Wave Image

الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل

حالة الفكر اليساري مثالًا

فكر الأمة

سؤالان منهجيان أساسيان؛ متى نقول إن لأمةٍ أو لقطاعٍ منها فكرًا؟ وما منهجنا لدراسة ونقد هذا الفكر الاجتماعي؟ بداية الفكر هو الفاعلية الجدلية بين الذات (الإنسان/المجتمع) والموضوع في تشابُكٍ لا انفصام بينهما؛ حيث لا فكر بدون مجتمعٍ في التاريخ؛ ذلك أن الإنسان لا يُفكِّر إلا في المجتمع. وفكر المجتمع حصادُ تاريخية الفعل أو النشاط الاجتماعي. وهكذا يكون الواقع الموضوعي متحدًا مع النشاط الإنساني الاجتماعي .. ويُشكِّلان معًا كلًّا واحدًا لاحتمالاتِ حركةٍ لا حصر لها.

وهذا النشاط، بحُكم كونه كذلك، هو نشاطٌ معرفي يتكامل الإنسان/المجتمع من خلاله مع العالم. وهو نسقٌ غير مُنغلقٍ بحكم دينامية النشأة والتكوين واطِّراد الفعل؛ إذ حين يتوقَّف الفعل المجتمعي عن الاطراد والتجدُّد يتوقَّف بالتالي عن توليدِ معارفَ جديدة، وينغلق النَّسَق المعرفي بعد أن تنقطع صلتُه بالواقع ويغدو أيديولوجيًّا، ولكن في حالة الفعالية النشِطة المتبادَلة بين الفعل والفكر على المستوى الاجتماعي فإن الفعل يتجدَّد ويكون الفكر ابتكارًا مطَّردًا، أو لنقُل يكون الفكر دائمًا ابتكارًا جديدًا وفاءً لمقتضيات الفعل المجتمعي الهادف العقلاني.

وهكذا يكون الفعل والفكر المجتمعيَّان سَدَى ولُحمة الوعي التاريخي الجَمْعي، وأساس الانتماء والتلاحُم على الصعيد الاجتماعي والصياغة المشتركة لصورة المجتمع بين أبنائه في حركته المستقبلية؛ ذلك أن الفعل والفكر هما المشروع الوجودي الجمعي؛ فمثلما لا يُوجد فكر بدون مجتمع، كذلك الفعل .. إن فكر الأمة ليس حاصلَ تراكُمِ فكرِ أفراد، وكذلك نشاط الأمة، أو الفعل الإنتاجي هو فعلٌ جمعي في تناسُق، وهو مناطُ ومجلَى التفاعُل الاجتماعي الذي هو علَّة ترسيخ الروح الاجتماعية أساس التضامُن الجمعي.

ومن ثَم فإن فكر الأمة هو حاصلُ فعل أو نشاطٍ مجتمعي إنتاجي مترابط في التاريخ والواقع الراهن مستشرفًا المستقبل. ويتعطَّل فكر الأمة حين تتعطَّل هذه العناصر؛ أي حين يتعطَّل الفعل المجتمعي الإنتاجي المطَّرد. ويعيش أفراد المجتمع أسرى وعيٍ زائف وواقعٍ يغلب عليه طابع النمطية والتكرار العشوائي الذي لا يلد جديدًا. وهذا وضعٌ أدنى في سلك التطور الارتقائي وأقرب إلى المستوى الحيواني؛ إذ إن أهم ما يميز الإنسان أن الإنسان/المجتمع يُنتِج حياته اجتماعيًّا، وهذا هو ما نُسمِّيه الحضارة في تطوُّرها بوجهَيها المادي والثقافي. وإنتاج الحياة هو مشروعٌ وجودي ينطوي على ابتكارٍ متجددٍ آليتُه التغيُّر كشرطٍ أساسي للتكيُّف.

ولهذا فإننا حين نتحدث عن فكر الأمة فإننا نُمايِز بين مستويَين موجودَين دائمًا في تناقُضٍ جدلي وحركة:
  • ثقافة معاشة موروثة تعتمد الاطِّراد النمطي أو المحافظة والاستقرار أو السكون. ثقافة لا ترى الوجود ابتكارًا أو لا ترى فيه جديدًا، بل ترى مستقبلَها في ماضيها، في بقاء البنية الاجتماعية على حالها وعلاقتها، وتقف حائلًا وعائقًا دون أي حركة أو تغيير.

  • وفكر هو ابتكارٌ وتجدُّد وتغييرٌ متلاحم مع بنية المجتمع الإنتاجية وصولًا إلى التكيُّف مع مقتضيات الواقع الذي هو عالم من صنع الإنسان. وبذا يكون الوجود المجتمعي دارما حيةً دافعةً أبطالُها أبناء المجتمع، ويكون هذا الفكر فكرًا تاريخيًّا يعي التاريخ في كُليته وحَركيَّته، كما يكون واقعيًّا إذ يعي الواقع في ديناميَّته وتناقُضاته؛ ويكون ثالثًا مستقبليًّا إذ يعي وجهة الصيرورة الاجتماعية.

وتأسيسًا على اقتران الفعل والفكر في علاقةٍ جدلية هي حركة أو تغيُّرٌ مطَّرد يلتمس التكيُّف، فلا بد وأن يكون الفكر المجتمعي فكرًا أو وعيًا نقديًّا؛ ذلك لأن العلاقة الجدلية تقتضي بحُكم اطِّرادها ما يمكن أن نُسمِّيه التغذية المرتدَّة Feeding back التي هي مراجعةٌ مستمرة بين الممارسة والنظر بُغيةَ مواكبة الواقع في حركيَّته التاريخية .. ولهذا يكون فكر الأمة في وضعه الأمثل وعيًا نقديًّا .. ناقدًا لمعوِّقات ولقيود الحركة ولأسباب التجزئة التي تحول دون كُلية النظرة وشمولها، ويكون ناقدًا للغير وللأنا بحُكم علاقة التفاعُل الاجتماعية، وناقدًا للبِنية الذاتية ولبِنية الآخر، وواعيًا بصورته وصورة الآخر .. ثم أخيرًا إنه فكرٌ إنسانيٌّ منفتح غير منغلق يتحرَّك تاريخيًّا في صورة أنساق .. من نسقٍ إلى آخر أكثر تهيُّؤًا لتحقيق التكيُّف والمواكبة المتبادَلة بين الفعل والفكر المجتمعيَّين .. إنه فكرٌ ملازم للتطوُّر ومُحرِّك للتاريخ. وأخيرًا إنه فكر يتَّصف بالشمول والكُلية؛ أعني نسقًا شاملًا مختلفَ أنشطةِ المجتمعِ في تكامُلها الدينامي.

