الفوضى في الكون
«إنَّ ذلك فوضوي للغاية.»
أقمار بلوتو متذبذبة.
إنَّ كلمة «فوضوي» لا تُستخدم في الرياضيات، بصفتها مصطلحًا متأنقًا لعبارة «شاذ ولا يمكن التنبؤ به». فهي تشير إلى الفوضى «الحتمية»، التي تتمثَّل على ما يبدو في سلوك غير منتظم ينتج من قوانين منتظمة تمامًا. ربما يبدو ذلك متناقضًا، لكنَّ هذه التوليفة لا مفر منها في معظم الأحيان. تبدو الفوضى عشوائية، وهي كذلك بالفعل من بعض الجوانب، لكنها تنبع من القوانين الرياضية نفسها التي تنتج السلوكيات المنتظمة التي يمكن التنبؤ بها، مثل شروق الشمس كل صباح.
تشير المزيد من قياسات «هابِل» إلى أنَّ ستيكس وكيروبيروس يدوران على نحوٍ فوضوي هما أيضًا. وقد كان التحقق من هذه النظرية هو إحدى المهام التي نفَّذها المسبار «نيو هورايزونز» حين زار بلوتو. من المفترض أن تصل بياناته إلى الأرض على مدار فترة تبلغ ١٦ شهرًا، ولم تصل النتائج بعدُ حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها.
تُعد أقمار بلوتو هي أحدث ما لدينا بشأن الديناميكيات الفوضوية في الكون، لكنَّ علماء الفلك قد اكتشفوا العديد من الأمثلة على الفوضى في الكون، بدءًا من التفاصيل الدقيقة بشأن أقمار ضئيلة الحجم، وحتى المستقبل البعيد للنظام الشمسي. ثمَّة مثال آخر أيضًا على الأقمار التي تدور على نحو فوضوي هو قمر زحل، هايبريون، وهو أول قمر يكتشف العلماء أنه يسيء التصرف. إنَّ محور دوران الأرض يميل بمقدار ثابت تقريبًا هو ٢٣٫٤ درجة، مما يمنحنا التتابع المنتظم للفصول، أمَّا ميل دوران محور المريخ فهو يتغير على نحوٍ فوضوي. وقد كان عطارد والزهرة على هذه الحالة من قبل أيضًا، لكنَّ التأثير المدي الذي يقع عليهما من الشمس قد أدى إلى استقرارهما.
ثمَّة رابط بين الفوضى وبين فجوة كيركوود التي توجد في حزام الكويكبات وتبلغ قيمتها ٣ :١. يخلي المشتري هذه المنطقة من الكويكبات، ويقذف بها عشوائيًّا في أرجاء النظام الشمسي. بعضها يعبر مدار المريخ الذي يمكن أن يعيد توجيهها في كل مكان تقريبًا. ربما يكون هذا هو السبب الذي لاقت به الديناصورات حتفها. وقد أُسِرت عائلة كويكبات المشتري المسماة بتروجان، نتيجةً لديناميكيات فوضوية على الأرجح. علاوةً على ذلك، قدَّمت هذه الديناميكيات الفوضوية لعلماء الفلك طريقةً تمكِّنهم من تقدير عمر عائلة من الكويكبات.
إنَّ النظام الشمسي بعيد كل البعد عن كونه آلة عملاقة منتظمة كالساعة؛ بل إنه يقامر بكواكبه. اكتُشِفَت أولى دلائل ذلك على يد جيري ساسمان وجاك ويزدام عام ١٩٨٨، متمثِّلةً في اكتشاف أنَّ العناصر المدارية لبلوتو تختلف على نحوٍ غير منتظم نتيجةً لقوى الجاذبية التي تبذلها عليها الكواكب الأخرى. بعد ذلك بعام، أوضح ويزدام ولاسكار أنَّ مدار الأرض فوضوي هو أيضًا، وإن كان ذلك بدرجة أقل؛ فالمدار نفسه لا يتغير كثيرًا، غير أنه لا يمكن التنبؤ بموقع الأرض في المدار على المدى الطويل؛ أي بعد ١٠٠ مليون عام من الآن مثلًا.
يبدو أنَّ الفوضى تحكم الكون. بالرغم من ذلك، فقد وجد علماء الفلك أنَّ السبب الأساسي في الفوضى غالبًا ما يكون مدارات الرنين؛ تلك الأنماط العددية البسيطة. مثال ذلك فجوة كيركوود التي تبلغ نسبتها ٣ : ١. من ناحية أخرى، تُعد الفوضى مسئولة عن الأنماط هي أيضًا، ويمكن أن تكون الأشكال الحلزونية للمجرات مثالًا جيدًا على ذلك، مثلما سنرى في الفصل الثاني عشر.
النظام يخلق فوضى، والفوضى تخلق نظامًا.
•••
يُدعى الطول الزمني الذي يظل هذا النوع من التوقُّع صالحًا له باسم أفق التنبؤ، (والمصطلح التقني: زمن ليابونوف.) وكلما زادت دقةُ ما تعرفه عن الحالة الحالية لنظام ديناميكي فوضوي، زاد طول أفق التنبؤ، لكنَّ الأفق يزيد بدرجة أبطأ كثيرًا من تلك التي تزيد بها دقة القياسات. فمهما بلغت دقتها، فإنَّ أهون خطأ في الحالة الحالية يزداد حجمه للغاية في نهاية المطاف حتى إنه يغمر التنبؤ. لاحظ عالم الطقس إدوارد لورنز هذا السلوك في نموذج بسيط حفَّزه الطقس، وينطبق الأمر نفسه على نماذج الطقس المعقدة التي يستخدمها مَن يقومون بالتوقعات. إنَّ حركة الغلاف الجوي تتبع قواعد رياضية محددة لا مكان فيها للعشوائية، غير أننا نعلم جميعًا كيف يمكن لتوقعات الطقس أن تغدو غير جديرة بالثقة بها بعد بضعة أيام فحسب.
