جدل العقل والوجدان
قُطبان على طرفَي نقيض، أو هما طرفا بنيةٍ نقيضية متكاملة هي بنية وعي الإنسان وعلاقته بذاته وبالآخر (المجتمع والبيئة والكون أو ما وراءه). ويؤثِّر الصراعُ أو حصادُ تنازُع الاختصاصات بين القطبَين على تَوجُّه حركة الإطار الفكري العام للمجتمع في مسار حياته النشوئية التطوُّرية. ويجري بينهما، بحكم هذا التناقُض، وفي ارتباطٍ بالطرف الوجودي، صراعٌ دائم لغلبة أحدهما على الآخر أو فض الاشتباك. هذان القطبان هما العقل ومجلى سيادته علم الدنيا وشئونها، وله قواعده ومنهجه المتطوِّران أبدًا. والثاني هو الوجدان (أو الروح أو القلب أو النفس، أو ما شابه ذلك من مسمَّياتٍ كلية جامعة لعناصر الثقافة الاجتماعية المعيشة). وتتمثَّل عناصره في القيم والعقيدة والأيديولوجيا أو ما يؤلِّف الموروث الثقافي، وهي عناصرُ زمانيةٌ مكانية. ويراه المرء وكذا المجتمع تعبيرًا عن ذاته وتمثيلًا لهُويته، ويغلبه الحنين إلى أن يثبِّت عنده حركة المجتمع والتاريخ باسم ثبات ووحدة الهوية؛ ولهذا فإن مجلى سلطان الوجدان هو كل ما تجاوز عالم الشهادة أو الحس أو التجربة والتفسير المنهجي العقلاني. إنه دائمًا حنين إلى ما اطمأنت إليه النفس في صورة موروث إيماني غير خاضع للتساؤل أو التشكيك أو المراجعة والبحث؛ ولهذا فإن للوجدان منطقة الإدراكي الذاتي ومعاييره أو اللامنطق بلغة العقل.
ويتجَّسد هذا القطبان (العقل والوجدان) بامتداد التاريخ في تيارَين يقسمان الإطار الفكري العام للمجتمع؛ تيار يؤكد سيادة العقل واستقلاله بمجال بحثه المميز كأساسٍ لاطراد الحركة الارتقائية للفكر والمجتمع بعامة في شئون الدنيا. وتيار آخر هو خط الوجدان الذي يحجُب العقل تحت مسمياتٍ ذاتية أو قدسية، ويعمد إلى الحد من سلطاته، بل ينزع في عصور الانحطاط والتخلف إلى ادعاء حق الهيمنة الكاملة أو الحاكمية والمرجعية المطلقة، ونفي كل سلطانٍ مستقلٍ للعقل.
وتوازُن جدَل العقل والوجدان رهنُ واقع حال الإنسان/المجتمع من حيث الانتماء أو الاغتراب .. الانتماء من خلال الفعل الاجتماعي النشِط القادر على التغيير قرينُ وعي اجتماعي عقلاني نقدي يعزِّز الأمل في الواقع وفي الحياة .. أو الاغتراب نتيجةَ تَعطل إرادة الفعل الاجتماعي وتَعطل قابلية التحدي؛ ومن ثَم غلبة الشعور بالعجز عن التغيير والاستسلام للمقادير تحت عباءة تبريراتٍ متباينة تجد سندَها في الثقافة الاجتماعية المعيشة، ولكنها في جميع الأحوال تصرفُ مخاض الإنسان عن تحدِّيات الدنيا إلى مصرفٍ آخر.
