خارج الكون
«في بعض الأحيان، كان صانع النجوم يطرح مخلوقات هي في حقيقة الأمر مجموعات من عدة أكوان مترابطة تمثل أنظمة فيزيائية من أنواعٍ مختلفة للغاية.»
لماذا نحن هنا؟
ذلك هو السؤال الفلسفي الجوهري. فالبشر ينظرون عبر نوافذ عيونهم إلى عالم أكثر منهم ضخامة وقوة. وحتى إذا كان العالم الذي تعرفه قرية صغيرة في منطقة مُزالة من الغابة، فستجد ما تتأمل فيه من عواصف رعدية وأسود وحيوانات فرس النهر، وكلها توحي بالرهبة بالفعل. وحين يكون عالمك باتساع ٩١ مليار سنة ضوئية و«مستمر في الزيادة»، فإنَّ ذلك يبعث على التواضع دون شك. يوجد الكثير للغاية من «الكون» والقليل للغاية منا «نحن». وهو ما يجعل التساؤل ﺑ «لماذا» كبيرًا للغاية.
بالرغم من ذلك، فشعور البشرية بأهميتها الذاتية لا يظل أبدًا متواضعًا لفترة طويلة. من حسن الحظ أنَّ الأمر نفسه ينطبق على شعورها بالتعجب وفضولها النهم. ولهذا، نجرؤ على طرح السؤال الجوهري.
إنَّ الاعتراضات التي ناقشتُها في الفصلين السابقين لم تُضعِف من اقتناع علماء الكونيات بأنهم يعرفون الإجابة، وهي أنَّ الانفجار العظيم وملحقاته، تصف الكيفية التي نشأ بها الكون على النحو الصحيح. وبالمثل، نجد أنَّ علماء الفيزياء مقتنعون بأنَّ نظرية النسبية والنظرية الكمومية تفسران معًا الكيفية التي يتصرف بها الكون. سيكون من الجيد توحيد هاتين النظريتين، لكنهما تعملان منفردتين على نحوٍ جيد عمومًا إذا اخترت النظرية الصحيحة.
يخبرنا علم الأحياء بقصة أكثر إقناعًا عن نشأة الحياة وتطورها إلى ملايين الأنواع التي تسكن الأرض اليوم، ونحن من بينها. يزعم بعض المؤمنين ببعض الأنظمة العقائدية أنَّ التطور يستلزم تحقُّق مصادفات غير محتملة على الإطلاق، غير أنَّ علماء الأحياء شرحوا مرارًا وتكرارًا عيوب تلك الحجج. إنَّ فهمنا للحياة على الأرض يتسم بفجوات عديدة، لكنَّ إحداها أننا نملأ هذه الفجوات. فالقصة الأساسية متسقة، وتدعمها أدلة من أربعة مجالات مستقلة على الأقل: السجل الأحفوري، والحمض النووي، والتصنيف التفرعي الحيوي (أشجار العائلات للكائنات)، وتجارب الاستيلاد.
بالرغم من ذلك، حين يتعلق الأمر بعلم الكونيات، نجد أنه حتى الفيزيائيون وعلماء الكونيات منشغلون بأنَّ الكون مثلما نفهمه اليوم، يقتضي حدوث عدد ضخم للغاية من المصادفات. وليست المشكلة في تفسيرِ ما يفعله الكون؛ بل السبب في أنَّ ذلك التفسير المحدَّد منطقي دونًا عن مجموعة أخرى من التفسيرات التي تبدو محتملة بالدرجة نفسها على النحو الظاهري. تلك هي مشكلة الضبط الدقيق للكون، والحق أنَّ الخلقيين وعلماء الكونيات يأخذونها بجدية شديدة على حد سواء.
أيشكل ذلك فرقًا؟ فرقًا كبيرًا بالتأكيد. فالقيم المختلفة للثوابت تؤدي إلى فيزياء مختلفة. لو أنَّ ثابت البنية الدقيقة كان أصغر قليلًا أو أكبر قليلًا، لصار تركيب الذرات مختلفًا، ولربما حتى أصبحت غير مستقرة. ومن ثمَّ لم يكن ليوجد بشر ولا كوكب يعيشون عليه، ولا ذرات تشكلهم.
٠١ ٠٠٠ ٠٠٠ ٠٠٠ ٠٠٠ ٠٠٠ ٠٠٠ ٠٠٠ ٠٠٠ ٠٠٠ ٠٠٠ ٠٠٠ ٠٠٠ ٠٠٠ ٠٠٠ ٠٫٠٠٠
إذن، لم يكن يُفترَض بنا أن نوجد أصلًا.
بالرغم من ذلك، فها نحن أولاء هنا. وذلك لغز.
يرى بعض المتدينين هذه العملية الحسابية بصفتها برهانًا على وجود إله يتمتع برفاهية اختيار قيم الثوابت الأساسية التي تجعل الحياة ممكنة. غير أنَّ إلهًا يتمتع بتلك القوة كان يستطيع أيضًا اختيار قيم مختلفة تمامًا، ثم يحقق معجزة، بحيث يوجد الكون على أي حال بالرغم من الثوابت الخاطئة. فما من سبب يدفع خالقًا كليَّ القدرة لاستخدام ثوابت أساسية على الإطلاق.