إذا كنت تعتقد أنَّ ذلك غير منطقي، فأنا لا ألومك. ذلك أنه لا ينطبق إلا بمعنًى خاص للغاية. ويكمن المصدر الأساسي المحتمل لسوء الفهم في كلمة «تسبِّب». فمن الصعب إدراك أنَّ خفقة جناح فراشة يمكن أن تخلق الطاقة الضخمة في إعصار. والإجابة هي أنَّها لا تفعل ذلك. فطاقة الإعصار لا تأتي من الخفقة؛ بل أُعيد توزيعها من مكان آخر، حين تتفاعل الخفقة مع بقية نظام الطقس الذي لم يتغير فيما سوى ذلك.
وبعد الخفقة، لا نحصل على الطقس نفسه الذي كان موجودًا من قبل باستثناء الإعصار الإضافي فحسب. وإنما يتغير نمط الطقس بأكمله على مستوى العالم. يكون التغيير صغيرًا في البداية، لكنه ينمو، وذلك في «الاختلاف» عمَّا كان سيحدث بدلًا مما حدث، وليس في الطاقة. وبسرعة يصبح هذا الاختلاف كبيرًا ولا يمكن التنبؤ به. إن كانت الفراشة قد خفقت بجناحيها بعد ذلك بثانيتين، كان يمكن أن «تتسبَّب» بدلًا من ذلك في إعصار قمعي في الفلبين عاضت عنه عواصف ثلجية على سيبيريا. أو ربما شهر من الطقس المستقر في الصحراء.
يطلِق الرياضيون على هذا التأثير اسم «الاعتماد الحسَّاس على الشروط الابتدائية». ففي الأنظمة الفوضوية، تؤدي المدخلات التي تختلف اختلافًا طفيفًا للغاية، إلى مخرجات تختلف بمقدار كبير. إنَّ هذا التأثير فعلي وشائع للغاية. فهو السبب مثلًا في أنَّ عجن العجينة يؤدي إلى مزج المكونات جيدًا. في كل مرة تُمَط فيها العجينة تتحرك حبات الدقيق القريبة إلى مكان بعيد. وعند ثنيها مجددًا لكيلا تفلت من المطبخ، ربما ينتهي الأمر بحبات الدقيق البعيدة بعضها عن بعض، بأن تقترب (وربما لا يحدث ذلك). إنَّ المطَّ الموضعي، مع الثني، يخلق الفوضى.
إنَّ هذا الوصف ليس مجازيًّا فحسب؛ بل هو وصف باللغة العادية للآلية الرياضية الأساسية التي تولِّد ديناميكيات فوضوية. فمن الناحية الرياضية، يُعد الغلاف الجوي شبيهًا بالعجينة. ذلك أنَّ القوانين الفيزيائية التي تحكم الطقس «تمط» حالة الغلاف الجوي موضعيًّا، لكنَّ الغلاف الجوي لا يفلت من الكوكب؛ لذا فإنَّ حالته «تنثني مجددًا» على نفسها. ولهذا، إذا استطعنا تشغيل طقس الأرض مرتين مع الاختلاف الوحيد المتمثل في وجود «خفقة» ابتدائية أو «عدم وجود خفقة»، فسنجد أنَّ السلوكيات الناتجة تختلف اختلافًا تصاعديًّا. سيظل الطقس طقسًا، لكنه سيكون طقسًا مختلفًا.
إننا لا نستطيع تشغيل الطقس الفعلي مرتين في واقع الأمر، لكنَّ هذا هو ما يحدث تحديدًا في التوقعات الجوية باستخدام النماذج التي تعكس الفيزياء الجوية الحقيقية. وعند إجراء تغييرات طفيفة للغاية في الأعداد التي تمثِّل الحالة الحالية، وإدخالها في المعادلات التي تتنبأ بالحالة المستقبلية، فإنَّ ذلك يؤدي إلى تغييرات واسعة النطاق في التوقع. يمكن على سبيل المثال في أحد نماذج المحاكاة، أن نستبدل بمنطقة من الضغط المرتفع على لندن، منطقة من الضغط المنخفض في مدينة أخرى. والطريقة الحالية للتغلب على هذا التأثير المزعج، هو إجراء العديد من نماذج المحاكاة مع إدخال اختلافات عشوائية صغيرة في الظروف الأولية، واستخدام النتائج للتوصل إلى نتائج كمية بشأن مدى ترجيح التنبؤات المختلفة. وهذا هو ما تعنيه عبارة «احتمال ٢٠٪ بحدوث العواصف الرعدية».
لا يمكن من الناحية العملية التسبُّب في حدوث إعصار محدد باستخدام فراشة مدرَّبة على النحو الملائم؛ لأنَّ توقُّع تأثير الخفقة يخضع أيضًا لأفق التنبؤ نفسه. بالرغم من ذلك، ففي سياقات أخرى مثل نبض القلب، يمكن لهذا النوع من «التحكم الفوضوي» أن يوفِّر طريقة فعالة لتحقيق سلوك ديناميكي مرغوب فيه. وسنرى العديد من الأمثلة الفلكية على ذلك في الفصل العاشر، في سياق بعثات الفضاء.