من هنا نقول إن الأمة تُفكِّر لنفسها وبنفسها؛ أي يكون لها فِكرٌ مستقل، ويتوفَّر لها ركن من أركان الإرادة الجمعية حين تعي ذاتها التاريخية في استجابةٍ لتحدياتٍ مفروضة من خلال عملٍ جمعيٍّ هو مشروع عملٍ مستقبلي تُحقِّق من خلاله وجودها الحيَّ المطَّرد. وضمان اطِّراد الفعل والتكيُّف رهن الوعي النقدي للفعل وللفكر معًا على الصعيد الاجتماعي؛ ومن ثَم يكون لتيارات الفكر الاجتماعي على تعدُّدها وتبايُنها مِحورٌ تدورُ حوله وتصُب فيه جهودَها، ألا وهو مشروع العمل الاجتماعي الضامن لحركة النسَق الاجتماعي والمُعبِّر عن أصالة المنبَع والمصير.

وتُشكِّل مؤسسات الثقافة والعلوم في المجتمع الرأس أو العقل المدبِّر والمنسق على أساسٍ عقلاني ناقدٍ يصوغ الإطار المعرفي/القيمي. إنها تعي مبكرًا المعوِّقات المعرفية لحركة الابتكار المجتمعي، وتعي الإشكاليات والتحديات المطروحة التي يلزم مراجعتُها وحسمُها جدليًّا. وهي ضمان أن يكون فكر الأمة تجسيدًا لإنجازات علوم العصر باعتبارها نشاطًا مجتمعيًّا.

منهج نقد الفكر

الإنسان/المجتمع هو الذي يفكِّر وليس الأنا الفرد؛ ذلك لأنه لا يُوجد إنسانٌ يفكِّر بدون مجتمع. وقد سقطَت أسطورة الإنسان المعلَّق في الفضاء والكوجيتو الديكارتي .. وكذا ليس الذي يفكِّر عقلًا محضًا أو مفارقًا، فالعقل ليس كينونةً مستقلة .. العقل ليس هنا .. ولا هناك .. إنه ليس في أي مكان، وهو في كل مكان .. في الإنسان/المجتمع. إنه السلوك الكُلي الذي يتطوَّر ويتقدَّم كوحدة في الزمن .. إنه الدائرة التفسيرية الشاملة للمخ والحواس والتجربة الشعورية، وهو الوظيفة والمجتمع والتاريخ والنَّسَق البيئي. إنه الإنسان/المجتمع، أو الوجود الإنساني الاجتماعي في التاريخ ليُشكِّل هذا كُله ما يُسمَّى المحيط العقلي Noosphere الذي تصدُر عنه أفعال الإنسان .. وهو المسئول عن تحويل بعض نظام العلامات الكونية عَبْر الجهاز العصبي، ومن خلال الفعل في السياق الاجتماعي، إلى نظام علامات التجربة المعاشة.١ إنه فكر في التاريخ، ومرجعيتُه ليست مفارقة، بل في علاقته الجدَلية بالفعل أو الواقع مجلَى النشاط الإبداعي.

والفكر الاجتماعي ليس أفكار أفراد، وليس تراكمًا عدديًّا، بل أنساق؛ ولهذا ننشُد دائمًا الأبنية أو الكُليات.

وهو في حركته التاريخية يتحرَّك من نَسقٍ إلى نَسق. والنسق الجديد يتجاوز القديم، وإن احتواه، ليُحدِث قطيعةً معرفية مع القديم؛ ومن ثَم فإن النسق بنيةٌ متراكبة الطبقات تاريخيًّا، لها نشأة وتكوين وتاريخ في تلاحُم مع الفعل الاجتماعي كدالَّة له. ومعنى هذا أيضًا أن البنية ليست قدَرًا محتومًا ونسَقًا مغلقًا، بل نسقٌ تاريخي متغير، ولكنها أيضًا ليست نسقًا متغيرًا حتمًا تلقائيًّا، وإنما الأمر رهن حيوية العلاقة الجدلية بين الفكر والفعل الاجتماعيَّين؛ إذ قد تكون علاقة التفاعُل والتغيُّر بالسلب مع حالة الخمول والتوقُّف عن الفعل المجتمعي، وقد تكون بالإيجاب مع التفاعُل الاجتماعي الإبداعي النشِط .. الذات تفكِّر حين تفعل .. والفعل/الفكر في وحدةٍ جدلية .. والذات في كُليتها وشمولها وتاريخها موجودةٌ في الفعل وفي المعرفة دلالةً على وحدة الذات والموضوع في جدلٍ مشترك.

