Wave Image

الترجمة ومستقبل الثقافة في مصر١

حريٌّ بنا أن نجعل من الاحتفاء بذكرى طه حسين مناسبةً للمراجعة. مراجعة الفِكر والأداء .. فِكر الرجل ودَوره .. ومراجعة الذات، ذاتنا، فعلنا وفكرنا نحن .. أين كان وكنا منذ ستين عامًا وقت صدور كتابه أو مشروعه «مستقبل الثقافة في مصر» عام ١٩٣٨م .. وكيف حالنا الآن؟

تميَّز طه حسين بخصائصَ نادرة هي بحقٍّ خصائص المثقَّف الثوري في موقفه من السلطة ناصحًا وناقدًا، وموقفه من الكافة مستنفرًا وحافزًا على الحركة الناهضة والإسهام الإيجابي في حضارة العصر، وداعيةً ومُحرِّضًا على الالتزام بالفكر المستنير.

كان طه حسين تجسيدًا حيًّا لإرادة التحدي، على الرغم من المكاره، رَحْب الأفق؛ إذ امتد فكره، واتسعَت آمالُه إلى أبعد الآفاق. لم يأْسِره ماضٍ وإن اعتزَّ به، ولم يفنَ في سلبية في فكر حضارة العصر بما له من هيمنة وإن أكبَره، وإنما استوعَبه بعقلٍ ناقد، وانتماءٍ وطني، عارفًا إيجابياته ومظانَّ الانتفاع به. وكتابات طه حسين وأحاديثه ومحاضراته عن الحياة في عهده هي آراءٌ مهَّدَت لصوغ مذهبٍ مطرد مستقيم في تنظيم الثقافة في مصر. إنها تكشف عن معاناة، وعن تأملٍ فكري طويل، وتمثِّل فلسفة استوعبَت مشكلات الوطن، وخصائص البيئة، والموروث الثقافي، وتحديات الحضارة.

دوائرُ ثلاث شغلَت فكره، مصر في القلب، حضارة وتاريخًا ومستقبلًا، والعرب والإسلام في صورةٍ مستقبلية مزدهرة وانتماءٍ حضاري، وتلاحُم عربي، ثم أوروبا أو حوض البحر المتوسط مجال التفاعُل الحضاري والتخاصُب. كان طه حسين بتفكيره هذا مفكرًا ومثقفًا منحازًا إلى العامة، ناقدًا للسلطة، وكان بذاته مشروعًا قوميًّا للنهضة الثقافية والعلمية والتعليمية. يمثِّل فكره في تكامله رؤيةً استراتيجية شاملة. يتحدث عن الاستقلال الاقتصادي، والاستقلال السياسي، وعن القوة العسكرية الحامية، وعن التعليم بتفاصيل مراحله ونظام أدائه ومناهجه، وعن القائمين به والقائمين عليه، ويتحدَّث عن الاستقلال العلمي، العلم الصحيح لا الزائف أداة تثقيفٍ وصياغة عقلٍ جديد مستنير؛ يقول: «إذا كان هناك شرٌّ يجب أن نحمي منه أجيال الشباب فهو العلم الكاذب، الذي يكتفي بظواهر الأشياء، ولا يتعمَّق حقائقها، فلننظر كيف نردُّ عن أجيال الشباب هذا الشر، وليس إلى ذلك من سبيلٍ إلا أن نقيم ثقافة الشباب على أساسٍ متين» (مستقبل الثقافة، ص٥٩).

من هنا ولهذا السبب تحديدًا أدعو إلى أن يكون الاحتفاء مناسبة للمراجعة العقلانية الناقدة .. مصر ومشروعها الثقافي منذ ستين عامًا الذي حدَّد طه حسين أبعاده، ورسَم خطوطه، وبذل الجهد من أجله .. العقل المصري بين الاستنارة والظلامية .. ومصر ومشروعها الثقافي الآن، إن وُجد، بعد ستين عامًا من التحوُّلات الحضارية العميقة في العالم والتي تفرض مهامَّ جديدة .. وماذا حقَّقنا إن كنا حقَّقنا شيئًا؟ أم لا نزال نُراوِح مكاننا حتى ليحق أن نقول إننا تراجعنا أو تخلَّفنا نسبيًّا أكثر مما كنا منذ ستين عامًا، لا قياسًا إلى حالنا، ولكن قياسًا إلى المسافة أو الهُوة الحضارية الفاصلة بيننا وبين العالم المتقدم: هل ضاقت بفعل نشاطنا وإنتاجنا الإبداعي؟ أم اتسعَت عما كان عليه الحال منذ ستين عامًا .. وقياسًا إلى محتوى العقل واستنارته ودَوره وفعاليته واستقلاله؟ وقياسًا إلى المثقَّف الدَّور هل هو مع السلطة أم مع الجماهير؟

طه حسين شاهدٌ على عصره. شغلَته هموم مصر والعالم العربي .. ملأَت عليه نفسه وقلبه في غير تعالٍ أو تعصُّب أو هوًى .. لم يكن شأن جيل المثقَّفين الذين اعتلَوا مسرح الثقافة مع النكسة والانحسار خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر أو النصف الثاني من القرن العشرين. ويحدِّثنا طه حسين عن مثقَّفي النصف الأول من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ويقارن بينهم وبين مثقَّفي الانحسار والانكسار وذلك حين يقول في مستقبل الثقافة: «الواقع أني معجَب بهؤلاء المثقَّفين من المصريين؛ فهم قد بذلوا من الجهد، واحتملوا من العناء، ما لا يشعُر به المعاصرون لهم، وما سيقدُره لهم التاريخ حقَّ قَدْره. نشَئوا في بيئةٍ معادية للثقافة أشد العداء، ممانعة لها أشد الممانعة، وقد بدءوا بأنفسهم فحرَّروها من كثيرٍ من التقاليد الثقيلة الفادحة حتى عدَّتْهم بيئتُهم شُذَّاذًا وقاوَمْتهم ألوانًا من المقاومة، فلم يَهِنوا ولم يضعُفوا وإنما مضَوا أمامهم لا يلوون على شيءٍ حتى كُتب لهم النصر.