•••
ألم تقتنع بعد؟ ثمَّة اكتشاف حديث بشأن النظام الشمسي يجعل الأمر واضحًا للغاية. لنفترض أنَّ قوة فضائية فائقة يمكن أن تعيد تشغيل تكوُّن النظام الشمسي من غيمة الغاز البدائية، باستخدام الحالة الابتدائية نفسها باستثناء «جزيء إضافي واحد» من الغاز. فما مدى الاختلاف الذي سيكون عليه النظام الشمسي اليوم؟
لقد وجدوا أنَّ تصادمات الجسيمات الكوكبية فوضوية، مثلما كان متوقعًا. ووجدوا أنَّ تأثير الفراشة كبير للغاية؛ فتغيير الموقع الابتدائي لجسيم كوكبي واحد وبمقدار ملِّيمتر واحد فقط، يؤدي إلى ظهور نظام مختلف تمامًا من الكواكب. واستنباطًا من هذه النتيجة، يعتقد هوفمان أنَّ إضافة جزيء واحد من الغاز إلى نموذج دقيق للنظام الشمسي الوليد (إن كان شيء كهذا ممكنًا)، ستؤدي إلى تغيير الناتج بدرجة كبيرة يتعذَّر معها تكوُّن الأرض.
لقد انتهى أمر الكون الآلي المنتظم كالساعة.
قبل أن ننجرف في مدى صعوبة تحقُّق احتمالية وجودنا وفقًا لهذه النتائج، واستدعاء يد العناية الإلهية، يجب أن نأخذ في الاعتبار جانبًا آخر من الحسابات. فبالرغم من أنَّ كل مرة تؤدي إلى كواكب بأحجام مختلفة ومدارات مختلفة، يتضح أنَّ «جميع» الأنظمة الشمسية التي تنشأ من تصوُّر معيَّن، تكون متشابهة للغاية بعضها مع بعض. بدون أي عمالقة غازية، نحصل على ١١ كوكبًا صخريًّا معظمها أصغر من الأرض. ومع إضافة العمالقة الغازية، وهو نموذج أكثر واقعية، نحصل على أربعة كواكب صخرية تتراوح كتلها بين نصف كتلة الأرض وما يزيد عن كتلة الأرض قليلًا. وهذا النموذج قريب للغاية من النموذج الفعلي. فبالرغم من أنَّ تأثير الفراشة يغيِّر العناصر المدارية، تبقى البنية الكلية كما كانت عليه من قبل بدرجة كبيرة للغاية.
يحدث الأمر نفسه في نماذج الطقس. تحدث «الخفقة»؛ فيصبح الطقس العالمي مختلفًا عمَّا كان سيصير عليه، لكنه لا يزال «طقسًا». فلا يحدث مثلًا أن تجد فيضاناتٍ ضخمةً من النيتروجين السائل أو عاصفة من الضفادع الضخمة. ومن ثمَّ، فبالرغم من أنَّ نظامنا الشمسي لم يكن ليظهر بشكله الحالي «بالضبط»، إن كانت غيمة الغاز الابتدائية قد اختلفت أقل الاختلاف، كان سيظهر بدلًا منه شيء مشابه له للغاية. وإذن لأصبح احتمال تطور كائنات حية بدرجة الترجيح نفسها تقريبًا.
•••
كان أول مَن أدرك وجود الفوضى الحتمية وتوصَّل إلى تلميحٍ عن سبب حدوثها، هو الرياضي العظيم هنري بوانكاريه. كان في منافسة على جائزة رياضية عرضَها الملك أوسكار الثاني، ملك النرويج والسويد، طلبًا لحل معضلة الأجسام الثلاثة في جاذبية نيوتن. وقد نصَّت قواعد الجائزة على نوع الحل المطلوب. لم يكن المطلوب صيغة مثل صيغة القطع الناقص لكيبلر؛ إذ كان الجميع مقتنعين بأنه ما من وجود لشيء كهذا؛ بل «تمثيل لإحداثيات كل نقطة في صورة سلسلة [لا نهائية] في متغير هو دالة معروفة للزمن وتتقارب السلسلة بالشكل نفسه مع جميع قيمه».
اكتشف بوانكاريه أنَّ المهمة نفسها مستحيلة بصفة جوهرية، حتى وإن كانت الأجسام الثلاثة تحت ظروف مقيدة للغاية. وكانت طريقته في إثبات هذا هو توضيح أنَّ المدارات يمكن أن تكون ما نطلق عليه اليوم مصطلح «فوضوية».
لقد ثبت أنَّ المعضلة العامة لأي عدد من الأجسام أمر صعب للغاية حتى على بوانكاريه. لقد تناول الحالة: ن = ٣. وقد عمل في واقع الأمر على ما أسميته في الفصل الخامس بمعضلة الجسمين ونصف. يمكن أن يكون الجسمان هما كوكب وقمره مثلًا، ونصف الجسم هو ذرة من الغبار خفيفة للغاية حتى إنها تستجيب لمجالي جاذبية الجسمين، لكنها لا تبذل «عليهما» أي تأثير على الإطلاق. ينبثق عن هذا النموذج توليفة جميلة لديناميكيات منتظمة للغاية للجسمين الضخمين، وسلوك شديد العشوائية لجسيم الغبار. ومن الغريب أنَّ انتظام سلوك الجسمين الضخمين هو ما يجعل سلوك جسيم الغبار جنونيًّا.