وتأسيسًا على ما سبق فإن نقد الفكر الاجتماعي ينبغي أن يتناول الفكر من زوايا متعددة الأبعاد:
  • أولًا: إننا نقرأ الفكر باعتباره نصًّا له سياقه المجتمعي التاريخي وقد جرى عرضُه في صياغةٍ لغوية لها شروطها المعرفية والوجودية زمانًا ومكانًا. إنه منتجٌ اجتماعي أو نشاطٌ اجتماعي تلاحمَت فيه الذات والموضوع، وله تاريخه النشوئي التكويني التطوُّري.
  • ثانيًا: إن الفكر باعتباره، زمانيًّا ومكانيًّا، الوجه الروحي المعبِّر عن الحضارة في حركةٍ جدلية مع الفعل الذي هو الوجه المادي لهذه الحضارة فإنه يلزم مع اطراد التغيُّر وصولًا إلى التكيُّف أن تُجرى عمليةُ تغذيةٍ مرتدة مجتمعية هي في جوهرها نقدٌ وتفكيكٌ للموروث الثقافي. وإن هذه المراجعة هي مظهرُ حيويةِ وعافية المجتمع الذي تنأى به عن التدهور إلى مستوى النمَطية والاطِّراد العشوائي.
  • ثالثًا: لا تتم المراجعة النقدية إلا في إطار نسقٍ معرفي منفتح. وإن أي فكرٍ يظُن أنه يُعبِّر عن حقائقَ نهائيةٍ إنما مآله الجمود والتدهور. وهذا يعني أنْ لا نظريةَ مكتملة، وأنْ لا نظريةَ منفصلة عن التطبيق؛ فالنظرية فكرٌ نابعٌ من التطبيق العقلاني، ومردُّها إلى هذا التطبيق في حركةٍ جدلية تتوسَّطها عمليةُ المراجعة أو التغذية المرتدَّة. والفكر والفعل أو النظرية والتطبيق مسألةٌ مرحلية دائمًا وأبدًا، لها شروطها الزمانية والمكانية.
  • رابعًا: إن تاريخية الفكر الاجتماعي تعني أنه طبقاتٌ يتعيَّن الكشفُ عنها بالحَفْر في الجذور لفهم ما هو ماثلٌ على السطح وما هو ثاوٍ في الباطن له فعاليته. وكما يقول علماء سوسيولوجيا المعرفة وعلماء النفس، فإن فهم الفكر لا يكون إلا في الحفر في الأعماق بحثًا عن النشأة والتكوين والشروط الوجودية في التاريخ، واكتشاف أُطُر المعرفة، وأيضًا اكتشاف المسكوت عنه والمنفي الفعَّال الذي أخفاه الخطاب أو النص. وكما يقول كارل مانهايم إن الفهم الأعمق للإنسان أو المجتمع يكون من خلال فهم ومعرفة تاريخية النشأة والتكوين وتطوُّره وصراعاته ومعاناته ومواقفه. إن كل معنى يتعيَّن فهمه في ضوء تاريخ نشأته وتكوينه وفي السياق الأصلي للخبرة المعاشة التي تُشكِّل خلفيته، وفي السياق الجمعي.٢
  • خامسًا: تفكيك طريق التفكير وآلياته وفحص أدوات المعرفة وأسسها. ويقتضي هذا نقد بنية الوعي ومكوِّنات العقل ونظام الفكر، واستكشاف البديهيات والمسلَّمات التي يرتكز عليها العقل وبيان تناقُضاتها، والكشف عن الظروف والملابسات التاريخية التي أسهمَت في خَلْق هذا الفكر ومدى سلطاته التماسًا لعقلٍ جديد.
  • سادسًا: تفكيك بنية النص لاستكشاف القواعد أو الشروط الوجودية لظهوره وآليات عمله ومدى ما فيه من إبداع واتباع؛ أي إبداع فعل وفكر أو تبعية لموروث أو وافد؛ أعني بيان كيف قرأ أصحاب الفكر الواقع الاجتماعي، وهل كان وعيهم بالواقع الاجتماعي زائفًا أم صحيحًا؟ .. إذ كي يكون الوعي الاجتماعي صحيحًا لا بُد وأن نقرأ بعقلانيةٍ ناقدة الواقع الاجتماعي ممثلًا في الموروث والبيئة المعاشة في شُمول أنشطتها، وفي علاقاتها المؤثِّرة. وغياب هذا الشرط يولِّد وعيًا زائفًا، ويختزل الفكر الاجتماعي إلى شعارٍ عامٍّ أجوف عند اليسار أو اليمين.
  • سابعًا: كفاءة وقدرة الفكر على تحقيق آلية التغذية المرتدة أو ما يُسمَّى النقد والتصحيح الذاتي. وهذا أحد المبادئ التي ركَّزَت عليها التفكيكية في الإشارة إلى نقد النص من الداخل، ولكنَّنا نُوسِّعه بالإشارة إلى مبدأ النقد الذاتي في العلاقة بين الفكر والعقل، وتوفُّر آلية نقد الذات عقلانيًّا أُسوةً بآلية نقد الآخر والأسس العلمية لهذا النقد ومدى حريته.
  • ثامنًا: أن يكون الفكر نسَقًا مفتوحًا لا منغلقًا، وهذا ما أكَّدَته أيضًا ما بعد الحداثة، إيمانًا بأن جميع الحقائق قابلةٌ للنقد، وأن جميع المعارف في حركة وتجدُّد مع حركة وتجدُّد الفعل .. الحقيقة رؤيةٌ مفتوحة وليست مطلقة .. إن تأكيد علاقة التفاعُل الجدلي تعني ليس فقط اعترافًا بالتغيُّر بل دعوة إلى يقظة الوعي الاجتماعي للإبداع المتجدِّد في مواكبة الوعي بالتغيُّر المطَّرد.
  • تاسعًا: عقلانية الفكر تأسيسًا على تجسيده لإنجازات علوم عصره، ونقديته تأسيسًا على استيعابه لنظريات وتيارات الفكر الإنساني باعتبار هذه وتلك نشاطًا اجتماعيًّا ودليلًا هاديًا؛ إذ كلما انقطعَت صلة الفكر الاجتماعي بهذه الأنشطة ذوَى وبات أسير الجمود. إن مستوى الحالة المعرفية للإنسان/المجتمع قياسًا إلى المجتمعات الأخرى رهن الإطار المعرفي/القيمي وصورة الوجود بناءً على إنجازات العلوم حين تكون هذه إنجازات المجتمع.
  • عاشرًا: كُلية الفكر .. شموليةُ الفكر في إدراكه العقلاني النقدي لمختلف أنشطة المجتمع، وفي تصوُّره للإنسان/المجتمع كبنيةٍ دينامية ليست أبدية وإنما هي حركةٌ ذات توجُّهٍ ومسارٍ ونتائج .. إنه التاريخ بفعاليته، وهو قراءةٌ نشطة متجددة للواقع كنصٍّ حياتي معاش، وتاريخ في بنيةٍ كُلية وشاملة. وحيث إنه كذلك فإنه توقُّع واحتمالاتٌ متعددة، ثم إن الفكر يستشرف التوقُّع الأكثر احتمالًا بناء على دراسةٍ نقدية للواقع، الإنسان، العلاقات الاجتماعية، التاريخ .. إن الفكر الاجتماعي في نهاية المطاف هو التشكيل المعرفي والمنظومة الإدراكية التي تُوحِّد انتماء أبناء المجتمع وتصوغ مشروعهم الوجودي القومي.

