نجوم كوزيمو
«لمَّا كان الأمر يرجع إليَّ، أنا المكتشف الأول، في تسمية هذه الكواكب الجديدة، فأنا أرغب في تسجيلها باسم جلالة الدوق الأكبر [كوزيمو الثاني دي ميديشي، دوق توسكانا الأكبر]، محاكاةً للحكماء العظماء الذين وضعوا أفضل الأبطال بين النجوم.»
حين رصد جاليلو المشتري لأول مرة عبر تلسكوبه الجديد، لاحظ وجود أربع نقاط ضئيلة من الضوء تدور حوله؛ إذن فللمشتري أقماره الخاصة. وقد كان هذا دليلًا مباشرًا على خطأ نظرية مركزية الأرض. رسم جاليليو ترتيب هذه الأقمار في مفكرته. يمكن بعد ذلك ربط الملاحظات الأكثر تفصيلًا معًا، كي نتمكن من رسم المسارات التي يبدو أنَّ هذه النقاط تتحرك فيها. وحين نفعل ذلك، نحصل على منحنيات جيبية جميلة. والطريقة الطبيعية لتوليد منحنًى جيبي هي رصد حركة دائرية منتظمة من الجانب. ولهذا، فقد استنتج جاليليو أنَّ نجوم كوزيمو تتحرك حول المشتري في دوائر، في مستوى مدار الشمس.
أوضحت التلسكوبات المحسنة أنَّ معظم كواكب النظام الشمسي لها أقمار. ويُعَد عطارد والزهرة هما الاستثناءين الوحيدين لذلك. فلدينا في الأرض قمر واحد، وللمريخ قمران، وللمشتري ٦٧ قمرًا على الأقل، ولزحل ٦٢ قمرًا على الأقل إضافةً إلى مئات القميرات، ولأورانوس ٢٧ قمرًا، ولنبتون ١٤ قمرًا. ولبلوتو خمسة أقمار. يتراوح حجم هذه الأقمار من صخور صغيرة ذات أشكال غير منتظمة إلى أشكال كروية إهليلجية كبيرة بما يكفي لتكون كواكب صغيرة. يمكن أن تتكوَّن أسطحها من الصخور بصفة أساسية أو من الجليد أو الكبريت أو الميثان المتجمد.
يتسابق قمرا المريخ الصغيران، فوبوس وديموس، في سماء المريخ، ويُعَد فوبوس قريبًا للغاية حتى إنه يتحرك في الاتجاه المعاكس لديموس. كلا الجِرمين غير منتظم الشكل، وهما كويكبان مأسوران على الأرجح، أو ربما يكونان كويكبًا مأسورًا يتخذ شكل البطة مثل المذنَّب «٦٧ بي»، الذي اتضح مؤخرًا أنه جسمان قد اقترب أحدهما من الآخر بلطف والتصقا. إذا كان هذا صحيحًا، فإنَّ الكويكب الذي أسره المريخ أتى غير ملتصق من جديد بسبب جاذبية الكوكب؛ فيمثل فوبوس قطعة واحدة، بينما يمثل ديموس القطعة الأخرى.
بعض الأقمار تبدو ميتة تمامًا، ويبدو بعضها نشطًا. فقمر زحل، إنسيلادوس، ينتج ينابيع جليدية شاهقة يصل ارتفاعها إلى ٥٠٠ كيلومتر. ويتسم قمر المشتري، آيو، بسطحه الكبريتي، وبركانين نشطين على الأقل هما لوكي وبيليه اللذين يفيضان بالمركبات الكبريتية. لا بد أنه توجد مستودعات ضخمة تحت السطح تمتلئ بالكبريت السائل، ومن المرجح أن يكون مصدر الطاقة التي تسخنها هو ضغط جاذبية المشتري. أما قمر زحل، تيتان، فيمتلك غلافًا جويًّا من الميثان، أكثر كثافةً مما ينبغي أن يكون عليه بدرجة كبيرة. ويدور قمر نبتون، ترايتون، حول الكوكب في الاتجاه الخاطئ، مما يشير إلى أنه قد أُسِر. فهو يدور حلزونيًّا ببطء إلى الداخل، وبعد ٣٫٦ مليارات عام من الآن، سيتحطم حين يصل إلى حد روش، وهو المسافة التي تتحطم الأقمار عندها بفعل إجهاد الجاذبية.
غالبًا ما تظهر في أقمار الكواكب الأكبر، علاقات رنينية. ففترة قمر أوروبا على سبيل المثال، تبلغ ضعف فترة آيو، وتبلغ فترة جانيميد ضعف فترة أوروبا، ومن ثمَّ أربعة أضعاف آيو. تتولد العلاقات الرنينية من ديناميكيات الأجسام التي تخضع لقوانين نيوتن للجاذبية. إنَّ الكواكب ذات الأنظمة الحلقية تراكم الأقمار ببطء على حافة الحلقات، ثم «تلفظها» واحدًا تلو الآخر، مثلما تتقطر المياه من صنبور. وتنطوي هذه العملية على انتظامات رياضية.