إنَّ مصطلح «الفوضى» يجعل الأمر يبدو كما لو أنَّ مدارات أجسام ثلاثة أو أكثر، عشوائية تفتقر إلى البنية لا يمكن التنبؤ بها، ولا تحكمها أية قوانين. والواقع أنَّ جسيم الغبار يدور ويدور في مسارات منتظمة على شكل أقواس القطع الناقص، لكنَّ شكل القطع الناقص يستمر في التغير دون نمط واضح. خطرت احتمالية الفوضى على ذهن بوانكاريه حين كان يفكِّر في ديناميكيات ذرة الغبار حين يتصادف أن تقترب من مدار دوري. كان ما توقَّعه هو توليفة من الحركات الدورية لها فترات مختلفة، مثلما يحدث حين تدور كبسولة بالقمر، بالأرض أيضًا وبالشمس، في فترات مختلفة من الوقت في كل مرة. بالرغم من ذلك، فمثلما نصَّت قواعد المسابقة بالفعل، كان المتوقَّع أن يكون الحل على شكل «سلسلة» تتضمن العديد من الحركات الدورية، لا ثلاثة فقط.
توصَّل بوانكاريه إلى هذه السلسلة. فكيف تظهر الفوضى إذن؟ إنها لا تظهر نتيجة للسلسلة؛ بل بسبب عيب في الفكرة بأكملها. لقد نصَّت القواعد على أنَّ السلسلة لا بد أن «تتقارب». وهو شرط تقني رياضي لكي يكون أي مجموع لا نهائي منطقيًّا. معنى ذلك بصفة أساسية أنَّ مجموع السلسلة ينبغي أن يقترب أكثر فأكثر إلى أن يصل إلى عددٍ محدَّد، مع تضمين المزيد والمزيد من الحدود. كان بوانكاريه يقظًا للشَّرَك، وأدرك أن سلسلته لن تتقارب. بدا أولًا أنها تقترب وتقترب من عدد محدَّد، لكنَّ المجموع بدأ بعد ذلك في الابتعاد عن ذلك العدد المحدَّد بكميات أكبر كثيرًا. يُعد هذا السلوك من خصائص السلسلة «التقاربية». يمكن أن تكون السلسلة التقاربية مفيدة أحيانًا في بعض الأغراض العملية، لكنها أشارت في هذه الحالة إلى وجود عائق أمام الحصول على حل حقيقي.
إنها تشبه تعريشة أو نسيجًا أو شبكة من الوشائج الشديدة الضيق؛ حيث لا يمكن للمنحنيَين أن يتقاطع أحدهما مع نفسه، لكن لا بد للواحد منهما أن ينثني على نفسه بطريقة معقَّدة للغاية لكي يتداخل مع جميع وشائج النسيج عددًا لا نهائيًّا من المرات. يُذهل المرء من تعقيد هذه الصورة التي لن أحاول حتى رسمها.
إننا نسمي هذه الصورة اليوم تشابكًا متماثلًا. ولنتجاهل مصطلح «تشابك تماثلي» (التعريف: مدار يمر بنقطة اتزان ثم يعود إليها ثانية فيضمها إلى نفسها)، ونركِّز على مصطلح «تشابك» الذي هو أكثر إثارة. تشرح الصورة التالية الهندسة في تشبيه بسيط.
•••
استغرق الأمر بعض الوقت لاستيعاب أفكار بوانكاريه الجديدة. فقد أتى التقدُّم الكبير التالي عام ١٩١٣ حين أثبت جورج بيرخوف أنَّ «المبرهنة الهندسية الأخيرة»، هي حدسية غير مثبتة كان بوانكاريه قد استخدمها لاستنتاج وقوع المدارات الدورية في الظروف الملائمة. والآن، تُدعى هذه النتيجة باسم مبرهنة بوانكاريه-بيرخوف للنقطة الثابتة.
صار الرياضيون وغيرهم من العلماء على وعي تام بالفوضى قبل ما يقرب من ٥٠ عامًا. سار ستيفن سميل على نهج بيرخوف، وأجرى دراسة أعمق لهندسة التشابك التماثلي؛ إذ صادف المشكلة نفسها في مجال آخر من الديناميكا. وقد ابتكر نظامًا ديناميكيًّا يتسم بالهندسة نفسها تقريبًا غير أنه يسهل تحليلها، وتُعرف باسم وحدة حصان سميل. يبدأ هذا النظام بمربع، يمطه إلى مستطيل طويل رفيع، ويثنيه على شكل حدوة الحصان، ثم يضعه ثانية فوق المربع الأصلي. إنَّ تكرار هذا التحوُّل يشبه العَجن، وهو يؤدي إلى النتائج الفوضوية نفسها. تقدِّم هندسة حدوة الحصان برهانًا صارمًا على أنَّ هذا النظام فوضوي، وأنه يتصرف في بعض الأحيان كسلسلة عشوائية من رميات العملات المعدنية، بالرغم من أنه حتمي تمامًا.
مع اتضاح المدى الواسع للديناميكيات الفوضوية وثرائها، شجعت الإثارة المتزايدة على ظهور قدر كبير من اهتمام وسائل الإعلام، التي أطلقت على المجال برُمَّته مصطلح «نظرية الفوضى». والحق أنَّ هذا الموضوع جزء كبير ومدهش بكل تأكيد، لكنه جزء من مجال أهم في دراسة الرياضيات، يُعرف باسم الديناميكا اللاخطية.
•••
بالرغم من ذلك، يدور «إيابيتوس» دورانًا تزامنيًّا بالفعل. هايبريون وحده هو الذي بدا أنه يفعل شيئًا مثيرًا للاهتمام. وكان السؤال هو: ماذا؟
قام ويزدام وزملاؤه بمقارنة البيانات الموجودة بشأن «هايبريون» بمعيار نظري للفوضى، وهو حالة تداخل الرنين. تنبَّأ هذا المعيار بأنَّ مدار «هايبريون» ينبغي أن يتفاعل على نحوٍ فوضوي مع دورانه المحوري، وهو تنبُّؤ قد تأكَّد بحل معادلات الحركة عدديًّا. تظهر الفوضى في ديناميكيات «هايبريون» في صورة تقلُّب عشوائي بصفة أساسية. لا يختلف شكل المدار نفسه اختلافًا كبيرًا. فهو يشبه كرة قدم أمريكية تتدحرج على مضمار ألعاب القوى وتتحرك في حارة واحدة، لكنها تنقلب رأسًا على عقب على نحوٍ لا يمكن التنبؤ به.