ويسود المجتمع اعتقاد بأن العلم علمان؛ علم دنيا وهو مسئولية العقل الباحث عن المعرفة على هدى البرهان والدليل والتجربة في إطار واقعٍ متغير. وعلم الباطن أو الآخرة، حسب خصوصية الاعتقاد، يخاطب الوجدان، ويتصف باليقين المطلق؛ ومسئولية تفسيره أو تأويله منوطةٌ برجال الدين فهم الفقهاء أهل الذكر. وتمثِّل العلاقة بين هذَين القطبَين، ومن ثَم العلاقة بين هذَين العِلمَين وأهلهما، حالةً من التوتُّر الدائم على مدى التاريخ الحضاري للمجتمع. وتتأرجح العلاقة بينهما اتساعًا وضيقًا، أو صعودًا وهبوطًا، حسب مستوى الفعل أو النشاط الإنساني المتجسد فيما نَصِفُه بالازدهار أو الانحسار الحضاري للمجتمع. وهذا التوتُّر سائد في جميع الثقافات، ولكن الفارق هو مساحة المرونة المتاحة للحوار بين طرفَي التناقُض، تعبيرًا عن مساحة الفعل الاجتماعي النشط إيجابًا وسلبًا. ويدور الحوار في حركةٍ جدلية تُفضي إلى تجديد البنية الثقافية في حالة الإيجاب، على نحوٍ يدعم التوزُان والتكامُل بين طرفَي المعادلة، ويفي بمقتضيات التطوير الحضاري للمجتمع.
والمقصود بالحوار الجدلي هنا حوارٌ قائم على التفاعُل المتسامِح أخذًا وعطاءً بين الطرفَين في ارتقاءٍ مشترك وسيادة واستقلالية دون أن ينزع طرف إلى إسقاط حق الطرف الآخر في الوجود اعتسافًا وتفردًا أو تطرفًا. وشواهد التاريخ تُبيِّن أن المعوَّل دائمًا وأساسًا على الطرف الديني أو الوجداني لأنه الأقدم والأرسخ إذا تسامَح واعتدَل وهيَّأ فرصةً للحوار دون تحريم أو تجريم. وبذا تكون حركة النهوض الاجتماعي أيسر، وشاملة القطبَين معًا، دون أن يهدف أحدهما إلى طمس الآخر أو محوه.
والغالب الأعم أن يحتدم الصراع في لحظات التحوُّل الحضاري تعبيرًا عن أزمة، واستعدادًا لنقلة أو طفرةٍ حضارية جديدة. والأزمة هنا هي التعبير عن إخفاقٍ مرحلي لإطارٍ معرفي قيمي تقليدي أو قديم لم يعُد ملائمًا لحل أو حسم مشكلاتٍ جديدة طارئة يطرحها الواقع المتجدِّد أبدًا. إنها أزمةٌ إبستمولوجية تشمل أدوات المعرفة وحدودها وقواعدها ومرجعيتها، وهي أزمةٌ فكرية ونفسية وقيمية تكاد تمزِّق المجتمع. وتُنشِب الأزمة ببراثنها في جسد وفكر المجتمع، وتظهر أعراضُها حادَّة حين يُفضي الفعل الحضاري الإبداعي إلى ظهور واقعٍ جديد تمثِّله اكتشافاتٌ جديدة فكرية ومادية تتغيَّر معها صورة الذات والكون على نحوٍ يتعارض مع مفاهيم أو عناصر بنيةٍ عقلية سائدة .. وتكون الأزمة أكثر حدَّة، والأعراض أكثر تدميرًا وتمزيقًا لبنية المجتمع وتكاملها حين يكون الإطار الفكري التقليدي حائلًا دون الإبداع والتغيير في تكافؤ ندِّي مع التحوُّلات الحضارية في المحيط الإقليمي أو العالمي .. وتصيب المجتمع أعراضٌ انفصامية ونزعاتٌ هروبية إلى الذات .. والهوية .. التقليد .. ونزعاتٌ تجمع ما بين العدوانية والتبعية في آنٍ ضد الآخر.