وحين يفقد الفكر الاجتماعي هذا الشرط فإنه يكون مجرد خطاب. والخطاب هو أحد صور الوعي بالواقع الاجتماعي متضمنًا موقفًا عبارةً عن أطروحاتٍ ذات دلالة من حيث فهم الواقع والقضايا التي يطرحها الواقع أو تصوراتٍ بشأن أزمة الواقع، وما قد يراه الخطاب على لسان المخاطب من حلول؛ ومن ثَم يكون الخطاب عادةً موجَّهًا من طرف إلى طرفٍ آخر معنيٍّ بالموضوع؛ أي من المخاطِب إلى المخاطَب تأسيسًا على علاقة تواصل، حقيقة أو مفترضة، بين الطرفَين في موضوع الخطاب؛ لذا فإنه آليةٌ اجتماعية للسلوك ودعوةٌ إلى تحديد مسار النشاط الاجتماعي والتأثير عليه عَبْر الأفراد. وينصَبُّ الخطاب عادةً على أحد الأنشطة الاجتماعية التي يراها المخاطِب القناة الموصلَة إلى الهدف المنشود؛ أي إنه يفتقر إلى الكُلية والشمول وإن كان هذا لا يمنع كونه فكرًا نسقيًّا نابعًا من نظرةٍ كلية أي رافدًا؛ ولهذا لا يُوصَف بأنه نسَقٌ معرفي متكامل أو إطارٌ معرفي/قيمي للمجتمع ولا يُفضِي إلى قطيعةٍ معرفية.

الخطاب اليساري العربي وسوسيولوجيا الفشل

أخفَق الخطاب اليساري العربي، لا لأن خطابًا آخر مناهضًا انتصر .. فقد أخفق الجميع اليسار واليمين؛ إذ تعلَّقَت أبصارُنا وطموحاتُنا بالسماء، حيث المفارق المتعالي والفكر النظري المجرَّد .. بينما أقدامنا جميعًا بعيدةٌ عن أرض الواقع .. واقع الفكر والفعل الاجتماعيَّين في ترابطهما الجدلي الذي لا ينفصم .. ولم يكن الإخفاق استثناء، بل قاعدة للجميع امتدت قرونًا .. ومن دانت له السلطة إنما كفَل له البقاءَ وجودُه في منطقة التعادل أو الخمود.

ونعني باليسار كل تيارٍ أو صاحب موقفٍ نقدي التمس تغيير المجتمع على غير مثالٍ سابق في تاريخنا العربي؛ أي الانتقال حضاريًّا إلى حضارة العصر .. حضارة التصنيع وما بعد التصنيع بكل مقتضياتها وعناصرها .. ولقد كان اليساريون بعامة نبضَ حياةٍ في مجتمعاتنا؛ كل فريقٍ بحجم حضارة أمته ومدى ثقلها النوعي .. صدقَت النوايا والجهود إجمالًا .. وعانَوا باسم رسالتهم شدائدَ وأهوالًا تتضاءل أمامها شدائدُ الرسل .. ولكن الجهود المخلِصة جاءت مبتسَرة والإخفاق مآلها.

وحديثنا عن اليسار حديث التاريخ .. عن تاريخ فكرٍ أو خطابٍ وعن مستقبل فكر في آنٍ واحد .. ووظيفة التاريخ حفزَ الهمم للماضي والحاضر واستبصار الطريق، والوصول إلى الفهم العقلاني النقدي الأعمق لظاهرة الواقع الإنساني المجتمعي لأمة من الأمم باعتبار هذا مفتاحَ المستقبل ودليلَ الحركة .. لن يكون الحديث عن اليسار بمعنى النظرية الماركسية، ولكن اليسار الذي هو نهجُ تناوُل النص النظري وخصوصية المعالجة .. إذ تنقطع، بمعنًى من المعاني، صلة المؤلف بالنص حال انتقاله أو قراءته من جانب طرفٍ آخر وإذا بهذا الآخر مؤلِّف له، أو يقرأ فيه ويفهمه على وجهٍ خاص به ويغدو هو المسئول عنه .. كيف استنطق أحرفه؟ وكيف فهمه؟ وما هي الشروط المعرفية والوجودية المحدِّدة لهذا الفهم ولهذا التناوُل في إثرائه أو إهداره بحكم السياق الاجتماعي للتطبيق والسياق الاجتماعي للفهم والتناول؛ البيئة الثقافية والمصالح .. والسياق الاجتماعي التاريخي .. إذ إن كل هذا يُسهِم في تأويل النص الذي أصبح في سَدَى ولُحمة البنية الثقافية وخضع لآلية الفهم. لهذا نجد تأويل النص محمَّلًا بعناصر البنية الفكرية والاجتماعية والتاريخية ويُسهِم في صياغة الموقف والرؤية.

والمشكلة أننا نتحدَّث عن تاريخٍ من صُنعنا، أسهمنا فيه، وعانينا منه وله .. وأخشى الانحياز إدانة أو مدحًا، وأرجو ألا يكون منطلقنا عذابات وآلامًا. وإنما آمل في أن تتجنَّب أجيال المستقبل بعضَ العثراتِ والآلام .. فالتغيُّر حتمٌ .. وصدق العزيمة قرينُ النجاح إذا كان أساسها فهمًا صادقًا.

