Wave Image

مصر المجتمع والثقافة والسلطة

شغلتني زمنًا مسألةٌ أجملتها تحت عنوان «البحث عن مصر». سألتُ نفسي يومًا ما الذي يعنيه الجبرتي أو ابن إياس أو المقريزي أو ابن الحكم أو غيرهم حينما يقولون مصر والمصرلية أو الزعر والحرافيش؟ أي مصر وأي مصريين؛ الإنسان/المجتمع والثقافة والسلطة؟

وتوطئةً للحديث أطرح مقدمًا ما أراه المعنى السويَّ لمصطلحات المجتمع والثقافة والسلطة، ثم أُتبع هذا بما أظنُّه مدلولات هذه المصطلحات في تاريخنا لأقارن وأستبين ما يمكن أن نُسمِّيه حقائقَ تاريخية يمكن في ضوئها أن نلقي نظرةً استشرافية لما ينبغي أن يكون هدفًا عمليًّا لتصحيح الأوضاع والخطو على طريق تحوُّلٍ حضاري يستعيد به الإنسان ثقته ومكانته واعتباره.

المجتمع بنيةٌ بشرية تؤلِّف نسيجًا واحدًا متداخلًا ومتفاعلًا ومتكاملًا من الإنتاج والثقافة والسلطة. وتتمتَّع البنية بقَدْر من الاستقرار الدينامي داخل بيئةٍ جغرافية مشتركة ومحدِّدة لأساليب تفاعُل البشر معها والتعاون فيما بينهم، وأسلوب وأنواع الإنتاج وأسلوب التناقُض أو الصراع وكيفية حسمهما على نحوٍ لا يُخِل بمبدأ الحفاظ على البقاء بشريًّا واجتماعيًّا واطِّراد البناء وتحسين الأوضاع من خلال اطِّراد الإنتاج الاجتماعي وتناميه، وتراكُم الخبرات الجمعية واطِّراد الإبداع المعرفي والثقافي.

ويهيِّئ هذا شرطًا وجوديًّا لازمًا لإعادة إنتاج الحياة الاجتماعية في دينامية تكفُل التواصُل الاجتماعي، وتعزِّز روح المعاشرة الاجتماعية المُنتِجة للعلاقات وتجلياتها التي تتجسَّد في الفعل والصور والرموز والسلوكيات (الثقافة) التي تصوغ صورةً مشتركة عن المجتمع بين أبنائه كأساسٍ للتكيُّف الذي هو قابليةٌ للتغيُّر الجمعي الارتقائي. وتتمثَّل هذه التجليات في تقسيماتٍ منظومية وظيفية ومؤسَّسية متطورة ومتغيرة ومتعددة أبدًا.

ويتشكَّل من هذا كله بيئةٌ ثقافية هدفها دعم بنية المجتمع وتعزيز استقرارها، وتصنع مُبررًا للوجود وهي بيئةٌ مشتركة بين أفراد المجتمع حكامًا ومحكومين لأنهم جميعًا أبناؤها.

وهكذا تتوفَّر شروط جدل الفكر والفعل الاجتماعيَّين، وعلى نحوٍ تاریخي، من خلال الإنسان/المجتمع على مسرح الواقع بما فيه من أبنيةٍ اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية. وطبعيٌّ حين يفقد المجتمع خاصية جدل الفكر والفعل على نطاقٍ اجتماعي متكامل، وحين تتعطَّل عملية التغذية العكسية بين الفكر والفعل الاجتماعيَّين يُصاب عقل الأمة بالجمود المفضي إلى ضمورٍ ونكوصٍ تغلب عليه الأسطورة، أو لنقُل يلوذ المجتمع في حالة نكوصه بالأسطورة إرثًا أو تراثًا ماضويًّا مقطوع الصلة بالواقع الحي، ويغدو الوجود امتدادًا أو اطرادًا عشوائيًّا.

وأذكُر هنا ما قاله کارل مانهايم في كتابه «المجتمع واليوتوبيا»: «يكون المجتمع ممكنًا لأن أبناءه يحملون في رءوسهم صورةً مشتركة عن هذا المجتمع تاريخًا وحاضرًا ومستقبلًا، صورة تصنع وعيًا عامًّا .. إننا تنتمي إلى جماعةٍ ما ليس فقط لأننا وُلِدنا فيها، ولا لأننا نعترف بالانتماء إليها، ولا لأننا نمنحها ولاءنا وإخلاصنا، بل لأننا أساسًا نرى العالم وأشياء بعينها في العالم بطريقةٍ واحدة هي طريقة هذه الجماعة.»

ونضيف إلى ما قاله کارل مانهايم أن شرط توفُّر هذه الصورة المشتركة نشأةً واستمرارًا هو اطِّراد الفعل المجتمعي النشِط (الإنتاج) المولِّد للفكر والثقافة ومن ثَم للصورة المشتركة مناط الانتماء والتكيُّف، ويتأتَّى هذا في صورة استجابةٍ مجتمعية متكاملة إزاء تحديات الخارج أو تحديات الجمود الذي يُصيب العلاقات بين أطراف البِنية أفرادًا ومؤسسات، وعدم ملاءمتها لتحقيق الاستجابات اللازمة. إن ثقافة المجتمع ما لم تكن في تطوُّر وارتقاءٍ مطَّرد بفضل فعلٍ اجتماعي نشِط لإنتاج الوجود، فإنها مع جمود هذا الفعل تأخذ سبيلها إلى الانحسار والتشظِّي والتخلُّف أو التحوُّل إلى أساطيرَ في عقول أفراد. والحضارة هي فعل المجتمع النشِط استجابةً للتحديات الخارجية والداخلية على السواء. كما قال توينبي.

وهكذا ينبني المجتمع وينتظم تأسيسًا على فعلٍ مجتمعي مشترك هو الإنتاج الذي تتولَّد عنه:
  • أولًا: علاقات إنتاج.
  • وثانيًا: خبرة أو ثقافة ومعارف تصوغ صورة الإنسان/المجتمع والعالم.
  • وثالثًا: سلطة.١

وهذه المنظومة وعناصرها الثلاثة أداة تكيُّف وقابلة للتغيُّر على مدى الصيرورة التاريخية التي هي جماع هذا التفاعُل الإرادي العقلاني في بيئةٍ لها خصوصيتها، ووجودٍ إنساني متكامل يصوغ مجتمعًا لا أفرادًا .. ودون ذلك يتحوَّل المجتمع إلى تجمُّعٍ بشري أو سكني تغلب عليه العصبيات الضيقة الأُفق ويسوده التناحر، وينتحر حضاريًّا.