ومن هنا تستلزم حركة النهوض والتقدم انتقاد ما هو أصلي في الإطار الفكري الاجتماعي أو في الثقافة .. أي نشوء وعيٍ جديد، قرين الفعل الإبداعي الجديد، وهذا هو ما نُعبِّر عنه بقولنا إن المجتمع في أزمة .. أزمة مخاضِ ولادة جديد .. أعني حين يكون فعَّالًا نَشِطًا، وبذا يأخذ الانتقادُ اتجاهًا صحيحًا وتصحيحيًّا، هو الانتقادُ قصدَ اكتشاف معوِّقات الحركة داخل البِنية الفكرية وصولًا إلى الاتساق بينها وبين البِنية المادية الجديدة للواقع. أما الشكوى من أزمة في مجتمعٍ لا يبدع، تَعطَّل فيه الفعل الإنتاجي، فإنها شكوى من أعراض حملٍ كاذب.
وإنها مهمة العقل وحده في حالة الأزمة أن يستجمع أدواته ومنهجه وحصاد العلوم ذات الصلة لإبداع الحل المنشود في صيغةٍ نظرية أو إطارٍ فكري جديد يُسهِم المجتمع العلمي في بنائه. ولكن المُلاحَظ في سياق الصراع التاريخي بين العقل الوجدان، أن يتخذ الوجدان من مظاهر الأزمة أو الإخفاق المرحلي شهادةً على قصور العقل. لا يرى الوجدان، اليقيني المطلق بطبيعته، في هذا أن الأمة استنفدَت الإمكانات الإيجابية المرحلية لإطارها المعرفي العقلاني في حل مشكلاتها الحياتية الدنيوية، وأنها بصدد جديد يستعصي حلُّه وَفْق الإطار التقليدي وقد نضب معينه. إنها بحاجة إلى إطارٍ جديد يختلف من حيث مجال الاختصاص والمنهج عن الإطار العقيدي اليقيني المتجانس والثابت المطلق لانفصاله عن الواقع المتغير، وينزع الوجدان هنا إلى التشدُّد، خاصةً وأن الأزمة لها جوانبها النفسية وانعكاساتها الاجتماعية، مؤكدًا أن الخلاص بيده؛ ومن ثَمَّ يدعو إلى توسيع مجال سلطانه، والعودة إلى سطوته ليشمل شئون الدنيا لأنه صاحب اليقين المطلق والمنقذ للنفس من عذابات الشك والقلق. وطبيعيٌّ أن تستجيب قوى المجتمع إزاء الأزمة كل حسب المصلحة في التأويل.
ومثل هذا التأكيد يُغفِل أن ارتقاء الحضارات الإنسانية ارتقاءٌ تاريخي مرحلي؛ أي عَبْر مراحلَ متمايزة وممتدة في الزمان ولها خصوصيتها التي نعبِّر عنها بعبارة روح العصر. ويُغفِل أيضًا أن هذا الارتقاء تعبير عن مواجهةٍ متجددة مع كل عوامل الأزمة التي تهدِّد بقاء المجتمع، وأن النهوض لا يكون إلا على هَدْي محاولَةٍ عقلانية قائمة على الدراسات التحليلية النقدية، في ضوء إنجازات العلوم لاستكشاف الأدوات الثقافية التي توفِّر للإنسان إدارةً واعية لما أفرزه المجتمع (علومٌ طبيعية وإنسانية وتكنولوجيا وبيئة وفكر)، بل وإرادة علمية واعية بمكانة ومحتوى ودور التراث الثقافي أو الذاتية الاجتماعية في التاريخ.
