في إيطاليا
(١) أمبرتو سابا (١٨٨٣–١٩٥٧م)
العنزة
تكلمت مع عنزة.
كانت في الحقل وحيدة، كانت مربوطة.
شبعانة بالعشب، مستحمة بالمطر
كانت تثغو.
مثل هذا الثغاء
كان شقيق حزني.
وأجبت، أولًا على سبيل المزاح
ثم لأن الحزن خالد
له صوتٌ واحد، ولا يتغير.
هذا الصوت سمعته
يتأوَّه من عنزةٍ وحيدة.
في عنزة ذات وجهٍ سامٍ
سمعت كل بؤسٍ آخر،
وكل حياةٍ أخرى
تشكو همها.
منتصف نهار في الشتاء
في تلك الساعة التي كنت لا أزال فيها سعيدًا
(ليغفر لي الله هذه الكلمة الهائلة المخيفة)
من ذا الذي كاد يدفع فرحتي القصيرة إلى البكاء؟
قد تقولون: «لا شك أنها كانت مخلوقة جميلة
مرت من هناك وابتسمت لك.»
لا بل كان بالونًا، بالونًا شاردًا كالفيروز
في زرقة الهواء، وسماء بلادي
لم تكن أبدًا ساطعة، كما كانت
في ظهر ذلك اليوم المشرق البارد من أيام الشتاء.
كانت سماء ذات سحبٍ قليلةٍ بيضاء،
ونوافذ البيوت تتوهج في ضوء الشمس،
والدخان النحيل من مدخنة أو مدخنتَين،
وفوق الأشياء جميعًا، الأشياء الإلهية،
أفلتت تلك الكرة من يد صبي طائشة
(كان وسط الجماهير يبكي همه؛ همه الكبير)
بين مبنى البورصة والمقهى الذي كنت أجلس عليه،
وأنظر في دهشة من خلال النافذة،
وأرى بعينَين لامعتَين؛
كيف يرتفع كنزه ويهبط.
يوليس
في شبابي سبحت
على طول شواطئ دالماتيا١
جزرٌ صغيرة كانت تطفو على سطح البحر،
حيث كان يحط طائر على الفريسة،
كانت مغطاة بأعشاب البحر
زلقة، جميلة في الشمس كحبات الزمرد.
عندما كان المد العالي والليل يخفيانها،
كانت الأشعة تنفرد في اتجاه الريح
لكي تفلت من غدرها.
مملكتي اليوم هي أرض لا أحد.
الميناء يرسل أنواره لغيري؛
ما زالت تدفعني إلى البحر الرحيب
الروح التي لم يغزها أحد،
والحب المفجوع للحياة.
(٢) جو سيبي أنجارتي (١٨٨٨–١٩٧٠م)
شعب
فرَّ قطيع النخيل الوحيد٢
والقمر
اللامتناهي فوق ليالٍ جديية،
الليل الأسحم٣
سلحفاة في حداد٤
تتحسس
لا لون يدوم،
اللؤلؤة السكرى بالشك
(بدأت) تنبِّه الفجر،
وعند قدمَيه السريعتَين
تثير الوهج،
(ها هي ذي) تدوِّي
صيحات ريحٍ شابة،
خلايا النحل تنشأ في جبال
الأبواق الضالة،
ارجعي أيتها المرايا القديمة،
يا خطوط الماء الخفية
بينما الآن
و
براعم مرتفعات الثلج المقطوفة
تحيط بالصورة التي تعوَّد عليها آبائي،
تصطف الأشرعة
في الهدوء الصافي،
آه يا وطني، كل فصولك٥
صحَتْ في دمي،
تتقدم آمنا وتغني
فوق بحرٍ جشع.
١٩١٩م
ميلاد الفجر
الليل العذري
في معطفه الطري وفي المجد الرائع
هاربًا، ساخرًا، كأنه يغازل،
يأخذ من حجره زهرةً
شاحبة اللهب
ويلقي بها،
هي الساعة التي تفصل النور الأول
عن الرعشة الأخيرة.
في شحوب تفتح لجة لأطراف السماء.
بأصابعَ زمردية،
ينسج المطر الغامض ثوبًا
وظلال من ذهب تهدئ
التنهدات المسرعة الساذجة،
وتحيل الحفر جداولَ عابرة.