والسلطة هنا هي أداة المجتمع للتوجيه والسيطرة سياسيًّا، والهيمنة ثقافيًّا وفكريًّا على شئون وأنشطة المجتمع في وحدته وتكامله. وقد تكون مرجعيتها سياسيةً أو دينيةً خالصة. ويختلف معنى السلطة ودَورها ودلالتها وآليات تداوُلها، إن وُجدَت، كما يختلف سنَد مشروعيتها باختلاف الوضع الحضاري؛ إذ قد تكون سلطة فرد ظلًّا لإلهٍ ما على الأرض مدى الحياة، أو تكون تجسيدًا موحَّدًا وموحِّدًا للقبيلة أو المجتمع بعلمة ووكيلًا مفوَّضًا عنه وكأنها شرطُ وجوده، ومن ثَم لها الكلمة والمشيئة المطلَقة. وقد تكون السلطة آلية أداءٍ جمعي ومؤسسية الطابع تتوزَّع فيها الأدوار تحقيقًا لهدفٍ مشترك مرسوم بجهد الجميع ومُعبِّرًا عن فكر وقضايا مشتركة.

والسلطة السوية في المجتمع شرطُها الإيجابي أولًا أن تكون مُنتَج هذا المجتمع؛ أي أن تكون عضويًّا بعض نسيج البنية الاجتماعية في تكاملٍ تاریخي معها من حيث الفعل والفكر، ومن حيث الشروط والآليات التي توفِّر حرية اختيارها وأسلوب تشكيلها فتكون أكثر التحامًا بالمجتمع وتعبيرًا عنه. وبذلك تكون أداة المجتمع في تكامُله لتنظيم وإحكام العلاقات الهادفة مجتمعيًّا بين أطراف البِنية الاجتماعية أفرادًا وجماعات. إنها تمثِّل بنيةً صغرى داخل المنظومة؛ أي داخل البِنية الكبرى المتكاملة .. ومرةً أخرى تكون متولِّدةً عن فعاليتها ونشاطها ومتكاملةً معها تاريخيًّا على أساس الفعل والفكر الاجتماعيَّين. وتحتكم السلطة في أدائها لوظيفتها إلى تراثها المشترك مع أبناء المجتمع من حيث ثقافتهم وصورة المجتمع والوعي العام والآمال والطموحات وإلى أسباب الحفاظ على بقاء المجتمع ومواجهته لتحدياته محليًّا وخارجيًّا.

وتستثمر السلطة، ولا أقول تستأثر أو تستنزف وتُهدِر وتستغل، فائض الإنتاج الاجتماعي لتعزيز سلطتها وفاءً لحاجات المجتمع المشروطة. وينشأ عادةً تناقُضٌ داخل بِنية السلطة، أو بين السلطة والمجتمع، يتولَّد عن اطراد الفعل وتنامي الفكر والتماس الحلول في مسيرةٍ تطورية اجتماعية. ويتأتَّى الحسم على نحوٍ مشروع؛ أعني مشروعيةً وليدة إطارٍ ثقافي مشترك، متلائمًا مع مقتضيات الفعل والفكر الاجتماعيَّين المتطورَين.

مصر المجتمع والثقافة والسلطة

سؤالنا بعد ذلك وفي ضوئه أي مصر وأي مصريين، وأي ثقافة وأي سلطة؟ أعني بمصر والمصريين الأرض السوداء، والفلَّاح الذي اعتاد منذ قديم الزمان أن يطبع على فَودَيه صورةَ طائر هو حورس حامي المستضعفين، وإن غاب عنه المدلول، ونعتَه الغزاة بأسوأ وأحطِّ النعوت وتركوه نهبًا للجهل ولهيمنة الخرافة والهجرة إلى الغيب حتى يتسنَّى لهم فرضُ سلطانهم عليه فردًا بعد خصائه من كل أسباب القوة والمنعة القومية فكرًا وثقافةً وانتماء، فهذا الفلاح هو الكتلة الأساسية الممثِّلة لمصر، وهو الذي ملأ سلَّة الرومان، وأطعم جيوش العرب وخيلَهم، واقتات على جهده المماليك والأتراك من بعدهم، هو القوة العاملة المُنتِجة، وأي تغييرٍ لا يطوله لا يغيِّر من وجه مصر شيئًا.

مصر منذ عام ٥٢٥ مع غزو الفرس وحتى منتصف القرن العشرين؛ أي على مدى خمسة وعشرين قرنًا، وهي تحت سطوة سلطاتٍ غازية أجنبية. ومنذ ذلك التاريخ، ومع حل الجيش المصري باتت مصر بغير قضيةٍ قومية وبغير موقفٍ قومي وبغير أداة دفاعٍ في حلبة الصراع التاريخي بين أطراف التنافُس على صعيد إقليمٍ جغرافي واسع النطاق يشمل الفرس واليونان والرومان والشرق الأوسط إجمالًا. وتعرَّض النسيج الثقافي للتمزُّق وتضافرَت على صنع ذلك ضغوطٌ ثقافية وسياسية وعسكرية من الداخل والخارج.

ومصر بعد صدور مرسوم الإمبراطور ثيودوسيوس في القرن الرابع الميلادي ومرسوم جوستنيان في القرن السادس الميلادي بإلغاء المعابد المصرية وتحريم وتجريم عبادتها أضحت بغير مطبخٍ ثقافي مجتمعي، وانهار النظام الثقافي وتفكَّكَت عُراه، وبقي المصريون أفرادًا. يُضاف إلى هذا عواملُ الضعف والتحلُّل التي استشرت في أواخر عهد الدولة الحديثة في العصر الفرعوني، ويسَّرَت سقوطها ضد خصومها ومنافسيها. وشاعت خلال هذه الفترة ثقافةٌ هرمسية فقدَت عناصر قوَّتها الحضارية، وتخلَّفَت صورةٌ منها تدعم عملية الضعف والتحلُّل من كل مظاهر الالتزام الدنيوي الجمعي والاجتماعي. وحريٌّ أن أُشير هنا، منعًا للالتباس، أن هرمس مثلَّث العظمات هو الإله تحوت المصري، فهو الإله الذي اعتاد المصريون وحدهم دون سواهم حتى يومنا هذا أن يُقسِموا به قائلين العظيم ثلاثًا.

هيمنَت على الثقافة المصرية ثقافةٌ تحُضُّ على ترك الدنيا والزهد فيها والهجرة إلى الغيب ملاذًا للخلاص. شاعت أقوالُ هرمس في صورةٍ أسطورية تؤكِّد أن الحكمة أو فضيلة الفضائل السعي الدائب إلى العلم اللدني وأن السعادة في الخلاص ونيل الثواب، وأن سبيل المرء إلى هذا احتقار المادة والجسم والانصراف عن الدنيا والإكثار من أعمال الإيمان، ونُسب إلى هرمس قوله: «اجمعوا بين محبة الديانة والحكمة، وقفوا أنفسكم على تعليمها. وإن استطعتم أن تنذروا زمان مقامكم في هذه الدنيا لأعمال الإيمان دون سواها فافعلوا؛ فهذا خيرٌ وأبقى.»٢

حرصت السلطات الغازية الحاكمة على تدمير أسباب الثقة بالنفس تاريخًا ومجتمعًا، فعمدت إلى تشويه أساس مشاعر العزة القومية، مثلما عمدَت إلى إشاعة وترسيخ الخرافة والاستعانة في سبيل ذلك بأدوات القهر السلطوي أو الهيمنة الأيديولوجية. ولم يكن يعنيها أمرُ مصر إنسانًا أو مجتمعًا ذا حضارة بل يعنيها استنزافُ فائض إنتاج الأفراد، ولا أقول المجتمع، والذي تحصُل عليه في صورة ضرائبَ أو جزية أو خراج، علاوةً على ما يقدِّمه الفلاحون أفرادًا من تقدماتٍ عينية لجنود وخيل الجيش. وكان همها كذلك استنزافًا على فائض قوة العمل، إن وُجد، في صورة السُّخرة. ولم يقتصر الهدف من الاستنزاف على إشباع حاجات الجيوش ولا إشباع شهوات أصحاب السلطان لاكتناز الثروات، بل وأيضًا إشباع حاجات مجتمع المتروبوليتان؛ أي المجتمع الأجنبي المتسلِّط .. والفلَّاحون في جميع الأحوال هم العبيد المسخَّرون فعلًا وإن لم يكونوا كذلك اسمًا.