وقضايا الفكر اليساري هي في جوهرها إحدى تجليَّات حوار الواقع والفكر، في اتصاله وانفصاله، منذ ان أمسك الإنسان بزمام مصيره الاجتماعي كاملًا مع حضارة عصر التصنيع .. إنها قضيةٌ إنسانية بالمعنى الاجتماعي والفلسفي بكل أبعادها ومراميها .. إنها الإنسان يشحذ كل طاقاته الفكرية والمادية لكي يكون أهلًا لمسئولية بناء الإنسان/المجتمع .. تغيير الواقع، واقع الفكر وواقع العلاقات الاجتماعية التزامًا بإطارٍ معرفي/قيمي يعكس شروطًا وجودية ومعرفية وأخلاقيةً منشودة، ويجسِّد إنجازاته وكبواته .. الإنسان الفعَّال صاحب الدور الواعي والعقل الناقد .. أو هذا هو المفترض حضاريًّا .. وليس الفكر اليساري نسيجَ وحده في ذلك، بل شاركَه، وإن اختلف المنحى والنهج، كلُّ فكرٍ آخر وثَّابٍ طموحٍ إلى التغيير. واليسار بهذا المعنى ليس حركةً مرحلية، أو مهمةً تنقضي، إنه المستقبل في الوعي الاجتماعي التاريخي، أو ضابط إيقاع الحركة والمنسِّق عن وعي بين الفعل والفكر في حركتهما الجدلية الموحَّدة.

ولكن أخفق اليسار العربي .. فالمسافة بين المفترَض النظري والواقع الحياتي بعيدةٌ جدًّا.

ولم يُخفِق بسبب تآمر الغرب ودعاياته .. ولا بسبب بطش ذوي السلطان .. فكل فكرٍ ثوريٍّ يُصادِف بالضرورة من يتآمر ضده ويبطش به .. ولكنه ينجح دائمًا في النهاية لأنه عرف كيف يُزيح العقبات وأن يقرأ الواقع قراءةً صحيحة.

وإن البحث عن أسباب الإخفاق، كظاهرة في حياتنا، يحتاج إلى نقد الظاهرة من داخلها .. إلى الأسباب الكامنة دون الاكتفاء بأسبابٍ خارجية نسوقها أعذارًا.

في عبارةٍ مثيرةٍ للدهشة قال زعيم مؤسس لواحدة من أقدم الحركات اليسارية في أوراقه عن ذكريات مطلع الأربعينيات:

«يمكن القول بأن الجماهير في ذلك الوقت كانت مستعدةً لأن تستمر في سلوك طريقنا، ولكننا لم نكن نعرف إلى أين نقودها.»

وقال زعيمٌ عربيٌّ عسكري مؤسِّس لثورة، وكأنه يتحدَّث بلسان نظرائه: «سقطَت السلطة بين أيدينا ولم نكن نعرف وقتها غير البندقية لي أنفليد .. ولكن كان علينا أن نمضي في طريقنا.»

هاتان عبارتان نموذجيتان توضِّحان عمق الانفصال بين الفكر والفعل الاجتماعي في حياتنا حيث إرادة ولا منهج، ولا وعي نقديًّا بالوسيلة والهدف .. قطيعة بين الفكر ومقتضيات الواقع ومنهجية الإنجاز أو فن وتقنية العمل التي هي خبرة وممارسة وثقافةٌ اجتماعية تاريخية في تلاحُم مع الفكر المنهجي .. إنهما عبارتان تكشفان عن قطيعةٍ حقيقية في حياتنا الثقافية .. قطيعة بين الفكر وبين العمل الهادف .. الهدف كواقعٍ حياتي متحرك .. كإنجازٍ عملي .. إنها أزمة الدلالة الوظيفية للفكر، وأزمة الدلالة الاجتماعية للعمل .. قد نملك الهدف أمنيةً تلخِّصها فكرةٌ تتصف بالعمومية .. الثورة أو التغيير، ولا نملك الإجابة المستمدة من واقعٍ حياتي ومنهجي، أو من الممارسة المنهجية .. وكيف يكون التغيير ومقتضياته وكأن الحياة كلمةٌ لا فعل .. تمامًا كمن يملك الُحلم أو الصورة ولكنه لا يملك الأداة التي هي اكتسابٌ أو ابتكارٌ من خلال العمل .. والنتيجة أن يُفاجئنا أو يصدمنا الواقع ونُواجه الموقف صِفر اليدَين فكرًا ومنهجَ عملٍ ونتعامل مع الحدث في آنيَّته وفي ظاهره الجزئي .. إننا لا نتعامل مع ظاهرة الإنسان/الواقع في كُليته وشُموله، كظاهرةٍ مدروسة التاريخ والاحتمالات بل مع فكرةٍ عامة ثم مع حدثٍ آني .. وبذا نكون في أحسن الظروف أصحابَ منهج المحاولة والخطأ، أو المنهج الخبري الجزئي أو التجزيئي أو رد الفعل .. ولا تراكمَ معرفيًّا يفضي إلى نسقٍ عام .. فكل جيلٍ أو كل فرد يبدأ من جديد ولا قدرة على الإبداع .. ولا استقلالية للرؤية .. والمرجعية دائمًا مفارقة .. واقعٌ غير مدروس، واحتمالاتٌ في طي المجهول.

إن اليسار حركة نقدٍ اجتماعي. استهدَف من الاحتجاج إدخالَ تغييرٍ جذري على علاقات البِنية الاجتماعية وصولًا إلى بِنيةٍ ذات علاقاتٍ جديدة هي الأكثر ملاءمة لإزاحة عوائق التقدُّم من وجه حركة المجتمع ولتحقيق أكبر قدْرٍ ممكنٍ من التكيُّف والملائمة لإرساء قواعد الإطار الحضاري المنشود. وكل حركة نقدٍ اجتماعي لها هذه المهمة لا بُد وأن تتوفَّر لها عدة شروط:
  • (١)

    الوعي بالأزمة معرفيًّا ووجوديًّا وعوائق الحَراك الاجتماعي، ودراسةٌ نقدية للبنية الاجتماعية (الإنسان والعلاقات) كظاهرةٍ تاريخية، دراسة تشمل نقد العقل العلمي والعقل النظري .. صورة الوجود والمجتمع والإنسان وسلوك الناس والقيم ومدى التناقُض بين أوثان الحاضر المعوِّق ومقتضيات المستقبل المنشود. وأن تكون هذه الرؤية والحلول المقترحة ابتكارًا جديدًا مرتبطًا بالواقع أو بالظاهرة زمانًا ومكانًا. ومثل هذا النقد والابتكار لن يأتي خبط عشواء، بل رهن الالتزام بمنهج التفكير العلمي وامتلاك نظريةٍ سوسيولوجية، ووعي بإنجازات العقل العلمي في هذا المجال، ولكن اليسار العربي في مجموعه وفي ممارساته، عدا جهودٍ فردية، ظل غائبًا عن تيارات النقد الاجتماعي ونظرياته المتنوِّعة التي هي إحدى صور الحوار الإنساني الشامل للأفكار، بل تلقَّف، كما تقضي ثقافتُه الاجتماعية الموروثة، الفكر الماركسي وكأنه بنيةٌ ثابتة.