يبدو أنَّ لدينا خيارين. إما أن تكون قوةٌ ما خارقة للطبيعة هي التي رتَّبت هذه الثوابت، وإما أن تفسِّر لنا الفيزياء في المستقبل السبب في أنَّ الثوابت الأساسية القائمة حتمية.
وحديثًا، أضاف علماء الكونيات خيارًا ثالثًا، وهو أنَّ الكون يجرِّب جميع القيم الممكنة بالترتيب. وإذا كان هذا صحيحًا، فإنَّ الكون سيعثر على الأعداد المناسبة للحياة، وسوف تتطور الحياة. وإذا ظهرت حياة تتسم بالذكاء ونما فهمها بعلم الكونيات، فسوف تحار كثيرًا بشأن سبب وجودها في هذا الكون. وحين تفكر في هذا الخيار الثالث، ستكف عن القلق.
يُدعى هذا الخيار الثالث بالأكوان المتعددة. وهي نظرية جديدة ومبتكرة ويمكن إنتاج بعض المعارف الفيزيائية البارعة من خلالها. وسوف أخصِّص معظم الفصل لتقديم العديد من نسخها.
بعد ذلك، سأقدِّم الخيار الرابع.
•••
لقد نسَّق علم الكونيات الحديث ما يعتقد أنه وصف دقيق جدًّا لما نعنيه عادةً بمصطلح «الكون»؛ ومن ثمَّ اختُرِع مصطلح جديد؛ «الأكوان المتعددة». يشير هذا المصطلح إلى الكون بمعناه المعتاد، إلى جانب أي عدد من الأكوان الإضافية الافتراضية. فثمَّة أكوان «موازية» أو أكوان «بديلة»، يمكن أن توجد مع عالمنا، أو توجد خارجه، أو تكون مستقلة عنه كليًّا. غالبًا ما تُستَبعد هذه التخمينات بصفتها غير علميةٍ ويصعب للغاية اختبارها مقابل البيانات الفعلية. بالرغم من ذلك، فبعضها يقبل الاختبار نظريًّا على الأقل، وذلك بالطريقة العلمية القياسية المتمثلة في استنتاجِ ما لا يمكن رؤيته مباشرة أو قياسه من خلال ما يمكن رؤيته أو قياسه. لقد ظنَّ كونت أنه من المحال أبدًا أن نعرف التركيب الكيميائي للنجوم. غير أنَّ علم التحليل الطيفي قد عكس اعتقاده تمامًا؛ فكثيرًا ما يكون التركيب الكيميائي هو جلَّ ما نعرفه عنها تقريبًا.
-
«الكون المتعدد المرقَّع»: هو كون لا نهائي يشبه نسيجًا محيكًا بفن الترقيع، ويوجد من كل منطقة فيه نسخة مطابقة تقريبًا في مكان آخر.
-
«الكون المتعدد التضخمي»: متى ما فجَّر التضخم الأبدي القطة والتلفاز، يظهر كون جديد يتخذ ثوابت مختلفة.
-
«الكون المتعدد المشهد»: شبكة من الأكوان البديلة التي تتصل معًا من خلال النفق الكمومي، ويتبع كلٌّ منها نسخته الخاصة من نظرية الأوتار.
-
«الكون المتعدد الكمومي»: أكوان متوازية متراكبة لكلٍّ منها وجوده المنفصل. يُعد هذا الكون نسخة من قطة شرودينجر الشهيرة، فكلاهما حي وميت في الوقت ذاته.
يجادل جرين بأنه من المنطقي أن نفكِّر في هذه الأكوان البديلة، ويشرح أنها مدعومة إلى حدٍّ ما بالفيزياء الحديثة. إضافةً إلى ذلك، يمكن حل الكثير من المشكلات التي لا نفهمها من خلال التفكير بمنظور الكون المتعدد. وهو يشير إلى أنَّ الفيزياء الجوهرية قد أوضحت مرارًا وتكرارًا أنَّ الرؤية الساذجة للكون على النحو الذي تصوره حواسنا خاطئة، ويمكننا أن نتوقَّع استمرار ذلك الأمر. يضفي جرين بعض الأهمية على السمة المشتركة بين جميع نظريات الكون المتعدد، وهي أنها جميعًا «تشير إلى أنَّ الصورة المنطقية الشائعة لدينا عن الواقع ما هي إلا جزء من كلٍّ أكبر.»
لست مقتنعًا بأنَّ وجود الكثير من التخمينات التي تفتقر كلها إلى الاتساق يجعل أيًّا منها أقرب إلى الصحة. إنَّ هذا يشبه الطوائف الدينية: ما لم تكن مؤمنًا حقيقيًّا، عادةً ما تنزع الاختلافات الجوهرية في العقيدة والتي ترتبط بادعاءات مشتركة بالوحي الإلهي، إلى الطعن فيها جميعًا. بالرغم من ذلك، سنتناول بضع نسخ من نظرية الأكوان المتعددة، ويمكنك بعد ذلك أن تقرِّر بنفسك. وسوف أذكر شيئًا من أفكاري الخاصة بالطبع.