كانت السلطات الحاكمة هي الحاكم لبَر مصر، ولأبناء عصبيتها حق الامتياز على سكان البَر .. وترفَّع هؤلاء عن الاختلاط بالأهالي فهم في عداد طبقة المنبوذين، عليهم واجب العمل والخضوع دون شكوى .. ويصف المؤرخ المصري محمد شفيق غربال وضع المستوطنين الإغريق، وهو قول يصدُق على من تلاهم، في كتابه «تكوين مصر» فيقول: «بقي الإغريق منعزلين وظلُّوا طائفةً مميزة .. وظل المصريون يعملون حطَّابين محتطبين ومالئي الدلاء، يُعامَلون معاملة الأجناس المستعبدة، يكدُّون ويكدَحون حتى يسقُطوا من الإعياء، حُرموا من أن ينهض بينهم زعماءُ منهم، وتُرِكوا نهبا لقساوستهم المتعصِّبين.» ويضيف «وأبقى ملوك البطالمة وقياصرة روما على السخافات والمساخر الدينية عن سوء قصدٍ ونية، وأصرُّوا على الإمعانِ فيها وهم في قرارة أنفسهم يحتقرونها بكل جوارحهم.»

محمد شفيق غربال، تكوين مصر، ص٧٨، ٧٩، الهيئة العامة للكتاب، ١٩٩٩م

وامتدَّ هذا الحال مع فلاحي مصر مع كل الغزوات التالية. وجدير بالذكر أن القوى الغازية تتبع أحد نهجَين في تعامُلها مع المستضعفين؛ استنزافهم عن طريق السطوة العسكرية أو استنزافهم عن طريق الاستيعاب الأيديولوجي المدعوم بالسطوة العسكرية. وفي ظل القهر السياسي والتخلُّف الثقافي والفردية التمس المصري أسباب البقاء بالالتزام بأنماطٍ سلوكية محددة هي ضربٌ من التكيُّف السلبي «الوقوف موقف المتفرج واللامبالاة والنفاق أو التوحُّد مع العدو والشكوى والأنين لإفراغ شحنات اليأس والعذاب .. أو الاستعانة بالأولياء وبالدعاء على الظالم ومناجاة الليل خفيةً وتقية.» .. هذا وإن لم يخلُ التاريخ من بطولاتٍ قومية حاولَت أن تستنهضَ الهمم وأن تستنفر الطاقات والجهود ضد الغزاة باسم الوطنية المصرية، ولكن انحاز التاريخ كما هي العادة ضد هؤلاء ولصالح السلطة المنتصرة، وأسدل ستار صمتٍ على بطولاتهم انحيازًا للسلطة أو باسم المقدَّس وحقت عليهم اللعنة باسم الدين.

ومن هنا أزعم أن مصر والمصريين، بهذا المعنى وفي هذا الوضع، عاشوا منذ سقوط الدولة على أيدي الفرس فيما يشبه المعزل العنصري «الأبارتهيد». لم يعُد للمصريين منذ ذلك التاريخ تحت سطوة الغزاة وحتى مطلع القرن العشرين شأنٌ في إدارة شئون بلادهم أو فعاليةٌ في بناء مجتمعهم، أو اختيارٌ لصورة مستقبل حياتهم، أو قضيةٌ قومية تجمع بينهم وتوحِّد صفوفهم، يشحذون لها طاقتهم دفاعًا عنها، أو وسيلة لتجميع خبراتهم الاجتماعية في اتجاه البلورة والتطوير في ضوء مصالحَ مشتركة مشروعة. تعاقَب الغزاة الطامعون في خير مصر موقعًا وإنتاجًا، لهم الإدارة والسلطة وعلى المصريين الطاعة والفلاحة، جحافل تتابعَت تحمل في وجدانها ثقافتَها، ليس وجدانًا مصريًّا عن يقين وإن تمصَّر بعد ذلك حين يُمنونَ بالهزيمة. الجميع يَسخَرون من الفلاح ويُسَخِّرونه، هو الأدنى، وهو رب الفأس وعماد الإنتاج. وعرف الذل والمذلة تحت نِير الاستبداد والطغيان والغربة على أرضه ومحاولات طمس ذاتيته في معزله العنصري.

ونشأَت على أرض مصر ثقافتان؛ ثقافة العامة، وثقافة السلطة؛ بمعنى أن لكلٍّ قيمه ورؤيته التي تحدِّد صورة الآخر وسلوكه معه سواء للتكيُّف مع الآخر والتحايل للبقاء أو لقهره والتسلُّط عليه. والثقافة هنا وليدة وضع كلٍّ منهما وظروفه وإمكاناته التي تدعم أو تخذلُ مصالحه. وفي ظل الفقر والكدح والشقاء والبؤس وفقدان الحيلة احتفَظ المصري بعقائدَ تؤكِّد أن الحياة الدنيا ابتلاء وتبشِّر الصابرين. واحتفَظ بقصصٍ شعبي يؤكِّد انتصار الخير على الشر مهما طال الصراع أو الصبر. ونجد هذا القصص متواترًا على مدى القرون ابتداءً من انتصار حورس على إله الشر ست، بطولات هي ضربٌ من التخييلات التعويضية.

وتمِّثل ثقافة السلطة الوجه النقيض للثقافة العامة. إنها الثراء الفاحش السفيه، ومظاهر الأُبَّهة والتعالي الأجوف واهتبال الدنيا، والقسوة في المعاملة مع الغير وسوء الظن به، وأن البطش حكمة أصحاب السلطان في التعامل مع المحكوم، والدنيا غنيمة وفرصة قد تزول أو تُفلِت سريعًا من بين يدَيه عندما تدول دولته. وكان واقع حياة الصفوة من الأجانب المتربعين على سلطان البلاد صراعًا شرسًا فيما بينهم، واقتتالًا دمويًّا حول الفريسة. ويدور الصراع والفريسة مهيضة إلا من انتفاضاتٍ غير متكاملة أو غير مطَّردة. ومع هذا الشَّرَه وتلك القسوة يخشى السلطان وصفوتُه نُذر السقوط. إنه يجمع في نفسه ووجدانه جبروت السلطة والخوف من السقوط.