١٩٢٥م
نزع
أن تموت كالقبر العطاش
فوق السراب،
أو كالسمان
بعد أن يعبر البحر
في أول أيكة
لأنه فقد الرغبة
في الطيران.
ولا أن تحيا على النحيب
كالبرقش٦ الأعمى.
سهر
ليلة كاملة
ملقى بجانب
رفيقٍ مذبوح
بفمه العابس
المستدير
إلى البدر
بتشنج يديه
المتغلغل في صمتي
كتبت
رسائلَ مملوءة بالحب
أبدًا لم أكن
أكثر تعلقًا بالحياة.
حنين
عندما
يوشك الليل أن يمضي
قبل الربيع بقليل
ويندر أن يمر أحد
يتجمع فوق باريس
لونٌ غامض
من البكاء
على جانب
جسر
أتأمل
في الصمت غير المحدود
لفتاةٍ نحيلة
تمتزج
أمراضنا
ونبقى
كأننا حملنا بعيدًا.
ذكرى
كان اسمه
محمد شعيب،
سليل
أمراء البدو،
انتحر
لأنه لم يعد
له وطن!
أحب فرنسا
وغيَّر اسمه
أصبح «مارسيل»،
ولكنه لم يصبح فرنسيًّا،
ولم يعد يعرف
كيف يعيش
في خيمة أهله؛
حيث ينصتون
لترتيل القرآن
ويحتسون القهوة،
ولم يدرِ
كيف ينشد
أغنية ابتعاده.
رافقته
مع صاحبة الفندق
الذي كنا نسكنه
في باريس
من رقم ٥ شارع دي كارم
الشاحب الضيق
المنحدر على جانب التل.
يستريح
في جبانة إيفري؛
الضاحية
التي تبدو دائمًا
كسوقٍ مهدوم.
وربما لا زلت
أنا وحدي
الذي أعرف
أنه عاش.
هدوء
العناقيد ناضجة، الحقل محروث،
الجبل يخلص نفسه من السحب.
على مرايا الصيف المتربة
سقط الظل،
بين الأصابع المترددة
ضوءها واضح
وبعيد.
مع «السنونو» يطير
آخر ألمٍ ممزق.
مساء
عند أقدام ممرات المساء
يجري ماء ناصع
بلون الزيتون،
ويبلغ النار القصيرة بغير ذاكرة
في الدخان أسمع الآن أصوات الجنادب والضفادع،
حيث يرتعش العشب
رعشةً رقيقة.
لا تصرخوا بعد الآن
كفوا عن قتل الموتى،
لا تصرخوا بعد الآن، لا تصرخوا
إن كنتم ما زلتم تريدون
أن تسمعوهم،
إن كنتم ترجون
ألا تفنوا.
همسهم لا يحس
ما عادوا يحدثون ضجيجًا
إلا كنمو العشب
الذي يسعده ألا يمشي عليه إنسان.
فقدت كل شيء
فقدت كل شيء من الطفولة
وما عدت أستطيع
أن أفقد ذاكرتي في صيحة.
دفنت الطفولة
في أعماق الليالي
وهي تفصلني الآن
كسيف لا يرى
عن كل شيء.
أذكر عن نفسي
إنني لقيت المجد
في حبك
وها أنا ذا ضائع
في لا نهائية الليالي!
يا يأسًا يزداد بلا انقطاع
لم تعد الحياة عندي
– وهي حبيسة في عمق لهاتي —
غير صرخة من الصرخات.
الأنهار
استند إلى هذه الشجرة الجريحة
المهجورة في هذا الأسى
الذي يشبه فتور سيرك
قبل العرض أو بعده،
وأرقب السحب
وهي تعبر في هدوء
على (صفحة) القمر.
في هذا الصباح تمددت
في وعاء ماء
ورقدت هناك
كأنني مومياء،
نهر «الأيزونسو» الجاري
جعلني لامعًا
كأحد أحجاره
وضعت على
أطرافي الأربعة
ومضيت
كما يمضي بهلوان
فوق الماء.
أقعيت
بجوار ملابسي
ملوثًا بالحرب
ومثل بدوي
ملت برأسي
لأستقبل الشمس
هذا هو «الأيزونسو»
وهنا، أفضل من كل مكان،
عرفت نفسي
خيطًا لينًا
في (نسيج) الكون.
