التراث والتحديث في ضوء تجربة الهند
الوجود الإنساني وجودٌ ثقافي طبيعي (فيزيقي) ممتد في التاريخ، والإنسان في تعامله مع الواقع أو مع المحيط العقلي يصوغ دائمًا وأبدًا مفاهيمَ جديدة هي صورةٌ مجملة عن الواقع في تاريخيَّته وأهدافه المستقبلية، وبذا تكون هي البوصلة التي يتحرك على هديها أو ما نُسمِّيه الإبستيم أو الإطار الثقافي (المعرفة/القيم) حصاد الفعل والفكر في التاريخ.
والتراث هو الرصيدُ المتراكم من رموز وطقوس وحكمة وفكر وإنجازاتٍ مادية بل وعادات وقدرات واستعداداتٍ عصبية وذهنية وردود أفعال واستجابات .. جميعها في اتساق مع الوجود المادي الطبيعي للإنسان وللبيئة مسرح التلاؤم، وتهيِّئ للإنسان/المجتمع في مجملها إمكانيةَ الحركة قُدمًا على نحوٍ يدعم وجودَه الحاضر وحركتَه إلى المستقبل في صورة تطوُّر وتغيُّر.
معنى هذا أن الإنسان/المجتمع أو لنقُل الثقافة بشقَّيها المادي والروحي في جدل وحوارٍ مُستمرَّين عَبْر الإنسان.
وتُصبِح معادلة الوجود: رصيد ثقافي، فعل وفكر، رصيد جديد.
وفي حالة الفعل والفكر تجري عملية تغذيةٍ مرتدَّة أو مراجعة لما هو ملائم ويدعم الحياة الراهنة في اتجاه حركةٍ مستقبلية، واستبيان أوجه القصور أو الإعاقة لطرحها جانبًا تيسيرًا للوفاء بمتطلبات الحركة قُدمًا. وفي خلال ذلك ينشأ ما نسمِّيه الموقف .. موقف الإنسان/المجتمع من المعوِّقات ومن الحوافز مجسَّدًا في رؤيةٍ مجتمعية أو تيارٍ فكري يدعو إلى التمسُّك ويدعم الحوافز وأيضًا يدعو إلى التخلي عن كل ما يشكِّل عوائق وحوائل وعقبات.
وليس مجال حركة الإنسان/المجتمع بيئة محلية أو وطنًا فقط بل بيئة أوسع إقليمية وعالمية تشتمل على تناقُضاتٍ بين المجتمعات هي في آنٍ واحد تناقضٌ ثقافي علاوةً على المصالح الاقتصادية، والفكرية … إلخ. ويعبِّر المجتمع والمجتمعات عن هذه التناقُضات والصراعات في صياغةٍ أيديولوجية .. فالتغيُّر أو الحركة تحدُث في إطارٍ من التناقُضات العالمية.
يبدو واضحًا أن وجود الإنسان/المجتمع رهن طرفَين نقيضَين الجمود/الاستمرار، وهو وجودٌ متكامل ماديًّا وروحيًّا؛ أي فكرًا وثقافة وإنتاجًا وعملًا في الطبيعة .. والسؤال: إلى أي حدٍّ يدعم الرصيد الثقافي والموروث الحركة/الاستمرار؟ أو على العكس إلى أي حدٍّ يكون عائقًا للحركة وسببًا في الجمود؟ والحركة هنا ليست حركةً مادية بل حركة المجتمع في إطارٍ ثقافي يعبِّر عن الوصل والفصل .. الاتصال بالماضي والقطيعة عنه .. إذن هناك علاقةٌ عضوية بين التقليد والاستمرار. وتقوم الثقافة الاجتماعية الموروثة والمكتسبة حال التلاؤم والتكامل بينهما بدَورِ الحاكم والموجِّه لهذه الحركة .. الحاكم للفعل والفكر بما تفرضه الثقافة من رؤًی وحوافزَ ومُحرَّمات .. معنى الزمان .. صوت الإنسان .. حقه وقدرته ومسئوليته، ردود الفعل .. علاقة هذه القدرة بالتغيير .. التغيير فعلٌ إنساني أم فعلٌ متعالٍ .. دور وحدود إرادة الإنسان.