لهذا هناك من يرى أن حركة المجتمع على مدى تاريخ التطوُّر حركةٌ بندولية مع إيقاع التغيُّر أو التحوُّل الحضاري بين قطبَي العقل والوجدان، وأن المجتمع — في مرحلة الأزمة — يتغيَّر إطاره المعرفي القيمي السائد أو الرسمي أمام التحديات والمشكلات، وتبرز على السطح حركة العودة إلى الوجدان بكل معانيه المختلفة باسم العقيدة أو التراث أو الماضي في صورةٍ أسطورية. ويشيع هذا التوجُّه فترة إلى حين أن يبدع العقل، ربَّان حركة المجتمع، الإطار المعرفي الجديد. ويبدأ الإنسان، أو لنقل يبدأ العقل في هذه الآونة دراسةً نقدية تحليلية لأدواته المعرفية ولرصيده الثقافي التقليدي ولصورة الذات والآخر، مع محاولة استكشاف أسباب القصور وخصائص الجديد. وبهذا تكون العودة إلى التراث عودةً عقلانية تُهيِّئه لطفرةٍ تقدمية تكفُل اتساق الشخصية الاجتماعية وامتدادَها السوي، وليست ردة أو نكوصًا أو انكفاء على الذات. إنها محاولةٌ اجتماعيةٌ شاملة لتصحيح المسار، وتغيير الاتجاه وَفقَ مقتضياتٍ طارئة من صنع الإنسان. وهنا تكون القطيعة قطيعةً معرفية مع الاتصال الحضاري التاريخي.
وطبيعي أن تتعدَّد داخل المجتمع الاتجاهات والاجتهادات. ويمتد الحوار ليعود بعد ذلك البندول إلى وضع سوي، مؤكدًا انتصار العقل في مجال اختصاصه، ويقود المجتمع على طريق المواجهة الحضارية. وليس العقل ملكةً ثابتة، أو كيانًا وجوديًّا مستقلًّا أو غيبيًّا .. إذ لا يُوجد كيانٌ مستقل بهذا المعنى وظيفته الطبيعية التفكير .. وإنما العقل هو الإنسان المجتمع وجودًا وتاريخًا وفعلًا أو نشاطًا اجتماعيًّا وفرديًّا، وحصادًا معرفيًّا نسقيًّا يصُوغه المجتمع في إطارٍ نظري قرين النشاط المادي .. ولهذا فإن العقل هو جماع هذا كلِّه وحصاده في بِنيةٍ نسقية، وثمرة النشاط، نشاط الوعي واليد معًا، وتطوري لذا فهو متغيِّر في ارتقاءٍ مطَّرد، وهو تعبير عن مستوًى حضاري يجسِّده فعلُ الإنسان وفكرُه متمثلًا في أحدث إنجازات العلوم وأدواتها الحضارية أو التكنولوجية، وبدون ذلك مآله التخلف أو الانحسار.
ومأساتُنا هي اختلال علاقة التوازُن بين القطبَين على نحوٍ أفضى إلى انحسار دَوْر العقل، ومن ثَم دَوْر العلم بسبب امتداد عصور الانحطاط والتخلُّف والتبعية وتأويل النصوص لصالح النزعة السلفية المحافظة. وفعلَت الفانتازيا فعلها إذ نسجَت التخيُّلات الاجتماعية على مدى هذه العصور أساطير ترسَّبَت ورسخَت في الأذهان، واتخذَت لدى العامة صورة مسلَّمات، وخلقَت جدارًا معنويًّا سميكًا يعوق إصلاح عملية التوازُن والعودة بالبندول إلى الوضع الصحيح. وأثَّر هذا بالسلب على النهوض بالأمة، وعلى عودة العقل إلى سلطانه ومسئوليته في صياغة الإطار المعرفي لواقعنا الدنيوي الذي كَفَّ عن الفعل الإنتاج النشِط.
وانعكس في تاريخنا الفكري هذا الصراع بشأن تنازُع اختصاصات كلٍّ من العقل والوجدان. وتجسَّد هذا الصراعُ في خطَّين فكريَّين أو إطارَين معرفيَّين أحدهما يساند العقل مؤكدًا سلطانه المستقل في مجال اختصاصه، والآخر يصل بالوجدان إلى حد الشمولية الحاكمة.
