الشرطة السماوية
«لم يكن لدى الديناصورات برنامج للفضاء؛ لذا فهي ليست هنا للحديث عن هذه المشكلة. غير أننا هنا، ولدينا القدرة على فعل شيء بشأنها. أنا لا أريد أن أصبح عارًا على المجرة أن تكون لدي القدرة على تغيير مسار كويكبٍ ما، ولا أفعل ذلك وينتهي بي الحال منقرضًا.»
ثمَّة أسطول من السفن الحربية بين النجمية يطلق صواعق مستعرة من الطاقة الخالصة يتعقب فرقة صغيرة شجاعة من المناضلين من أجل الحرية؛ فتلتجئ للاختباء في حزامٍ للكويكبات، وتمر بعنف عبر عاصفة من صخور متدحرجة تبلغ الواحدة منها حجم منهاتن، ويصطدم بعضها ببعض على الدوام. تتبعها السفن الحربية وتبخر الصخور الصغيرة بأشعة الليزر بينما تتقبل ضربات عديدة من شظايا الصخور. وفي مناورة بارعة، ترتد المركبة الهاربة على نفسها وتغوص في نفق عميق في مركز إحدى الفُوَّهات. غير أنَّ دواعي قلقها قد بدأت للتو …
تلك صورة سنيمائية آسرة.
وهي أيضًا محض هراء. ولست أقصد بهذا أسطول السفن الحربية ولا صواعق الطاقة ولا ثائري المجرات. إنني حتى لا أقصد الدودة المتوحشة التي تقبع في نهاية النفق. كل ذلك «قد» يحدث ذات يوم. ما أقصده هو تلك العاصفة من الصخور المتدحرجة. فذلك محال.
أعتقد أنَّ الأمر كله يعود إلى تلك الاستعارة التي أسيء اختيارها؛ حزام.
•••
في يوم من الأيام، لم يكن في النظام الشمسي حزام مثلما كان مفهومًا عنه حينها. وإنما كان يوجد بدلًا منه فجوة. وفقًا لقانون تيتيوس-بوديه، كان ينبغي أن يوجد كوكب بين المريخ والمشتري، لكنه لم يكن موجودًا. ولو كان موجودًا، لرآه القدماء وربطوه بإله آخر.
حين اكتُشِف أورانوس، اتضح أنه يتلاءم تمامًا مع النمط الرياضي لقانون تيتيوس-بوديه، حتى إنَّ علماء الفلك تشجعوا لسد الثغرة الموجودة بين المريخ والمشتري. وقد نجحوا في ذلك مثلما رأينا في الفصل السابق. دشَّن البارون فرانز زافير فون زاك «الجمعية الملكية المتحدة» عام ١٨٠٠، وكانت تضم حينها ٢٥ عضوًا، من بينهم ماسكلاين، وشارل مسييه، وويليام وهيرشيل، وهاينريش أولبرز. وبسبب تفاني هذه المجموعة في ترتيب النظام الشمسي الجامح، صارت تُعرف باسم «الشرطة السماوية». عُيِّن لكل راصد منهم قطعة من مدار الشمس يبلغ حجمها ١٥ درجة، وتُسنَد إليه مهمة البحث عن الكوكب المفقود في تلك المنطقة.
مثلما يحدث كثيرًا في مثل هذه الأمور، تفوَّق على هذه الطريقة المنهجية المنظمة غريبٌ قد حالفه الحظ، وهو جيوسبه بياتسي بروفيسور علم الفلك في جامعة باليرمو بصقلية. لم يكن بياتسي يبحث عن كوكب، بل نجم؛ «النجم السابع والثمانين في «فهرس السيد لوكيل»». وفي بداية العام ١٨٠١، رأى بالقرب من النجم الذي كان ينشده، نقطة أخرى من الضوء لا تتطابق مع أي شيء مذكور في فهارس النجوم. بعد الاستمرار في رصد هذا المتطفل، وجد أنه يتحرك. لقد اكتُشِف بالتحديد في الموقع الذي كان يستلزمه قانون تيتيوس-بوديه. أطلق عليه بياتسي اسم سيريس تيمنًا بإلهة الحصاد الرومانية، والتي كانت أيضًا هي الإلهة الراعية لمدينة صقلية. ظن في البداية أنه اكتشف مذنَّبًا جديدًا، لكنه كان يفتقر إلى الذؤابة المميِّزة. وقد كتب عن ذلك: «لقد خطر لي عدة مرات أنه قد يكون شيئًا أفضل من مذنَّب.» أي أن يكون كوكبًا.