وينطوي كل تراث على آلية التأويل التي تهيِّئ للإنسان/المجتمع أن يحذف ويضيف في سبيل التكيُّف والملاءمة، وفي لحظات التحوُّل الاجتماعي الحاسم يستعين المجتمع بهذا الرصيد الثقافي يستلهمه ويُحاوِره في ضوء تحديات المرحلة ومتطلباتها. وتجري خلال الحوار عمليةُ إعادة تقييمٍ وإثبات لعوامل الحركة والتغيير ومجالاتها ومداها. وتأتي أو تتباين حركة الإنسان/المجتمع عند المواجهة لهذه التحديات بين موقفَين على طرفَي نقيض؛ ردةٍ إلى الماضي في إطار حاكميةٍ مطلقة للموروث وإغفال لمنطق الواقع، أو قطيعةٍ مطلقة معه هي قطيعةٌ متوهَّمة في الحقيقة إذ إنها مستحيلة، وارتماء في أحضان الواقع الآني أو حداثة الآخر .. ويدور حوارٌ وصراع للملاءمة والتكامل للاتصال والانفصال ..
إشكالية التحديث في البلدان النامية
مشكلة تحديث المجتمع والملاءمة بين الثقافات لا تختص بالسياسة أو بنظام الحكم فقط .. ذلك أن مشكلة المواءمة بين التراث وبين متطلَّبات العصر تمتد لتشمل كل جوانب الحياة؛ الآداب والفنون والسياسة والاقتصاد والتنشئة الاجتماعية … إلخ. وتستلزم كذلك رؤيةً نقدية لواقعنا وموروثاتنا؛ أي رصيدنا الفكري من معارفَ وقيمٍ بحيث يغدو التراث أداةً نافعة وداعمة للنهضة القومية وللتقدُّم الاجتماعي .. أي عنصرٍ نطرحه جانبًا مع الماضي .. وأي عناصرَ لا تزال تحتفظ بخصوبتها الإبداعية.
وهذه الرؤية النقدية لا تأتي اعتسافًا وإنما لها أركانٌ أساسية أولها التزامٌ بمنهج التفكير العلمي في حدود العصر ثم استيعاب للنظريات العلمية كمحدداتٍ تُوجِّه البحث والنظر، وتطبيق ذلك على الواقع في ضوء رؤيةٍ مجتمعية تعبِّئ قُوی المجتمع.
ولقد برزَت مشكلة العلاقة بين التغيير الاجتماعي وبين التراث الثقافي في صورةٍ حادة داخل البلدان المستقلَّة حديثًا خلال فترات نضالها خلال القرن اﻟ «۱۹» والعشرين، ولكنها برزَت أكثر حدةً وكثافةً مع النصف الثاني من القرن العشرين. ها هنا ظَهرَت مفارقاتٌ يتعين حسمها نظريًّا وفي الممارسة العملية للتطوير الاجتماعي.