•••
سأبدأ بالكون المتعدد المرقَّع. الحق أنه لا يمثل أكوانًا متعددة بالفعل؛ بل كونًا كبيرًا للغاية حتى إنَّ سكانه لا يتمكنون إلا من رصد رقع منه. غير أنَّ هذه الرقع تتشابك. ويتوقف هذا على أن يكون المكان لا نهائيًّا، أو شديد الاتساع على نحوٍ لا يمكن تخيُّله؛ أي أكبر كثيرًا من الكون القابل للرصد. عند الجمع بين هذه الفكرة وبين الطبيعة المميزة لميكانيكا الكم، نحصل على نتيجة مثيرة للاهتمام. بالرغم من أنَّ عدد الحالات الكمومية الممكنة للكون القابل للرصد ضخمة، فإنها لا نهائية. هذا يعني أنَّ الكون القابل للرصد لا يمكن أن يفعل سوى عدد كبير نهائي من الأمور المختلفة.
أما النسخ غير الدقيقة، فسيكون ترتيبها أسهل، وهي أكثر إثارة للاهتمام. فربما توجد رقعة تحتوي على نسخة منك فيما عدا أنَّ لون شعرك مختلف، أو ربما تنتمي إلى جنس مختلف، أو تعيش في البيت المجاور، أو تعيش في بلد مختلف. أو ربما تكون رئيس وزراء المريخ. فهذه النسخ الشديدة الشبه بك أكثر انتشارًا من النسخ الدقيقة بدرجة كبيرة، لكنها لا تزال شديدة الندرة.
•••
يُعد الكون المتعدد المشهد مثيرًا للاهتمام على وجه الخصوص؛ لأنه قد يحل المعضلة الكونية المحيرة المتمثلة في الضبط الدقيق.
للوهلة الأولى، يبدو ذلك مشابهًا للمبدأ الإنساني الضعيف: الأكوان الوحيدة التي تستطيع الكائنات الموجودة فيها أن تسأل: «لماذا نحن هنا؟» هي تلك التي تجعل الوجود هنا ممكنًا. والرأي السائد أنَّ هذه الحقيقة وحدها لا تحل المعضلة تمامًا. ذلك أنها تطرح سؤالًا آخر: إذا لم يكن هنالك سوى كون واحد، فكيف اتخذ مثل ذلك الخيار غير المحتمل؟ غير أنَّ ذلك لا يمثل مشكلة في سياق الكون المتعدد المشهد. إذا صنعت ما يكفي من الأكوان العشوائية، يصبح ظهور الحياة في أحدها احتمالًا شبه مؤكد. يشبه ذلك ما يحدث في اليانصيب. فاحتمالية أن تفوز السيدة سميث في المستقبل في أي سحب محدَّد لليانصيب (في المملكة المتحدة، حتى التغييرات الحديثة) هي واحد من ١٤ مليون تقريبًا. بالرغم من ذلك، ملايين الأشخاص يلعبون اليانصيب؛ لذا فاحتمالية أنَّ «شخصًا ما» سيفوز أكبر كثيرًا، وهي تساوي احتمالين من ثلاثة احتمالات تقريبًا. (في ثلث المرات لا يفوز أحد على الإطلاق، ويُطبَّق خيار «الترحيل»؛ حيث تُضاف الجائزة إلى وعاء السحب التالي.)
وفي الكون المتعدد المشهد، تفوز الحياة باليانصيب الكوني من خلال شراء جميع التذاكر.
إنَّ كون نظرية الأوتار المتعدد يسمح باستكشاف جميع الأكوان واحدًا تلو الآخر، يمكن تشبيه ذلك بعض الشيء بالزيجات الأحادية المتتالية. وإذا لوَّحت بيدي منظِّرك بالقوة الكافية، فقد يسمح اللايقين الكمومي بالانتقال العابر من إحدى نسخ نظرية الأوتار إلى أخرى، وبهذا يؤدي «الكون» مِشية السكران عبر فضاء جميع أكوان نظرية الأوتار. ولأنَّ الثوابت قريبة من الثوابت الموجودة في كوننا، يمكن للحياة أن تتطور. ويتصادف أنَّ تلك الثوابت الأساسية تنتج هي أيضًا أكوانًا طويلة الأجل للغاية ولها سمات كالثقوب السوداء. وبهذا، فإنَّ الأكوان التي تتغير على التوالي، غالبًا ما توجد في المواقع المثيرة للاهتمام حيث توجد كائنات مثلنا.
يطرح هذا سؤالًا أقل وضوحًا. ما السبب في ارتباط الملاءمة للحياة وطول الأجل معًا؟ لقد اقترح لي سمولين إجابة عن هذا السؤال في سياق الكون المتعدد التضخمي، وهي أنَّ الأكوان الجديدة التي تنبثق عبر الثقوب السوداء قد تتطور بالانتخاب الطبيعي، متجهةً نحو توليفة من الثوابت الأساسية التي لا تجعل الحياة ممكنة فحسب؛ بل تمنحها أيضًا كثيرًا من الوقت لكي تبدأ وتصبح أكثر تعقيدًا. إنها فكرة لطيفة لكنها لا توضح الكيفية التي يمكن أن يتنافس بها كونان مع أحدهما الآخر بحيث يظهر الانتخاب الدارويني.
إنَّ قضية الكون المتعدد ليست حاسمة. والسبب الأساسي في ذلك هو المرونة الشديدة التي يتسم بها الاقتراح … فنحن نفترض وجود عدد ضخم من الكيانات غير القابلة للرصد، أو ربما حتى عدد لا نهائي منها، لكي نفسِّر كونًا واحدًا موجودًا. إنَّ ذلك لا يتفق على الإطلاق مع قاعدة فيلسوف القرن الرابع عشر الإنجليزي، ويليام الأوكامي، التي تنص على أنَّ «الكيانات يجب ألا تتعدد دون ضرورة.»