وخط العقل في حياتنا الفكرية متقطِّع، لا يكاد يظهر حتى يذوي ثم يتلاشى. ولم تكن له في يومٍ الحاكمية أو السلطة على ساحته. ولقد كان أقول نجم العقلِ علةً أولى لانهيار الحضارات القديمة، وهيمنة أو طغيان سدَنة الوجدان، واتخاذه قناعًا يُخفي مصالحَ ماديةً اجتماعية وسياسية؛ إذ تؤكد شهادة التاريخ أنه حين يواجه المجتمع أزمةً يغيب العقل عن بحثها وتشخيصها، وينحسر معها الفعل الاجتماعي الإبداعي تشتد سطوة الوجدان الذي ينحو باللائمة على العقل.
وواقع الحال أن الأزمة ليست أزمة العقل في حد ذاته، بل هي أزمة إنجازات العقل اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا .. أزمة منهج استخدام المجتمعات لهذه الإنجازات في صراع المصالح، واستخدام فئاتٍ اجتماعية لهذه الإنجازات لتحقيق مصالحَ أنانيةٍ في إطار الصراع الأبدي بين البشر. وتنعكس نتائجُ هذا كله في صورة تفاوتاتٍ ومظالمَ اجتماعيةٍ وحروب وأوبئة ونضوبٍ للموارد .. التي هي تجليَّات الأزمة والتفكُّك الاجتماعيَّين.
وشهادة التاريخ واضحةٌ ومتواترةٌ في هذا الشأن. مثال ذلك أوروبا في العصر الحديث عقب حربَين عالميتَين وذيوع فلسفات الشك والوجدان على عكس أوروبا إبَّان نهضتها وذيوع فلسفات الإرادة والعقل والتغيير. وفي العصور القديمة كمثالٍ آخر بينما مصر تمر بمرحلة انهيارٍ اجتماعي وسياسي وعسكري مهَّد لنجاح الغزو الفارسي الذي هو إحدى حلقات صراعٍ إقليمي مستمر آنذاك، ثم ما تلا هذا الغزو من غزوات؛ فقد ساد آنذاك الفكر الهرمسي في صورةٍ استسلاميةٍ انهزامية، وامتد مع الزمان. ونجد مثالًا واضحًا في الفكر السكندري قديمًا بعد صراع القادة العسكريين ورثة الإسكندر وضياع مجد اليونان الموحَّدة، ثم تفكُّك الإمبراطورية الرومانية وصراعاتها وحروبها الداخلية واستنفاد الموارد وزيادة الضرائب. نجد أيام وحدة ومجد اليونان نشأَت فلسفاتٌ إيجابية عقلانية الطابع إثر تفاعلٍ حضاري على صعيد الإقليم. وصدرَت باسم اليونان المظفَّرة وتعبيرًا عن انتصار العقل اليوناني. ولكن مع اطراد حال الهزيمة والانحسار الحضاري الذي ساد الإقليم؛ إذ كان الإقليم كله مصر وشرق المتوسط وشماله يُعاني أزمةً حضارية .. تولَّدَت عن هذا كله وجسَّدَتْه مدرسة الإسكندرية فلسفاتٍ روحية تدعو إلى الوجدان وإلى الهرب من الدنيا والعودة إلى القديم .. وكان القديم هنا، في مدرسة الإسكندرية، فكرًا مصريًّا قديمًا هو فكر الهرمسية .. فكر أزمة وانهيار النظام المصري القديم. فكر دعا فيه هرمس مثلَّث العظمات إلى أن ينذُر المرء نفسه وحياته فردًا للعبادة، وأن يخلِّف الدنيا وراءه. وشاع بين رجال الفكر آنذاك أن العلم؛ أي العقل الباحث والعقل الاجتماعي الإبداعي النشِط علة الشرور في الدنيا والآخرة؛ لأنه يُبعِد الإنسان والمجتمع عن الإله وعن التقوى.