يُعد سيريس صغيرًا بعض الشيء وفقًا للمعايير الكوكبية، وكاد الفلكيون أن يفقدوه مجددًا. لم يكن لديهم سوى قدر ضئيل من البيانات المتعلقة بمداره، وقبل أن يتمكنوا من الحصول على المزيد من القياسات، نقلت حركة الأرض خط رؤية الجسم الجديد إلى موقعٍ شديد القرب من الشمس؛ لذا فقد غمر وهجها ضوءه الخافت. كان من المتوقَّع أن يظهر مجددًا بعد بضعة شهور، لكنَّ المشاهدات كانت شحيحة للغاية مما يجعل الموقع غير يقيني بدرجة كبيرة على الأرجح. ولما كان الفلكيون لا يرغبون في بدء البحث بأكمله من جديد، فقد طلبوا من المجتمع العلمي تقديم تنبؤ يجدر الاعتماد عليه. نهض للتحدي، كارل فريدريش جاوس الذي لم يكن معروفًا حينها للجمهور. لقد اخترع طريقة جديدة لاستنتاج مدار بناءً على ثلاث مشاهدات أو أكثر، وهي تُعرف الآن بطريقة جاوس. حين عاود سيريس الظهور في موعده على بُعد نصف درجة من الموقع المتنبأ به، ذاع صيت جاوس بكونه رياضيًّا عظيمًا. وفي عام ١٨٠٧، عُيِّن في منصب بروفيسور علم الفلك ومدير مرصد جامعة جوتينجن؛ حيث ظل يعمل بقية حياته.
بناءً على هذا النجاح، وضع جاوس نظرية شاملة عن حركة الكويكبات التي تضطرب بفعل الكواكب الكبيرة، وقد ظهرت في عام ١٨٠٩ تحت عنوان «نظرية عن حركة الأجرام السماوية التي تتحرك في مقاطع مخروطية حول الشمس». في هذا العمل، أجرى جاوس تنقيحات وتحسينات على طريقة إحصائية قدَّمها ليجندر عام ١٨٠٥، وتُعرف الآن بطريقة المربعات الصغرى. ذكر أيضًا أنَّ الفكرة خطرت له لأول مرة عام ١٧٩٥، لكنه لم ينشرها، (كما هو معتاد من جاوس). وتُستخدم هذه الطريقة في التوصل إلى قيم أكثر دقة من مجموعة من القياسات، وكل منها عرضة للأخطاء العشوائية. تقوم هذه الطريقة في أبسط صورة لها على أساس اختيار القيمة التي تحد من إجمالي الخطأ. وتوجد منها تنويعات أكثر تعقيدًا تُستخدم في مطابقة الخط المستقيم الأنسب على البيانات المتعلقة بالكيفية التي يرتبط بها أحد المتغيرات بآخر، أو معالجة مسائل متشابهة للعديد من المتغيرات. يستخدم الإحصائيون مثل هذه الطرق بصفة يومية.
•••
حين توصَّل العلماء إلى العناصر المدارية لسيريس، وصار من الممكن إيجاده حين يلزم ذلك، اتضح أنه ليس وحيدًا. ثمَّة أجرام مشابهة له، بأحجام مشابهة أو أصغر، كانت تدور في مدارات مشابهة. وكلما زادت كفاءة التلسكوب الذي تنظر منه، تمكنت من رؤية المزيد منها، وبدت أصغر.
