّل المشكلة في أنَّ تسوية جميع النجوم بداخل الغلاف يلغي جزءًا مهمًّا من الديناميكيات. يُقصد بهذا «التفاعلات» بين النجوم القريبة من الغلاف، والنجم الذي نحاول حساب سرعة دورانه.
في النموذج المتصل، لا يهم ما إذا كانت المادة الموجودة بداخل الغلاف تدور أم ساكنة. كلُّ ما يهم هو إجمالي الكتلة بداخل الغلاف. علاوةً على ذلك، فإنَّ القوة التي تبذلها هذه الكتلة على نجم الاختبار تتجه دائمًا نحو مركز المجرة. تعتمد معادلة كيبلر على هذه الحقائق.
غير أنَّ النجوم في نظام الأجسام «ن» الحقيقي أجسامٌ منفصلة. إذا مرَّ نجم ثانٍ قريبًا للغاية من نجم الاختبار، فإنَّ الانفصال يتضمن هيمنة النجم الآخر على مجال الجاذبية المحلي، ويجذب نجم الاختبار نحوه. إذن، فهذا النجم القريب «يسحب» نجم الاختبار معه. يؤدي هذا إلى «زيادة سرعة» دوران نجم الاختبار حول مركز المجرة. لا شك بأنه يبطئ النجم العابر أيضًا، لكنَّ ذلك سرعان ما يزول ليحل محله نجم آخر، يتبعه بالخلف. تشير هذه الحجة البديهية إلى أنَّ معادلة كيبلر تقلل من تقدير سرعات الدوران على مسافات بعيدة. وإذا كان هذا صحيحًا، فإنه يساعد في تفسير وجه الشذوذ.
لنذكر تشبيهًا مبسطًا للغاية. تخيَّل محملًا كرويًّا ضئيلًا مستقرًّا فوق عجلة دوارة (وكلاهما محدَّد بمستوًى دون جاذبية تتسبب في اضطراب المحمل الكروي). إذا كانت العجلة دائرة مستوية تمامًا، فلن يكون لها أي تأثير على المحمل الكروي، وكأنها ثابتة. غير أنَّ نظام الأجسام «ن» المنفصل يستبدل بالعجلة ترسًا مسننًا. والآن يصطدم كل سن من أسنان الترس بالمحمل الكروي؛ فيدفعه في اتجاه الدوران. إنَّ الأسنان الشديدة الصغر لم تمنع الركلة؛ إذ يوجد المزيد منها. ولهذا، فالركلة المقيِّدة للأسنان الصغيرة ليست كالركلة في حالة عدم وجود أسنان على الإطلاق؛ أي صفر.
ليست هذه الحجة محض عمل غير واضح المعالم وغير مدعوم بالأدلة. وإنما يقدِّم ساري الحسابات اللازمة لإثبات أنَّ حساء النجوم المستوي، «لا» يمثل على النحو الملائم توزيع نظام الأجسام «ن»، حيث يكون «ن» كبيرًا. فهو على وجه التحديد يتجاهل الشد. بالرغم من ذلك، فقد يكون التأثير الإجمالي للشد صغيرًا لأنَّ ديناميكيات نموذج الأجسام «ن» الحقيقي أكثر تعقيدًا من السيناريو الذي حللناه للتو. ولتقييم أهمية تأثير الشد، علينا استخدام نموذج دقيق للجسم «ن» لجميع النجوم الموجودة داخل الغلاف، من أجل إيجاد تأثيرها الجمعي على نجم الاختبار.
تتمثَّل الطريقة الأفضل لتحقيق ذلك في بناء حالة للجسم «ن» تحتفظ بجميع الخواص الأساسية المفترضة لحساء النجوم، بخلاف الاتصال. إذا غيَّرت هذه الحالة المحددة معادلة كيبلر، فيمكننا التأكد حينها أنَّ السبب في ذلك هو استبدال حساء النجوم المتصل بالأجسام المنفصلة «ن». تلك الخواص الأساسية هي توزيع الكتلة المتناظر، مع تحرك كل نجم من النجوم في دائرة بينما يتجه تسارعه نحو مركز المجرة.