وتَولَّد وجدانٌ ثقافي يجمع ثنائيةً نقيضية متكافئة ومتلازمة Ambivalence تشتمل على قيمتَين سلوكيتَين؛ التسلُّط والخضوع، وجهَين لعملة واحدة. الإنسان إما أن يخضع ويستسلم وينافق ويداري أصحاب السلطان إذا كان رعية، وإما أن يتسلَّط ويتجبَّر حين يكون حاكمًا فيكون له الثراء والقوة والعظمة والحكمة وتخرس أمامه جميع الألسنة؛ أي يكون إلهًا على الأرض له الطاعة والمشيئة؛ فهذه هي مظاهر السلطة. ووَجدَت هاتان الثقافتان غذاءً في العقائد الدينية المتوارثة. واستدخل المصري هذا الوجدان الثقافي المؤلَّف من ثنائيةٍ نقيضية والذي يتربَّى عليه خلال التنشئة الاجتماعية ليستقر في اللاشعور حتى ليبدو طبيعة، وعبَّر عنه في الأمثلة العامية وعاء الفلسفة الشعبية:
  • فلاح مكفي سلطان مخفي.

  • إيد تبوسها وعايز تقطعها.

  • إن كان لك عند الكلب حاجة قل له يا سيدي.

  • ارقص للقرد في دولته.

  • اتمسكن لما تتمكن.

  • اللي يطاطي لها يفوت.

وأضحت الشخصية الانفصامية «الشيزوفرينية» على مدى القرون محور ثقافة الشعب في تعامُله مع السلطة، وأضحت الشخصية البارانوية أو السلوك القائم على مشاعر العظمة هو محور ثقافة أهل السلطة.

  • إكمن أبوك سَنجَق داير على حل شعرك.

  • حاكمك غريمك إن ما طعته يضيمك.

  • حد يقول للغول عينك حمرة.

  • سيف السلطنة طويل.

  • العين ما تعلاش على الحاجب.

ترى المصري صاحب الوجدان الثقافي الانفصامي يحكُمه الخوفُ من بطش الآخر صاحب القوة والجبروت بحُكم السلطة، ويؤرِّقه العجز عن المواجهة أو العجز عن التعامل الكَفُوء وتُضنيه مشاعر الإحباط والسلبية وفقدان الحيلة.

  • البيضة متكسرش حجر.

  • اعمل انت يا شقي لهذا المتكي.

  • حكم القوي على الضعيف.

ولكن المصري يعوِّض هذا كلَّه بأحلام اليقظة ليرى نفسه في تخييلاته على نقيض واقعه فيَشْفي غليلَه بأوهامه المجسدة، ويعوِّض مظاهر النقص والعجز، ويتمنى لو ظل حالمًا مع هذه التخييلات أو يستعين بالصبر طمعًا في جزاءٍ مُرجأ بعيد.

ويتجلَّى الوجه الآخر للوجدان الانفصامي وهو الوجه البارانوي لدى أصحاب السلطان في مظاهر الأُبَّهة والتعالي تأكيدًا للتميُّز والعظمة والتكبُّر والتجبُّر مع اشتراط الطاعة والخضوع والخنوع تعبيرًا عن الولاء. ويقترن هذا بمشاعر الشك وعدم الثقة في الآخر. ويشكِّل هذا بالضرورة أرضيةً للتفرُّد والاستبداد والحُكم المطلَق والمسئولية المطلَقة .. النقيضان معًا التسلُّط والخضوع وجهان لوجدانٍ ثقافي واحد راسخ في النفس، وجودُ أحدهما شرط لوجود الآخر .. ومن ثَم ثقة مفقودة من الطرفَين على مدى القرون وإن انفرد كلٌّ بحيلته ووسائله. وهكذا تراكَم وتراكَب الوضع المَرَضى الاجتماعي .. وتشكَّل ما يمكن أن نُسمِّيه مع حالة الانفصام حالة الانسلاخ عن الذات Depersona Lization وحالة الانسلاخ عن الانتماء القومي، لدى اليائس المحبَط المستذَل.

وهكذا نشأت وامتدَّت على مدى القرون ثقافتان؛ مصر العامة ومصر السلطة، ليس بينهما تفاعلٌ نقيضي يولِّد حركةً جدلية تدفع إلى مركَّبٍ جديد هو ضربٌ من الإصلاح والمصالحة، بل خصومة وعداء ينعكس أثرهما سلبًا على بِنية المجتمع في علاقاته ووجدانه وأدائه.

لم تعُد مصر منذ الغزو الفارسي وحتى منتصف القرن العشرين مجتمعًا حسب الصورة السوية التي أشرنا إليها في صدر كلامي. سلطةٌ أجنبية ليست عضويًّا بعض النسيج الاجتماعي، لا تحمل ثقافته، ولا تعرف تاريخه، ولا تؤرِّقها همومه وآلامه ولا تنشُد استعادة مجده الحضاري موصولًا بنهضةٍ قومية عصرية. وليس بينها وبين القوى المُنتِجة تفاعُلٌ أو تغذيةٌ متبادلة. وأوَّل شرخٍ في جدار المعزل العنصري حدث في عهد محمد علي الذي كان مناسبة لا سببًا. وهذا هو الشرخ الذي أفضى إلى ظهور أحمد عرابي ورفاعة الطهطاوي لتعود إلى الظهور وبعد غيبةٍ امتدت قرونًا كلمة الوطن المصري. سلطاتٌ أجنبية تعاقبَت هي أداة قهرٍ وجباية صادرَت مصر لحسابها أرضًا وحصادًا وبشرًا وشرفًا وعِرضًا. وتحطَّمَت الرابطة الاجتماعية، وتحوَّل المصريون إلى أفراد، وانتفت بينهم روح الاجتماع والمعاشرة الاجتماعية أساس توليد الثقافة الاجتماعية. وسقطَت العلاقة الجدلية بين الفكر والفعل. وهكذا يكدَح الفلاحون أفرادًا، والمجتمع الذي لم يعُد موجودًا في صورته السوية لا يُنتِج فكرًا أو معرفة، وأضحت الخرافة غذاء الإنسان، والفردية قاعدة، والتناحُر أسلوبًا، وتداعت أسبابُ التطوير الجمعي للمجتمع ثقافةً وفكرًا وأدوات.

وتوارثت الأجيال قرونًا ثقافة اللامبالاة واللاانتماء واللامسئولية والفردية والنفاق والتناحُر والخوف من أصحاب السلطان والعدمية.

  • إيش تبالي السما بعياط الكلاب.

  • دیار مصر خيرها لغريبها.

  • صباح الخير يا جاري إنت في حالك وانا في حالي.

  • اللي ما تقدر عليه فارقه وإلا بوس إيده.

  • إن جاك الطوفان خد ابنك تحت رجليك.