حداثة الغرب الذي يفرض نفسه كقوةٍ مهيمنة هو مصدر الإنتاج الفكري والإعلامي والسلعي ولا فكاك من التكامل معه .. هو المهيمن عسكريًّا واقتصاديًّا وعلميًّا .. وهو الذي روَّج لفكرة أن الحداثة نمطٌ أحادي واحد هو النمط الغربي ولا تعدُّدية .. عكس ما يُقال الآن .. كل مجتمعٍ عقد العزم على تحديث نفسه عليه أن يقتفي أثَر الغرب .. ومن هنا برزَت مشكلاتٌ عديدة منها التغريب وطمس الهوية والقيم الاجتماعية أو التراث والتاريخ. وظَهرَت تياراتٌ فكرية متعددة داخل بلدان العالم الثالث تباينَت بل وتصادمَت رؤاها وإن أجمعَت على ضرورة التغيير، وبرزَت تساؤلات عن التراث والثقافة القومية والهُوية، وطُرق التغيير والتطوير .. من نحن؟ وبأي منهجٍ نبحث هذا الأمر؟ وكيف نحدِّد ذواتنا؟ ومرجعيَّتنا في ذلك مرجعيَّةٌ دينية أم فلسفيةٌ علمية؟ .. ومن خلال أي منظور .. منظورٍ قائم على التعصُّب القبلي أم منظورٍ حضاري شامل؟ وما معنى التراث الثقافي ودلالته كقيمةٍ اجتماعية؟ وهل هو نسيجٌ متجانس واحد على مدى الزمان في التاريخ؟ وهل قضية التغيير هي قضيةٌ نظرية؟ إن القيم الفكرية والثقافية؛ أي القيم الروحية والقيم المادية التي تجمَّعَت عَبْر القرون، لا تزال باقيةً تفرض نفسها على الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بل والعلمي بسلبياتها وإيجابياتها، وتؤثِّر على خطو المجتمع نحو المستقبل والاندماج في تيار الحداثة العالمية والنشاط العلمي على المستوى العالمي. إنها إذن ليست مشكلةً نظرية بل تتجاوز حدود النظرية لتشمل حياة قطاعاتٍ واسعة من السكان وتستلزم تغيُّراتٍ جذرية في هياكل وبِنى المجتمع .. وصولًا إلى مجتمع مؤسساتٍ علمية واقتصادية واجتماعية ودينية. ولكلٍّ حدودُه ومساحة نشاطه في تكامُلٍ دفعًا للحركة الاجتماعية إلى الأمام.
وظَهرَت أوجه التبايُن بعد الاستقلال بين القادة السياسيين والاجتماعيين والمفكرين والكتَّاب والفنانين في تقييم التراث الثقافي ودَورِه في التطوير الاجتماعي وتحديد ما هو نقديٌّ ديمقراطي إنساني يتسق مع مقتضيات التطوير وبين ما هو محافظٌ بالٍ ينتمي إلى الماضي. واحتدَم الجدل بشأن أيها يمثِّل وجه المجتمع الصحي والصحيح والناهض ويكفُل حركته الارتقائية علمًا وفنًّا وأدبًا وإسهامًا حضاريًّا حداثيًّا.
وبات واضحًا في خِضَم المعارك المناهضة للاستعمار أن ما هو إيجابي من الأفكار التقليدية يفيد كدرعٍ ضد التغريب الثقافي وضد التوسع الأيديولوجي الإمبريالي، ومن أجل توكيد الشعور بالذاتية والتمايُز القومي وتوكيد العراقة الثقافية والتاريخية، التي عمد الأجانب إلى إغفالها .. إنها الوجه المناقض لمحاولات طمس الذاتية وطمس الذاكرة التاريخية .. ولكن هل نستعيد الماضي فكرًا وثقافةً دون اعتبارٍ للبعد الزمني .. ومقتضيات العصر؟
طبيعيٌّ أن تتوزَّع القوى الوطنية بين طرفَي نقيض إلى أن تلتمس السبيل الصواب ويجتمع رأي الأمة على النهج الصحيح. هناك من التزم بالنقل والتقليد والانكفاء على الذات وقايةً من الذوبان فاغترب في الزمان .. وهناك من غفلَت بصيرته عن واقعه وتاريخه مبهورًا بحداثة الغرب. وهؤلاء يشيحون بوجوههم عن تراث الآباء والأجداد، يَرونَه تخلفًا وتقمصًا روحيًّا أعمى ويدعون إلى التجديد بمعنى إعادة وبناء الثقافة وَفْق نموذجٍ مستعار من الغرب فاغتربوا عن التراث في المكان .. وهناك طريقٌ وسط هو طريق القوى الوطنية التقدُّمية المؤمنة بعراقة التاريخ والتمايُز القومي ومؤمنة أيضًا بحركة التاريخ والتغير الاجتماعي وأن لكل عصرٍ مقتضياته. ودافَع هذا الجناح عن ثقافةٍ ديمقراطية أصيلة فسعى للانتصار على الاتجاهات العدمية من التراث الثقافي للمثقَّفين أصحاب التوجُّه الغربي مثلما سعى للانتصار على اتجاه العزلة والانكفاء على التراث والتقوقُع في شرنقة الماضي وقطع الصلة بالواقع الحاضر .. يلتمسون من التراث ما يُحييهم ويعزِّز حاضرهم في مواجهتهم لتحديات العصر. ورأَوا أن مناط الحكم على هذا وذاك هو مشكلات المجتمع ومعيار الحسم والترجيح هو مشاركة جموع الناس أصحاب المصلحة والتاريخ والمستقبل في بناء مجتمعهم من خلال مؤسَّساتٍ دستورية.