قاومَهم الشعب لأنه لم يفهَم عنهم، وقاومَهم السلطان الظاهر لأنه أشفَق منهم، وقاومَهم السلطان الخفي لأنه رأى فيهم قادة الحرية والهُداة إلى الاستقلال. فثبتوا لهذا كله، وانتصروا على هذا كله. وقد أدركنا هذا العهد الذي لم يكد ينتهي بعدُ، والذي ما نزال في أعقابه، وما نزال نشهد بعض آثاره، والذي التقى فيه جيلان من المثقَّفين؛ أحدهما الجيل القديم الذي كان يتخذ الأدب وسيلة إلى العيش وكسب القوت، ثم إلى كسب الثروة والحظوة عند الكبراء وأصحاب السلطان وعند الأغنياء والمُوسِرين، مهدرًا في سبيل هذا كله، بل في سبيل ما هو أيسر من هذا كله، كرامتَه وحريتَه ورأيَه وشعورَه أيضًا، والجيل الحديث الذي آثَر الحرية والكرامة على كل شيء، وتعرَّض في سبيل الحرية والكرامة لكل شيء، فلم يتخذ الأدب سبيلًا إلى القوت، ولا إلى الثروة، ولا إلى الحظوة، وإنما اتخذه سبيلًا إلى لذَّته العقلية، ومتعته الفنية، وإلى إيقاظ الشعور، وتنبيه الشعب إلى حقه وواجبه وترقية الذوق، وإذاعة هذه الحياة العقلية الجديدة في مصر بوجهٍ عام. أدركنا هذا العهد الذي التقى فيه جيلان من المثقَّفين الأدباء، نزل أحدهما حتى عن رجولته، فأصبح ظلًّا للمُنعِم عليه بالقليل أو الكثير، ونزل أحدهما الآخر عن كل شيء في سبيل هذه الرجولة» (مستقبل الثقافة في مصر ص٣٦٥، ١٦٦).

لم تكن الثقافة عند طه حسين صخبًا ولا ضجيجًا، ولا رياءً أو ادعاء، ولا مهرجاناتٍ وموالد لحساب ذوي الجاه والكلمة والسلطان، حيث يطفو على السطح الزامر والزبَد. ولم تكن رِطانًا أو تَرفًا للخاصة في مَعزِلهم عن الواقع والذي يزيدهم عزلةً وانحصارًا، وإنما الثقافة عنده هي فعل وفكر الانتماء إلى حضارة العصر، وخلق إنسانٍ حضاري عصري جديد، وتمكين المثقَّفين من أن يُنتِجوا فيُضيفوا ويُفيضوا على مجتمعهم، ويجدِّدوا ويشاركوا في تنمية الثروة الإنسانية من العلم والفلسفة، ومن الأدب والفن، وتمكين المثقَّفين من التعاوُن على نشر أعظم حظٍّ ممكن من الثقافة بين طبقات الشعب. والتعاون على أن تتجاوز الثقافة الوطنية حدودَ الوطن فتغذو أممًا أخرى قد تحتاج إلى هذا الغذاء المصري، وتتصل بأممٍ أخرى راقية نحن محتاجون إلى أن تعترف لنا هذه الأمم بأننا لسنا خاملين ولا خامدين ولا قاعدين ولا عيالًا عليها، والتعاون بين الدولة والشعب على تحقيق الصلة المنظَّمة الخصبة المُنتِجة بين مصر وبين الثقافات الأجنبية على اختلافها وتبايُن لغاتها ومناهجها (مستقبل الثقافة في مصر، ص٣٥٤، ١٥٥).

قال هذا عام ١٩٣٨م، عقب الاستقلال، أو ما سُمي آنذاك الاستقلال بناءً على معاهدة ١٩٣٦م. ولم يمَلَّ من الإلحاح والتكرار والإعادة مؤكدًا أن الاستقلال غاية إلى هدفٍ أرقى وأبقى؛ فالأمم لا تقنع بالحرية والاستقلال وحدهما، بل تضيف إليهما الحضارة التي تقوم على الثقافة والعلم. ولولا أن مصر قصَّرَت، طائعة أو كارهة في ذات الثقافة والعلم لما فقدَت حريتها، ولما أضاعت استقلالها. الاستقلال الثقافي لا معنى له إلا إذا كان أخذًا وعطاء؛ أخذ لما تتجه الأمم الأخرى من أنواع المعرفة وإعطاء مما ننتجه نحن من أنواع المعرفة.