وتوارثَت الأجيالُ الثنائيةَ النقيضة للوجدان الثقافي. لم يعُد المصريون تجمعهم صورةٌ مشتركة عن مجتمعهم وما يأملونه له. وليست السلطة هي سلطة حاكمٍ مصري يسألونه العدل وإشباع الحاجة ويُخاطبهم بروحهم الثقافية. وحين نقول توارثَت الأجيال هذه الثقافة فإننا نعني يقينًا أنهم توارثوا سلوكياتٍ مطابقةً لهذه الصورة عن العالم والمجتمع وعن تلك القيم الحاكمة؛ فالثقافة من بين معانيها انتقالٌ وراثي أو متوارث للنمط الظاهري Phenotypic Transmission أعني توارُث الأنماط السلوكية.
  • يبني قصر ويهدم مصر.

  • آخر خدمة الغز علقة.

  • إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه.

  • تشارك الجندي مين يرطن لك، وتشارك البدوي مين يحسب لك؟

  • جور الغز ولا عدل العرب.

  • نوم الظالم عبادة.

  • يا بخت من كان النقيب خاله.

  • الدار دار ابونا والغرب بيطردونا.

وما أحوجَنا إلى أن نستكشف، ومن زاويةٍ تاريخية وسوسيولوجية ونفسية وأخلاقية ومعرفية، حقيقةَ العلاقة الجدلية بين صورة الذات، نشأةً وتطورًا على مدى القرون وبين تصوُّر الذات للآخر؛ أعني صورة الذات لدى المصري وتصوره للآخر وكذا صورته لدى هذا الآخر صاحب السلطان، وما هي الآثار العملية المترتبة على ذلك. تُرى ما الذي استقر في وعي المصري وهو في معزله العنصري، وحدَّد من خلاله هُويته الذاتية وقد غابت عنه، وغُيَّبَت عنه أيضًا، في جميع الأحوال، صورة المجتمع في وحدةٍ متكاملة تاريخًا ومكانًا؟

ويمكن القول كان هناك بالفعل، في الممارسة العملية وفي الأذهان، نوعٌ من المحورية العرقية تحكُم سلوكَ وتوجُّهات أصحاب السلطان، الذين عاشوا في قطائعهم أو مدنهم؛ مصري فلاح في ناحية على الدوام، ويوناني أو روماني أو عربي أو تركي أو مملوكي في ناحيةٍ أخرى، إلا إذا سقط عن السلطة تحت سنابك خيل خصمٍ منافس له واضطَره إلى الفرار فإنه يلوذ بدیار مصر ولكن حاملًا وجدانه الثقافي المغاير. وهكذا فعل على سبيل المثال الألفي بك بعد هزيمته الساحقة وقف عند الأهرامات يخطب مناجيًا الأهرامات وتاريخ مصر.

وكان المصري على الدوام، ومن منطلَق الضعف والمذلَّة، إذا ما شاء التقرُّب زُلفَى فإن ضريبة الاقتران أن يتنكَّر للعِرْق المصري، ويُشارِك في السخرية منه ولعنة الشعب. إنه لا يستطيع أن يحتمي بتاريخه ولا أرومته ولا بنفسه ولا ببني شعبه ولا بحضارته السابقة، فإما أن يشارك التنكُّر لها والنكير بها وينسلخ عن ذاته التاريخية ليبدأ طريق الصعود الفردي تابعًا متوحدًا مع الخصم، وإما أن يلزم الصمت الذليل ليبقى حيث هو.

  • بات كلب واصبح سبع.

  • الخشب اللين مينكسرش.

  • أقل عيشة أحسن من الموت.

  • عود في حزمة يعمل إيه؟

  • بوس الإيد ضحك على الدقون.

امتلأ القلب خوفًا من السلطان الأجنبي ورموزه، وشاعت ثقافة الخوف يغتذي عليها المصري منذ طفولته، وبات الخوف أكبر خصمٍ وأخطر عدوٍّ حالٍّ فينا يقوِّض كل محاولات النهوض واستنهاض الهمم لبناء أمة. وامتد غرسُ الخوف وضرب بجذوره فسادت نزعاتُ العدمية، ومن مظاهرها اللامبالاة واللامسئولية وعدم الانتماء واليأس والإحباط وأنْ لا جدوى من شيء.

  • إن عمل ولا ما عمل متعوس وخايب الأمل.

  • جا يتاجر في الحنة كترت الأحزان.

  • حداية من الجبل تطرد أصحاب البلد.

  • خدوا من فقرنا وحطوا على غناهم.

  • دنيا فانية ومحدش واخد منها حاجة.

  • عود في حزمة يعمل إيه؟

  • مالي ولا يهنالي.

  • مطرح ما ترسي دق لها.

  • لا ناقة لي فيها ولا جمل.

  • الموت راحة.

  • المتغطي بالأيام عريان.

وأصبحنا نخاف الحقيقة، نخاف من ذكر تاريخنا ناهيك عن الاعتزاز به، نخاف تأكيد الرابطة المشتركة، نخاف الإفصاح عما في ضمائرنا. وربما يلوذ المرء بالليل يبُثُّ ظلمتَه أنينَه ويناجيه خفيةً ويشكو ظُلمَه وتعاستَه .. وعمدَت السلطات أن تُنسيَنا انتماءنا أو تغرس فينا ثقافةً تجرِّم تاريخنا وتلعنه، فأصبح المصري لا يعرف عن نفسه إلا أنه رعية في ذمةِ آخرَ متسلِّط، وإذا سألتَه عن نفسه قال كمثال أنا رعية عثمانلي .. الخوف دائمًا ومن كل شيء.

  • من خاف سلم.

والأمان في التوحُّد مع الغاصب المتسلِّط بينما معرفة الحقيقة والجُرأة من أجلها هما أوَّل قيم الخلاص .. الخوف والتخويف أداةُ الغاصب لاستمرار التسلُّط والخوف أداة المصري للسلامة .. وإنها لمفارقةٌ قاتلة للنفس.

وليس معنى هذا أن الذل طبيعةٌ في المصريين كما ذهب المقریزي، ولا أنه لم تكن هنا مواقفُ تدين الفرقة وتلتمس القوة في رأب الصدع ووحدة الصف، علاوةً على السخرية من السلطات الأجنبية ورموزها. حقًّا كان يبدو هذا صوتًا خافتًا شديد الخفوت في أغلب الأحيان، ولكنه في أحيانٍ قليلة يغدو صوتًا عاليًا ملء الأسماع حين تكون الظروف مُهيَّأة للمواجهة والمقاومة في محاولة للنهوض.

  • زي بعجر أغا ما فيه إلا شنبات.

  • زي شحَّات الترك جعان ويقول موش لازم.

  • آخرة خدمة الغز علقة.

  • حداية من الجبل وتطرد أصحاب البلد.

  • الكل في الحلاقة بيطاطي راسه (عكس طاطي لها تفوت).

  • محدش أحسن من حد.

  • اللي يربط رقبته في حبل ألف من يسحبه.

  • اللي يوطِّي راسه يتركب.

  • اللي قيدني بيفتل لك.

  • إيد واحدة متسقفش.

  • البركة في كتر الأيادي.

  • البطيخة متكبرش إلا في لبشتها.