بالرغم من أننا لا نستطيع في العموم كتابة حلول مباشرة لمسائل الأجسام «ن»، فثمَّة فئة من الحلول يمكن تحقيق ذلك من خلالها، وهي تُعرف باسم التكوينات المركزية. في هذه الحالات الخاصة، تدور جميع الحلقات المتحدة المركز من النجوم، والتي تشبه شبكة عنكبوت، بالسرعة المتجهة الزاوية نفسها، وكأن التكوين صلب. تعود هذه الفكرة إلى ورقة نُشِرت عام ١٨٥٩ ألَّفها جيمس كليرك ماكسويل عن ثبات حلقات زحل، وقد ذُكِرت في الفصل السادس بصفتها دليلًا على أنَّ الحلقات لا يمكن أن تكون صلبة. يستخدم ساري فكرة مشابهة لاقتراح أنَّ نموذج حساء النجوم لا يمكن أن يمثل ديناميكيات المجرة على نحو صحيح.
إنَّ التكوينات المركزية اصطناعية؛ أي أنَّ أحدًا لن يتوقَّع وجود مثل ذلك الشكل المنتظم في أي مجرة حقيقية. من ناحية أخرى، فهي اختيار منطقي لاختبار مدى توافق نموذج الاتصال ونموذج الأجسام «ن» معًا. إذا اخترنا ما يكفي من الخطوط نصف القطرية في الشبكة وما يكفي من الدوائر، فسنحصل على حساء كثيف للغاية من النجوم، مما يمثل خاصية الاتصال على نحو جيد. علاوةً على ذلك، فإنَّ تكوين شبكة العنكبوت يفي إلى حد كبير أيضًا بشروط التناظر المستخدمة لاستنتاج معادلة كيبلر. وبهذا، فمن المحتمل أن تنجح المقاربة بحساء النجوم.
إنَّ معادلة كيبلر ينبغي أن تكون صالحة على وجه التحديد لشبكة عنكبوت دوارة. ويمكن التحقق من هذا باستخدام النسخة التي تعبِّر عن توزيع الكتلة استنادًا إلى السرعة المتجهة عند نصف قطر محدد. ولأنَّ شبكة العنكبوت تدور على نحو صارم، تتناسب السرعة المتجهة تناسبًا طرديًّا مع نصف القطر. ومن ثمَّ تتنبأ معادلة كيبلر بأنَّ توزيع الكتلة يتناسب طرديًّا مع مكعب نصف القطر. ستكون هذه النتيجة صالحة بصرف النظر عن الكتلة الفعلية للنجوم الموجودة في التكوين.
للتحقق من هذا، نجري الآن حساب نموذج الأجسام «ن» المنفصل «الدقيق» لشبكة العنكبوت. إنَّ نظرية التكوينات المركزية تسمح بقدر كبير من المرونة في اختيارات كتل النجوم. فعلى سبيل المثال، إذا كان كل نجم من النجوم يتسم بالكتلة نفسها (ومن ثمَّ كل حلقة)، فإنَّ التكوينات المركزية موجودة، وتوزيع الكتلة أقل دائمًا من ثابت مضروب في نصف القطر. بالرغم من ذلك، تخبرنا معادلة كيبلر في هذه الحالة أنَّ كتلة الحلقة الأبعد إلى الخارج تبلغ «مليون ضعف» الحلقة الأبعد إلى الداخل، مع أنَّهما متساويتان في الكتلة في الواقع. إذن، فالحساب الدقيق «لا» يثبت صحة النموذج الدقيق الذي يفضي إلى معادلة كيبلر. وعلى العكس من ذلك، فمع زيادة نصف القطر، تزداد الكتلة الصحيحة بدرجة أبطأ كثيرًا مما تتنبأ به معادلة كيبلر.
تفضي حسابات ساري إلى نتيجة مهمة أخرى. إذا كانت المادة المظلمة موجودة بالفعل، وتشكل هالات شاسعة ضخمة حول المجرات مثلما يعتقد علماء الفلك، فإنها لا يمكن أن تفسِّر في حقيقة الأمر منحنى الدوران الشاذ الذي بدأ الأمر برُمَّته في الأصل. فإما أن يكون قانون الجاذبية خاطئًا، وإما أن تكون افتراضات النمذجة التقليدية خاطئة.