الهند بين التقليد والتجربة
التغيير الاجتماعي على طريق التحوُّل والارتقاء الحضاري ولادةٌ جديدة بكل مخاض وآلام الولادة إذ يجدِّد المجتمع ذاته .. يؤكِّد ذاته ولا ينسلخ عنها، ويرسِّخ القيم الإيجابية ويغرس أو يصوغ إطارًا معرفيًّا/قيميًّا جديدًا مع كل منعطفٍ في تاريخه الحضاري؛ ومن ثَم فإنه يشكِّل دورةً ويؤذِن بتحول وانقضاءِ حِقبة .. ليس ردَّة وليس انفصالًا. وهذه النقلة الحضارية وإن اختصَّت ثمارها ونتائجها، مخاضها وآلامها، بمجتمعٍ بذاته إلا أنها تُعبِّر عن تفاعلٍ أوسع مدًى بين حضاراتٍ ذوات تواريخ وفعالية .. ولهذا تسقط مع التغيير دعوى الانفراد والعزلة.
ومع هذا التحوُّل الشامل لكل مقوِّمات ونشاطات الحياة يبدع الكُتَّاب والمفكرون والأدباء والفنانون الجديدَ المستلهمَ من الماضي العريق والمتجاوب مع مقتضيات العصر الحديث وعملية التحديث، وبذا تتجلَّى الأصالة التي هي مزاجٌ إبداعي يصل الماضي بالحاضر ويغرس دعائم القدرة على الحركة ومواجهة التحديات؛ فكل عصرٍ له مستواه الخاص من الإنتاج والعلاقات الاجتماعية وإدراكه الفني المميز ويقدِّم أفكاره الجديدة، وله مهامُّ جديدة تستلزم تأملًا جديدًا، مجددًا ونقديًّا، وتطويرًا إبداعيًّا لتقاليدَ راسخة في تجاوبٍ مع مقتضيات الواقع والعصر.
وإن العلاقة بين ما هو تقليدي وبين ما هو تجديدي تكتسب قدرًا مميزًا من المعاصرة وقت منعطفات التاريخ الحاسمة حيث يبرزُ التباين الصارخ بين عناصر التقدم وعناصر الانتكاس في التراث الثقافي لبلدٍ ما. ولقد أُعيد تقييم التراث الثقافي للشرق القريب والبعيد، وأُعيد تأويله على مدى القرن اﻟ «١٩» بينما كان الشرق يمر بمرحلة يقظةٍ في سبيل الوعي القومي، وبدأَت حركات التحرر الوطني أولى خطواتها.