ختم إليس كلامه بملاحظة أكثر إيجابية: «لا بأس على الإطلاق بالتخمينات الفلسفية القائمة على العلم، وهذا هو ما تمثله اقتراحات الكون المتعدد. غير أننا يجب أن نسميها باسمها.»
•••
إنَّ الكون المتعدد الكمومي هو أقدم هذه النسخ، وكل ذلك بسبب إروين شرودينجر. القطة، أليس كذلك؟ أنت تعرف تلك القطة التي تكون حية وميتة في الوقت ذاته حتى تنظر لترى أيهما. على عكس الأكوان المتعددة الأخرى، توجد عوالم الكون المتعدد الكمومي المختلفة في الوقت نفسه معًا، وتشغل المكان والزمان نفسيهما. إنَّ كُتَّاب الخيال العلمي يحبون هذا النوع.
يكون التعايش المستقل ممكنًا في هذا الكون المتعدد؛ لأنَّ الحالات الكمومية يمكن أن «تتراكب»: تُضاف معًا. في الفيزياء الكلاسيكية، تفعل موجات المياه شيئًا مشابهًا: إذا تقاطع رتلان من الموجات معًا، فإنَّ قممهما تتحد معًا لتكوين قمم أكبر، أما حين تتقاطع قمة مع قاع، فإنَّ أحدهما يلغي الآخر. غير أنَّ هذا التأثير يتوسع كثيرًا في العالم الكمومي. فعلى سبيل المثال، قد يدور الجسيم في اتجاه عقارب الساعة أو عكسها (لا شك بأنَّ هذا المثال مبسط للغاية، لكنه يوصل الفكرة). حين تتراكب هذه الحالات، «لا» تلغي إحداها الأخرى. وإنما نحصل على جسيم يدور في الاتجاهين في الوقت نفسه.
إذا أجريت قياسًا حين يكون النظام في إحدى هذه الحالات المركبة، يحدث شيء لافت للنظر. ستحصل على إجابة محددة. وقد أدى هذا إلى الكثير من الجدالات بين الرواد الأوائل للنظرية الكمومية، وهدأ هذا الجدال في مؤتمر بالدنمارك حين اتفق معظمهم على أنَّ فعل «رصد» النظام، يؤدي بطريقةٍ ما إلى «انهيار» الحالة إلى أحد المكونين. يُسمى هذا التأويل بتفسير كوبنهاجن.
لم يقتنع شرودينجر بهذا التفسير تمامًا، واخترع تجربة ذهنية ليشرح السبب. ضع قطةً في صندوق غير نفَّاذ، وضع معها ذرةً مشعةً وزجاجةَ غازٍ سامٍّ ومطرقة. صمِّم آلية تؤدي في حالة تحلل الذرة وانبعاث جسيم منها إلى تحطيم المطرقة للزجاجة؛ ومن ثمَّ قتل القطة بالغاز. أغلق الصندوق وانتظر.
بعد فترة من الوقت، تسأل: هل القطة حية أم ميتة؟
في الفيزياء الكلاسيكية (أي غير الكمومية)، إما أن تكون الإجابة بهذا أو ذاك، لكنك لا تستطيع تحديد ذلك حتى تفتح الصندوق. أما في الفيزياء الكمومية، فإنَّ حالة الذرة المشعة هي تراكب من «التحلل» و«عدم التحلل»، وهي تظل كذلك إلى أن ترصد الحالة بفتح الصندوق. وحينها تنهار الحالة على الفور إلى أحد الخيارين. أوضح شرودينجر أنَّ الأمر نفسه ينطبق على القطة التي يمكن اعتبارها نظامًا ضخمًا من الجسيمات الكمومية المتفاعلة. تضمن الآلية الموجودة داخل الصندوق أن تبقى القطة حية إذا لم تتحلل الذرة، وتضمن موتها إذا تحللت. ولهذا فلا بد أن تكون القطة حية وميتة في الوقت ذاته، وذلك حتى تفتح الصندوق وتؤدي إلى انهيار الدالة الموجية الخاصة بالقطة، وتعرف أيهما قد حدث.
في عام ١٩٥٧، طبَّق هيو إيفريت هذا التبرير المنطقي نفسه على الكون ككل، مقترحًا أنَّ ذلك قد يفسِّر كيفية انهيار الدالة الموجية. ولاحقًا، أطلق برايس دويت على اقتراح إيفيريت، اسم تفسير العوالم المتعددة لميكانيكا الكم. فبالاستقراء من تجربة القطة، يكون الكون نفسه توليفة من جميع حالاته الكمومية الممكنة. بالرغم من ذلك، لا توجد طريقة في هذه الحالة لفتح الصندوق؛ إذ لا يوجد شيء خارج الكون. من ثمَّ؛ فلا يمكن لشيء أن يؤدي لانهيار الحالة الكمومية للكون. غير أنَّ الملاحظ الداخلي جزء من إحدى حالاته الكمومية؛ ولهذا لا يرى إلا الجزء المناظر من الدالة الموجية للكون. فالقطة الحية ترى ذرة لم تتحلل، أما القطة الميتة، هممم، فلا بد أن أمنح ذلك مزيدًا من التفكير.