وكذلك الحال في صورة الحضارة الإسلامية نجد الصراع احتدم بين ممثلي التيار العقلي وهم المعتزلة والفلاسفة والعلماء المشتغلين بالبحث العلمي الطبيعي. وكانوا جميعًا صورةً مشرقةً واعدة للازدهار الحضاري؛ إذ أكَّدوا مسئولية الإنسان عن أفعاله، وحرية إرادته واختياره وفعله وفكره، وأن له القدرة على تمييز الخير في دنياه ليتبعه، والشر ليجتنبه. وعلى الرغم من أن رأيهم هذا انصَبَّ على حرية فعل الحسَن أو القبيح، الخير أو الشر في حدود تعاليم الدين إلا أنه تَوجُّه كانت له أبعاده الاجتماعية الواعدة التي تُؤثِّر على حركة المجتمع.
وكان من شأن هذا الرأي أو التأويل أن يؤكِّد مسئولية الحاكم سياسيًّا واجتماعيًّا عن أفعاله وحق مساءلته أمام الناس؛ أي مسئولية المواطنين كرقباء وأصحاب مصلحة، وتنظيم أسلوب ممارسة هذه المسئولية باعتبارها شأنًا حياتيًّا دنيويًّا. ويؤكِّد هذا الرأي كذلك حقَّ الإنسان في أن يضع شرائعه التي تنظِّم حياة الفرد والمجتمع، وحقَّ المرء في تأكيد سلطان العقل على شئون الدنيا لأنه أعلم بها، وأن رسالة الإنسان على الأرض ليست عبادةً فحسب في إطار ما سنَّته الشريعة بشأن العبادات، وأن العلوم ليست علوم عبادات وآخرة فقط، بل وعلوم دنيا لها أهلها على تعدُّد اختصاصها، ولها منهجها أو شريعتها الدنيوية.
وكان فارس هذا المضمار الفيلسوف العقلاني ابن رشد الذي أكَّد أن إعمال العقل الإنساني الحر ليس فقط ممكنًا، بل واجبًا فرضًا. ووضع ابن رشد البرهان العقلي أساسًا أوحدَ للفكر العلمي والفلسفي موضِّحًا أن الفضيلة الأم عند المفكِّر الحر إثباتُ الحقيقة بالبرهان العقلي. ونفَى كل مظانِّ قصور العقل البشرى، مؤكدًا أن العقل البشري قادرٌ على إنتاج الحقيقة باستقلاليةٍ كاملة، وأن هذه الحقيقة القائمة بالبرهان العقلي هي التي تستطيع وحدها أن تكون سندًا للتأويل الإبداعي. ومضى إلى أبعدَ من ذلك حين رأى أن إظهار الحقيقة العلمية والبرهنة عليها واتخاذها دعامة للتأويل ليس شرطًا أن يكون مصدرها مفكرًا مشاركًا في العقيدة والملَّة؛ فالمفكِّرون على اختلاف مِلَلهم يمكنهم الوصول إلى الحقيقة العلمية البرهانية المشتركة بين المجتمع في شئون الدنيا. ووضع ابن رشد بذلك البذرة الأولى لمعنى تاريخية العقل واجتماعية الفكر. واستحق أن يكون المعلِّم صاحب الفضل في إيقاظ العقل الأوروبي في مُستهلِّ نهضته، وأخذ عنه فلاسفة الغرب ورجال الدين البروتستانت الذين وضعوا اللبناتِ الأُولى للإصلاح الديني ومن ثَم النهضة.