وجدير بالذكر أن طه حسين، على الرغم من أنه نشأ وتعلم وتثقَّف داخل الإطار الثقافي فإنه كان ناقدًا عقلانيًّا لهذا الإطار دون إخلالٍ بمعنى الانتماء. وعلى الرغم من أنه تعلَّم وتثقَّف داخل إطار المركزية الأوروبية وهي في عزِّها إلا أنه كان مناهضًا لروح المركزية الأوروبية في أصولها العرقية وأسطورة التفرُّد الأوروبي، وناقدًا للهيمنة الثقافية أو السياسية. وها هو يقول: «ليس بين الشعوب التي نشأَت حول بحر الروم (أي البحر المتوسط) وتأثَّرَت به فرقٌ عقلي أو ثقافي ما، إنما هي ظروفُ السياسة والاقتصاد.» .. ويقول: «ليس العيب في جبلَّتنا وإنما النظم التي تدبِّر أمورنا بحاجة إلى إصلاح». ويقول في موضعٍ آخر: «فأنا لا أدعو إلى أن ننكر أنفسنا، ولا أن نجحد ماضينا، ولا إلى أن نفنى في الأوروبيين» (مستقبل الثقافة، ص٣٥). وكيف تقوَّل عليه الناس بعض الأقاويل وهو الذي يؤكِّد الحاجة إلى الاستقلال العقلي والنفسي والعلمي والثقافي: «فإذا كنا نريد هذا الاستقلال العقلي والنفسي الذي لا يكون إلا بالاستقلال العلمي والأدبي والفني فنحن نريد وسائله بالطبع. ووسائله أن نتعلَّم كما يتعلم الأوروبي، لنشعُر كما يشعُر الأوروبي، ولنحكُم كما يَحكُم الأوروبي، ثم لنعمل كما يعمل الأوروبي، ونصرِّف الحياة كما يصرِّفها» (مستقبل الثقافة، ص٤٤). و«أن نسير سيرةَ الأوروبيين، ونسلُكَ طريقهم لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاءَ في الحضارة» (ص٤١)، «فالعلم لا وطن له، ولكنه إذا استقر في وطنٍ من الأوطان تأثر بإقليمه وبيئته ليستطيع أن يتصل بنفوسِ ساكنيه» (مستقبل الثقافة، ص٣٨٤). ويقول كذلك: «ونحن حين ندعو إلى الاتصال بأوروبا والأخذ بأسباب الرُّقي التي أخذوا بها، لا ندعو إلى أن نكون صورًا طبق الأصل للأوروبيين كما يُقال، فذلك شيءٌ لا سبيل إليه، ولا يدعو إليه عاقل» (مستقبل الثقافة، ص٤٧).

ونراه يؤكِّد في مشروعه الثقافي: «ونحن نُريد الاستقلال العلمي والفني والأدبي .. هذا الذي يمكِّننا من أن نهيِّئ شبابًا قادرين على حماية الوطن .. وأننا أندادٌ أكفاء للأجنبي. نريد استقلالًا يمكِّننا من أن نتحدث إلى الأوروبي فيفهم عنا، ومن أن نسمع للأوروبي فنفهم عنه .. أي أن نكون إبداعًا وإنتاجًا وثقافة وتفاعلًا على مستوى لغة أو فكر حضارة العصر لا غرباء. ووصولًا إلى هذا نريد من بين ما نريد الحريةَ الداخلية وقوامها النظام الديمقراطي .. ونريد الحرية الخارجية وقوامها الاستقلال الصحيح والقوة التي تحوط هذا الاستقلال» (ص٤٣–٤٤)؛ ولهذا يجب أن يزول البغي والطغيان، ونحن أهلٌ لذلك، وأن يسود العدل والمساواة بين الأفراد والمجتمعات، وأن يكون غذاء العقل علمًا صحيحًا لا زائفًا؛ فالعقل العلمي أساس الانتماء والبناء، ودعامة الاعتزاز، والقوة الدافعة للعمل والإبداع.

وبدون الثقافة والعلم والحرية والعدل والمساواة لن نفرض وجودنا على ساحة المنافسة أو الصراع الحضاري: «أنا أخشى أشد الخشية أن يكون تقصيرنا في ذات الثقافة شديدَ الخطَر على مكانتنا السياسية والاقتصادية؛ لأن الفوز في السياسة والاقتصاد لا يتأتَّى للأمم الجاهلة ولا للشعوب الغافلة.»

لهذه الأسباب مجتمعةً آثرت أن يكون حديثًا عن الترجمة ومستقبل الثقافة في مصر، وأن يكون الحديث نظرة إلى الماضي القريب في ضوء كتاب مستقبل الثقافة في مصر تعقُبها نظرة إلى الحافز. وآثرتُ أن تكون الترجمة محورًا يدور حوله ومن أجله الحديث؛ ذلك لأن الترجمة تجلٍّ للنشاط الثقافي الاجتماعي وحيويته، وهي أيضًا ضوءٌ كاشف عن موقع ثقافة الأمة إزاء ثقافات العالم، وموقف الأمة ما بين الجمود والانغلاق وبين التسامُح والانفتاح؛ إذ من المؤشرات الأساسية على موت ثقافةٍ ما أن ترى هذه الثقافة نفسها قادرة على أن تستغني عن الترجمة، ويصيبها داء القناعة ومن ثَم الانكفاء على الذات، فتتآكل الذات إلى درجة الاندثار. والترجمة تعني من بين ما تعني نشر قيمٍ أخلاقية عليا، وتسامحًا فكريًّا إزاء فكر الآخرين في إطارٍ من الوعي العقلاني النقدي، وتعني تساميًا يتجاوز القضايا الشخصية الذاتية إلى التفاعل مع قضايا شموليةٍ كونية، وإيمانًا بتعدُّدية الثقافات وتفاعلها، ووحدة الظاهرة الإنسانية. والترجمة الحقة تؤدي دورًا جذريًّا في الانفتاح على ثقافة الآخر وهو باب التفاعُل والتلاقُح الخصب والانفلات من نِير الانغلاق والتقوقُع في الأنا لتخترق الذات المغايرة. وهذا ما لا تقوى عليه ولا تُطيقه إلا ثقافةٌ اجتماعية فاعلة لمجتمعٍ منتجٍ مبدع نهمٍ إلى استيعاب علوم الحضارة، وإلى العطاء الحضاري. ومن هذا المنطلق ربط طه حسين بين الترجمة ومستقبل الثقافة، واعتبرها عمادًا وأساسًا متكاملًا مع أركان النهضة الثقافية بعامة.