باختصار، يرى كل ملاحظ موازٍ نفسَه يسكن واحدًا فقط من عدد ضخم من الأكوان الموازية التي توجد كلها في الوقت ذاته، لكن في حالات مختلفة. زار إيفريت نيلز بور في كوبنهاجن ليخبره بهذه الفكرة، لكنَّ بور غضب للغاية من اقتراح أنَّ الدالة الموجية الكمومية للكون لا تنهار ولا يمكن أن تنهار. قرَّر هو ومَن يشاركونه الرأي أنَّ إيفريت لا يفهم ميكانيكا الكم، وقد قال ذلك بعبارات فظة. وصف إيفريت هذه الزيارة بأنها «منكوبة من البداية».
إنها فكرة غريبة للغاية، بالرغم من أنه يمكن صياغتها بطريقة رياضية منطقية. ولا يفيد أيضًا أنَّ تفسير العوالم المتعددة عادةً ما يُمثَّل في سياق أحداث تاريخية في محاولة مضللة لكي يكون مفهومًا. ففي الكون المكوِّن الذي نلاحظه أنا وأنت، خسر هتلر الحرب العالمية الثانية. بالرغم من ذلك، ثمَّة كون موازٍ آخر فاز فيه هتلر (حسنًا، هتلر آخر في الواقع، لكنَّ أحدًا لا يقول ذلك) بالحرب (حرب مختلفة أيضًا)، وتدرك نسختي ونسختك أنهما تعيشان في ذلك العالم. أو ربما متنا في الحرب، أو لم نولَد قطُّ، مَن يدري؟
يصرُّ العديد من الفيزيائيين على أنَّ الكون «كذلك بالفعل»، وأنهم يستطيعون إثبات ذلك. وهم يخبرونك عن تجارب على الإلكترونات. أو على الجزيئات مؤخرًا. غير أنَّ هدف شرودينجر كان توضيح أنَّ القطة ليست بإلكترون. إنَّ القطة بصفتها نظامًا ميكانيكيًّا كموميًّا، تتكوَّن من عدد ضخم للغاية من الجسيمات الكمومية. والتجارب التي تُجرى على جسيم واحد أو ١٠ أو حتى مليار، لا تخبرنا بأي شيء عن قطة. ولا تخبرنا بشيء أيضًا عن الكون.
انتشرت تجربة قطة شرودينجر انتشارًا واسعًا بين الفيزيائيين والفلاسفة، وأنتجت أعمالًا تحمل جميع أنواع الأسئلة التكميلية. لم لا نضع كاميرا داخل الصندوق أيضًا لتصويرِ ما يحدث، ثم نشاهد الفيلم بعد ذلك؟ كلا، لن ينجح ذلك؛ فحتى تفتح الصندوق ستصبح الكاميرا حينها في توليفة من «قطة ميتة مصورة» و«قطة حية مصورة». ألا تستطيع القطة ملاحظة حالتها؟ بلى إذا كانت حية، ونعم إذا كانت ميتة، لكن الملاحظ الخارجي سيظل عليه الانتظار حتى يُفتَح الصندوق. أعطِ القطة هاتفًا محمولًا، كلا، تلك فكرة سخيفة، ثم إنَّ «الهاتف» سيتراكب أيضًا. إنه صندوق غير نفاذ على أية حال. ولا بد أن يكون كذلك، وإلا استطعت استنتاج حالة القطة من الخارج.
لا توجد الصناديق غير النفاذة في الواقع. فما مدى صلاحية تجربة فكرية عن أحد المستحيلات؟ لنفترض أننا استبدلنا بالذرة الإشعاعية قنبلة ذرية إما أن تنفجر أو لا تنفجر. وفقًا للحجة المنطقية نفسها، فإننا لا نعرف أيهما قد حدث حتى نفتح الصندوق. سيكون الجيش مستعدًّا لفعل أي شيء من أجل الحصول على صندوق يظل ثابتًا حين تضع سلاحًا نوويًّا بداخله.
يذهب البعض إلى أبعد من ذلك، ويزعمون أنَّ الملاحظ لا بد أن يكون «بشريًّا» أو (كائنًا عاقلًا على الأقل)، وتلك سبة كبيرة لسلالة القطط. ويقترح البعض أنَّ الكون قد أحضرنا إلى الوجود لأننا نستطيع ملاحظته، ومن ثمَّ نؤدي إلى انهيار موجته الدالية، ونحضره «هو» إلى الوجود. نحن هنا؛ لأننا نحن هنا، لأننا نحن هنا.
•••
إنَّ هذه العلاقة السببية المعكوسة البارزة ترفع من أهمية البشرية، لكنها تتجاهل السمة التي دفعت بور إلى رفض نظرية إيفريت: في تفسير العوالم المتعددة «لا» تنهار الدالة الموجية للكون. يتناقض هذا مع مبدأ كوبرنيكوس وتفوح بالغطرسة. وهي أيضًا تغفل صلب الموضوع؛ فلغز قطة شرودنيجر عن الملاحظات لا الملاحِظين. وهو لا يناقش في حقيقة الأمر ما يحدث عند وقوع ملاحظة ما. وإنما يبحث عن «ماهية» الملاحظة.