  • (٢)

    الشروع في حركةٍ تنويرية تُثبِت بطلانَ وزيفَ وعي الحاضر وجفافَ الينابيع الثقافية الموروثة وتناقُضَها مع مقتضيات العصر وإعاقتها للحركة المجتمعية، وتكشفُ الوهم والحاجة إلى إطارٍ معرفي/قيمي جديد، وتخلق تيارًا ثقافيًّا واعيًا بضرورة التغيير وباتجاه التغيير مستشرفًا المستقبل بحيث يكون هو القوة الدينامية المحرِّكة لقوى المجتمع في اتجاه التغير.

    ومن المفترض أن تمثِّل هذه الرؤية حركةً تنويرية عربية نابعة من تحديات واقعنا ومقترنةً بنقد لحركة التنوير الأوروبية من حيث محوريتها الأوروبية. وبذا يكون فكرنا شاملًا وإسهامًا ابتكاريًّا أصيلًا يجد صداه، وقادرًا على تعبئة الطاقات في حركتها، ويصنع قطيعةً معرفية مع معارف وقيم أدَّت دورها في زمانها وأحلَّت إطارًا بديلًا. وبهذا يكون الفكر اليساري جهدًا معرفيًّا منهجيًّا ووعيًا نظريًّا عقلانيًّا نقديًّا بظاهرة أو ببنيةٍ اجتماعية في حركتها التاريخية الشاملة، ويكون قوةً حافزة للفعل .. للتغيير .. وليس مطلوبًا تراكمُ معارفَ عن تاريخ الظاهرة/المجتمع وعلاقاتها البنائية؛ فالوعي التنويري بالمجتمع في شموليته ليس معلوماتٍ متراكمة بل نسقًا معرفيًّا/قيميًّا جديدًا يحقِّق معرفة بالذات وحلًّا لمشكلات من خلال ممارسةٍ منهجية، ويُهيِّئ تصورًا جديدًا للوجود .. إنه ابتكارٌ لوضعٍ حضاري جديد بوجهَيه المادي والروحي تزدهر فيه الذات متصلًا تاريخيًّا وقفزةً حضارية كيفية جديدة.

  • (٣)

    أن تملك الحركة النقدية تصوُّرًا عن المجتمع المنشود شاملًا جميع أنشطته في إطارٍ زماني مكاني، وأن يكون لديها المبرِّر الفكري الداعم لهذا التصوُّر وآليات التغيير، وشهادة الواقع، وتحديد الثقل النوعي لأطراف التناقُض؛ إذ حين يكون الفكر نابعًا عن نشاطٍ واقعي وفاعلية وعن دراسة لتناقُضات المجتمع، والحلول المقترحة حسمًا للأزمة فإنه يمثِّل موقفًا شاملًا وجمعيًّا وحرًّا إزاء المجتمع وقضاياه، ولكن حين يكون مجرد تبنٍّ لفكرٍ وافدٍ أو شمولي؛ أي طامسٍ للحرية الفردية والنقدية وتعبيرًا عن انتماءٍ أيديولوجي، فإنه يكون موقفًا من حيث الشكل دون المضمون .. ويصدمه الواقع بأحداثه. ولقد عشنا قرونًا انتماؤنا الأيديولوجي لفكرٍ وافد من ماضٍ سحيق أو من مكانٍ أو حاكمٍ غريب.

  • (٤)

    الوعي النظري بالظروف المحيطة المعاكسة والداعمة على المستويَين المحلي والعالمي.

  • (٥)

    أن تمتلك الحركة النقدية الإمكاناتِ التنظيميةَ والفكرية التي تدعم فعاليتها وتكون شهادةَ تفويض.

  • (٦)

    أن يكون المفكِّر النقدي منفتح الفكر ناقدًا ذاتيًّا لفكره وممارساته، أو بمعنى أن يكون يقظًا في متابعته لفكره وممارسته على أساسٍ نقدي عقلاني في ضوء واقعه والجديد من إنجازات الفكر واستلهام أحداث واقعه، واستشفاف الجديد من إنجازات الفكر، وأن يؤكِّد العلاقة الوثيقة بين فكره وممارسته وواقع مجتمعه زمانًا ومكانًا واستشرافًا.

  • (٧)

    أن تُعبِّر الحركة النقدية عن هذا كله في صورةٍ نقدية تمثِّل الفكر النابع من بنية الواقع في شموليته وحركيته .. وأن تُحدِّد النظرية المتغيرات الحاكمة ثقافيةً واجتماعية وسياسية … إلخ، وتجيب على سؤال لماذا تاريخيًّا أضحَت البِنية كظاهرة على ما هي عليه من عواملَ سالبةٍ أو إيجابية، والطاقات الكامنة للتغيير .. وبرنامج احتمالي للمستقبل في مختلف أنشطة المجتمع .. يُعالج حالة التبايُن بين الواقع والفكر .. وبين هذَين والمستوى الحضاري والاستجابات اللازمة في مختلف الأنشطة الاجتماعية للانتقال ماديًّا وفكريًّا على نحوٍ ثوري إلى مستوًى حضاري/ثقافي جديد لإنسانٍ جديد.

ولكن ما عايشناه هو ممارساتٌ يسارية أو خطابٌ يساري سياسي، وليس فكرًا يساريًّا بالمعنى الذي حدَّدناه للفكر المجتمعي .. كان ممارساتٍ سياسية تتعلق بأحداثٍ آنية ومحلِّقة في فراغ فكرٍ طُوباوي. لم تكن الممارسة اليسارية استيعابًا وتطويرًا لمنهجية النشأة، وهي منهجيةٌ علمية نقدية؛ ولذا انحصرت الممارسة في إطار الهموم السياسية المباشرة.