تشير مسارات مختلفة من الأدلة، بعضها رياضي، إلى أنَّ العديد من الأقمار الجليدية توجد بها محيطات جوفية أذابتها القوى المدية. ويحتوي أحدها على الأقل أكثر مما تحتوي عليه جميع محيطات الأرض مجتمعة. إنَّ وجود المياه السائلة بها يجعلها مواطن محتملة لأشكال بسيطة من الحياة شبيهة بتلك الموجودة على الأرض؛ انظر الفصل الثالث عشر. ويمكن للطبيعة الكيميائية الغريبة لتيتان أن تجعل منه موطنًا محتملًا لأشكال من الحياة مختلفة عن تلك الموجودة على الأرض.
ثمَّة كويكب واحد على الأقل يمتلك قمرًا ضئيلًا للغاية؛ إيدا الذي يدور به القمر الضئيل داكتيل. إنَّ الأقمار مذهلة للغاية، ملعب لنمذجة الجاذبية والتنظير العلمي من جميع الأنواع. ويعود الأمر في ذلك كله إلى جاليليو ونجوم كوزيمو.
•••
في عام ١٦١٢، حين حدَّد جاليليو الفترات المدارية لنجوم كوزيمو، اقترح أنَّ الجداول الدقيقة لحركاتها ستوفر ساعة في السماء، مما يحل مشكلة خط الطول في الإبحار. ففي ذلك الوقت، كان البحَّارون يستطيعون تقدير خط العرض من خلال مراقبة الشمس (وإن كانت آلات دقيقة مثل آلة الدسية ستُخترع في المستقبل)، أما خط الطول، فقد كان يعتمد على تقدير الموضع فحسب، وهو محض تخمين مدروس. كانت المشكلة العملية الأساسية هي الملاحظة من على متن السفينة وهي تترامى على الأمواج، وقد عمل على تصميم جهازين لتثبيت تلسكوب. استُخدِمت هذه الطريقة على اليابسة، لكنها لم تُستخدم في البحر. وقد حلَّ جون هاريسون مشكلة خط الطول بمجموعته من أجهزة الكرونوميتر الدقيقة للغاية، ومُنِح جائزة مالية عام ١٧٧٣.
قدمت أقمار المشتري لعلماء الفلك مختبرًا سماويًّا يسمح لهم بمراقبة أنظمةٍ تتكوَّن من أجرام متعددة. جدولوا حركاتها وحاولوا تفسيرها والتنبؤ بها نظريًّا. وتتمثَّل إحدى طرق الحصول على قياسات دقيقة في رصد عبور قمر أمام وجه الكوكب؛ لأنَّ بداية العبور ونهايته حدثان معرَّفان على نحوٍ جيد. تُعد ظواهر الخسوف التي تحدث حين يصبح القمر خلف الكوكب، معروفة على نحوٍ جيد هي أيضًا. قال جيوفاني هوديرنا بذلك عام ١٦٥٦، وبعد عَقد من الزمان تقريبًا بدأ كاسيني سلسلة مطولة من الملاحظات المنهجية، ولاحظ فيها تصادفًا زمنيًّا آخر مثل ظواهر الاقتران التي يبدو فيها أنَّ قمرين يصطفان على الخط نفسه. وقد فوجئ حين لاحظ أنَّ مرات العبور لا تتسق مع الأقمار التي تتحرك في مدارات منتظمة متكررة.
تبع عالم الفلك الدنماركي أولي رومر اقتراح جاليليو بشأن خط الطول، وفي عام ١٦٧١، راقب هو وجان بيكار ١٤٠ خسوفًا لقمر آيو من أورارنيبورج بالقرب من كوبنهاجن، بينما فعل كاسيني الأمر نفسه من باريس. ومن خلال المقارنة بين التوقيتات، حسبوا الاختلاف في خطوط الطول بين هذين الموقعين. كان كاسيني قد لاحظ بالفعل بعض الأمور الغريبة في الملاحظات، وتساءل عمَّا إذا كانت ناتجة عن وجود سرعة محددة للضوء. جمع رومر بين كل الملاحظات واكتشف أنَّ الوقت بين أحداث الخسوف المتتالية صار أقصر حين كانت الأرض أقرب إلى المشتري، وصار أطول حين كانت أبعد عنه. وفي عام ١٦٧٦، أخبر أكاديمية العلوم بالسبب: «يبدو أنَّ الضوء يستغرق من ١٠ دقائق إلى ١١ دقيقة [ليعبر] مسافة تساوي نصف قطر المدار الأرضي.» استند هذا الرقم الذي توصَّل إليه على حسابات هندسية متأنية، لكنَّ الملاحظات لم تكن دقيقة؛ فالقيمة الحديثة هي ٨ دقائق و١٢ ثانية. لم ينشر رومر نتائجه في ورقة رسمية قط، لكنَّ مراسِلًا صحافيًّا غير معروف لخَّص المحاضرة على نحوٍ سيئ. ولم يقبل العلماء أنَّ للضوء سرعة محددة حتى العام ١٧٢٧.