يقول طه حسين بعد أن أوفى أركان مشروعه الثقافي، وهو في معرض الحديث عن الترجمة: «في حياتنا العقلية تقصيرٌ معيب يصيبنا منه كثيرٌ من الخزي، كما يصيبنا كثيرٌ من الجهل وما يستتبعه الجهل من الشر .. مظهر هذا التقصير المخزي إهمالنا الشنيع للترجمة والنقل عن اللغات الأوروبية الحية في أكثر الآثار العلمية والفنية والأدبية التي تنعَم بها الإنسانية الراقية، وما أشدَّ جهلنا لهذه الآثار وغفلتنا عنها!» (مستقبل الثقافة، ص٣٦٠). والحضارة الأوروبية ترقى وترقى ونحن مستمتعون بما نحن فيه من العجز والقصور؛ نُعجَب بقديمنا وإن لم نكن له أهلًا (ص٣٦٠). ونحن من غير شك أقل الأمم حظًّا من الترجمة، وأقلها علمًا لا أقول بدقائق الحياة العقلية الأوروبية، بل أقول بأيسر مظاهرها. ومصدر ذلك أننا نجهل كثيرًا من اللغات الأوروبية .. وينشأ عن هذا أننا لا نُترجِم. وكيف نُترجِم إذا كنا لا نقرأ؟ وكيف نقرأ إذا كنا لم نتلقَّف هذه الثقافة التي تجعل القراءة جزءًا مقوِّمًا لحياتنا اليومية؟ وينشأ عن هذا كله خطرٌ عظيم جدًّا وهو أن القارئین الكاتبين منا على قلتهم يجهلون الحضارة الحديثة جهلًا تامًّا (ص٣٦١). وترانا نزدري أوروبا، ونزدري حضارتها على الرغم من الجهل بأُسُس الحضارة وأسبابها، وعلى الرغم من الجهل بالفكر الحضاري لأننا لا نقرأ، وانقطاع صلتنا به لأننا لا نعمل .. والنتيجة تبعيةٌ على الرغم من الشجب غير المُسبَّب والمثير للخزي، تبعيةٌ استهلاكية تدفعنا إلى المزيد نحو الهامش خارج دائرة الحضارة والتاريخ، وإن ظلَّت ألسن الجهلاء تردِّد اللعنات على العاملين المبدعين الناصحين.

وحركة الترجمة النشِطة تعبير عن نهمٍ معرفي، وعُدَّة للاطلاع ثم التأليف النافع الجديد والجاد: «ومن المحقَّق أننا لن نؤلِّف التأليف الذي يُرضي حاجتنا إلى العلم والآداب إلا إذا ترجمنا وأكثرنا الترجمة» (ص٣٦٢)، فلنترجم إذنْ ولنُكثِر من الترجمة، ولنقرأ إذن ولنُكثِر من القراءة، ولنبذل في ذلك أقصى ما نملك من الجهد والمال .. ومهما بذلنا من جهد فلن نندم عليه لأنه سيُغني اللغة ويحييها، وسيغذِّي العقل المصري وينمِّيه، وسينشر الثقافة ويذيعها، وسيقرِّب بين الطبقات المختلفة في الشعب (نفس المصدر).

لم يكِلَّ طه حسين ولم يهدأ وإنما بذل الجهد وجاءت دعوته ضمن سلسلة جهودٍ متصلة ودائمة قبل إصدار مشروعه الثقافي وبعده إصرارًا منه على أن يبلغ ما يريد، وتعبيرًا عن إرادة التحدي. ونذكُر من بين جهوده تصديقًا لما أعرب عنه من فكر ونظر، دعوته إلى إنشاء مدرسة التحرير والترجمة وأن تكون تابعةً لكلية الآداب. ونذكُر مشاركتَه الفاعلة والرئيسية في تشكيل لجنة التأليف والترجمة والنشر التي قدَّمَت إنجازاتٍ يشهد بها التاريخ الثقافي المعاصر، وامتد إشعاعها إلى أقاصي الوطن العربي؛ حيث نجد في المغرب العربي الآن مؤسسة تحمل نفس الاسم، وتقرِّر صراحةً أنها تتخذ الاسم من لجنة التأليف والترجمة والنشر نموذجًا لها.