لم يأتِ الخطابُ اليساري استثناءً من الشروط الوجودية والمعرفية لتكوين الفكر بعامة وهي الشروط المتمثلة في التراث الثقافي الاجتماعي وفي الواقع والوضع الاجتماعيَّين .. الواقع كمُحصِّلة تاريخٍ بسلبياته وإيجابياته، والوضع الذي يتبدَّى في علاقات وإحداثيات مع عناصرَ متفاعلةٍ ومختلفة قوةً وضعفًا.

كان اليسار في ممارساته امتدادًا لبنيةٍ ذهنية أو ثقافية موروثة من حيث النظرة التجزيئية والنظرة الأيديولوجية القائمة على ثنائياتٍ نقيضية .. إما .. أو .. خضوع أو تسلُّط .. أنا أو الآخر، ولا تعتمد الحوار القائم على حركةٍ جدلية منهجًا وحافزًا للتغيير المطَّرد .. ولا ريب في أن ممارسات المرء ونهج تعامُله ثقافةٌ اجتماعية ومناخُ علاقاتِ تفاعُلٍ اجتماعي. وعلى الرغم من أن المنهج اليساري في التفكير يرى، نظريًّا، الحركة الجدلية بين الفكر والواقع. وكذا الجدل بين الأفكار بشهادة الواقع أساسًا معتمدًا إلا أن نهج التناوُل اليساري جاء متسقًا مع البنية الذهنية الثقافية الموروثة التي هي بنيةٌ قبل علمية على نقيض ما بشَّر به المنهج الجدَلي. ومن هنا جاء الخطاب اليساري خطابًا أيديولوجيًّا لا فكرًا علميًّا يتصف بالشمول ومنهجية البحث والنظر. والصفة الأساسية للأيديولوجية أنها تعتمد الإيمان والاكتفاء الذاتي واللاتاريخية مع تجاوُز خصوصيات الزمان والمكان؛ ومن ثَم ترى في نفسها حقيقةً منغلقة على نفسها ونهائية، وترى النص حقيقةً مطلقة وهو المرجع والحكَم وينشأ له سدنتُه أصحابُ الحَل والعَقد. هذا على نقيض العقلية العلمية التي تتميَّز بالقدرة على النقد والإنتاج والارتباط بحركة الفعل الإنساني النشِط في الواقع الحياتي. وتأسيسًا على هذا تكون المعرفة العلمية معرفةً نقدية تُصحِّح ذاتها في ضوء شهادة الواقع، والكشف عن تناقُضات بِنية الواقع أو الظاهرة الاجتماعية في ضوءِ عواملِ حركتها.

ولهذا عجز اليسار عن إحداث قطيعةٍ معرفية جدلية مع الموروث الثقافي، قطيعة تؤكِّد الاتصال والانفصال في ضوء متصلٍ تاريخي اجتماعي، وإنما اصطَنع قطيعةً حضارية ومعرفية زائفة بينما ظلَّت آلية المعرفة هي هي، وهما آلية سلفية غير علمية وإن عبَّر عنها برِطانٍ مغاير أو مرجعيةٍ أيديولوجية مختلفة، وانحصر الخلاف في إطار السياسة دون منهجية المعرفة ودون أنساق التصوير والتعبير والرموز الثقافية التي تُعطي تصورًا مغايرًا للوجود؛ أعني إطارًا معرفيًّا قيميًّا جديدًا نرى من خلاله أننا إزاء وجودٍ جديد أو حضارةٍ جديدة لها عُدَّتها المفاهيمية المتميزة والملائمة للتكيُّف الاجتماعي؛ ولهذا لم يكن اليسار منتجًا لمعارفَ علميةٍ جديدة قائمة على دراسة الواقع وتخلق تيارًا معرفيًّا جديدًا .. وإنما بعيدًا عن الممارسات السياسية الخالصة، نجد جهود مثقَّفين أفرادٍ متناثرين .. ولم يطرح اليسار هذه القضايا كإشكالات أو مشكلات بحثٍ علمي.

ناهَض الخطاب اليساري الأصولية باعتبارها أيديولوجيةً، لكنه هو ذاته، وبحكم التنشئة والتكوين الثقافيَّين، لا بحكم الفكر الماركسي، أبدل أيديولوجيةً بأيديولوجية لافتقاره إلى القدرة على نقد الذات ولانقطاع صلته بمختلف أوجه النشاط والفعالية الاجتماعية. وبذلك كان حسب تعريف لو كاتش وعيًا زائفًا شأن تيارات الفكر العربي الأخرى وإن تباينَت المسمَّيات.

وكان من المفترض أن يخلُق الفكر اليساري، بحكم كونه موقفًا نقديًّا، وعيًا متجاوزًا حدود الممارسات السياسية المحدودة والشعارات السياسية أو الاقتصادية المجتزَأَة ليؤسِّس وعيًا اجتماعيًّا متكاملًا من حيث التاريخ الوطني والقومي والواقع الطبقي والحَراك الاجتماعي، وقضايا التحديث والتطوير الاجتماعي الشامل والسياسية التعليمية والتنموية الشاملة للإنسان/المجتمع/الحضارة، فهذه جميعًا ركائز النقلة الحضارية والإطار المعرفي/القيمي الملازم لها، ولكن الملاحَظ أن اليسار اعتمد على تحديد مناهج عمله وأهدافه بالسلب؛ ضد الإقطاع .. ضد الاستغلال .. ضد الملكية، وهو في هذا شأن الإسلاميين حين يقولون الإسلام هو الحل .. وهذه شعاراتٌ لا تخلُق معرفةً أو استراتيجية عمل. لم يخلُق اليسار تيارًا اجتماعيًّا راسخ الجذور في مجالات أنشطة المجتمع المختلفة؛ إذ لو أنه خرج عن إطار الخطاب السياسي ليُصبِح فكرًا اجتماعيًّا لأرسى قواعدَ نسقٍ عامٍّ لمجموع حالات ومشكلات الواقع التعليمي والعلمي والاقتصادي والتاريخي … إلخ، في إطار الوعي شاملًا الفكر والسلوك والممارسة والنقد؛ أي لاستطاع أن يقدم رؤيةً جديدة متكاملة للعالم وإشكالياته موازيةً لرؤًى أخرى، وكيف أن ما يقدِّمه هو الأقدر على تقديم الحلول. وأعود لأؤكِّد ضرورة النسق العام؛ ذلك لأن الوعي بالمجتمع في شموله هو وعيٌ نسقي هادف وليس مجرَّد نثارٍ من المعارف، ولكن الاقتصار على تفسيراتٍ اختزالية جزئية هو تعبيرٌ عن حالة الفشل في فهم طبيعة الشمولية، وإرهاصٌ بالعجز عن الحركة؛ ذلك لأن المجتمع يتحرك في شموله بنيةً متلاحمة من الفكر والعقل المجتمعيَّين.