بالرغم من الأمور غير المنتظمة، لم يلاحظ كاسيني قط أي اقتران ثلاثي للأقمار الداخلية: آيو وأوروبا وجانيميد؛ أي أنه لم يلحظ اصطفاف هذه الأجرام الثلاثة معًا في الوقت نفسه؛ ومن ثمَّ فلا بد أنَّ ثمَّة شيئًا يمنع هذا. إنَّ الفترات المدارية لهذه الأجرام تتخذ نسبة ١ :٢ :٤، وفي عام ١٧٤٣، أوضح بير وارجنتين، مدير مرصد ستوكهولم، أنَّ هذه العلاقات تصبح دقيقة على نحوٍ مذهل إذا أُعيد تأويلها على نحو صحيح. فعند قياس مواقعها بصفتها زوايا نسبية إلى نصف قطر محدد، اكتشف علاقة مميزة:
زاوية آيو − ٣ × زاوية أوروبا + ٢ × زاوية جانيميد = ١٨٠°.
وفقًا لهذه الملاحظة، تنطبق هذه العلاقة على نحوٍ دقيق تقريبًا على مدار فترات زمنية طويلة، «بالرغم من» عدم الانتظام في مدارات الأقمار الثلاثة. إنَّ الاقتران الثلاثي يستلزم أن تكون الزوايا الثلاثة متساوية، لكنها إذا كانت متساوية، فسيساوي الطرف الأيسر من هذه المعادلة ٠° وليس ١٨٠°. ومن ثمَّ يصير الاقتران الثلاثي مستحيلًا ما دامت العلاقة صحيحة. وقد ذكر وارجنتين أنه لن يحدث إلا بعد ١٫٣ مليون عام على الأقل.
قرَّر لابلاس أنَّ صيغة وارجينتين لا يمكن أن تكون تصادفًا زمنيًّا؛ ومن ثمَّ فلا بد من وجود سبب ديناميكي. وفي عام ١٧٨٤، استنتج الصيغة من قانون نيوتن للجاذبية. تشير حساباته إلى أنه مع مرور فترات طويلة، لا تظل توليفات الزوايا المعنية عند ١٨٠°، وإنما تتحرر؛ أي تتذبذب ببطء إلى أي من طرفي تلك القيمة، بما يقل عن ١°. تلك القيمة صغيرة بما يكفي لمنع حدوث الاقتران الثلاثي. وقد تنبأ بأنَّ فترة هذا التذبذب تبلغ ٢٢٧٠ يومًا. يبلغ الرقم المرصود اليوم ٢٠٧١ يومًا، لم يكن تنبؤه سيئًا. وتكريمًا له، تُسمى العلاقة بين الزوايا الثلاث باسم رنين لابلاس. لقد كان نجاحه تأكيدًا مهمًّا لقانون نيوتن.
الآن نعرف السبب في عدم انتظام مرات العبور. وهو أنَّ جاذبية المشتري تتسبب في تقدم مدارات أقمارها التي تتخذ شكل القطع الناقص تقريبًا، (مثلما يتقدم مدار عطارد حول الشمس)، من ثمَّ يتغير موقع نقطة حضيض المشتري «بيريجوف»، وهي النقطة الأقرب من المشتري إلى الشمس، بسرعة إلى حدٍّ ما. في صيغة رنين لابلاس، تُلغى قيم التقدم هذه، لكنَّ تأثيرها قوي على أحداث العبور الفردية.
غير أنَّ الناتج يتحرَّر عند ٠° بمقدار ٤٠°، وهو تذبذب أكبر كثيرًا. الآن يصير الاقتران الثلاثي ممكنًا، وتحدث الاقترانات الثلاثية القريبة مرةً في كل دورة للكواكب الأبعد إلى الخارج. وتشير نماذج المحاكاة إلى أنَّ التذبذب عند ٠° سيكون فوضويًّا، مع فترة تبلغ ١٠ سنوات تقريبًا.