عذابي
حين لا أجد نفسي
في إنسجام.
لكن هذه الأيدي
الخفية
التي تصنعني
تغدق عليَّ
السعادة النادرة
عبرت
بعصور حياتي
هذه هي أنهاري
هذا هو اﻟ «سيركيو»
الذي أستقي منه
ربما لألفي عام
أهلي في الريف
وأبي وأمي،
هذا هو النيل
الذي رآني
أولد وأنمو
وأحترق بجهلي
في السهول الممتدة،
هذا هو السين
وفي لجته
تنبهت
وعرفت نفسي،
هذه هي أنهاري
يروي عنها الأيزونسو،
هذا هو حنيني
يتجلى لي
في كلٍّ منها
بعد أن جاء الليل
وبدت لي حياتي
زهرة من الظلال.
أغنية
من جديد أرى فمك البطيء
(بالليل يتقدم البحر ليلقاه)
وأرى فرس فخذيك
يسقط متهالكًا
بين ذراعيَّ اللتين كانتا تغنيان،
وأرى نومًا يعيد إليك
نضارةً جديدة وموتًا جديدًا
والوحدة الشريرة
التي يكتشفها في نفسه كل من يحب
كأنها الآن قبر لا متناهٍ
يفصلني إلى الأبد عنك.
حبيبتي، بعيدة أنت كما في مرآة.
١٩٣٢م
بلا وزن
من أجل إله يضحك كالطفل،
صيحاتٌ كثيرة من العصافير،
رقصاتٌ كثيرة في الأغصان،
نفس تتخفَّف من وزنها٧
المروح رقيقة رقيقة،
وفي العيون يبعث الصفاء،
الأيدي كالأوراق
مسحورة في الهواء …
من يخاف بعد الآن
من يحكم؟
«عاطفة الزمن»، ١٩٣٣م
ملالة٨
سكون، عندما ارتفع بأكمله
الجسد المر٩ الذي أتجه نحوه.
اليد التي مدَّتها إلي كانت مشعَّة
كلما تقدمت إليها ابتعدت
ها أنا ذا ضائع في هذا السعي العقيم.
عندما تموج الصباح تمددت
وضحكت، وسرقت شيئًا من عيني
صبية الجنون، أيتها الملالة،
ما أقلَّ ما كنت نشوانة وحلوة!
لمَ لمْ تتبعك الذاكرة؟
أتكون هديتك سحابة؟
هي همسة، تزحم الأغصان
بالأغنيات البعيدة.
ذكرى، صورةٌ عابرة،
ضحكة اكتئاب،
ظلام دم.
كمثل نبع خجول في ظل
قديم لأشجار زيتون
تعودين لتُهدهديني …
في صباح لم يزل سرًّا،
ربما ما زلت أشتاق لشفتَيك
ليتني لا أعرفهما بعد الآن!
سان مارتينو دل كارزو١٠
من هذه البيوت
لم يبقَ شيء
إلا أطلال،
من الجدار
من الكثيرين
الذين كانوا قريبين مني
لم يبقَ شيء
حتى ولا هذا،
لكن في القلب
لا ينقص صليب
قلبي
هو أشد البلاد
عذابًا.
ذكرى من أفريقيا
الشمس تقهر المدينة
العين لا ترى شيئًا
ولا القبور نفسها تقاوم طويلًا.
ليلة مايو
السماء تضع
على رءوس المآذن
أكاليل نور.
هذا المساء
حاجز من الريح
كي يسند حزني
في هذا المساء
سؤال
من أية كتيبة أنتم
يا إخوتي؟
كلمة ترتعش
في الليل
ورقة لم تكد تولد
في الهواء المثير
تمرد غير مقصود
لرجل
يعرف ضعفه
إخوتي.
صباح
أستضيء
باللانهاية.
ملاك الفقراء
الآن حيث يغزو العقول المطموسة
إشفاق غليظ بالدم والطين،
الآن حيث يثقلنا مع كل نبضة قلب
صمت كل هذا العدد من الموتى والمظلومين،
الآن فليستيقظ ملاك الفقراء،
رقة الروح التي لا تزال على قيد الحياة …
بتلك الإشارة التي لا تمحى على مر الأزمان
فليهبط على رأس شعبة العجوز
وسط الأشباح …
جنود
يقفون
كما في الخريف
على الأشجار
ورقة ورقة.