وأضحت حياة المصري أو ثقافته ذاتَ وجهين ظاهرًا وباطنًا. ويمثَّل هذا جذر الفهلوة أو الشخصية الفهلوية في مصر .. تحايُل لبلوغ المآرب، تغيُّر في الظاهر دون الجوهر.

  • بوس الأيادي ضحك على الدقون.

  • إن دخلت بلد تعبد العِجل حِش وادِّيله.

  • الإيد اللي ما تقدر تقطعها بوسها.

والمصري في هذا هو المنفيُّ الفعَّال، المكبوت قهرًا، يتحيَّن فرصة لينطلق يعوِّض الحرمان .. وإذا حانت الفرصة بغير وعيٍ ثقافي اجتماعي ثوري في إطار عملٍ جماعي فإنه يغدو سلوكًا فرديًّا وغرائز منفلتة متناحرة، بل ومدمرة لبنية المجتمع؛ أي ينصبُّ جهد الفرد، دون الجماعة، من أجل تعويض حرمانٍ غريزي فردي عند أدنى المستويات مقطوع الصلة برؤيةٍ اجتماعية شاملة ينتظم في إطارها سلوكُه متساميًا، بنَّاء، وحضاريًّا.

•••

وتدور بالذهن هنا أسئلة أربعة:
  • ألم تكن السلطة الفرعونية سلطةً أبوية قاهرة؟

  • ماذا عن الثورات الاجتماعية بقيادة المماليك وقد كانوا دخلاء؟

  • ما العمل؟

  • ماذا عن المثقَّف والسلطة في التاريخ؟

عن السلطة الفِرعَونية

حريٌّ أن ننظر إلى المجتمع المصري القديم في إطاره الحضاري وليس من منظور حضارة العصر الراهن؛ إذ كان المجتمع مجتمعًا أبويًّا بما يتلاءم مع عصره، والسلطة امتدادٌ طبيعي للتطور الاجتماعي وبعض النسيج العضوي للمجتمع. والفرعون يحكمه إطارٌ ثقافي دیني مشترك بينه وبين أبناء المجتمع. وتمثِّل العدالة «ماعت» النظام الأخلاقي الاجتماعي الحاكم .. والفرعون مسئولٌ عن ضمان تحقيقه في المجتمع أمام الله.

وكان المصري يقدِّم جهده وفائض عمله تقدمةً مرضية للفرعون ظل الله في الأرض لاستثماره داخل البلاد ولصالح المجتمع، ويشعر بالأمان في ظله، وبالثقة في دفاعه عنه، وأنه له ومنه. وإذا نشب صراعٌ اجتماعي فإنه لتصحيح أوضاعٍ أو لتداوُل سلطة ولكنه صراع داخل المجتمع الواحد. هذا فضلًا عن أن المصري كان راضيًا مبتهجًا بالحياة يُغني لها ويُقبل عليها، وكانت النصائح له وللفرعون على السواء، وقادرًا على أن يُبلِغ المسئول أو الحاكم شكواه منتظرًا عدله. والتناقُض داخل بنية المجتمع ظاهرةٌ طبيعية، وهي الحافز إلى التغيير والتطوير على عكس الحال حين تكون على رأس المجتمع سلطةٌ غازية أجنبية.

ولننظُر إلى بعض التراث الثقافي المصري القديم بشأن علاقة المصري بالسلطة أو ثقافة الفرعون أو نظرة الإنسان العام للحياة.

يقول الفلاح الفصيح في شكواه لموظَّفٍ ممثِّل للسلطة:

«إنك تضربني وتسرق متاعي وبعد ذلك تغتصب الشكاية من فمي .. لا تنطق كذبًا واحترس من الحكَّام .. لا يجوز وجود الظلم مع قانون.»

وهذا موقفٌ من السلطة يتسق مع حضارة ذلك العصر.

ومن النصائح التي يلقِّنها الحكيم للأمير:

«الملكُ ذو العقل المحايد يُفلِح حاله .. أقم العدلَ لتوطِّد مكانتك فوق الأرض، وواسِ الحزين، ولا تعذبن أرملة، ولا تحرمن رجلًا من ميراث والده .. لا تكونن فظًّا؛ لأن الشفقة محبوبة، وأسِّس آثاركَ على حب الناس.»

ولا ينفي هذا وجود مواقفَ مناقضة مثل تعاليم تقول للأمير:

«خذ الحذَر من مرءوسيك لأن الناس يُصغون لمن يُرهبهم، ولا تثقَن بأخ، ولا تعرفن لنفسك صديقًا.»

ونذكُر من النصائح الإنسانية العامة التي يتربى عليها المصري:

  • احذر أن تسلب فقيرًا بائسًا.

  • واحذر أن تكون شجاعًا أمام رجلٍ مهيض الجناح.

  • الممقوت من الله يزوِّر في الكلام.

  • لأن أكبر الكبائر عند الله النفاق.

وبينما نرى المصريَّ الآن ترسخت في نفسه أمثالٌ عن العدمية والخوف؛ وإذا ما أغرق في الضحك تطيَّر وقال: «اللهم اجعله خيرًا.» نجد المصري القديم يقول ويغني:

«متِّع نفسكَ ما دُمتَ حيًّا.»

أو يقول:

«کن طلقَ الوجه ما دُمتَ حيًّا.»
«اقضِ يومك في سعادة .. ليكن الغناء والموسيقى أمامك، واطرح كل الآلام وراء ظهرك.»

عن المماليك

يمثِّل المماليك كسلطة طرفًا له خصوصيةٌ مميزة من حيث الوضع الذي وجدوا أنفسهم فيه قسرًا لا اختيارًا؛ ذلك أن الفرس والرومان والأتراك وفدوا غازین عسكريين لاستغلال موارد البلاد وليس للاستيطان. أما العرب فقد وفدوا غازین عسكريين طمعًا في موارد البلاد، ولكن للاستيطان أيضًا. وعاش هؤلاء جميعًا في عزلة عن المجتمع المصري واستغلُّوا موارد البلاد، وحقَّقوا ثروات، ولكن الأخطر أنهم عملوا على تحويل فائض الإنتاج إلى البلاد الميتروبوليتان. واستغلال فائض العمل في السخرة وتهجير أو استنزاف العمالة الماهرة؛ إذ كانت مصر مجرد بلدٍ لاستحلابه وليس لتطويره.

