المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة
يتبادر إلى الذهن سؤالان؛ متى يكون المصطلح الفلسفي أزمةً من حيث النشأة أو المفهوم والدلالة؟ ومتى تكون ترجمتُه أزمةً أيضًا من حيث الصياغة والمفهوم والدلالة؟
بداية أقول ما قاله العالم الفيزيائي الفيلسوف هایزنبرج: «ترتكز الفلسفة على اللغة/الفكر كوسيلة تواصل.» ومن هنا تكون الترجمة أزمةً حين يتعذَّر التواصل عند محاولة ترجمة المصطلح لغةً؛ أي فكرًا ومفهومًا ودلالة بين ثقافتَين اجتماعيتَين لكلٍّ منهما إطارها الفكري أو الحضاري المغاير؛ ذلك أن الثقافات الاجتماعية تتبايَن عند المستوى الحضاري الواحد. مثال ذلك ما حدَث للآباء اليسوعيين عندما قصدوا الصين مبشِّرين وتعذَّر عليهم نقل مفهوم «الدين» و«الإله» المجرَّد … إلخ.
أقول تكون ترجمة المصطلح أزمةً عند محاولة لسانِ حضارةٍ ما التحدُّث بلسان حضارةٍ أخرى لأن كلًّا منهما يرى الوجود من خلال إطارٍ فكري مغاير؛ لهذا فإن الحديث عن أزمة ترجمة المصطلح العلمي ومن ثَم الفلسفي يقتضي أن نبحث علاقة الفكر العلمي باللغة الطبيعية في المجتمع؛ أي بحث أبنية اللغة الطبيعية ومدی علاقة التلاؤم بينها وخصوصيات لغة العلم. إن لغةَ ما قبل نشأة العلم الحديث غيرُ لغة حضارة عصر الصناعة وكذا عصر المعلوماتية الآن، اختلاف الحضارة يعني تبايُن الفكر أو اللغة وأبنيتها واختلاف صورة الإنسان والوجود .. لغة ما قبل نشأة العلم الحديث ترى الوجود تجليات، وترى الظواهر موضوعًا للتأمُّل النظري وتنسبُ النتائج لعلةٍ خارج الذات وخارج الطبيعة وتتجاوز قدرة وإرادة عقل الإنسان؛ أي تتجاوز قدرته على البحث والاستكشاف والتجريب. ولغة العلم لها خصوصيةٌ مميزة هي المنهج أساسًا والبناء النسقي، والمنهج يعنى قواعد بحث + توجُّه عقلي + نهج في الفهم + أسلوب لغوي في الصياغة؛ أي أبنية لغوية مميزة ونحو خاص في التعامل مع الظواهر يؤكِّد قدرة العقل أو الإنسان/المجتمع على البحث والتجريب والتغيير، وخير مثالٍ هنا مصطلح السببية.
وحين تكون السيادة للغةِ حضارةٍ ما قبل العلم يتعذَّر على الباحث التقليدي بإطاره الفكري أن يفهم لغة أو فكر الآخر. وهكذا يكون هذا الباحث من حيث هو مجتمعٌ له فكره وحضارتُه أحد تجلياتِ أزمة الوعي الاجتماعي والتاريخ.