تأتي الصياغة الرياضية لميكانيكا الكم في جانبين. يتمثَّل أحدهما في معادلة شرودينجر التي تُستخدَم في نمذجة الحالات الكمومية، وتتسم بخواص رياضية واضحة. أما الجانب الآخر فهو كيفية تمثيلنا للملاحظة. وفقًا للنظرية فإنَّها دالة رياضية. ستضع نظامًا كموميًّا في الدالة، وستظهر حالته، وهي نتيجة الملاحظة، في الطرف الآخر. وذلك مشابه تمامًا لما يحدث حين تدخل العدد ٢ في الدالة اللوغاريتمية، وينبثق منها لوغاريتم ٢. كل ذلك منظم وأنيق، لكنَّ ما يحدث بالفعل أنَّ حالة النظام تتفاعل مع حالة أجهزة القياس، وهي نظام كمومي بالغ التعقيد. إنَّ ذلك التفاعل معقَّد للغاية بدرجة لا تسمح بدراسته رياضيًّا بالتفصيل؛ ولهذا يُفترَض أنه ينكمش إلى دالة واحدة منظمة. بالرغم من ذلك، فلا يوجد سبب واحد يدعونا إلى افتراض أنَّ ذلك هو ما يحدث بالفعل، بينما تدعونا جميع الأسباب إلى التشكك في أنه ما يحدث.
إنَّ ما لدينا هو حالة من عدم التطابق بين تمثيل كمومي دقيق لعملية القياس لكنه يستعصي على الحل، وإضافة «مخصصة»، الدالة الافتراضية. لا عجب إذن في ظهور تفسيرات غريبة ومتناقضة. وتنتشر مشكلات مماثلة في جميع جوانب النظرية الكمومية، وهي لا تُلحظ في معظم الأحيان. ذلك أنَّ الجميع يركِّزون على المعادلات وكيفية حلها، بينما لا يفكر أحد في «الشروط الحدية» التي تمثل الجهاز أو الملاحظات.
يُعَد الصندوق العازل للقنابل النووية مثالًا على ذلك. وتُعد المرآة نصف المفضضة التي تعكس جزءًا من الضوء بينما تترك بقية الضوء يمر مباشرة من خلالها، مثالًا آخر. إنَّ العلماء الذين يجرون التجارب الكمومية يحبون هذه الأداة لأنها تعمل بمثابة فالق للأشعة؛ إذ تأخذ تيارًا من الفوتونات وتوزعها عشوائيًّا في اتجاهين مختلفين. وبعد أن تقوم الفوتونات بما أردتَ اختباره أيًّا كان، تجمعها من جديد لتقارن ما حدث. في معادلات ميكانيكا الكم، تُعد المرآة نصف المفضضة جسمًا صافيًا ليس له أي تأثير على الفوتونات سوى إعادة توجيهها في زوايا قائمة باحتمالية تبلغ ٥٠٪. إنها تشبه وسادة طاولة البلياردو التي تؤدي إلى ارتداد الكرة بمرونة تامة في بعض الأحيان، أو تختفي في أحيان أخرى فتمر الكرة مباشرة عبرها.
غير أنَّ المرآة نصف المفضضة في العالم الفعلي تمثل نظامًا كموميًّا ضخمًا يتكوَّن من ذرات فضة مبعثرة على رقاقة من الزجاج. وحين يصطدم أحد الفوتونات بالمرآة، إما أن يرتد عن جسيم دون ذري في إحدى ذرات الفضة، وإما أن يخترقه. قد يرتد الفوتون في أي اتجاه، لا في اتجاه زاوية قائمة فحسب. بالرغم من أنَّ طبقة ذرات الفضة رقيقة، فهي أسمك من ذرة واحدة؛ لذا قد يصطدم بإحدى ذرات الفضة عميقًا، بصرف النظر عن التركيب الذري الفوضوي للغاية للزجاج. وعلى نحوٍ عجيب للغاية، حين تجتمع هذه التفاعلات معًا، إما أن ينعكس الفوتون أو يعبر دون تغيير. (توجد بعض الاحتمالات الأخرى، لكنها شديدة الندرة حتى إنه يمكن تجاهلها.) إذن فالواقع لا يشبه كرة البلياردو. إنما يشبه قيادة سيارة فوتونية إلى مدينةٍ ما من الشمال، والسماح لها بالتفاعل مع آلاف السيارات الأخرى، وبطريقة مدهشة، تخرج السيارة بعد ذلك إلى اتجاه الجنوب أو اتجاه الشرق، ويكون الاختيار عشوائيًّا. إنَّ هذا النظام المعقد من التفاعلات يُغفَل في النموذج النظيف المرتب. فكلُّ ما يصبح لدينا حينها هو فوتون ضبابي ومرآة صافية عاكسة على نحو عشوائي.
أجل أعرف أنه نموذج وأنه ناجح فيما يبدو. بالرغم من ذلك، فلا ينبغي أن تواصل طرح هذا النوع من التصورات مع الإصرار على أنَّ كلَّ ما تستخدمه هو معادلة شرودينجر.
•••
مؤخرًا، صار العديد من الفيزيائيين يفكرون بشأن الملاحظات الكمومية، لكن من منظور حقيقي لميكانيكا الكم بدلًا من افتراض قيود غير واقعية تنتمي إلى الفيزياء الكلاسيكية. والحق أنَّ ما اكتشفوه يصوغ الأمر كله على نحوٍ أكثر منطقية.