وفي وقت لاحق من عام ١٨٠١، تمكَّن أحد أفراد الشرطة السماوية، أولبرز، من العثور على أحد هذه الأجسام، وسمَّاه بالا. وسرعان ما أتى بتفسير مبتكر للسبب في عدم وجود كوكب كبير واحد ووجود جسمين (أو أكثر). وهو أنَّه كان يوجد في هذا المدار من قبل كوكب كبير، لكنه تهشم في اصطدام مع مذنَّب أو انفجار بركاني. بدت هذه الفكرة منطقية لبعض الوقت، بسبب اكتشاف المزيد والمزيد من الأجزاء المتهشمة: جونو (١٨٠٤)، وفيستا (١٨٠٧)، وآستريا (١٨٤٥)، وهيبي وإريس وفلورا (١٨٤٧) وميتيس (١٨٤٨)، وهيجيا (١٨٤٩)، وبارثينوبي وفيكتوريا وإجيريا (١٨٥٠)، وغير ذلك.
يمكن رؤية فيستا بالعين المجردة في بعض الأحيان، إذا كانت ظروف الرصد مواتية. كان بمقدور الأقدمين اكتشافه.
جرت التقاليد بأن يكون لكل كوكب رمزه الخاص؛ لذا فقد مُنِح كلٌّ من الأجرام الحديثة الاكتشاف رمزه الغامض أيضًا. غير أنه مع كثرة الأجرام الجديدة، اتضح أنَّ هذا النظام مزعج للغاية، واستُعيض عنه بأنظمةٍ أكثر اعتيادية، تطورت إلى النظام المُستخدم حاليًّا، والذي يتمثَّل في استخدام عدد يشير إلى ترتيب الاكتشاف، واسم أو لقب مؤقت، وتاريخ الاكتشاف، ومثال ذلك: ١٠ هيجيا ١٨٤٩.
إنها شديدة الشبه بالنجوم الصغيرة حتى إنه ليصعب التفريق بينهما. وانطلاقًا من هذا، أرغب في تسميتها بالنُّجيمات إن كان لي ذلك، مع الاحتفاظ لنفسي بالحرية في تغيير الاسم، إن تراءى لي اسم آخر أكثر تعبيرًا عن طبيعتها.
ظل علماء الفلك لبعض الوقت يسمونها بالكواكب أو الكواكب الثانوية، لكنَّ اسم «نجيم» هو ما ساد في النهاية.
لم تصمد نظرية أولبرز لوقت طويل. فقد اتضح أنَّ التركيب الكيميائي للكويكبات لا يتفق مع كونها شظايا من جسم واحد كبير، وكتلتها المجتمعة صغيرة للغاية. فالأرجح أنها غبار كوني قد تبقَّى من جسم كان سيصبح كوكبًا لولا أنه لم يتشكَّل لأنَّ المشتري تسبَّب في قدر كبير من الاضطراب. لقد كانت التصادمات بين الجسيمات الكويكبية أكثر انتشارًا في هذه المنطقة من غيرها، وكانت تؤدي إلى انفصالها أكثر مما كانت تؤدي إلى تجميعها. وقد حدث هذا بسبب انتقال المشتري باتجاه الشمس، كما ذكرنا في الفصل الأول.
لم تكن المشكلة في المشتري تحديدًا؛ بل في المدارات الرنينية. وتحدث مدارات الرنين، كما ذكرنا آنفًا، حين تمثِّل فترة أحد المدارين كسرًا بسيطًا من فترة مدار جسم آخر، هو المشتري في هذه الحالة. ومن ثمَّ يتبع الجسمان دائرة حيث ينتهيان في الموقعين النسبيين نفسيهما اللذين كانا يشغلانهما عند البدء. ويستمر هذا في الحدوث فيسبب قدرًا كبيرًا من الاضطراب. إذا لم تكن النسبة بين الفترتَين كسرًا بسيطًا، تُغشَّى مثل هذه النتائج بعض الشيء. إنَّ ما يحدث تحديدًا يتوقف على الكسر، لكن يوجد احتمالان أساسيان. إما أن يكون توزيع الكويكبات مُركَّزًا بالقرب من المدار؛ لذا يوجد منها هناك أكثر مما يوجد عادةً في أي مكان آخر، وإما أن يخلو ذلك المدار منها تمامًا.