ولكن خط عقلانية الفكر والتأويل العقلي سرعانَ ما انقطع في العالم الإسلامي لأسبابٍ سوسيولوجية وأنثروبولوجية أو قل حضارية عامة، ليظهر بين الحين والحين أشبه بصرخة استغاثة على لسان مصلحٍ يستنهض همم أمته ثم لا يلبث أن يخبو. هكذا كانت جهود ابن خلدون الذي ظهر بعد ابن رشد بقرنَين، وذهب بفكره الثاقب وبصيرته النافذة إلى أن الواقع له قوانينه الذاتية التي تُحرِّكه ويُدرِكها الإنسان بعقله، ويُنفِّذها بجهده، وهي قوانين العمران الاجتماعي، ولا علاقة لها بأحكام الشريعة أو مبادئ الفقه.
وبعد فترة انقطاعٍ طالت بضع قرونٍ أخرى، ومع محاولة لليقظة أو دعوة للنهضة جاء الأفغاني ومحمد عبده ليؤكِّدا أن العقل أو علوم الدنيا العقلية هي سند الارتقاء؛ إذ من خلال الفلسفة — وهي عندهما الحكمة وعلوم الدنيا — يمكن تحقيق التحوُّل الفعلي للمجتمع لأنها فن الحياة. لم يقل أيٌّ منهما إن الدعوة إلى علوم الغرب ودراسة منهج التفكير العلمي دعوة إلى التغريب. ولم يُطالِب أيٌّ منهما برفض علوم الغرب وأسلمة العلوم. وإنما دَعَوا إلى استيعاب علوم الغرب والحفاظ على قيم المجتمع التي تصون تماسُكَه وتكفُل نهضتَه.
وبسبب هذا الوعي العقلاني كانت المعركة التي خاضها الأفغاني ومحمد عبده ذات شقَّين، وكانا بذلك أشبه بدعاة النهضة في اليابان وفي الصين وفي الهند أو في أوروبا في عصر الإصلاح الديني؛ شق ضد الاستعمار كقوة هيمنةٍ سياسية، وشِق ضد التخلُّف الفكري الهائل عند رجال الدين الذين يقسمونَ العلم إلى علمٍ مسلم وعلمٍ غير مسلم ومن ثَم يحولون دون تفاعُل الثقافات، ويرسِّخون الجمود، ويُجهِضون إمكانية النهضة والاستقلال.
وحاولا وصلَ ما انقطع بفكر المعتزلة والفلاسفة ضد جمود السلفيين؛ إذ أكَّدا أن الإنسان في القضايا الحياتية مسئول عن حياته ومساره، وأن التخلُّف خطيئة يقع وزرها على المجتمع الذي عجز أو امتنَع عن استعمال عقله، ويقع وزرها أولًا وأساسًا على دعاة الجمود الذين نصَّبوا أنفسهم ولاة، ووظَّفوا الدين في غير رسالته حين تجاوزوا حدود اختصاصهم العقيدي، وأقالوا العقل وسلبوه دوره في شئون الدنيا وبذا تنكَّبوا مصلحة الأمة التي هي ركنٌ من أركان الدين، وسدُّوا أمام الناس طريق الإصلاح والنهضة والانتصار على التحديات الحضارية. وهكذا كانت رسالة الإمامَين الأفغاني وعبده ومن شايعهما تعبيرًا صادقًا عن روح النهضة في العصر الحديث، أو لنقُل مقدِّمة لازمة لبعثٍ حضاري. وحاولا بجهودهما الإصلاحية الدينية التنويرية أن يُحفِّزا الشرق إلى مباراة الغرب على ذات أُسس النهضة، وهي تأكيد سلطان العقل الذي أقاله السلفيون والأصوليون.