في عام ١٩٨٤، كان القمر الوحيد المعروف لبلوتو، هو «شارون» الذي اكتُشِف عام ١٩٧٨، ولم يتمكن أحد من حساب معدل دورانه. اكتُشِفت الأقمار الأربعة الأخرى بين عامي ٢٠٠٥ و٢٠١٢. تتكدَّس الأقمار الخمسة كلها في منطقة صغيرة للغاية، ويُعتقَد أنها كانت في الأصل أجزاءً من جسم واحد كبير كان قد تصادم مع بلوتو خلال التكوُّن المبكِّر للنظام الشمسي، وتلك نسخة مصغرة من نظرية الاصطدام العملاق المتعلقة بتكوين قمرنا. إنَّ «شارون» قمر كبير ودائري، وهو في حالة تقييد مدي في رنين بنسبة ١:١؛ لذا يقابل بلوتو بالوجه نفسه على الدوام، مثلما يفعل القمر مع الأرض. بالرغم من ذلك، فعلى العكس من الأرض، يقابل بلوتو قمره بالوجه نفسه دائمًا. يحُول التقييد المدِّي والشكل المستدير دون التقلُّب الفوضوي. أما الأقمار الأربعة الأخرى، فهي صغيرة وغير منتظمة، ويُعرَف عنها الآن أنها تتقلب على نحوٍ فوضوي مثل «هايبريون».
لا يتوقف علم الأعداد المتعلِّق ببلوتو عند ذلك الرنين الذي تبلغ نسبته ١:١. فالأقمار «ستيكس» و«نيكس» و«كيربيروس» و«هيدرا»، تقع في مدارات رنينية مع «شارون» تبلغ نسبتها ١ :٣، و١ : ٤، و١ : ٥، و١ : ٦؛ أي إنَّ طول فتراتها يبلغ ٣، و٤، و٥ و٦ أضعاف طول فترة «شارون». غير أنَّ هذه الأرقام متوسطات فحسب. فالفترات المدارية الفعلية تتنوع تنوعًا كبيرًا من دورة إلى أخرى.
بالرغم من هذا، يبدو ذلك كله منظمًا للغاية من الناحية الفلكية. ولأنَّ النظام يمكن أن يؤدي إلى ظهور الفوضى، فمن الشائع أن يوجد كلاهما في النظام نفسه؛ فيكون منظَّمًا من بعض النواحي، وفوضويًّا في نواحٍ أخرى.
•••
يترأس ويزدام ولاسكار مجموعتي البحث الأساسيتين اللتين تعملان على الفوضى وديناميكيات النظام الشمسي الطويلة الأمد. وفي عام ١٩٩٣، نشرت المجموعتان في غضون أسبوع، أوراقًا بحثية تصف سياقًا كونيًّا جديدًا للفوضى: الميل المحوري للكواكب.
لقد رأينا في الفصل الأول أنَّ الجسم الصلب يدور حول محورٍ ما؛ أي خط يمر بالجسم يكون ساكنًا بشكل آني. يمكن لمحور الدوران أن يتحرك على مدار الوقت، لكنه يظل كما هو تقريبًا على المدى القصير. لذا، فإنَّ الجسم يدور مثل القمة، بينما يكون المحور كالمغزل المركزي. ولأنَّ الكواكب كروية الشكل تقريبًا، فهي تدور بمعدل شديد الانتظام حول محورٍ يبدو أنه لا يتغير، حتى على مدار قرون. وعلى وجه التحديد، فإنَّ الزاوية التي تقع بين المحور والمدار الشمسي، والتي تُعرف تقنيًّا باسم زاوية الميل المحوري، تبقى ثابتة. تبلغ قيمة هذه الزاوية لكوكب الأرض ٢٣٫٤ درجة.
غير أنَّ المظاهر خادعة. فقرابة العام ١٦٠ قبل الميلاد، اكتشف هيبارخوس تأثيرًا يُعرف باسم تقدُّم الاعتدالين. وفي «المجسطي»، يذكر بطليموس أنَّ هيبارخوس قد رصد في سماء الليل مواقع نجم السماك الأعزل (ألفا العذراء) وغيره من النجوم. قام اثنان من سابقيه بالأمر نفسه: أريستيلوس قرابة عام ٢٨٠ قبل الميلاد، وتيموخاريس قرابة عام ٣٠٠ قبل الميلاد. وبمقارنة البيانات، استنتج بطليموس أنَّ نجم السماك الأعزل قد انجرف بمقدار درجتين عند رصده في الاعتدال الخريفي؛ أي الوقت الذي يتساوى فيه طول الليل والنهار. وقد استنتج أنَّ الاعتدالين يتحركان على مدار دائرة البروج بمقدار درجة تقريبًا كل قرن، وسيعودان في نهاية المطاف إلى حيث بدآ بعد ٣٦٠٠٠ عام.