وكتابات طاغور مثالٌ رائع ومتميز لهذا التآلف بين التقليد والتجديد وبين الشرق والغرب ارتكازًا على التفاعل الأصيل بين العناصر التقدمية للثقافتَين. يقول رابندرانات طاغور في مثل هذه المناسبة ١٨٦١–١٩٤١م: «لقد حان الوقت لكي نفتح خزائن السلف ونضع ثرواتهم في خدمة الحياة، لتكون عونًا لنا على بناء مستقبلنا.»
ولكن طاغور شأن غيره من التقدُّميين آمن بأن التجديد الأصيل لثقافة الهند مستحيل بدون التمثُّل الإبداعي للثقافة العالمية واستيعابها على هُدى متطلَّبات شعبه وبلده وقضاياهم المُلحَّة.
إن رابندرانات طاغور ومحمد إقبال في الأدب وفي الفن وكذلك رادها كرشنان في الفلسفة وجواهر لال نهرو في السياسة، حاولوا شأن زعماء الإصلاح والتطوير التقدُّميين في بلدان الشرق حل مشكلة التحديث من خلال المواءمة أو التآلُف؛ أي عمل مركَّب من ثقافة الشرق وثقافة الغرب في ضود مشكلات عصرهم وواقعهم.
وقال نهرو في كتاب «اكتشاف الهند ١٩٦٤م» إن انعدام الصلة مع الغرب يفضي إلى الركود وفقدان الحيوية وتعطُّل الإبداع؛ لذا بات لزامًا علينا الآن أن نركِّز بقوة على الجانب التأليفي الذي يؤلِّف بين الثقافتَين ويجعل من هذا كله مجالًا للدراسة.
التراث الهندي في القرن اﻟ «١٩» الهندوس والمسلمون وحركة النهضة
في مرحلة الاستعمار الأوروبي أُعيدت هيكلة النظام السياسي في الهند وانتقل مركز الجاذبية من كبار مُلَّاك الأراضي إلى الموظَّفين أو أصحاب الرواتب أعضاء الدولة البيروقراطية الاستعمارية وكان لهؤلاء أسلوب حياةٍ جديد وأفكارٍ جديدة.
رفضت الحركتان الطغيان والاستبداد باسم الدين وعلى أيدي رجال الدين.
سير سيد أحمد خان اتخذ رسالته بتيسير الخروج من التعليم التقليدي الذي يسيطر عليه العلماء المتخلِّفون. والاهتمام بالتعليم الإنجليزي والغربي.
كان سير سيد أحمد خان رائدًا لفلسفةٍ عقلانية جديدة تُعبِّر عن الإسلام، وهاجمَه العلماء.
سير سيد أحمد خان هو أب الحداثة الإسلامية وتأثر بفكر راجا رام موهان روي زعيم «النهضة الهندوسية»، وتعاونَا معًا من أجل حركة إصلاحٍ دیني في الهندوسية والإسلام مع البوذية (التعليم الديني لا يحل مشكلات المجتمع).
وتتميز الهند بأن من بين لغاتها المتعددة والكثيرة ذات القيم الحضارية العريقة لغة هي اللغة السنسكريتية التي تمثِّل قوة ربط وحلقة وصلٍ متينة لم تنقطع لتُساعد على استمرارية وحدة الثقافة الهندية، وتمثِّل السنسكريتية مصدر تغذية بفضل رصيدها الثري الذي تنبع منه روافدُ عديدة. ومع هذا فليست السنسكريتية هي المصدر ولا الرصيد الوحيد الذي يغذِّي الثقافة الهندية الحديثة.
وفي مواجهة مظاهر الردَّة وفي ظل الحركة التقدُّمية القومية يسعى زعماء النهضة إلى إبراز وتأكيد العنصر الإبداعي الحي الديمقراطي النقدي في التراث الثقافي، والذي يكفل الاستمرار والاتصال ودعم الوحدة القومية ويجُبُّ أسباب الفرقة والاختلاف.