وطالب طه حسين في سبيل إتقان تعلُّم اللغة العربية واللغات الأجنبية، بإنشاء معهد للأصوات في كلية الآداب لأهميته القصوى في هذا المجال. وكانت لطه حسين أيادٍ لا ينكرها إلا جاحدٌ في كل مجالٍ رأسَه أو أسهَم في بنائه سعيًّا إلى تنشيط الترجمة كرافدٍ ضمن تيار الفعالية الثقافية الوطنية. نجد هذا واضحًا في مجلات مثل «مجلتي» و«الكاتب المصري» وغيرهما. وهو صاحب مشروع الألف كتاب الذي كان بحقٍّ منارةً ثقافية أعادت إلى مصر دورها الثقافي الذي فقدَته بعد رحيل الطهطاوي ومدرسته. وبلغ جهدُه أوسعَ نطاقٍ له حين أسهم بجهدٍ وافر ورائد في جامعة الدول العربية فور إنشائها. وكان طه حسين هنا يُعبِّر بصدق عن إيمانٍ راسخ لديه بالعروبة وبالدَّور العربي، وبحق العرب، وواجب مصر، وحاجة المستقبل العربي إلى التعاون على طريق النهضة الثقافية التي هي جزءٌ متكامل من نهضةٍ شاملة؛ فهو الذي دعا في مشروعه الثقافي إلى أن تنشئ مصر مدارس في البلدان العربية؛ مدارس لا تُفْرضُ فيها الجغرافيا المصرية والتاريخ المصري دون الجغرافيا الوطنية والتاريخ الوطني، وإنما تكون معاهدَ يُنشَّأ فيها الوطنيون لأوطانهم لا لمصر، وحسبُ مصر أن تُعين على ذلك .. وطالب بالتعاون العربي من أجل تنظيم الثقافة وتوحيد برامجها بالقياس إلى الأقطار العربية كافة .. لأن مثلها الأعلى الثقافي واحد. وطالب كذلك بتنظيم هيئاتٍ علمية ثقافية عليا في الشرق العربي. وفي إطار هذا الفهم كانت دعوة جامعة الدول العربية من خلال المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لكي تُعنَى بتنشيط الحركة الثقافية على الصعيد العربي ومن ذلك الترجمة.

وكان طه حسين رائد الدعوة داخل جامعة الدول العربية فور إنشائها، إلى عقد معاهدةٍ ثقافية عربية. وأُبرمَت هذه المعاهدة تحت مظلة جامعة الدول العربية الوليدة عام ١٩٤٥م. وتنص مادتها السابعة على: «تنشيط الجهود التي تُبذل لترجمة عيون الكتب الأجنبية القديمة والحديثة، وتنظيم تلك الجهود، وتشجيع الإنتاج الفكري في البلاد العربية بمختلف الوسائل.» وتحدَّدَت أهداف المعاهدة وأهداف اللجنة الثقافية ونشاطها في إغناء الفكر العربي، وتعريب التعليم، وتعزيز البحث العلمي بالاطلاع على إنجازات العصر، وتنمية اللغة العربية، والارتقاء بمستوى المواطن علمًا وثقافة بإحاطته بقضايا العصر ومشكلاته.

يمثِّل المشروع الثقافي لطه حسين إجابة عن أسئلةٍ محددة لا تزال مطروحة: الترجمة لمن؟ وبمن؟ وماذا نترجم؟ ولماذا نترجم؛ أي الهدف والدور الاجتماعي الترجمة؟ وهذه أسئلةٌ لا تزال معلقةً دون إجابة. ولن نُعيد ما فصَّلنا على لسان طه حسين من أن الترجمة في غاية المطاف إغناءٌ للفكر العربي، وتعزيز للبحث العلمي بالاطلاع على إنجازات العصر، وارتقاءٌ بمستوى المواطن علمًا وثقافة بإحاطته بقضايا العصر ومشكلاته. والترجمة مع هذا كله وبه، تحقيقٌ للذات القومية في أكمل صورةٍ حضارية حين تمثِّل نشاطًا اجتماعيًّا واسع النطاق قرين حركةٍ علمية اجتماعية وفي إطار استراتيجيةٍ تنموية شاملة. هنا تكون الترجمة تعبيرًا صادقًا عن نشاطٍ اجتماعي علمي أخذًا وعطاء. وهنا تستعيد الأمة ذاتها بفضل الفعل الإنتاجي الإبداعي بدلًا من عبثية البحث عن الذات في فكرٍ نظري مجرَّد مضى زمانُه.

وليست مشكلة الترجمة، كما يظن البعض، غياب المصطلحات العربية وإنما هي غياب الثقافة العلمية، وغياب الاهتمام بالبحث العلمي، وغياب النشاط العلمي المُنتِج للعلم وللغة أو المصطلحات العلمية؛ فالعلم هو الفريضة الغائبة في حياتنا الثقافية. وكيف تتوفَّر كتابةٌ علمية وثقافةٌ علمية في مجتمع لا ينشط علميًّا، ولا يُنتِج علمًا وإنما يستهلك تقانةً في غُربة عن الحضارة وأقرب إلى عصر الشفاهية عزوفًا عن القراءة والكتابة والفهم المعرفي.

والترجمة بعد هذا تُفضِي إلى النهوض باللغة، وإلى التفاعُل مع اللغات لما يكون له أثَره القوي على النشاط الفكري للأمة، ودعم أواصر الترابُط تأسيسًا على ثقافةٍ فاعلة منتمية إلى العصر. وتُفضي الترجمة أيضًا إلى تجدُّد الثقافة بما يسري في عروقها من نبضٍ جديد حافز للعمل، وشاحذٍ للفكر؛ فإن ازدهار أي أمةٍ رهن بعدَد مثقَّفيها وقيمة علمهم، وفعالية دورهم، وقدرتهم على العطاء والارتقاء .. والترجمة وقايةٌ من مرض الانغلاق الفكري الذي يفضي إلى انحسارٍ حضاري ثم إلى اندثار.