المماليك وجدوا أنفسهم في وضعٍ آخر مغاير أضفَى عليهم خصيصةً مايزتهم وتكاد تجعلهم أقرب إلى حال العبيد المجلوبين إلى العالم الجديد — الأمريكتين — مع فارق طبعًا؛ ذلك أن المماليك مجلوبون وليسوا غُزاة، جيء بهم من بلدانٍ عديدة لاستخدامهم جنودًا مرتزقة لصالح مماليكَ آخرين أو من يُشبِهون وضع الأمراء، وجرى توطينهم في مصر. حياتهم اقتتالٌ وصراع من أجل السلطة ومغانمها .. وهم في جميع الأحوال سلطةٌ أجنبية. وعاشوا في عزلة عن الفلاح المصري متعالين عليه، ولكن لم يكن أمامهم من سبيلٍ على الرغم من الصراعات الداخلية وحروبهم الخارجية إلا أن يَرَوا بَرَّ مصر ركيزةً لهم ينطلقون منه ويعودون إليه دفاعًا عن مصالحهم المالية والاقتصادية التي تشكَّلَت لهم من موارد البلاد وبحُكم موقعها. ونظرًا لأنْ ليس لهم بلد ميتروبوليتان ينزحون إليه فائضَ الإنتاج المصري فإنهم لم يُصدِّروا فائض الإنتاج إلى خارج البلاد. استغلُّوا الفلاحين ولكنهم احتفظوا بفائض الإنتاج داخل البلاد. وهكذا تراكَمَت الثروات في أيدي أمراء المماليك، ونشطَت أعمالٌ تجارية داخلية وخارجية على الصعيد الإقليمي والأوروبي، وامتلكوا الأراضي، وأقاموا مصانع للأسلحة وأصبحوا مصريين بالانتساب، ويرون مصلحتهم في دفاعهم عن مصر وقوَّتهم من قوَّتها.

ودخلوا في منافسات وحروبٍ إقليمية لأسبابٍ اقتصادية. وكانت البلاد تزدهر أو تنتكس حسب طبيعة ونتائج هذه المنافسات والحروب. علاوةً على هذا فإن توفُّر الثروات في الداخل من فائض الإنتاج المحلي سمح بظهور بعض المشتغلين بالثقافة والفكر. وكان من بينهم مَن يمثِّلون نواةً كان بالإمكان أن تنمو وتتطوَّر وتكسب ملامحَ ملائمة لحضارة العصر المرتقب، لو لم تكن الصراعات المحلية والحروب الخارجية التي هي حروبٌ اقتصادية. وهكذا كان بالإمكان أن يصبح المماليك، دون الغزاة الآخرين، بذرةً أرستقراطية متوطِّنة يمكن أن تدفعها الضرورة إلى تطوير البلاد اقتصاديًّا وصناعيًّا، بل وظهور فكرٍ مصري جديد وتكون منافسةً لأوروبا.

وهنا يفيد كثيرًا كتاب الدكتور عماد الدين أبو غازي «الجذور التاريخية لأزمة النهضة في مصر»، والذي يحدِّثنا فيه عن الولاة خلال القرنَين الخامس عشر والسادس عشر وكيف كانت مصرُ على أعتاب تحوُّل، أو إمكانات تحوُّلٍ اقتصادي وفكري تنتقل به من الميركانتيلية إلى النهضة الصناعية. وهذان قرنان مفصليَّان في تاريخ التطوُّر العالمي بالنسبة لمصر والهند والصين وأوروبا، ولكن أوروبا من خلال صراعاتها الممتدة ومناوراتها واستغلال الشرق ثم محاولة الالتفاف حول طريق رأس الرجاء الصالح، وأخيرًا ما يُسمَّى اكتشاف العالم الجديد واستغلاله مجانًا وتحقيق تراكُمٍ رأسمالي كبير .. تهيَّأَت لها إمكانات الإطاحة بمظاهر التطوُّر الحضاري في الشرق لأسبابٍ متباينة، ومن بينها مصر التي خضعَت لسلطان الغزاة الأتراك الذين نهبوا الكثير من ثرواتها والعمالة الماهرة. ونزحَت تركيا فائض الإنتاج وفائض العمل حتى كان محمد علي الذي سعى، وفاءً لأطماعه، إلى تحديث المجتمع المصري، واستعان بالفلاحين ليؤلف جيشًا يدين له بالولاء. وهكذا كسر جدار المعزل العنصري، وظهر لنا الشيخ رفاعة الطهطاوي ليكون أوَّل من يحدِّثنا عن مصر الوطن والحضارة، ثم أحمد عرابي القائد العسكري الذي ثار باسم الفلاحين.

ما العمل؟

نعم منذ منتصف القرن العشرين أضحت السلطة عضويًّا من نسيج المجتمع المصري تتويجًا لنضالٍ امتد على مدى القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. تولَّت مصر سلطةٌ تحمل ثقافته وهمومه وتحتجز فائض الإنتاج والعمل لاستثماره، وتنتمي إلى تاريخ مصر وتعتز به، يحدوها أمل النهوض بالأمة حتى وإن تعدَّدَت الرؤى.

ولكن حريٌّ أن ندرك أن ما خلَّفَته قرون القهر والتسلُّط والاغتراب، وما غرسَتْه هذه القرون في النفوس من وجدانٍ ثقافي سقيم ليس طبيعة ولا جبلَّة ولا قدَرًا محتومًا بل أمرٌ قابل للتغيير. إن ما ولَّدَته ظروف وأوضاعٌ حياتية تغيِّره ظروف وأوضاعٌ جديدة تثور على هذا الماضي الكئيب. وطبعيٌّ أن ما صنعَتْه قرونٌ طويلة لا تمحوه بضعة عقود، كما لا تمحوه مواعظُ وكلماتٌ تجري على ألسنة أفراد داخل سياقٍ اجتماعي يعزِّز فقدان الثقة، ويؤكِّد زيف الكلمات في إطار صراع المصالح الذي يرسِّخ الصدع التاريخي بين العامة والسلطة؛ إذ يرى أحد الأطراف أن مصلحته في إشباع هواه المتمثِّل في الحفاظ على صورةٍ تقليدية موروثة، وما أكثر مَن يحرِّكُهم النهَم لإشباع غرائزهم وتعويض نقصهم واللحاق بأوهام وأحلام اليقظة التي ترسَّبَت في نفوسهم بفعل طول الحرمان حتى أضحى قيمةً غالبة!

القضية الملحة والهدف الأساسي المنشود هو بناء الإنسان المصري، إنسانًا ومجتمعًا، وجدانًا ثقافيًّا وانتماءً اجتماعيًّا، وعلاقاتٍ متبادلة، وروحًا معاشرة مشتركة بين العامة وبعضهم وبين العامة والسلطة. ولن يتأتَّى هذا إلا بتوفُّر شرطَين متلازمَين؛ أولهما تنويرٌ فكري يشمل جميع مناحي الحياة، وعناصر الرؤية الاجتماعية ليرى الجميع صورة المجتمع على نحوٍ مشترك وصحيح. من ذلك تقديم تاريخ مصر تأسيسًا على رؤيةٍ موضوعية عقلانية نقدية مُبرَّأة من الانحيازات الأيديولوجية التي تراكمَت على أيدي وبفعل سلطات الغُزاة المتعاقبين وآخرهم الانحياز الأيديولوجي الأوروبي. وكذلك أن نمحو مرةً وإلى الأبد الشعور بالذنب تجاه مصر الفرعونية؛ فهو إرثٌ أيديولوجي لا تاريخي. وإن الدعوة إلى العولمة لن تُلغيَ أبدًا التاريخ إطارًا خبریًّا وامتدادًا ماضويًّا للإنسان/المجتمع.