وأعود هنا لأسأل من جديد: هل الحديث عن أزمة ترجمة المصطلح عندنا هو حديث عن أزمة لغةٍ بالمعنى الشائع للغة لدى الكافة أم أزمة فكرٍ؛ أي حضارة مجتمع؟ إذا قلنا إنها أزمة لغة بمعنى قصور اللغة وأننا لا نجد للمصطلح مقابلًا في قاموس لغتنا فهذا يعني أننا نطرح القضية طرحًا خاطئًا؛ إذ معنى هذا أننا نتوقَّع عن خطأ أن مفردات اللغة المودَعة في القاموس تحوي كل مفرداتٍ محتملة على اختلاف الزمان والمكان وأنْ لا جديد، ولا تنوُّع، وأن اللغة شيءٌ أصم اكتمل مرةً وإلى الأبد. ويعني أيضًا أن اللغة كلام وليست فكرًا. ويعني ثالثًا أن اللغة فارغةٌ من خصوصية ثقافتها الحضارية المتنوِّعة باطِّراد، وإذا كانت الحضارة تتنوَّع فإن اللغة أو الفكر يتجدَّد. والملاحظ أنه قد ساد بيننا نهجٌ خاطئ إذ حصرنا مشكلة الترجمة العلمية في المصطلح؛ أي في الشكل أو في رسم الكلمة. وراج الزعم أنها مشكلة لغة. وتصوَّرنا أو توهَّمنا أننا إذا ترجمنا المصلح بكلمةٍ ففي ذلك الكفاية وتيسَّرَت لنا به المعرفة العلمية. ونسينا أن اللغة فكرٌ اجتماعي نَشِط؛ أي فعلٌ اجتماعي .. ونسينا أن الإنسان يكون إنسانًا علميًّا ومتفلسفًا بفضل النشاط الاجتماعي المعرفي .. ليست المسألة أن هناك لغةً متخلفة وأخرى متحضرة وإنما الفعالية الاجتماعية التي تشكِّل ظرفًا وجوديًّا لإبداعه أو لتقبُّل الفكر/المصطلح واستعماله .. بحيث يكون النشاط الاجتماعي الفكري هو الضامن لحياة الفكر والكفيل باطِّراده والأب الشرعي للجديد .. وليست المشكلة رسم مصطلحٍ مرة وإلى الأبد .. فالمصطلح كيانٌ حي، هو ظاهرةٌ فكرية اجتماعية علمية له حياةٌ ومسار.
وإذا قلنا عن حق وصواب إنها أزمة فكرٍ فإن هذا يعني أنها أزمة الإنسان/المجتمع .. أزمة ثقافة وحضارة .. وتتجلى الأزمة حادةً داخل المجتمع العلمي.
اللغة أو الفكر نسقٌ نشأ وتطوَّر من خلال النشاط الجمعي العملي الإنتاجي .. من خلال عمل الجماعة في إنتاج أسباب البقاء والحماية. واطِّراد التطوُّر التاريخي للفكر الاجتماعي في اقترانٍ باطِّراد تطوُّر عملية العمل أو النشاط الإنتاجي الجمعي الهادف للمجتمع. وثراء اللغة أو الفكر هو ثمرة الإنتاج والإبداع وثراء الواقع.
وحين نُقرِّر أن أزمة المصطلح، ترجمةً أو إبداعًا، هي أزمة فكرٍ فذلك لأننا فقراءُ حضاريًّا، فقراءُ في الإنتاج الاجتماعي على مستوى حضارة العصر .. مجتمع غير منتجٍ علميًّا وتكنولوجيًّا ومن ثَم غير مبدعٍ وغير منتجٍ للفكر وغير مجدِّد للواقع. ليست اللغة هي الفقيرة أو القاصرة لأن اللغة هي الإنسان/المجتمع .. راكدةٌ إذ ركد، ثريةٌ متطورة إذا نشط. نحن فقراءُ في الكلام نتحدَّث لغة الماضي، ونعيش أَسْرى إطارٍ فكري ماضوي ولا جديد نُبدِعه علمًا وتقانةً ولغة .. ولهذا لغتنا فقيرةٌ عاجزة، أو قل نحن فقراءُ عاجزون إزاء التعبير عن إبداعات العصر.
إن مدركاتنا للواقع ومفاهيمنا عن هذا الواقع تُثري وتَغتني بثراء الواقع وهو ما يتأتَّى بفضل الإنتاج .. إننا من خلال الإنتاج وبفضله نعيشُ مع عالمٍ متغير متجدد شديد الثراء فكرًا أو لغة. والفكر الاجتماعي فكرٌ متعلق بشيءٍ اجتماعيٍّ عام ليس فكرًا نظريًّا فرديًّا مجردًا وإنما تفكير في النشاط الاجتماعي وقضاياه وفيما يعني المجموع. والتفكير الاجتماعي تعبيرٌ عن نمط الحياة.