والترجمة الصحيحة او الصحية والفاعلة اجتماعيًّا هي التي تأتي استجابةً لطلب أو حاجةٍ اجتماعية ضمن استراتيجيةٍ تنموية شاملة مفضية إلى الإنتاج الإبداعي، فتدخل في نسيج الفكر الاجتماعي الجديد أداة بناءٍ وتطوير وارتقاء .. ولكن ما يجري عندنا في مجال الفكر الحضاري أننا نعايش ترجمةً مغتربة في المكان، وثقافةً اجتماعية مغتربة في الزمان، والحاصل ازدواجية في الفكر بين مثقَّفين لهم رِطانهم ولا يَفْهم عنهم العامة، وبين عامةٍ انصرف عنهم المثقَّفون إلى رِطانهم ومصالحهم؛ وتغدو الترجمة صرخةً في واد، وبذرةً في أرضٍ جرداء غير ذات زرع أو ثمار.

يبقى بعد هذا المراجعة النقدية للذات على الصعيدَين المصري والعربي، ماذا تحقق من مشروع طه حسين الثقافي في مجال الترجمة على الأقل؟

لا تزال الترجمة تمثِّل تقصيرًا مثيرًا للخزي الشديد. ومن أسفٍ أننا حين نكشف عن هذا التقصير يضيق البعض، ويسوقون الشواهد الموضوعية الدالة على أنهم اليوم غير الأمس، ويَطرَبون لهذا، وينسَون أن دراسة الظاهرة والحكم عليها إنما يكون في ضوء علاقاتها مع غيرها من الظواهر باعتبار الكل لا الجزء؛ إذ لا يُوجد مجتمعٌ يعيش وحده أو في حاله، وإنما هناك تنافساتٌ وصراعات على المستوى العلمي والتقاني؛ أي الحضاري، تحدِّد موضع كلٍّ منا وتحدياته. ونحن في هذا الصدد لا بد وأن نفرِّق بين التقدُّم الحضري والتقدُّم الحضاري؛ فليس استهلاك التقانة حضارة، وليس بناء القصور الفارهة بأيدٍ أجنبية حضارة، وإنما العلم والمعلومات إنتاجًا وإبداعًا وتوظيفًا في منافسة مع الآخرين، وفي حركةٍ دينامية متطورة؛ ولهذا السبب قُلتُ في صدر كلامي إننا نريد مراجعةً نقدية لا قياسًا إلى الذات بل قياسًا إلى المسافة أو الهُوة الحضارية الفاصلة بيننا وبين العالم المتقدِّم ومحتوى هذه الهُوة وعقل الإنسان/المجتمع وفعاليته.

نعرف أننا نعيش عصر تفجُّر المعلومات، وأن قدرة المجتمع على التشبُّع بالمعلومات المتاحة بواسطة التقانة، وقدرة المجتمع على الإبداع والإسراع في توظيف هذه المعلومات، والذي من شأنه أن يُولِّد فيضًا متجددًا من المعلومات والإنجازات المادية .. هذا هو معيار العصر للتقدُّم .. فأين نحن منه الآن؟ وهناك بعد ذلك المستجدَّات من عناصر الصراع والمنافسة على الأصعدة المحلية والإقليمية والعالمية .. والمعلومات هنا، إنتاجًا وتوظيفًا وتشبعًا، هي أداة الفوز.

نعم تغيَّر العالم العربي عما كان عليه وقت كتابة المشروع، وظَهرَت دولٌ غنية، فاحشة الثراء، وذات مكانةٍ واقتدار، ولا يزال البعض الآخر يتلمس الطريق، ولكن كيف يجري توظيف الثروة القومية في إطار من تنظيمٍ جيد وأمثل للموارد البشرية والعلاقات الاجتماعية الداعمة للنهوض؟

ونشأَت على الساحة أو جثمَت فوق أرضنا دويلةٌ جديدة غاصبة تؤمن بالصراع على المستوى الحضاري مبدأً لفرض وجودها .. تُرى ما هي التحوُّلات التي تمت داخل البلدان العربية لتضعنا على طريق الصراع الحضاري؛ درجة انتشار التعليم والانتصار على الأمية الأبجدية والأمية الثقافية .. ما هو حظُّنا من الاستيعاب المعلوماتي أخذًا عن الغير؟ وما هو حظُّنا من الإبداع المعلوماتي إعطاءً للغير؟ وليكن حديثنا بلغة وفكر حضارة العصر دون القناعة بإصدارات لا تقدِّم جديدًا للعلم وللمجتمع؟ ما هو مشروعنا الثقافي المحلي والعربي؟ وما هو موقع ثقافتنا من الثقافات العالمية المطروحة في السوق؟ .. ونحن نعيش عصر هيمنة مفهوم السوق، وأصبحَت الثقافة سلعة من حيث الإنتاج ونقل المعلومات. وما هي إمكاناتنا واستعداداتنا المصرية أو العربية للمواجهة والتحدي بإرادةٍ مجتمعية حضارية عمادها العلم والإنسان العام المثقَّف والحر؟ إسرائيل قطب التحدي والخطر الجاثم على صدرنا المتربِّص بنا للمصادرة على مستقبلنا ماذا فعلَت وماذا تفعل في هذا المجال استعدادًا أو ضمانًا لفرض إرادتها؟ وماذا نفعل نحن في مجالات الثقافة والفكر والعلم والبحث العلمي النظري والتطبيقي والتعليم وتنظيم الموارد، وبناء البشر، وخلق علاقاتٍ اجتماعية حضارية … إلخ؟ ونعود إلى ما قاله طه حسين: إن مكانتنا السياسية والاقتصادية والعسكرية هي تعبيرٌ عن إنجازاتنا العلمية التقانية، التي هي بدَورها تعبيرٌ عن إرادة التحدي على الصعيد الحضاري؟ إسرائيل تُحاوِل الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي لكي يعهد إليها بترجمة إنتاجه الفكري إلى العربية وتكون هي مصدر التثقيف لمجتمعاتٍ لا تقرأ، وتحتجز المنبع لنفسها ولحسابها؛ وإسرائيل تشُن حربًا إنتاجية كمبيوترية ضد العرب عن طريق تصميم برامج عن اللغة العربية بعد دراستها وتحليلها لضمان السيطرة على العقل العربي وتكون هي المرجع اللغوي والثقافي والعلمي.