تتسم ثلاثة من أقمار بلوتو: نيكس وستيكس وهيدرا، بعلاقة رنين يشبه رنين لابلاس، لكنَّ متوسط نسب الفترات في هذه الحالة يبلغ ١٨ : ٢٢ :٣٣، ويبلغ متوسط النسب المدارية ١١ :٩ :٦. فتصير المعادلة الآن كما يلي:
٣ × زاوية ستيكس − ٥ × زاوية نيكس + ٢ × زاوية هيدرا = ١٨٠°.
ومن ثمَّ، فإنَّ الاقترانات الثلاثية محالة في هذه الحالة وفقًا للتبرير المنطقي نفسه الذي ينطبق على حالة أقمار المشتري. توجد خمسة اقترانات بين ستيكس وهيدرا، وثلاثة اقترانات بين نيكس وهيدرا لكل اقترانين بين ستيكس ونيكس.
•••
لكلٍّ من أوروبا وجانيميد وكاستيلو أسطح جليدية. وتشير مسارات عدة من الأدلة إلى أنَّ ثلاثتها تحتوي على مياه سائلة تحت الجليد. كان أول قمر شكَّ العلماء بأنه يحتوي على مثل ذلك المحيط هو أوروبا. ينبغي أن يوجد مصدر للحرارة ليذيب الجليد. والقوى المدية التي يبذلها المشتري تضغط أوروبا بصفة متكررة، لكن الرنين مع آيو وجانيميد يحول دون إفلاته من خلال تغيير المدار. يؤدي الضغط إلى تسخين لب القمر، وتشير الحسابات إلى أنَّ مقدار الحرارة كافٍ لإذابة الكثير من الجليد. ولأنَّ السطح جليد صلب، فلا بد أن تكون المياه في الأعماق، وهي تشكل على الأرجح قشرة كروية سميكة.
ثمَّة دليل آخر يؤيد ذلك، وهو أنَّ السطح شديد التشقق مع وجود بضع علامات على الفُوَّهات. والتفسير الأرجح لهذا هو أنَّ الجليد يشكل طبقة سميكة تطفو على المحيط. يولِّد المجال المغناطيسي للمشتري، مجالًا مغناطيسيًّا أضعف في أوروبا، وحين قاس المتتبِّع «جاليليو» المجال المغناطيسي لأوروبا، أشارت التحليلات الرياضية إلى أنه لا بد من وجود كتلة كبيرة من مادة موصلة تقبع تحت جليد أوروبا. والمادة الأكثر ترجيحًا في ضوء البيانات هي المياه المالحة.
إنَّ بحيرات أوروبا عدسية الشكل أقرب إلى السطح منها إلى المحيط الأساسي. وتشير أفضل التقديرات الآن إلى أنَّه بخلاف تلك البحيرات، يبلغ سمك الطبقة الخارجية من الجليد من ١٠–٣٠ كيلومترًا، ويبلغ عمق المحيط ١٠٠ كيلومتر. وإذا كانت هذه التقديرات صحيحة، فمعنى هذا أنَّ محيط أوروبا يحتوي على ضعف حجم المياه في جميع محيطات الأرض مجتمعة.
بناءً على أدلة مشابهة، فإنَّ جانيميد وكاستيلو أيضًا يضمان محيطات تحت السطح. غير أنَّ طبقة الجليد الخارجية في جانيميد أكثر سمكًا، يبلغ سمكها ١٥٠ كيلومترًا تقريبًا، ويبلغ عمق المحيط الموجود تحتها ١٠٠ كيلومتر. والأرجح أنَّ محيط كاستيلو يقبع هو أيضًا على المسافة نفسها تحت الجليد، ويتراوح عمق محيطه من ٥٠–٢٠٠ كيلومتر. إنَّ كل هذه الأرقام تقريبية فحسب، وستؤدي الاختلافات الكيميائية، مثل وجود الأمونيا، إلى تغييرها بدرجة كبيرة.
•••
يؤيد التحليل هذا الرأي، موضحًا إمكانية دفع جزء من مادة الحلقة مؤقتًا خارج حد روش من خلال الانتشار اللزج؛ أي مثلما تنتشر قطرة من الدبس على طاولة المطبخ ببطء وتصبح أرقَّ. تجمع طريقتهم بين نموذج تحليلي لأجسام الاختبار، ونموذج عددي لديناميكيات سوائل الحلقات. يتسبَّب الانتشار اللزج المستمر في أن تلفظ الحلقات عددًا متتاليًا من القميرات الضئيلة التي تتشابه مداراتها مع الواقع بدرجة كبيرة. وتشير الحسابات إلى أنَّ هذه القميرات عبارة عن تجمعات من جسيمات جليد من الحلقات، تتماسك معًا على نحو فضفاض بفعل جاذبيتها، مما يفسِّر كثافتها المنخفضة وأشكالها الغريبة.