لو ظلَّ المشتري في المدار نفسه، لاستقرت هذه العملية في نهاية المطاف على تركُّز الكويكبات بالقرب من مدارات الرنين المستقرة، وتفادي غير المستقرة منها. أما لو بدأ المشتري في الحركة، مثلما يعتقد الفلكيون الآن أنه تحرك بالفعل، لاكتسحت مناطق الرنين حزام الكويكبات، وتسبَّبت في حدوث اضطراب. وقبل أن يستقر أي شيء في رنين مستقر بسيط، لن يعود المدار المعني رنينيًّا، وسيضطرب كل شيء من جديد. وبهذا، فقد أدَّت حركة المشتري إلى تحريك الكويكبات بقوة، ومن ثمَّ اضطراب ديناميكياتها وزيادة احتمال التصادم. وتُعد الكواكب الداخلية دليلًا على أنَّ الجسيمات الكوكبية قد تجمَّعت داخل مدارات الكواكب العملاقة، مما يشير إلى أنه كان يوجد الكثير من الجسيمات الكوكبية ذات يوم. من المرجَّح أن يؤدي وجود العديد من الأجسام العملاقة إلى التأثير بالاضطراب بعضها على بعض، مثلما حدث في حالة المشتري وزحل، مما سيؤدي إلى تغيير مداراتها، وتغيير المدارات يتضمن مناطق الرنين المكتسحة، والتي تهشم أي جسيمات كوكبية توجد داخل مدار العملاق الموجود في أبعد نقطة بالداخل. موجز القول أنَّ وجود الكواكب الداخلية مع كوكبين عملاقين أو أكثر، ينطوي على وجود الكويكبات.
•••
حزام.
وفقًا لما أستطيع قوله، لا أحد يعرف على وجه التحديد أول مَن استخدم مصطلح «حزام الكويكبات»، لكنَّ المؤكد أنه كان مستخدمًا بحلول عام ١٨٥٠ حين ذكرت إليس أوتَّه في ترجمتها لكتاب «الكون» لصاحبه ألكسندر فون هومبولت، عند مناقشة الزخات الشهابية، أنَّ بعضها «يشكِّل على الأرجح جزءًا من حزام كويكبات يتقاطع مع مدار الأرض». ويذكر روبرت مان عام ١٨٥٢ في كتابه «دليل لمعرفة السماء»: «توجد مدارات الكويكبات في حزام عريض من الفضاء.» وهي كذلك بالفعل. فالصور توضِّح توزيع الكويكبات الأساسية على مدارات الكواكب إلى الخارج حتى المشتري. وتهيمن على الصورة حلقة ضخمة مغبشة تتكوَّن من آلاف الكويكبات. سأعود إلى كويكبات هيلدا وتروجان وجريك لاحقًا.
تتمثَّل المشكلة الحقيقية في هذه الصورة المغبشة. ففي رسمٍ تخطيطي تُستخدم فيه النقاط لتمثيل الأجرام المختلفة، تشكِّل الكويكبات حلقة كثيفة مرقطة. ولهذا فإننا نتوقَّع أن يكون الحزام الفعلي بهذا القدر من الكثافة. غير أنَّ كل نقطةٍ في الصورة تمثِّل منطقة من الفضاء تمتد إلى «ثلاثة ملايين من الكيلومترات» تقريبًا. ينطبق الأمر نفسه على سماتٍ شبيهةٍ في النظام الشمسي. فحزام كايبر ليس بحزام، وسحابة أورط ليست بسحابة. وكلاهما مساحات من الفضاء تكاد تكون خالية. غير أنه يوجد «الكثير» جدًّا من الفضاء حتى إنَّ المساحة الضئيلة التي لا تكون فضاءً تتكوَّن من أعداد ضخمة للغاية من الأجرام السماوية، تتكوَّن بصفة أساسية من الصخور والجليد. وسوف نناقش هاتين المنطقتين لاحقًا.