إننا نعرف الآن أنه كان محقًّا، ونعرف سبب ذلك. فالأجرام الدوارة تتقدم: يتغير اتجاه محور دورانها ببطء، وتمثل حافة المحور دائرة بطيئة. كثيرًا ما تفعل القمم الدوارة ذلك. وبالرجوع إلى لاجرانج، يفسِّر الرياضيون التقدم على أنه الديناميكيات المعتادة لجسم يتسم بنوع محدد من التناظر: محوران متساويان من القصور الذاتي. تتحرك الكواكب في مدارات تتخذ شكل القطع الناقص تقريبًا؛ ومن ثمَّ فهي تستوفي هذا الشرط. يتقدم محور الأرض بفترة تبلغ ٢٥٧٧٢ من الأعوام. ويؤثر هذا في الكيفية التي نرى بها سماء الليل. الآن يصطف نجم القطب الشمالي «بولاريس»، الذي يقع في كوكبة الدب الأكبر، مع المحور ولهذا يبدو ثابتًا، بينما يبدو أنَّ بقية النجوم تدور حوله. وحقيقة الأمر أنَّ الأرض هي التي تدور. بالرغم من ذلك، ففي مصر القديمة قبل ٥٠٠٠ عام، كان النجم «بولاريس» يتحرك في دوائر، وكان النجم الخافت بطن الثعبان (فاي دراكونيس) هو الثابت. لقد اخترت ذلك التاريخ لأنَّ وجود نجم ساطع بالقرب من القطب أو عدم وجوده، هو أمر يتعلق بالحظ ليس إلا، وهو لا يوجد في معظم الأحيان.
حين يتقدم محور كوكبٍ ما، لا تتغير زاوية ميله. تنحرف الفصول الأربعة، لكنها تنحرف ببطء شديد حتى إنَّ هيبارخوس وحده هو مَن لاحظ، وفقط بمساعدة الأجيال السابقة أيضًا. إنَّ موقعًا محددًا على الكوكب يمر بالتغيرات الفصلية نفسها تقريبًا، لكنَّ توقيت هذه التغيرات يختلف ببطء كبير. وقد اكتشفت مجموعتا كلٍّ من لاسكار وويزدام أنَّ المريخ يختلف عن ذلك. ذلك أنَّ زاوية ميله المحوري تتغير هي أيضًا، مدفوعةً إلى حدٍّ ما بالتغيرات في مداره. فإذا كان لتقدم محوره رنين مع فترة أي عنصر مداري متغير، فيمكن لزاوية ميله المحوري أن تتغير. وقد حسبت المجموعتان ما يخلِّفه ذلك من تأثير عن طريق تحليل ديناميكيات الكوكب.
توضح حسابات ويزدام أنَّ زاوية الميل المحوري للمريخ تختلف على نحوٍ فوضوي، بمقدار يتراوح بين ١١ و٤٩ درجة. يمكن أن تتغير بمقدار ٢٠ درجة في ١٠٠٠٠٠ عام، وهي تتذبذب على نحو فوضوي فوق ذلك النطاق، بمقدار ذلك المعدل تقريبًا. وقبل تسعة ملايين عام، كانت زاوية الميل المحوري تتراوح بين ٣٠ درجة و٤٧ درجة، واستمر ذلك حتى قبل ٤ ملايين عام حين تحولت على نحو مفاجئ نسبيًّا إلى نطاق يتراوح بين ١٥ درجة و٣٥ درجة. تتضمن الحسابات تأثيرات من النسبية العامة، وهي مهمة للغاية في هذه المسألة المحددة. فبدون تلك التأثيرات، لا يؤدي النموذج إلى هذا الانتقال. وسبب هذا الانتقال، كما خمنت، هو وجود رنين بين الدوران الذاتي والدوران المداري.
استخدمت مجموعة لاسكار نموذجًا مختلفًا، دون أي تأثيرات نسبوية، لكنه كان يضم تمثيلًا أكثر دقة للديناميكيات، كما أنه قد فحص فترة زمنية أطول. كانت النتائج التي حصلت عليها المجموعة مشابهة فيما يتعلق بالمريخ، لكنها وجدت أنَّ زاوية الميل المحوري تتراوح بين ٠ درجة و٦٠ درجة على مدار فترات زمنية أطول، وهو نطاق أكبر.
درست المجموعتان أيضًا عطارد والزهرة والأرض. يدور عطارد الآن حول نفسه ببطء شديد؛ إذ يكمل دورة واحدة كل ٥٨ يومًا، بينما يدور حول الشمس في ٨٨ يومًا في رنين تبلغ نسبته ٣ : ٢ بين الدوران الذاتي والدوران المداري. وقد حدث ذلك على الأرجح بسبب التفاعلات المدية مع الشمس، والتي أدت إلى إبطاء سرعة دورانه الذاتي الأصلية. أشارت الحسابات التي أجرتها مجموعة لاسكار إلى أنَّ عطارد كان يكمل في البداية مرة من الدوران الذاتي كل ١٩ ساعة. وقبل أن يصل الكوكب إلى حالته الحالية، تراوحت زاوية ميله المحوري بين ٠ درجة و١٠٠ درجة، واستغرق الأمر ما يقرب من ١٠٠ مليون عام كي تغطي معظم ذلك النطاق. وعلى وجه التحديد، مرت أوقات كان قطبه يواجه الشمس فيها.