فرحة السفن الغريقة،
وفجأة
نستأنف الرحلة
كما يفعل
دب البحر
بعد غرق السفينة.
الميناء المدفون
هناك يصل الشاعر
ثم يلتفت إلى النور بأغانيه
وينثرها
من هذا الشعر
يبقى لي
ذلك العدم
الذي لا ينفد سره.
أبدي
بين زهرةٍ مقطوفة وأخرى مهداة
عدم لا يوصف.
غروب
احمرار السماء
يوقظ واحات
لراعي الحب.
كون
من البحر
صنعتُ لي
نعشًا من النضارة.
لعنة
حبيسًا بين أشياء فانية
(كذلك ستفنى السماء ذات النجوم)
ما الذي يجعلني نهمًا إلى الله؟
البحر
ما عاد يرعد، ما عاد يهمس البحر،
البحر.
يثير الشفقة أيضًا، يثيرها البحر،
البحر.
سحبٌ غافلة تحرك البحر،
البحر.
الدخان الحزين يترك الآن فراشة البحر،
البحر.
هو أيضًا مات، انظر، البحر،
البحر.
(٣) سلفاتور كواز يمودو (١٩٠١م–؟)
شتاء قديم
رغبة يديك الواضحتَين
في ضوء اللهب الشاحب:
تفوحان برائحة خشب السنديان والورد؛
بالموت. شتاء قديم.
الطيور فتشت عن الحب
وفجأة صارت ثلجًا؛
كذلك الكلمات:
شمس صغيرة، مجد ملاك،
ثم الضباب؛ والأشجار،
ونحن مخلوقات من هواء.
وفجأة يقبل المساء
كل إنسان يقف وحيدًا على قلب الأرض
ينفذ فيه شعاع من ضوء الشمس:
وفجأة يقبل المساء.
إنسان عصري١١
ما زلت رجل الحجر والمقلاع
يا إنسان عصري. كنت في مقعد قيادة الطائرة،
ذات الأجنحة الشريرة، في ظهيرة الموت،
– رأيتك — في عربة النار، فوق المشانق،
على عجلات التعذيب، رأيتك؛ كنت أنت،
بعلمك الدقيق الذي يبغي الخراب،
بغير حب، بغير مسيح، عدت إلى القتل،
كعهدك دائمًا، كما قتل الآباء، كما قتلوا
الحيوانات التي رأوها أول مرة.
وهذا الدم تفوح رائحته كما فاحت
يوم قال الأخ لأخيه الآخر:
«لتمضِ إلى الحقول.» وهذا الصدى البارد، العنيد،
قد وصل إلى جوارك، داخل يومك.
انسوا، أيها الأبناء، سحب الدم
الصاعدة من الأرض، انسوا الآباء؛
إن قبورهم تغوص في الرماد،
الطيور السوداء، الريح، تغطي قلوبهم.
شتاء قديم
لهفة إلى يديك، الساطعتين،
في ظل اللهب الباهت:١٢
فاحت (برائحة) تابوت من (شجر) البلوط، وبالورد،
بالموت. شتاءٌ قديم.
الطيور بحثت عن الطعام
وفجأة صارت ثلجًا؛
كذلك الكلمات.
قليل من الشمس، هالةٌ ملائكية،
ثم الضباب؛ والأشجار،
ونحن في الصباح من هواء.
١٩٤٢م
الآن يرتفع النهار
مضى الليل، والقمر
يخلص نفسه على مهل في السماء الصافية.
يغيب في القنوات.
سبتمبر مفعم بالحياة في هذه البلاد
ذات السهول، المراعي خضر
كما في وديان الجنوب وقت الربيع.
هجرت الرفاق،
خبأت الفؤاد داخل الجدران القديمة،
لأبقى وحيدًا أفكر فيك
كم أنت أبعد من القمر،
الآن، بينما يرتفع النهار
وتدقُّ على الرصيف حوافر الخيل!
١٩٤٢م
محاكاة الفرح
حيث الأشجار
تزيد المساء وحشة،
كم كانت واهنة
خطوتك الأخيرة وهي تتلاشى!
حين توشك الزهرة أن تتفتح
على شجرة الزيزفون
وتصر على قدرها.