حياتُنا الفكرية أو إنتاجنا للفكر مثل إنتاجنا للسيارة تجميعٌ لأجزاء لسنا نحن من أبدعَها أو قادر على تطويرها؛ ولهذا يأخذ الفكر شكل موجات الموضة.
المصطلح الفلسفي
المصطلح معرفة وفهم وفكر .. ليس كلمةً أو مفردةً قاموسية بل هو جزءٌ من نشاط معرفي، هو بعض نسيج المجتمع في لحظةٍ زمانية على مدى مسلسلٍ تطوري .. إنه يُعبِّر عن فعاليةٍ اجتماعية نشطة داخل بنيةٍ فكرية تُجسِّد علاقة الإنسان بالحياة، ومُعبِّرة عن مستوًى معرفي، ويتداخل في رابطةٍ عضوية مع مصطلحاتٍ أخرى لتُشكِّل معًا بنيةً معرفية دينامية متطورة. وتأسيسًا على هذا يمثِّل المصطلح معرفةً مجالها النشاط المجتمعي؛ ومن ثَم فهو بهذا المعنى إنجازٌ معرفي. إنه إنجاز لأنه يُعبِّر عن فعاليةٍ إيجابية وعن إضافةٍ وتجديد. وهو إنجاز من حيث إنه لبنة من لبنات نسيج النشاط المعرفي المجتمعي .. وحيث إنه إنجاز فإنه مشروط اجتماعيًّا وتاريخيًّا نشأةً وحياةً وتطورًا واندثارًا.
والمصطلح الفلسفي أساسي ولكنه ليس علة وجود ذاته، أو ليس وجودًا كافيًا بذاته، فضلًا عن أنه ليس وحده المطلوب لأنه لا يمثِّل بذاته وفي ذاته لغة. وإنما قيمة المصطلح تتحقَّق من توفُّر سياق لغة الاتصال؛ أي لغة علم أو فكر. هذا وإلا ظلت لغة العلم ومصطلحات الفلسفة نوعًا من ميتافيزيقا الغياب التي تكرِّس ثنائية الوجود وازدواجية الفكر .. وفي ظل ميتافيزيقا الغياب يغدو المصطلح كلمةً عُجمى لا تبين؛ أي ليس فكرًا .. يغدو مفردةً وليس وعيًا.
وهنا يكون الفيلسوف بصياغته التنسيقية وإبداعاته الاصطلاحية المهندسَ المعماريَّ الذي يصُوغ تصميم المبنى المؤلَّف من حصاد إنجازات علوم العصر .. إنه لا يصوغ نسقًا فكريًّا مجرَّدًا من الظرف الوجودي لعصره .. ومن ثَم تمثِّل إنجازات العلوم مقوِّماتِ الحياة الفكرية في المجتمع؛ فالعلوم مع تعدُّد اختصاصاتها، ليست، أو لم تعُد، مجرَّد معلومات أو أنساقٍ معرفية مستقلة وإنما صياغةٌ متكاملة وديناميةٌ متطورة حضاريًّا .. والفكر الفلسفي فكرٌ اجتماعي متكامل شاملٌ قضايا حياة المجتمع وليس مجرَّد نثار من أفكارِ أفراد. ونَسَق الفكر الاجتماعي حصادٌ لنشاطٍ إنساني إنتاجي هادف. ويشكِّل في مرحلةٍ زمانية إطارًا معرفيًّا قياسيًّا .. ومن ثَم فهو إطارٌ مرحلي إلى حين ظهور مشكلاتٍ جديدة تطرحها العلوم وإنجازاتها العملية.
وقد تكون ترجمة المصطلح مشكلة وليست أزمةً وذلك حين يتعلَّق الأمر بتوحيد المصطلح أو بقواعد الاشتقاق والتوليد في اللغة، ولكن هذه المشكلة تتحوَّل إلى أزمةٍ إذا ما تعلَّق الأمر بأَبنية اللغة وإطارها الفكري الحاكم. ولا يكون ذلك كذلك إلا حين يكون المجتمع راكدًا حضاريًّا وينقل عن حضارةٍ أخرى مفارقة.