يطرح الزهرة لغزًا أمام علماء الفلك؛ لأنه وفقًا للأعراف المعتادة بشأن زوايا الأجسام الدوارة، تبلغ زاوية ميله المحوري ١٧٧ درجة، بصورةٍ مقلوبة بصفة أساسية. يتسبَّب هذا في دورانه حول نفسه ببطءٍ شديد (مرة كل ٢٤٣ يومًا)، وفي الاتجاه المعاكس لجميع الكواكب الأخرى. ما من سببٍ معروف لهذه الحركة «التراجعية»، لكنَّ العلماء كانوا يعتقدون في ثمانينيَّات القرن العشرين أنها حركة أصلية؛ أي أنَّ أصلها يعود إلى نشأة النظام الشمسي. غير أنَّ تحليل لاسكار يُشير إلى أنَّ ذلك قد لا يكون صحيحًا. فالعلماء يعتقدون أنَّ فترة الدوران الذاتي للزهرة لم تكن تزيد في الأصل عن ١٣ ساعة. ووفقًا لهذا الافتراض، يوضح النموذج أنَّ زاوية الميل المحوري للزهرة كانت تتغير في البداية على نحو فوضوي وحين بلغت ٩٠ درجة، صار من الممكن أن تصبح أكثر استقرارًا لا فوضوية. وربما تكون قد تطورت تدريجيًّا من تلك الحالة إلى أن بلغت قيمتها الحالية.
أتت النتائج المتعلقة بالأرض مختلفة على نحوٍ مثير للاهتمام. فزاوية الميل المحوري للأرض مستقرة للغاية ولا تختلف إلا بمقدار درجة واحدة. يبدو أنَّ السبب في هذا هو قمرنا الكبير للغاية. فبدونه كانت زاوية الميل المحوري للأرض ستتراوح بين ٠ درجة و٨٥ درجة. على هذه الأرض البديلة، كانت الظروف المناخية ستصبح مختلفة للغاية. فبدلًا من دفء خط الاستواء وبرودة القطبين، كانت المناطق المختلفة ستختبر نطاقات من الحرارة مختلفة تمام الاختلاف. وكان هذا سيؤثر في أنماط الطقس.
لقد اقترح بعض علماء الطقس أنَّه لولا وجود القمر، لكانت التغيرات الفوضوية في الطقس ستزيد من صعوبة تطور الحياة، لا سيما الحياة المعقدة. بالرغم من ذلك، فقد تطورت الحياة في المحيطات. وهي لم تغزُ اليابسة إلا قبل ٥٠٠ مليون عام. لم تكن الحياة البحرية لتتأثر كثيرًا بتغير المناخ. أما في حالة حيوانات اليابسة، فإنَّ التغيرات المناخية التي كانت ستنتج عن غياب القمر سريعة بالمقاييس الزمنية الفلكية، لكنَّ حيوانات اليابسة كانت ستهاجر مع تغير المناخ؛ لأنَّ التغيرات بطيئة وفقًا لمقياسها الزمني. كان التطور سيستمر دونما عائق كبير. ربما حتى ازداد سرعةً بفعل وجود ضغط أقوى للتكيف.
•••
إنَّ الآثار الفلكية التي وقعت بالفعل على الكائنات الأرضية الحية، أكثرُ إثارة للاهتمام من تلك الآثار الافتراضية التي لم تقع. أشهر هذه الآثار هو الكويكب الذي قضى على الديناصورات. أم إنه كان مذنَّبًا؟ وهل اشتركت في ذلك عوامل أخرى مؤثرة مثل ثورات بركانية ضخمة؟
ظهرت الديناصورات للمرة الأولى قبل ٢٣١ مليون عام في العصر الثلاثي «الترياسي»، واختفت قبل ٦٥ مليون عام في نهاية العصر الطباشيري «الكريتاسي». وفيما بين ظهورها واختفائها، كانت هي أنجح الفقاريات على الإطلاق في البحر وعلى اليابسة. مقارنةً بها، يوجد الجنس البشري «الحديث» منذ مليوني عام تقريبًا. غير أنه كانت توجد أنواع عديدة من الديناصورات؛ لذا فإنَّ هذه المقارنة ليست عادلة بعض الشيء. فمعظم الأنواع الفردية لا تصمد على قيد الحياة إلا لبضعة ملايين الأعوام.
ثمَّة اتفاق واسع في الرأي بين علماء الحفريات على أنَّ السبب الأساسي في انقراض العصر الطباشيري-الثلاثي، هو اصطدام كويكب أو ربما مذنَّب، قد خلَّف علامةً لا تُمحى على ساحل يوكاتان في المكسيك: فُوَّهة تشيكشولوب. أما فيما يتعلق بكون هذا هو السبب الوحيد أم لا، فلا يزال ذلك محل نزاع، ويعود ذلك جزئيًّا إلى وجود مرشح آخر منطقي يتمثَّل في سيول الحمم البركانية الضخمة التي شكلت مصاطب ديكان في الهند، والتي بعثت بكميات كبيرة من الغازات الضارة في الغلاف الجوي. لقد وُصِفت تكونات ديكان بأنها مصاطب لأنها تشبه الدَّرج؛ فطبقات البازلت غالبًا ما تخضع للتجوية في صورة سلسلة من خطوات الدَّرج. ربما كان تغير المناخ أو تغير طبقات البحر من العوامل المسئولة أيضًا. بالرغم من ذلك، فلا يزال الاصطدام هو المشتبه به الأساسي، وقد فشلت العديد من المحاولات في إثبات غير ذلك مع ظهور أدلة محسنة.
•••
من الأمور التي ثبتت هي الكيفية التي تتسبب بها الفوضى في قذف الكويكبات إلى خارج حزامها إلى أن ينتهي بها الأمر بالاصطدام بالأرض. إنَّ المتهم في ذلك هو المشتري، ويساعده المريخ بجدارة.