•••
إنَّ استقاء الأنماط من البيانات ضربٌ من السحر الأسود، لكنَّ التقنيات الرياضية يمكن أن تساعد في ذلك. ويتمثَّل أحد المبادئ الأساسيَّة لتحقيق هذا الغرض في أنَّ الطرق المختلفة لتقديم البيانات أو تمثيلها يمكن أن توضح سمات مختلفة.
يشير الرسم التوضيحي إلى أنَّ الكويكبات تتوزَّع على حزام الكويكبات بصورة متساوية تقريبًا. فحلقة النقاط تبدو بالكثافة نفسها تقريبًا في كل مكان، دون فجوات. غير أننا نؤكد مرةً أخرى على أنَّ الصورة مضللة. ذلك أنَّ مقياسها مضغوط للغاية بدرجة لا تسمح بتوضيح التفاصيل الفعلية، لكن الأهم أنه يوضح «مواقع» الكويكبات. ولكي نرى تركيبًا مثيرًا للاهتمام، سوى التجمُّعين المعنونَين بتروجان وجريك اللذين سأعود إليهما لاحقًا، علينا أن ننظر من على مسافة. إنَّ ما يهم حقًّا في الواقع، هو الفترات المدارية، لكنها ترتبط بالمسافة وفقًا لقانون كيبلر الثالث.
عام ١٨٦٦، لاحظ أحد الفلكيين الهواة، ويُدعى دانييل كيركوود، وجودَ فجواتٍ في حزام الكويكبات. لقد لاحظ تحديدًا أنَّ الكويكباتِ نادرًا ما تدور على مسافاتٍ محدَّدة من الشمس، قياسًا على نصف القطر الأكبر في القطع الناقص المداري. توضِّح الصورة تخطيطًا حديثًا وأوسع نطاقًا لعدد الكويكبات الواقعة على مسافةٍ محدَّدة، في قلب الحزام، وتتراوَح هذه المسافة من ٢ إلى ٣٫٥ من الوحدات الفلكية. تظهر ثلاثة منخفضات حادة يصل عدد الكويكبات فيها إلى الصفر. يوجد منخفض آخر بالقرب من مسافة ٣٫٣ وحدات فلكية، لكنه لا يظهر بالدرجة نفسها من الوضوح بسبب وجود بضعة كويكبات متناثرة. تُعرف هذه المنخفضات باسم فجوات كيركوود.
ثمَّة سببان لعدم ظهور فجوات كيركوود في هذه الصورة. السبب الأول أنَّ وحدات البيكسل التي تُمثِّل الكويكبات كبيرةٌ مقارنة بحجم الكويكبات في مقياس الصورة، و«الفجوات» تحدث في المسافات لا الموقع. والسبب الثاني أنَّ كلًّا من الكويكبات يتبع مدارًا إهليلجيًّا، وتختلف مسافته من الشمس على امتداد المدار. ولهذا؛ فإنَّ الكويكبات «تعبر» الفجوات، كل ما هنالك أنها لا تمكث فيها وقتًا طويلًا. وتشير المحاور الكبرى لهذه المدارات الإهليلجية إلى العديد من الاتجاهات المختلفة. وهذه الآثار تجعل الفجوات مبهمة حتى إنه لا يمكن رؤيتها في صورة. غير أنك إذا رسمت المسافات، فإنها تظهر على الفور.
