الهوية الإسلامية والوعي الزائف
مشكلة الهُوية الإسلامية عندنا مشكلةٌ زائفة مغلوطة؛ ذلك أن الهوية في نظرنا كينونةٌ متجانسة كاملة وناجزة في زمانٍ ما ومكانٍ ما، سكونية غير متفاعلة ولا متطورة .. إنها ليست نسيج الواقع الحياتي.
واختزَلْنا الهوية في بعض مقولاتٍ تاريخية انتقائية .. أي إسلام نقصد وهناك العديد؟ وأي مقولاتٍ لأي مذهبٍ إسلامي نلتزم بها دون سواها؟ أو لأي مفكِّر أو فقيه أو إمام؟ وما قبل ذلك منفيٌّ قسرًا، وغير ذلك منفيٌّ اعتسافًا، والجديد مرفوضٌ فكرًا .. ويتخلَّف الحنينُ إلى المقولات التي استقيناها بعد أن مضى زمانها فأضحَت تهويمًا وتحليقًا في فراغ الزمان والمكان. وها هنا نُوقِف حركة المجتمع والإنسان والزمان والفكر. ونعمد إلى القياس على ماضٍ اتخذناه معيارًا، ونرى الخروج عنه انسلاخًا عن الأصل، ونتحوَّل إلى كتلةٍ شائهةٍ بدون أصالة، بينما الأصالةُ ليست جحودًا لواقعية الظاهرة، ولا نُكرانًا لتاريخيَّتها.
الهُوية هي الوجود الاجتماعي النشِط الفعَّال المتجدِّد المبدع، فهذه أصالته. وهكذا تزدهر الأنا الاجتماعية أو الهُوية. ومع التطور الاجتماعي، وتغيُّر الواقع تنشأ ثقافةٌ جديدة .. صورةٌ جديدة عن الذات والعالم .. بنيةٌ جديدة للأنا الاجتماعية لا تنفي السابق، ولكنها بنيةٌ تعلوه .. بينهما تراكُب .. اتصال وانفصال .. وقطيعةٌ معرفية تطوُّرية.
إن الإنسان/المجتمع حين يكُفُّ عن الإسهام المتجدِّد في العملية التاريخية ببناء حضارةٍ مرحلية الارتقاء من صُنعه، ومُعبِّرة عنه خصوصيةً وجهدًا ماديًّا إبداعيًّا وفكرًا هنا تضيع هُويته، ويفقد تفرُّده .. فالهوية عين الوجود الإنساني الفاعل النشِط في الزمان والمكان.
والوعي بالذاتية هو وعي بهذه الصيرورة التاريخية بكل تفاعُلاتها وتناقُضاتها .. إنه وعيٌ عقلاني نقدي دافع لحركةٍ مستقبلية هي تجاوُز وارتقاء وتجسيد لمعنى التلاحُم بين الفكر والعمل الاجتماعيَّين، وتجسيد لمعنى وأساس الانتماء .. وهي تجاوُز لمعنى وخصوصية العقيدة وإن احتوَتْهما.
والوعي بالذات ليس مظهرًا سلبيًّا قابلًا، بل إنه عاملٌ نشِط إبداعي فعَّال لأنه وليد التلاحُم الإنتاجي بين الذات والمجتمع والطبيعة، والذي يُعبر عنه في صورة منتجٍ حضاري، ورغبات حاجاتٍ مطَّردة التغيير تدفع إلى مزيد من الإنتاج الإبداعي المعبِّر عن خصائص الذات الخالقة، وهي خصائصُ زمانيةٌ مكانية، وعن صورة انعكاس العالم الموضوعي في أذهان أبناء المجتمع، وعن ثراء هذا العالم بفضل النشاط الاجتماعي الإبداعي.
وحين نقول الهوية الإسلامية فإن المقصود، أو المفترض، هُوية مجتمعٍ بشري في التاريخ. ولكن هل هوية المجتمع هي العقيدة الدينية بحيث تمثِّل العقيدة أسس نشأة وتكوين تلك الصيرورة أو الهوية الاجتماعية في الزمان وفي المكان، ومن ثَم نعتبر هذا معيارًا لكل المجتمعات؟ بمعنى هل تاريخ نشأة وتكوين العقيدة هو عين تاريخ نشأة وتكوين المجتمع ومن ثَم نقول إن خصوصيتهما واحدةٌ ومتطابقة؟ إننا إذ نُقرِّر أسبقية العقيدة على التاريخ الاجتماعي يعني أننا نضع العقيدة خارج التاريخ ونضحِّي بهذا التاريخ لحسابها؛ أي نُضحِّي بالثقافة الاجتماعية بمعناها الأشمل والأوسع والأعرق. وهنا نُحِل المقدَّس (وهو مطلَقٌ لا تاريخي) محل الطبيعي التاريخي، ونفترض أن هُوية المجتمع وليدةُ المقدَّس ونابعةٌ من خصوصيته وليس العكس.
إن الإنسان المجتمع يتفرَّد ويتميَّز بصفاتٍ خاصة من خلال الصيرورة التاريخية التي هي تفاعُل حي إرادي عقلاني في بيئةٍ طبيعية جغرافية من خلال الوجود الإنساني المتمثِّل في المجتمع لا الفرد. وهكذا تنشأ وتتكوَّن الخصوصية أو الهُوية الاجتماعية على مدى بُعدَي الزمان والمكان لزومًا. وهكذا أيضًا تتجاوز النشأة والتكوين للهوية الاجتماعية حدودَ ونطاقَ ومعالِمَ نشأة وتكوين العقيدة، بل إن الهُوية الاجتماعية هي الأعم ليأتي كلُّ ما بعدها تجليًا لها وتعبيرًا عنها، ويغدو مسمَّياتٍ تعدَّدَت تاريخيًّا في ظاهرها وإن ظَل جوهرها الثقافي الاجتماعي التاريخي واحدًا.