تبحثين عن دافع لمشاعرك،
تجربين الصمت في حياتك.
الزمن المنعكس في المرآة
يكشف لي عن مغامرةٍ أخرى.
الجمال الذي يتجلى الآن في وجوهٍ أخرى
يجعلني حزينًا كالموت.
فقدت كل شيء بريء،
حتى في هذا الصوت
الذي يصرُّ على محاكاة الفرح.
رسالة إلى الأم
«يا أمي الحبيبة، الآن يهبط الضباب،
قناة «النافيليو» تضرب جسورها في غموض،
الأشجار تنتفخ بالماء، تحترق بالثلج؛
لست حزينًا في الشمال،
لست في سلام مع نفسي
لكني لا أنتظر المغفرة من أحد.
كثيرون يدينون لي بالدموع
كما من رجل لرجل
أعلم أنك لست على ما يرام،
أنك تعيشين كما تعيش كل أمهات الشعراء،
فقيرة وعادلة في مقياس الحب
للأبناء البعيدين.
أنا الذي أكتب اليوم إليك.
ستقولين، أخيرًا تصلني كلمتان
من الولد الذي هرب في الليل
على كتفيه معطفٌ قصير
وفي جيبه بضعة أشعار.
مسكين، حسن النية،
سيقتلونه يومًا من الأيام في مكانٍ ما.
«يقينًا»، ما زلت أذكر،
تلك الساحة الكئيبة ذات القطارات البطيئة
التي كانت تحمل اللوز والبرتقال إلى مصب «الإيمرا»
النهر الممتلئ بطيور العقعق،١٣ والملح، وأشجار الكافور.
غير أني الآن،
أريد أن أشكرك، على السخرية
التي وضعتها على شفتي
الوديعة كشفتك.
أنقذتني تلك الابتسامة من البكاء والأحزان.
ولا يهم الآن أنني أحمل دمعة لك،
لكل الذين ينتظرون مثلك،
ولا يدرون ماذا ينتظرون.
آه، أيها الموت الرحيم،
لا تلمس ساعة المطبخ التي تدق فوق الحائط.
طفولتي كلها قد مرت على مينائها،
على هذه الزهور المرسومة عليها.
لا تلمس أيدي العجائز،
لا تلمس قلوبهم
ربما أجاب أحدهم!
آه يا موت الرحمة، يا موت الخجل.
الوداع يا حبيبتي،
الوداع يا أمي المحبوبة.»
آه يا حيواناتي الحلوة
آه يا حيواناتي الحلوة،
الآن يتلف الخريف اخضرار التلال.
سوف نسمع من جديد،
قبل أن يهبط الليل،
الشكوى الأخيرة من (أفواه) الطيور.
نداء السهل الأغبر وهو يزحف
ليلتقي بضجة البحر العالية.
ورائحة الخشب في المطر،
رائحة الجحور،
ما أجمل الحياة هنا بين البيوت،
بين الناس، يا حيواناتي الحلوة!
هذا الوجه الذي يدير عينيه حوله في بطء،
هذه اليد التي تطبع علامة على السماء حيث يدوي صوت الرعد،
هما وجهك ويدك، يا ذئابي،
يا ثعالبي المحترقة بالدم.
كل وجه، كل يد، فهي لك.
تقولين لي، كل شيء كان عبثًا،
الحياة، الأيام التي جرفتها المياه الثابتة
بينما يرتفع من الحديقة غناء الأطفال.
لعلهم الآن بعيدون عنا؟
لكنهم يتراجعون في الهواء،
أشبه بالظلال.
هذا صوتك.
لكن ربما كنت أعرف
أن كل هذا لم يكن له وجود.
شارع في أجريجنت
هناك تبقى ريح أتذكرها
ملتهبة في أعراف الجياد المنحدرة
وهي تتسابق فوق السهول،
ريح تتلف الحجارة وتنخر
في قلب الأعمدة القاتمة،
المقلوبة على الأرض.
أيتها الروح العجوز،
يا من شيبتك الأحقاد،
عودي إلى تلك الريح،
تنفسي أريج العشب
الذي يدثر العمالقة
التي قذفت بها السماء.
يا لوحدتك في الفراغ الذي بقي لك!