إنَّ هذه التجربة لم تُنفَّذ بعد، لكن حتى إذا تمكَّن أحدهم من إجرائها بنجاح، فلا يمكن اعتبار الفيروس مكافئًا للقطة. فالحالات الكمومية للأجسام الكبيرة النطاق تختلف عن حالات الأجسام الصغيرة النطاق مثل الإلكترونات وأجهزة التداخل الكمي الفائق التوصيل؛ لأنَّ حالات التراكب في الأنظمة الكبيرة أكثر هشاشة بدرجة كبيرة. قد تستطيع وَضْع إلكترون في حالتَيْ دوران إحداهما باتجاه عقارب الساعة والأخرى عكس عقارب الساعة، إلى أجلٍ غير مسمًّى من خلال عزله عن العالم الخارجي. أما إذا حاولت فعل ذلك مع قطة، فإنَّ التراكب يتفكك: ينهار تركيبه الرياضي الدقيق سريعًا. وكلما زاد تعقيد النظام، زادت سرعة تفككه. والنتيجة أنه حتى في نموذج كمومي، تتصرف القطة وكأنها جسم كلاسيكي إلا أن تنظر إليها لوقت قصير لا يمكن ملاحظته. إنَّ مصير قطة شرودينجر ليس بأكثر غموضًا من معرفة هدية عيد الميلاد التي تلقيتها من العمة فيرا حتى تفتحها. أجل، هي دائمًا ما تُرسل إما جوارب أو وشاحًا، لكن هذا لا يعني أنَّ هديتها تراكب من الاثنين.
إنَّ تشريح الدالة الموجية الكمومية للكون إلى تراكب من السرديات البشرية — فوز هتلر أو خسارته — هو فكرة غير منطقية منذ البداية. فالحالات الكمومية لا تخبرنا بالقصص البشرية. ولو أنك استطعت النظر إلى الدالة الموجية للكون، لما تمكنت أيضًا من انتشال هتلر. حتى الجسيمات التي تشكله، ستستمر في التغير كلما تساقط شعره أو تصاعد الغبار على معطفه. وبالمثل، لا توجد طريقة نستنتج بها من الدالة الموجية الكمومية للقطة ما إذا كانت حية أم ميتة أم تحولت إلى صبارة.
•••
تُدعى تلك الحالة بالمصطلح الكمومي، حالة «متشابكة». فهي ليست تراكبًا من حالتين خالصتين مثل «قطة حية» أو «ذرة غير متحللة». وإنما هي تراكب من حالات مختلطة، حالة القطة «و» حالة الذرة، وهي ما يمثل الحالة المنهارة «لنظام» القطة/الذرة المقترن. وتخبرنا تلك الحالة المتشابكة أنه قبل فتح الصندوق، إما أن تكون الذرة قد تحللت بالفعل «و» قتلت القطة (هو أمر متوقع تمامًا)، أو أنَّ الذرة لم تتحلل ولم تقتل القطة. وذلك هو ما تتوقعه من نموذج كلاسيكي لعملية الملاحظة، ولا ينطوي على أية مفارقات.
في عام ٢٠١٥، قدَّم إيجور بيكوفسكي وماجدلينا زيخ، وفابيو كوستا، وكاسلاف برونكر، مكوِّنًا جديدًا؛ إذ اكتشفوا أنَّ الجاذبية تؤدي إلى تفكك التراكب بدرجة أسرع كثيرًا. والسبب في هذا هو تمدُّد الزمن النسبوي، ذلك التأثير الذي يؤدي إلى تجمُّد الزمن عند أفق الحدث في الثقوب السوداء. وحتى مقدار التمدد الزمني الضئيل للغاية الناتج عن مجال جذبوي ضعيف، يتداخل مع التراكب الكمومي. إذن، فالجاذبية تكاد أن تفكك قطة شرودينجر على الفور إلى إحدى حالتين؛ «حية» أو «ميتة». وذلك ما لم تفترض أنَّ الصندوق لا يتأثر بالجاذبية، وهو أمر صعب للغاية، بسبب عدم وجود مادة تتسم بهذه الخاصية.
الأرجح أنه يوجد الكثير من وجهات النظر الأخرى بخصوص قطة شرودينجر، وتفسير العوالم المختلفة لميكانيكا الكم الذي يرتبط بها ارتباطًا وثيقًا، والأرجح أنَّ عددها أكثر من الفيزيائيين الكموميين أنفسهم. وقد ناقشت بضع محاولات فقط لحل المفارقة، مما يشير إلى أنَّ نموذج الكون المتعدد الكمومي أبعد ما يكون عن الاكتمال. وبهذا، يمكنك الاطمئنان إلى عدم وجود كون آخر موازٍ لهذا الكون، تعيش فيه نسخة أخرى منك، وفيه انتصر هتلر. ربما يكون ذلك «محتملًا»، لكن ميكانيكا الكم لا تقدِّم أسبابًا مقنعة للاعتقاد بأنَّ هذا صحيح. غير أنه «صحيح» في حالة الفوتون. وذلك وحده لافت للنظر.