وهذا ما حاولَه محمد إقبال وطاغور في الهند من أجل الدعوة إلى النهضة وإيقاظ الأمة على اختلافِ معتقَد كلٍّ منهما؛ إذ إن كلَيهما دعَوَا إلى ضرورة فتحِ خزائنِ السلف ووضْع ثرواتِهم في خدمة الحياة لتكون عونًا للأمة في بناء المستقبل. وأكَّدا أيضًا أن الجديد مستحيل بدون التمثُّل الإبداعي للثقافة العالمية والنظرة العلمية المعاصرة، والإسهام فيها بدَورٍ إيجابي نشط ركيزته العقل والإنتاج .. ومرةً أخرى أقول العقل والإنتاج؛ فالإنتاج هو الفعل الإنساني الاجتماعي العقلاني الذي يؤكِّد به الإنسان/المجتمع ذاتيته وينفي عنه عجزه وغُربته وانفصامه. إن الإنتاج والعقل وجهان متكاملان في وحدةٍ واحدة كلٌّ منهما الحَكَم والمرجع بالنسبة للآخر، وكلٌّ منهما قوة فعل وتطوير للآخر بشهادة الواقع الجامع لهما وبينهما، وبشهادة الفعل الإنساني المجتمعي؛ أي الفعل الحضاري المطَّرد ارتقاء.
ولكن الخط الآخر، وهو الخط المناهض للعقل، فهو خطٌّ قويٌّ راسخ ممتد ومتصل. إنه على نقيض المعتزلة والفلاسفة والعلماء الطبيعيين أعلام الازدهار الحضاري، وعلى نقيض الأفغاني ومحمد عبده ومحمد إقبال وكل دعاة النهضة المحدَثين. وأصحاب هذا الخط هم القائلون بالجبر حاكمًا للفكر وللسلوك، وأن ليس للعقل سلطانٌ للحُكم على الأفعال، بل إن الخير يمكن أن ينقلب شرًّا، والعكس بالعكس لأن الخير ليس خيرًا بحكم طبيعة الشيء وعلاقته بالإنسان، بل لإرادةٍ متعالية. وكذلك الحق يمكن أن يكون باطلًا، والباطل حقًّا، وأن رسالة الإنسان على الأرض عبادةٌ فحسب، وأن العلم علم دينٍ وآخرة فقط، والحاكم متروكٌ أمره للضمير، ضميره هو، ولحساب الخالق .. إنه مُرجأ بأفعاله إلى الآخرة ولا سلطان للكافَّة الرعية على الراعي. هذا على عكس ما تقضي به حضارة العصر الحديث، أو منطق التطوُّر الحضاري، من أن الكافَّة مواطنون مسئولون فاعلون مشاركون.
وامتدَّ هذا النهج السلَفي منذ الأشعرية حتى المذهب الوهابي وأبي الأعلى المودودي في عصرنا الحديث لدى السنة أو ولاية الفقيه لدى التيار المحافظ من الشيعة. واستطاع كلٌّ من المذهبين أن يكسر حدود عزلته، ويستأجر سدنتَه والمتحدِّثين باسمه بفضل ثروات النفط وعطائه الوفير الذي يمثل دعامةً لاطِّراد النزعة السلفية اللاعقلانية. وحين يعيش المرء على الريع حيث يأتيه ماله رغدًا بدون فعلٍ اجتماعي إنتاجي يقتضي العقل علمًا ومنهجًا ليُعالِج ويُحاوِر الطبيعة والوجود، وينتزع بجهده مستلزمات حياته .. هنا تترسَّخ النزعة المحافظة ويبرز الحنين اللاعقلاني إلى التقليد وتتصرَّف الحاجة عن التغيير. وهكذا نعيش على نقيض العصر وخارجه إلى حين .. حين يعود بإرادتنا بندول الحركة الجدَلية بين العقل والوجدان، إلى وضعٍ سويٍّ فيخرج الوجدان من وهدة عماء الأسورة، ويغدو وجدانًا مستنيرًا، وتكون الولاية للعقل العلمي في شئون الدنيا، ويستقل كلٌّ من العقل والوجدان بحدود اختصاصه بفضل، وفي ضوء، الفعل الاجتماعي الإنتاجي الإبداعي، والوعي الحر استجابة لعوامل التحدي، ولنكون قوة عطاءٍ حضاري.