لعلك تتذكر من الفصل الخامس أنَّ حزام الكويكبات به فجوات على تلك المسافات من الشمس التي تشح فيها الأجرام للغاية، وأنَّ هذه الفجوات تتوافق مع مدارات ترتبط برنين مع المشتري. في عام ١٩٨٣، درس ويزدام تكوُّن فجوة كيركوود التي يبلغ رنينها ٣ : ١؛ سعيًا منه لفهم الآلية الرياضية التي تتسبب في طرد الكويكبات من مثل ذلك المدار. كان الرياضيون والفيزيائيون قد اكتشفوا بالفعل ارتباطًا وثيقًا بين الرنين والفوضى. ففي صميم الرنين، يكمن مدار دوري يدور فيه الكويكب حول نفسه عددًا صحيحًا من المرات، بينما يدور المشتري عددًا صحيحًا آخر من المرات. هذان العددان هما ما يميزان الرنين، وهما في المثال السابق ٣ و١. بالرغم من ذلك، سيتغير هذا المدار لأنَّ الأجرام الأخرى تؤدي إلى اضطراب الكويكب. والسؤال هو: كيف؟
في منتصف القرن العشرين، توصَّل ثلاثة من الرياضيين هم أندريه كولموجروف وفالديمير أرنولد ويورجين موزر، إلى ثلاثة أجزاء مختلفة من إجابة هذا السؤال تجتمع معًا في مبرهنة «كولموجروف-أرنولد-موزر» التي تُعرف اختصارًا باسم «كام». تنص هذه المبرهنة على أنَّ المدارات التي توجد بالقرب من مدار دوري تنقسم إلى نوعين. بعضها يكون مدارات شبه دورية تتحرك حول المدار الأصلي بطريقة منتظمة. أما النوع الآخر منها فيكون فوضويًّا. وعلاوةً على ذلك، يتداخل النوعان على نحوٍ معقد. ذلك أنَّ المدارات شبه الدورية تتحرك في مسارات لولبية تحيط بالمدار الدوري. يوجد عدد كبير للغاية من هذه الأنابيب. ويوجد فيما بينها أنابيب أكثر تعقيدًا تدور في مسارات لولبية حول مدارات لولبية. ويوجد بين هذه الأنابيب الأكثر تعقيدًا، أنابيب أخرى تتسم بدرجة أكبر وأكبر من التعقيد، وهي تدور حول «تلك» الأنابيب في مسارات لولبية، وهكذا دواليك. (وهذا هو المقصود بالمدارات شبه الدورية.) تملأ المدارات الفوضوية تلك الفجوات المتشابكة التي تقع بين جميع هذه اللوالب، واللوالب المتعددة، وهي تُعرَّف بتشابكات بوانكاريه التماثلية.
يمكن تخيُّل هذا البناء الشديد التعقيد من خلال استعارة إحدى خدع بوانكاريه والنظر إليها في مقطع عرضي. يتناظر المدار الدوري الابتدائي مع النقطة المركزية، وتتمثَّل أنابيب المدارات شبه الدورية في المنحنيات المغلقة في صورة مقاطع عرضية، أما المناطق المظللة فيما بينها فهي آثار المدارات الفوضوية. يمر مثل ذلك المدار بنقطةٍ ما في المنطقة المظللة، ويقطع دورة كاملة بالقرب من المدار الدوري الأصلي، ويقطع المقطع العرضي مجددًا في نقطة ثانية، تبدو العلاقة بينها وبين النقطة الأولى عشوائية. لن يكون ما ستراه كويكبًا يتحرك كالسكران؛ بل كويكب تتغير عناصره المدارية على نحو فوضوي من مدار إلى التالي.
لإجراء حسابات محددة لفجوة كيركوود التي تبلغ نسبتها ٣ :١، اخترع ويزدام طريقة جديدة لنمذجة الديناميكيات: صيغة تتماشى مع طريقة اصطدام المدارات المتتابعة بالمقطع العرضي. وبدلًا من حل معادلة تفاضلية للمدار، تستمر في تطبيق الصيغة فحسب. تؤكد النتيجة وجود المدارات الفوضوية، وتقدم تفاصيل عن شكلها. تتسم المدارات الأكثر إثارة للاهتمام من بينها بأنَّ الانحراف المركزي للأشكال الإهليلجية التقريبية يصبح أكبر فجأة. وبهذه النتيجة، فإنَّ المدار الذي يتخذ شكلًا إهليلجيًّا شبيهًا بالدائرة؛ أي شكلًا إهليلجيًّا عريضًا، يتحوَّل إلى شكل إهليلجي طويل وضيق. الواقع أنه يصبح طويلًا بما يكفي لأن يقطع مدار المريخ. ولأنه يستمر في فعل هذا، فثمَّة احتمال كبير بأن يقترب من المريخ؛ ومن ثمَّ يؤدي تأثير المقلاع إلى اضطرابه. وسيؤدي هذا إلى قذفه في أي مكان. وقد اقترح ويزدام أنَّ هذه الآلية هي الكيفية التي يخلي بها المشتري فجوة كيركوود التي تبلغ نسبتها ٣ : ١. وللتأكد من ذلك، رسم العناصر المدارية للكويكبات القريبة من الفجوة وقارنها بالمنطقة الفوضوية في نموذجه. وقد كان التشابه تامًّا إلى حدٍّ كبير.
ما يحدث بصفة أساسية هو أنَّ كويكبًا يحاول أن يدور في الفجوة، يتقلقل بفعل الفوضى، ويُدفع إلى المريخ، الذي يركله بعيدًا. يقوم المشتري بركلة ركنية، ويسدِّد المريخ الهدف. وفي بعض الأحيان، في بعض الأحيان فقط، يركل المريخ في اتجاهنا. وإذا حدث وأصابت الركلة هدفها، فإنَّ المريخ يحرز هدفًا، بينما لا تحرز الديناصورات أي شيء.