اقترح كيركوود على حق، أنَّ السبب في الفجوات هو مجال الجاذبية الضخم للمشتري. يؤثِّر هذا المجال في جميع كويكبات الحزام، لكن يوجد فارق بارز بين المدارات الرنينية والمدارات غير الرنينية. فالمنخفض الأكثر هبوطًا على يسار الصورة، يتناظر مع مسافة مدارية يدور الكويكب عندها برنين تبلغ نسبته ٣ : ١ مع المشتري. معنى هذا أنه يدور حول الشمس ثلاث دورات كاملة مقابل دورة واحدة للمشتري. وهذا الاصطفاف المتكرر يجعل التأثير الطويل المدى لجاذبية المشتري أكثر قوة. في هذه الحالة، تخلي مدارات الرنين مناطق من الحزام. تصبح مدارات الكويكبات التي تشترك في رنين مع المشتري أكثر استطالة وفوضوية، حتى إنها تعبر مدارات الكواكب الداخلية، لا سيما المريخ. وهذه الأحيان التي يقترب فيها مدارات الكويكبات من المريخ، تغيرها بدرجة أكبر، فتقذف بها في اتجاهات عشوائية. ولأنَّ هذا التأثير يتسبَّب في أن تفقد المنطقة القريبة من المدار الرنيني عددًا كبيرًا للغاية من الكويكبات، تتشكَّل الفجوات هناك.
توجد الفجوات الأساسية وما يناظرها من مدارات رنينية (بين الأقواس)، على المسافات التالية: ٢٫٠٦ وحدة فلكية (٤ : ١)، و٢٫٥ وحدة فلكية (٣ :١)، و٢٫٨٢ وحدة فلكية (٥ : ٢)، و٢٫٩٥ وحدة فلكية (٧ : ٣)، و٣٫٢٧ وحدات فلكية (٢ : ١). وتوجد فجوات أضعف أو أضيق على المسافات التالية: ١٫٩ وحدة فلكية (٩ : ٢) و٢٫٢٥ وحدة فلكية (٧ : ٢)، و٢٫٣٣ وحدة فلكية (١٠ :٣)، ٢٫٧١ وحدة فلكية (٨ : ٣)، و٣٫٠٣ وحدات فلكية (٩ : ٤)، و٣٫٠٨ وحدات فلكية (١١ : ٥)، و٣٫٤٧ وحدات فلكية (١١ : ٦)، و٣٫٧ وحدات فلكية (٥ : ٣). ومن ثمَّ، فإنَّ مدارات الرنين تتحكم في توزيع أنصاف الأقطار الكبرى لدى الكويكبات.
•••
بالرغم من الصعوبة الشديدة في التوصل إلى حل رياضي لمعضلة الأجسام الثلاثة؛ أي الكيفية التي تتحرك بها ثلاث نقاط من الكتلة تحت تأثير الجاذبية النيوتونية، فإنه يمكن الحصول على نتائج مفيدة بالتركيز على حلول مميزة. والأكثر أهمية من بينها، «معضلة الجسمين ونصف الجسم»، وهي مزحة رياضية تنطوي على نقطة جادة. في هذه الحالة، يكون للجسمين كتلتان غير صفريتين، ويكون الجسم الثالث ضئيلًا للغاية حتى إنَّ كتلته تقترب للغاية من الصفر بالفعل. ومن الأمثلة على ذلك شذرة غبار تتحرك تحت تأثير الأرض والقمر. تتمثَّل فكرة هذا النموذج في أنَّ شذرة الغبار تستجيب لقوى الجاذبية التي يبذلها كلٌّ من الأرض والقمر، لكنها خفيفة للغاية حتى إنها لا تبذل أي قوة على أيٍّ من الجسمين. يخبرنا قانون نيوتن للجاذبية أنَّ شذرة الغبار ستبذل قوة صغيرة للغاية، لكنها صغيرة جدًّا مما يسمح بتجاهلها في هذا النموذج. ومن الناحية العملية، ينطبق الأمر نفسه أيضًا على جسم أثقل، مثل قمر صغير أو كويكب، شرط أن يكون المقياس الزمني قصيرًا بما يكفي لاستبعاد أية تأثيرات فوضوية.