قال طه حسين إن حاجتنا إلى اللغات الأجنبية أشد جدًّا من حاجة الأمم المتقدمة. هذا بينما نجد دول الغرب المتقدِّم وأوَّلها الآن الولايات المتحدة الأمريكية، تسعى إلى ترجمة كتب التراث في الشرق لتكون هي ولغتها المرجع والأم للثقافة العربية .. هيمنة على طريق العولمة.

نحن لا نزال نُراوِح مكاننا قياسًا إلى أنفسنا في ضوء المشروع الثقافي لطه حسين، ولكننا الآن وبعد ستين عامًا من تاريخ هذا المشروع تخلَّفنا كثيرًا، واتسعَت الهُوة قياسًا إلى حركة العالم المتقدِّم والمسافة التي يتعيَّن علينا أن نقطعها لنلحق بركب الحضارة. وتراجُع الترجمة تعبيرٌ عن حالة العزوف المَرَضي عن المعرفة، وعن الفقر في التأليف، وتعبيرٌ عن حالة الغربة عن العلم وعن لغة العصر، وتعبيرٌ عن تراجُع الفكر الاجتماعي بعامة، وعن الانحصار داخل ثقافةٍ تتحوَّل بسبب الانغلاق وعطالة الفكر والعمل الإبداعيَّين إلى ثقافةٍ اجتماعية متحجرة تغيِّب العقل، وتُعلي من مكانة الأسطورة. وهي أخيرًا تعبيرٌ عن اغترابٍ حضاري وفقرٍ فکري .. ومع هذا وعلى الرغم منه يسودنا شعورٌ ساذج بالرضى عن النفس، وبالإشفاق على الآخرين لأنهم ليسوا منا ولم يفوزوا فوزَنا الأعظم .. ثم نسألُ بعد هذا كله في دهشةٍ بلهاءَ تُثير استغراب العقلاء عن سبب سيادة الفكر الظلامي، وهو الإفراز الطبيعي، ولعله المنتَج الاجتماعي الوحيد الذي برعنا فيه.

وحتى نُدرِك مدى الهُوة، لعلنا نشحذ جهدنا لكشف الغمة عن عقل الأمة، ونحفِّز الجهد لصحوة تُوقِظنا من غفلتنا، وتكشفُ زيفَ حالة الرضى عن النفس، أسوقُ بعض الإحصاءات لا بقصد إثارة الشعور بالإحباط والنفور، بل الحفز والاستنفار، وعَقْد العزم على الانتصار:

يفيد إحصاء المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الوارد في كتاب المنظمة «الخطة القومية للترجمة» الصادر في تونس عام ١٩٩٦م، إلى أن الكتب العلمية المُترجَمة في العالم العربي من ١٩٧٠م إلى ١٩٧٥م (خمس سنوات تونس، الجزائر، سوريا، العراق، مصر) هي ٨٧٢ عنوانًا؛ أي بمعدَّل ١٧٥ عنوانًا في السنة. والكتب المترجمة من ١٩٧٠م إلى ١٩٨٠م؛ أي في عشر سنوات في ١٦ دولةً عربية هي ٢٨٤٠ عنوانًا؛ أي بمعدَّل ٢٨٤ عنوانًا في السنة في جميع التخصُّصات، وأن عدد الكتب المترجَمة إلى العربية منذ بداية عصر الترجمة الإسلامي، أيام خالد بن يزيد والرشيد والمأمون، حتى الآن، حوالي عشرة آلاف عنوان.

وحيث إن الترجمة تعبير عن نشاط البحث العلمي وذيوع الثقافة العلمية نُشير إلى الإحصاءات التالية:

حجم الإنفاق العربي على البحث والتطوير R & D في تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ٠٫٠١٤٪ أربعة عشر من الألف في المائة من الناتج القومي، وهو أدنى المعدَّلات في العالم الثالث، ناهيك عن العالم المتقدِّم إذ يصل المعدَّل في العالم الثالث إلى واحدٍ في المائة (جريدة الحياة، العدد ١٢٩٩٥، بتاريخ ٢ / ١٠ / ١٩٩٨م). وتنفق مصر ٠٫٥٪ وإسرائيل ٢٫٢٪ وفرنسا ٤٫٢٪ (إحصاء الكتاب السنوي، اليونسكو، ١٩٩٥م).

وقد يرى البعض أن السؤال عن الترجمة وعن القراءة والفهم المعرفي عبثٌ لا طائل تحته في مجتمعات لا تنظِّم ولا تستثمر مواردها ويسودها الفقر والأمية أو حالة عدم التوازن بين مجتمعاتٍ شديدة الفقر ومجتمعاتٍ مسرفة في الغنى، أو فئاتٍ فاحشة الثراء وفئاتٍ فقيرة شديدة الفقر. ونُشير هنا إلى تقرير منظمة التغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، الذي يُقرِّر أن ٤٥ بالمائة من العرب يعيشون تحت خط الفقر؛ أي حوالي ١٠٠ مليون عربي. ومن المضحك أن يسود العالم العربي استهلاكٌ مسرف وفاضح للتقانة في ضوء اعتقادٍ خاطئ بأن الاستهلاك وحده انتماءٌ حضاري ومظهرٌ للتقدم (جريدة الحياة، نفس المصدر).