لذلك فإن السؤال: ما هو العنصر الإبداعي الحي الديمقراطي النقدي في التراث هو سؤالٌ أساسي ومحوري. والإجابة على هذا السؤال شديدة التباين، وهنا تتجلى عبقرية الزعيم الملهم؛ فها هو نهرو كمثال رأی أن شعر الملاحم الهندية القديمة يمثل عنصرًا تقدميًّا ويقول في هذا: «منذ أقدم عصور التاريخ وهذه الملاحم لا تزال تمثِّل قوةً دافعة وحيوية في حياة الشعب الهندي .. وهذا تأثيرٌ طيب ثقافيًّا وأخلاقيًّا .. وإني أكره أن أدمِّر أو أن أطيح بكل هذا الجمال والرمزية الخيالية التي يشتمل عليها هذا القصص .. إن غالبية الأساطير والقصص تتصف بالبطولية من حيث المفهوم، كما تعلِّم الناس الالتزام بالصدق والحق والعهد مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك، والإيمان حتى الموت، والشجاعة والتضحية من أجل الخير المشترك.»
ونحن نستطيع أن نلمس في التراث الهندي، شأن تراث شعوبٍ كثيرة، العناصر الإبداعية التقدُّمية التي يتعين على أبناء كل ثقافة أن يستلهموها وأن يُبرِزوها بناءً على دراسةٍ عقلانية ووعيٍ تقدمي نقدي، فمن هذه العناصر الإبداعية التقدُّمية في التراث الهندي حب الطبيعة وعشق تأملها في صورةٍ شاعرية، والتطلُّع الغنائي للوجود.
وتؤكد الأوبانیشاد القيمة المستقلة للشخصية الإنسانية، وتمجِّد بهجة الحياة على الأرض، إذ تقول مثلًا: «الحق إن جوهر هذه الدواب هو الأرض، وجوهر الأرض هو الماء وجوهر الماء النباتات، وجوهر النباتات الأزهار، وجوهر الأزهار الثمار، وجوهر الثمرة الإنسان، وجوهر الإنسان الأُسرة.» وهكذا يستلهم الكتاب والأدباء والفنانون والتقدُّميون من مثل هذا التراث معنًى متجددًا لوجود الإنسان وطبيعة الإنسان في ارتباطه بالعالم المحيط به، وتأكيد قيمة الإنسان/الأُسرة/المجتمع .. أو تأكيد جلال الإنسانية. وتحمل آداب الفيدا والأوبانيشاد، شأن كل الآداب الثقافية الروحية الموروثة، الوجهَين المحافظ التقليدي والتقدُّمي الإنساني المتفائل، وهنا تتجلى عبقرية الإنسان في إبراز العناصر التي تُحييه وتدعم وجوده وارتقاءه.
وهذه مهمةٌ مقدسة ومسئوليةٌ تاريخية ملقاة على كاهل كل من تصدى لريادة وزعامة شعبه، ويسعى لوضع قواعد للتنشئة الاجتماعية التي تحشدُ الصفوف وتقوِّي لُحمة الترابط والانتماء وتؤكِّد التواصل الإيجابي بين تراث الماضي وإبداع الحاضر الذي سيغدو بدوره تراثًا لأجيال المستقبل. وحريٌّ بنا أن نلحظ أنه في كل مراحل النهضات كانت العودة إلى منابع التراث تستهدف تمجيد الإنسان والكشف عن ثراء عالمه الباطني والروحي، وتأكيد إيمانه بقوَّته وسلطانه وحقه، وأنه صانع مصيره على الأرض .. فهذه هي الأمانة في أجلى معانيها .. إن أول الخيط لحل الأزمة الحضارية؛ أي النهضة، هو تأكيد هذه القيم الإنسانية ليُصبح الإنسان حرًّا ومسئولًا، وبهذا يبدأ التحدي في سبيل العلم والتعليم والصحة والاقتصاد والممارسات السياسية والتشريعية … إلخ، وانتزاع مقوِّمات الحياة الإنسانية بكل تجلياتها العصرية.