ثمَّة تبسيط إضافي أيضًا يتمثَّل في أنَّ الجسمين يدوران في مدارات دائرية. يسمح لنا هذا التبسيط بتحويل المسألة بأكملها إلى إطار مرجعي دوراني، يكون الجسمان الكبيران ثابتين بالنسبة إليه، ويقعان في مستوًى ثابت. تخيَّل قرصًا دوَّارًا ضخمًا. تخيَّل أنك تصل الأرض والقمر بالقرص الدوَّار بحيث يقعان على خط مستقيم يمر عبر المحور المركزي، على الجانبين المقابلين له. تبلغ كتلة الأرض ٨٠ ضعفًا تقريبًا من كتلة القمر؛ ولهذا إذا وضعنا القمر على مسافةٍ تبعد عن نقطة المحور بمقدار ٨٠ ضعفًا مما تبعده عنه الأرض، فسوف يتطابق مركز كتلة الجسمين مع نقطة المحور. وإذا كان القرص الدوَّار يدور الآن بالسرعة المناسبة تمامًا، حاملًا معه الأرض والقمر، فإنهما يتبعان مدارين دائريين يتفقان مع الجاذبية النيوتونية. وبالنسبة إلى نظام إحداثيات متصل بالقرص الدوار، يكون الجسمان ثابتين لكنهما يختبران الدوران على هيئة «قوة طرد مركزية». والحق أنها ليست قوة فيزيائية حقيقية؛ فهي تظهر لأنَّ الجسمين مثبتان بالقرص الدوار ولا يمكنهما الحركة في خطين مستقيمين. بالرغم من ذلك، فهي تبذل عليهما التأثير نفسه الذي تبذله قوة في نظام الإحداثيات ذاك. ولهذا السبب، غالبًا ما تُوصف بأنها «قوة وهمية»، بالرغم من أنَّ تأثيرها حقيقي.
يمكن التوصُّل إلى هندسة نقاط لاجرانج من طاقة شذرة الغبار. تتمثَّل هذه الطاقة في طاقتها الحركية بينما تدور مع القرص الدوار، زائد طاقات وضعها التجاذبية التي تتناظر مع جذب الشمس والقمر. توضِّح الصورة إجمالي طاقة شذرة الغبار بطريقتَين؛ على هيئة سطح منحنٍ يمثِّل ارتفاعه إجمالي الطاقة، وعلى هيئة نظامٍ من الخطوط المحيطية، وهي منحنيات تكون الطاقة ثابتة عليها. يمكنك تخيُّل السطح على أنه منظر أفقي للجاذبية. تتحرك شذرة الغبار على السطح، لكن إذا لم تؤدِّ قوةٌ ما إلى اضطراب هذه الحركة، فلا بد أن تبقى على خط محيطي واحد، مثلما يقضي بذلك حفظ الطاقة. يمكن أن تتحرك إلى الجانبين، لكنها لا تتحرك إلى أعلى أو أسفل.
(لقد غششت بعض الشيء هنا؛ لأنَّ الصورة توضِّح المواقع ولا توضِّح السرعات المتجهة. فالتغيرات في السرعة المتجهة، تجعل الحركة الفعلية أكثر تعقيدًا، لكنَّ نتائج الاستقرار تظل سارية. انظر الفصل التاسع.)
•••
الطبيعة أيضًا تعرف بشأن نقاط لاجرانج، ذلك أنه توجد ترتيبات حقيقية مشابهة لتلك الترتيبات التي توصَّل إليها كلٌّ من أويلر ولاجرانج لكي تنجح نتائجهما. وكثيرًا ما تخالف هذه الأمثلة الحقيقية بعض شروط النموذج التقنية؛ فلا يلزم على سبيل المثال أن تقع شذرة الغبار على المستوى نفسه الذي يقع فيها الجسمان الآخران. فالسمات الأساسية لنقاط لاجرانج منيعة بعض الشيء، وتنطبق على أي شيء يشبه نموذجها المثالي بدرجة كافية.
وماذا عن زحل؟ لا نعرف بوجود أي من كويكبات تروجان هناك، غير أنَّ لديه قمرين ينتميان إلى عائلة تروجان، ولم يُكتشَف سواهما. يدور بقمره تثيس، اثنان من أقمار تروجان هما تيليستو وكاليبسو. ثمَّة قمر آخر أيضًا من أقمار زحل، ديون، يدور به اثنان من أقمار تروجان هما هيلين وبوليديوكيس.