ويزداد أساك كلما سمعت الصوت
الذي يبتعد تجاه البحر
حيث ترسم نجمة الغرب خيوط الصباح:
قيثارة اليهودي ترتعش محزونة
على فم الحوذي
وهو يصعد التل
الذي طهره ضوء القمر،
بطيئًا بين همسات الزيتون العربي.
من قلعة برجامو العالية١٤
سمعت صيحة الديك في الهواء،
خلف الجدران، وراء الأبراج
تقشعر بنور لم تعرفه
الصيحة المرعدة للحياة،
وهمس الأصوات في الزنزانات،
ونداء الطير الحارس قبل الفجر
ولم تقل لنفسك كلمة
كنت الآن في دائرة الشعاع القصير:
وصمت الريم ومالك الحزين
وقد ضاعا في زوبعة دخانٍ شرير،
تمائم عالم ولد لساعته.
ومر قمر فبراير
طليقًا فوق الأرض:
لكنه لم يكن بالنسبة لك
غير صورة في الذاكرة، تضيء في صمتها.
أنت أيضًا بين أشجار السرو في القلعة
أذهب الآن بلا ضجيج؛
والغضب هنا تهدئه خضرة الأموات الشبان،
والحسرة البعيدة كادت تصبح فرحة.
يومًا بعد يوم، ١٩٤٧م
١
منطقة تقع في يوغوسلافيا (كرواتيا) على البحر الأدرياتيكي
تحيط بها جزر عديدة (أرخبيل دالماتيا).
٢
الوحيد هنا صفة للقطيع لا للنخيل.
٣
أي الكالح السواد.
٤
تشبيهٌ نادرٌ رائع، يعبر عن شدة الحزن.
٥
أي كل فصل من فصولك السنوية استيقظ في دمي.
٦
طائرٌ صغير كالعصفور متلون، يسميه أهل الحجاز بالبرقش (المعجم الوسيط).
٧
حرفيًّا: تصبح بلا وزن، أو تطرح وزنها، وهذه التجربة تمثل
إحدى موضوعات الشاعر الرئيسية، ألا وهي العودة إلى البراءة
الأولى.
٨
العنوان الأصلي: إلى الملل أو السأم، وقد آثرت هذه الكلمة لأن مدار
القصيدة شكل حالم أسطوري يشبه ربة أو حورية، لا يكفُّ الشاعر عن البحث
عنها والسعي إليها ولكنه لا يصل إليها أبدًا. ولعلها، كما قال عنها أحد
النقاد الإيطاليين، تعبير عن كائن يغري الرجل ويغويه، ويخلصه من عبء
البشرية. والقصيدة مثلٌ جيد لشعر أنجارتي الدقيق المحكم الغامض الكثيف
الرموز والاستعارات، والذي استحق الشاعر من أجله هجوم بعض النُّقاد
عليه، ووصفهم له بأنه شاعر الأسرار والألغاز.
٩
حرفيًّا: الفج، النيئ.
١٠
نشأت هذه القصيدة، كمعظم أشعار أنجارتي، من محن الحرب العالمية
الأولى ومن مخابئها وخنادقها. وعنوان القصيدة وموضوعها عن مدينة
دمَّرتها الحرب في الجبهة النمسوية، تذكر الشاعر بمدينة قلبه وذكرياته
التي تحطمت.
١١
عن الترجمة المنشورة في الطبعة العربية من مجلة ديوجين أو مصباح
الفكر، العدد الأول، ص٢٤، مع تعديلاتٍ بسيطة رأيتها ضرورية.
١٢
حرفيًّا: في نصف ظلام اللهب.
١٣
طائر نحو الحمامة، طويل الذَّنَب، فيه بياض وسواد، وهي نوع
من الغربان.
١٤
قلعة في منطقة لمبارديا، بُنيت على مستويَين، ولا تزال تحتفظ في
جزئها الأعلى بمشهد الحصون القديمة، ظهرت القصيدة في مجموعة «يومًا بعد
يوم، ١٩٤٧م» التي نبعت من تجارب الحرب العالمية الثانية، ومن قسوة
الاحتلال الألماني ومرارته، وهي تعكس هذه التجارب التي حاول فيها
الشاعر أن يخرج عن عزلته وجرب، كما يقول، أن يعيد بناء الإنسان، كما
تهيب دائمًا بذكريات الطفولة السعيدة التي قضاها في صقلية.