•••
لعلك أدركت ببلوغنا تلك المرحلة أنني متشكك بعض الشيء بشأن الأكوان المتعددة. إنني أحب الرياضيات التي تنطوي عليها، وهي تخلق حبكات مبتكرة في الخيال العلمي، لكنها تتضمن الكثير جدًّا من الافتراضات غير المدعومة بالأدلة. من بين النسخ التي ناقشتها الكون المتعدد المشهد الذي يتمتع بميزة عن غيره. وليس ذلك لأننا نمتلك دليلًا على وجوده بالفعل — أيًّا كان ما يعنيه ذلك — بل لأنه يحل فيما يبدو المسألة المزعجة المتمثلة في الضبط الدقيق غير المرجح على الإطلاق للثوابت الأساسية.
وذلك ينقلنا إلى الخيار الرابع.
سيكون من الأسهل أن نعترف بأننا لا نعرف سبب الضبط الدقيق. بالرغم من ذلك، فقد لا نحتاج إلى ذلك أصلًا بسبب وجود احتمال آخر. وهذا هو الخيار الرابع. فربما ضُخِّمَت مشكلة الضبط الدقيق للغاية، وربما هي لا توجد في واقع الأمر. وهذا هو الخيار الرابع. إذا كان هذا صحيحًا، فليست الأكوان المتعددة سوى تفاصيل زائدة غير ضرورية.
بصفتي رياضيًّا، فإنني أهتم بالكثير من المعاملات الأخرى التي تندرج ضمنيًّا في المعادلات، لكنها لا تُكتَب أبدًا لأنها تساوي صفرًا في كوننا. لماذا لا تتغير تلك المعاملات أيضًا؟ بعبارة أخرى، ماذا لو وضعنا في المعادلات حدودًا إضافية تختلف عن تلك التي نكتبها الآن؟ إنَّ حدًّا إضافيًّا من هذا النوع يطرح المزيد من الضبط الدقيق الذي يجب تفسيره. لماذا «لا» تعتمد حالة الكون على إجمالي عدد النقانق الذي كان يُباع في سوق «سميثفيلد» في لندن عام ١٩٩٧؟ أو على الاشتقاق الثالث من المجال الكارمابومي، الذي لا يعرفه العلم حتى الآن؟
يا للهول! ثابتان إضافيان يجب أن تكون قيمتاهما قريبتين جدًّا جدًّا مما يحدث في هذا الكون.
من محدودية الخيال أن نظن أنَّ الطريقة الوحيدة لتشكيل أكوان جديدة هي تغيير الثوابت الأساسية المعروفة في معادلات النموذج الرائج حاليًّا. إنَّ ذلك أشبه بأن يتخيل سكان جزيرة في بحر جنوبي في القرن السادس عشر أنَّ الطريقة الوحيدة لتحسين الزراعة هي زرع نوع أفضل من جوز الهند.
ذلك أنه توجد سيارة واحدة ممكنة على وجه التحديد، ولا بد أن تكون سيارة «فورد فيستا».
والآن، قف على جانب الطريق وشاهد جميع السيارات الأخرى من نوع «فولكسفاجن» و«تويوتا» و«أودي» و«نيسان» و«بيجو» و«فولفو» وهي تمر.
ثمَّة شيء خاطئ بالتأكيد.
•••
الخطأ هو تغيير الثوابت «كلٌّ على حدة».
إذا أردت بناء سيارة، فأنت لا تبدأ بتصميم ناجح بالفعل، ثم تغيِّر جميع أحجام المسامير مع ترك الصواميل على حالها. ولا تغير أيضًا أحجام الإطارات مع ترك أحجام العجلات ثابتة. ذلك جنون. فحين تغيِّر مواصفات مكون واحد، يكون لذلك آثار تلقائية غير مباشرة على المكونات الأخرى. ولكي تحصل على تصميم جديد لسيارة تعمل، فإنك تجري تغييرات منسقة على «الكثير» من القيم العددية.
لقد صادفت ردًّا واحدًا على ذلك النقد للضبط الدقيق يتلخص فيما يلي: «حسنًا، لكن إجراء الحسابات أصعب كثيرًا عند تغيير العديد من الثوابت.» أجل، هذا صحيح. غير أنَّ ذلك لا يبرِّر إجراء عملية حسابية أسهل إذا كانت العملية الحسابية «الخاطئة». إذا ذهبت إلى مصرفٍ ما وأردت معرفة الرصيد الموجود في حسابك فقال لك الموظف: «عذرًا، إنَّ معرفة «رصيدك» مهمة صعبة للغاية، لكن رصيد السيدة جونز ١٤٢ جنيهًا إسترلينيًّا»، هل سيرضيك ذلك؟
وهذا لا يمثل ضبطًا دقيقًا. غير أنَّ النتائج التي توصَّل إليها آدامز أقوى حتى من ذلك. فلماذا لا نسمح بتصنيف أجسام أكثر غرابة في فئة «النجوم»؟ لا يزال من الممكن أن يسمح خرج طاقتها بتعزيز شكل من أشكال الحياة. ربما تأتي الطاقة من عمليات كمومية في الثقوب السوداء، أو تكتلات من المادة المظلمة التي تولِّد الطاقة بإفناء المادة العادية. والآن تزيد الاحتمالية إلى ٥٠٪. ففيما يتعلق بتكوُّن النجوم، لا يكافح كوننا احتمالات تبلغ ١٠ ملايين تريليون تريليون تريليون مقابل واحد فقط. إنها رمية «نقش» واحدة، وقد سقطت عملة الثوابت الكونية على هذا الاتجاه إلى الأعلى.