إحصاءات الكتاب السنوي لليونسكو (١٩٩٥م)، والتي لها صلة بالترجمة وذيوع الثقافة

إجمالي الإنفاق على التعليم عام ١٩٩٤م.
أوروبا ٤٣٢٫٧ بليون دولار
أمريكا ٤٧٧٫٥ بليون دولار
الدول العربية ٢٧٫٥ بليون دولار
أفريقيا ٣٦٫٣ بليون دولار
نصيب الفرد من نفقات التعليم بالدولار عام ١٩٩٤م.
العالم ٢٤٤ دولارًا
أوروبا ٨٦٣ دولارًا
أمريكا ٦٢٦ دولارًا
الدول العربية ١١٢ دولارًا
استهلاك ورق طباعة الصحف.
إجمالي لكل ألف نسمة
مصر ٨٩٫٩٠٠ مليون طن متري ١٤٤٨كجم للفرد ١٫٤
إسرائيل ١٠٧٫٩٩٨ مليون طن متري ١٩٥٤٧كجم للفرد ١٩٫٥
فرنسا ٧٩٤٠٠٠ مليون طن متري ١٣٦٦٥كجم
إسبانيا ٤٩٦٠٠٠ مليون طن متري ١٢٥١٩كجم
استهلاك ورق طباعة الصحف.
إجمالي لكل ألف
مصر ١٠٧٫٦٠٠م ط م ١٧٣٣كجم للفرد ١٫٧كجم
إسرائيل ١٨٠٫٢٢١م ط م ٣٢٦١٩كجم للفرد ٣٢٫٦كجم
فرنسا ٣٫٦٦٢٫٠٠٠م ط م ٦٣٠٢٥كجم للفرد ٦٣٫٠كجم
إسبانيا ١٫٤٠٢٫٥٠٠م ط م ٣٥٣٩٣كجم للفرد ٠٫٣٥كجم
قيمة استيراد وتصدير الكتب ١٩٩٥م.
تصدير استيراد
مصر ٤٫٩ مليون دولار ١٠٫٦ مليون دولار
إسرائيل ٢١٫٣ مليون دولار ٢٩٫٧ مليون دولار
اليابان ١٩٣٫٢ مليون دولار ٢٦١٫٢ مليون دولار
السعودية ٤١٩٫٣ مليون دولار ١٦٠٫٤ مليون دولار
إنتاج الكتب تأليفًا وترجمة ١٩٩٢م.
مصر ٣١٠٨ ٥٠ كتابًا لكل مليون تقريبًا
إسرائيل ٤٦٠٨ ١٠٠٠ کتاب لكل مليون تقريبًا
اليابان ٣٥٤٩٦
إسبانيا ٤١٨١٦
فرنسا ٤٥٣٧٩
العالم ٨٦٣٠٠٠ ١٦٠ لكل مليون تقريبًا
أوروبا ٤٠٣٠٠٠
أمريكا الشمالية ١٠٢٠٠٠
البلدان العربية ٦٥٠٠ ٢٥ لكل مليون تقريبًا
الترجمة (الكتاب السنوي لليونسكو ۱۹۹۲م).
العالم العربي ٤٥٩ حوالي کتاب ونصف لكل مليون
إسرائيل ٤٦٢ حوالي ۱۰۰ کتاب لكل مليون
إسبانيا ٩٦٤٧
المجر ١١٤٤

يبين من عرضنا هذا أن أزمة الترجمة إن هي إلا تعبيرٌ صادق وصارخ عن أزمة مجتمعٍ منصرف عن العلم والتثقيف والقراءة العلمية ومنصرفٍ عن العمل العلمي والانتماء إلى حضارة العصر، مجتمع أو مجتمعاتٍ عربية ليس لها استراتيجيةٌ شاملة تعبِّئ الطاقاتِ والموارد والبشَر في سبيل إنجازها، وتكون السبيل إلى مواجهة التحدي، وعن طريقها نُعيد بناء البشر عقلًا وثقافة وإقبالًا على العلم والعمل.

وبعد هذه الإحصاءات يتأكَّد أن تقصيرنا شديد، ونصيبنا من الخزي شديد، بل حريٌّ أن يكون أضعاف ما كان عليه الحال منذ ستين عامًا؛ ذلك لأننا أهدرنا مشروعًا ثقافيًّا كان كفيلًا بأن يَهْدي خطواتنا على طريق النهضة، وبذا أهدرنا حقَّنا في الحياة. وإذا كان طه حسين قدَّم مشروعه في كتاب وقال: «وليس هذا الكتاب إلا صورةً لما نستحقُّه من اللوم مراتٍ ومراتٍ على ما فرَّطنا في حق أنفسنا ومستقبل الأجيال. ولكن حريٌّ أن يكون اللومُ توبةً نصوحًا تحفِّزنا إلى عقد العزم الصادق والتخلِّي عن عوامل ومظاهر الفُرقة والشقان اللامبدئي والعصبوية والفردية وصولًا إلى حشد القوى على الصعيد الاجتماعي نحو هدفٍ مرسوم، وتأسيسًا على خطةٍ موضوعة بعقلٍ علميٍّ واعٍ وناقد، وإصرار على التحدي والانتصار؛ فهذه سبيلنا لتحقيق الذات.»

١  أُلقيَت في ندوة بالمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة بمناسبة مرور ستين عامًا على صدور كتاب «مستقبل الثقافة في مصر».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