وثانيهما حشدُ الجهود وتعبئةُ الطاقات ديمقراطيًّا من أجل الانتماء إلى حضارة العصر، حضارة العقل العلمي العلماني أساسًا للفكر والإنتاج وما يقتضيه هذا من تحوُّلاتٍ جذرية في مجالات التنشئة الاجتماعية والتعليم والإعلام والمؤسَّسات العلمية؛ أعني إحداث تحوُّلٍ حضاري يؤسِّس بِنيةً وعلاقاتٍ اجتماعيةً مغايرة تستوفي مقتضيات حضارة العصر التي تعتمد على الإنسان العام عنصرًا فاعلًا مبدعًا ومشاركًا بإيجابية في صنع الحياة الاجتماعية .. أي يكون هو عنصرًا مكملًا ومتكاملًا مع السلطة، أو لنقُل أن يدرك عن وعيٍ وبشهادة الممارسات العملية أنه مصدر السلطة ديمقراطيًّا وعلى جميع مستويات إدارة النشاط الاجتماعي. وهكذا يسترد الإنسان العام بناءً على الخبرة والمشاركة العملية عوامل الثقة والانتماء، ويقوى على الخطو اجتماعيًّا من أجل البناء ويقيم جمعيًّا مجتمعًا متكاملًا واحدًا متحررًا من مشاعر الغُربة والاغتراب، وقادرًا على مواجهة التحديات ..

إن التحوُّل الحضاري للمجتمع، إلى حضارة التصنيع والمعلوماتية يعني، حين يصدق العزم، أن المجتمع حكامًا ومحكومين يَرونَ الحقيقة سبيلَهم إلى التغيير، وأنَّ تبايُن وتعدُّد الآراء إثراءٌ للفكر وتصحيحٌ للرؤى بشهادة الواقع الاجتماعي. وهكذا تكون للحقيقة في الفكر وفي السلوك السيادة والهيمنة. وأعود لأقول، وفي ضوء الفصول السابقة، إنَّ ما ننشُده ليس تنميةً ثقافية؛ إذ أي ثقافةٍ تلك التي نعيشها نريد أن ننمِّيها، وإنما ننشُد تحولًا حضاريًّا ينقلنا إلى حضارة العصر وثقافتها التي ينتفي بها اغترابنا في الزمان وفي المكان.

المثقَّف والسلطة

لم يكن المثقف المصري استثناءً في هذا التاريخ؛ فهو إفراز وصنيعةُ هذا الوعاء الثقافي وامتدادٌ له. وكانت السلطة تاريخيًّا ولا تزال هي التي تقوم بدور المثقَّف المسئول عن صَوْغ الإطار الفكري المقبول لديها ويتحرَّك المثقف في حدوده. ويبدو واضحًا أن المثقَّف المصري يتحمَّل عبئًا وطنيًّا ملحًّا ومسئوليةً مقدسة تقتضيه أن يجاهد نفسه وينتصر على ثقافته الموروثة الحاكمة لسلوكه حتى يكون عونًا صادقًا للسلطة وللأمة على السواء. لقد كان المثقَّف المصري على مدى التاريخ مسئولًا قبل العامة عما أصاب المجتمع من نكباتٍ إذ انتصرَت عليه ثقافة الخوف والفردية واللامسئولية ومن ثَم التبعية. ولا ينفي هذا استثناءات محدودة قهرَتْها السلطات.

والتمَس المثقَّف المصري على مدى القرون، بثقافته تلك، سبيلًا للرعاية والترقي في أحضان السلطة؛ إذ ظل المثقَّف موظفًا تابعًا لسلطةٍ أبوية، يُنتِج ثقافة، على نحوِ ما يُنتِج الفلاح غلةً أو الحرفي سلعة، ملزمًا بتقديم الخراج أو دفع الضريبة ولاءً وطاعةً في صورة فكرٍ مقبول يكفُل هيمنة الأب الكبير. هكذا كان حال المثقَّف المصري على مدى عهود التسلُّط الأجنبي موظَّفًا لدى السلطاتِ وبشروطها. وأضحى هذا السلوك تراثًا ممدودًا.

وطبعيُّ أن المثقف في تبعيَّته التاريخية للسلطة يُصبِح أداةَ هيمنةٍ لحسابها وذلك بترويج الأيديولوجيا الداعمة لسلطانها. إنه ليس مثقَّفًا مسئولًا عن المجتمع بعامةٍ يمثِّل بفكره عقلًا ناقدًا وقدرةَ تنبُّؤٍ علمي واستشرافٍ مستقبلي، ومن ثَم قوة دفعٍ لتطوير المجتمع وتوعية الجماهير والسلطة؛ ولهذا ووفاءً لمصلحةٍ فردية وفي إطار التناحُر بينه وبين أقرانه، الذي هو إرثُ قرونِ التفكُّك الاجتماعي والتسلُّط، يتجاوز بفكره وجهده المجتمع، وتترسَّخ نزعته الفردية وليدة الخوف والقهر والتي أصبحَت مع الزمان طابعًا متوارثًا، وحكمةً لمن يأتي بعده يُؤثِر السلامة وينشُد الترقي.

وأدَّت نزعة الخوف والتبعية إلى أن فقد المثقَّف استقلاله الذاتي واعتزازه بفكره، وبات يخاف الإبداع والخروج على التقليد أو مجاوزة النص؛ ومن ثَم لا يلتمس المعرفة من خلال فهم واقعِ حياته وتاريخها على أساس منهجٍ عقلاني نقدي حر، بل يرى الحكمة تأتي على لسان السلطة، سلطة سياسية أو دينية ماضوية.

وليس غريبًا أن تصبح التبعية نهجًا يلتزمه المثقف حتى إن الرافضين للواقع يستقون معارفهم من مصدرٍ آخر غريب، دون ذواتهم، شريطة ألا يجهر به ما دامت تتعارض مع رؤى ومصالح السلطة. وهذا ما نراه من سلوكيات المثقَّف في تبعيته لمراكز إنتاج الفكر في الخارج حين يتبنَّى مثلًا تيارات الفكر الغربي في عصرنا دون وعيٍ عقلاني نقدي. وليس غريبًا أيضًا أن يظل التقليد حاكمًا للعقل وتسود بين الناس عقليةُ استظهارِ النص والاحتكام إليه والتحرُّك في إطاره؛ فهذا أيضًا ضربٌ آخر من التبعية، وتمتد الحياة رِطانًا مقطوع الصلة بواقع الحياة المتغيِّرة أبدًا، عاطلًا من أي رؤيةٍ مستقبلية. بينما الصدق ليس صدق المحاكاة، وليست أصالة الفكر تبعيةً للنص بل وفاءٌ موضوعي للواقع الحي تأسيسًا على منهج تفكيرٍ علمي.

١  Manuel Castells, The Information Age: Economy, Saciety and Culture. 3 Vols. Blackwell, 1996. pp. 20–23.
٢  د. مصطفى النشار، «مدرسة الإسكندرية الفلسفية»، ص١١٨–١٢٣، دار المعارف، ١٩٩٥م، القاهرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