وإذا كانت ثقافتنا علَّمَتنا استظهار النص، والتزام الحرفية والتلقين، وأن المرجعية خارج الواقع والذات، فقد نحا اليسار نحوًا متسقًا معها بحيث جعل فكره كلماتٍ جديدة بآليةٍ قديمة. وهذا من شأنه أن جعل الخطاب اليساري خطابًا مغتربًا عن واقعه، متعاليًا عن تاريخه، مُبتسَرًا في حدود الظاهرة الآنية والهَمِّ اليومي، قاصرًا عن تقديم رؤيةٍ نابعة من تحليل ودراسة الواقع .. إنه لم يكن ابتكارًا، بل محاكاة، أو بلغة يومنا نوع من الاستنساخ في مجال الأيديولوجيا. وكما قلنا في كتابٍ سابق لنا بعنوان «نهاية الماركسية؟» إن مأساة الفكر اليساري أو الماركسي في الشرق عمومًا أنه وقع في أيدي أصحاب ذهنيةٍ أرثوذكسية أو أصوليةٍ حرفية تقيس الواقع على النص ولا تُنتِج معرفة. ويؤمن هؤلاء بالطاعة والهيمنة الكاريزمية للفقهاء والزعماء ولاديمقراطية الحوار وقدسية النص .. وهكذا نضبَت ينابيعُ النقد والإبداع في الإطار المحلى مع استلهام الفكر العالمي. وانحصر الجهد والممارسة في إطار تغليب مكاسبَ جُزئية على حساب حَراك البنية الاجتماعية في شمولها.

لم يكن الإنسان هو القضية، سواء عند اليسار أو اليمين .. بل القضية بعضُ مكاسبَ جزئية لا تغيِّر من علاقات البنية ومضمونها .. بناء الإنسان حضاريًّا؛ تنشئة وتعليمًا وعلاقاتٍ ودورًا إنتاجيًّا ومسئولياتٍ يتحملها .. ثورة شاملة لكل مناحي الحياة .. تغيير الإنسان بعد فهمه نفسيًّا واجتماعيًّا كظاهرةٍ اجتماعية تاريخية .. ولكنَّنا تجاوزنا هذا الواقع .. التاريخ .. وتصوَّرنا إنسانًا مجردًا كُليًّا .. بينما الإنسان ظاهرةٌ تاريخية وأحد مكوِّنات نسقٍ أيكولوجي من حيث التأثير والتفاعُل، والمعالجة تستلزم عقلانيةً نقدية وحرية إبداعٍ فكري مرتكز على الواقع الحياتي والنهج العلمي.

ولكن الإنسان العربي، اليساري واليميني أيديولوجيًّا وسياسيًّا، بقَدْر ما هو أسير ثقافةٍ قبل علمية بقَدْر ما هو ضحية وضعٍ اجتماعي تاريخي أيضًا. إن الإنسان في تعامُله مع الحياة إنما ينطلق من إطارٍ معرفي قيمي يُشكِّل محيطه العقلي الذي تصدُر عنه أفعاله وتنبني على هديه أفكارُه. ويتألَّف هذا المحيط العقلي noosphere من مكوِّنات النسق الأيكولوجي الذي يُحيط بالإنسان وتُراثه الثقافي بسلبياته وإيجابياته، وغذائه المعرفي النسقي. ويُشكِّل هذا كله ركيزةَ إطار حوار الإنسان/المجتمع مع البيئة ونهجه في معالجة الواقع، وإيجابية الصلة الجدلية بين الفكر والواقع. ويكون هذا المحيط العقلي مجلَى أو مرآة لحياة الإنسان/المجتمع في انتصاراته وهزائمه، وكَبَواته ووثَباته .. ولهذا يشكل مصدرًا رئيسيًّا لدراسة البِنية الذهنية الثقافية للإنسان/المجتمع.

وواقع حياتنا أن المحيط العقلي للإنسان العربي، على اختلاف أقطاره وأوطانه، يمثِّل أزمة لم تحتل بؤرة الوعي بعدُ لأسبابٍ موضوعية قائمة وموروثة؛ فنحن نعيش، كما قلتُ في دراسة سابقة بعنوان «ثقافتنا وروح العصر» أسرى الهرمسية أو الغنوصية أو الباطنية التي أقالت عقل الإنسان عن أداء أي دورٍ إيجابي وعطَّلَت فعاليته الدنيوية وصرفَت جهده ومخاضه إلى المطلَق وحصَرَته في النظر الغيبي المجرَّد، وتعَطَّل الفعل الاجتماعي الإرادي. وعاش الإنسان العربي قرونًا في ظل هذا المحيط العقلي مما ثبَّت نسبيًّا أركان هذه البِنية الذهنية في معالجتها للواقع والتعامُل معه. وهذه بنية لا تعتمد العقل منطلقًا للفعل إذ أقالته وقطعَت كل أواصر التفاعُل الجدلي بين العقل والفعل، بل أسقطَت قدرة الإنسان على الفعل والمعرفة، وحلَّقَت به بعيدًا في إطار فراغٍ من النظر المجرَّد المبتَسَر. ودعَّم هذا التوجُّه، في ظل الانحسار الحضاري الممتد، غيابُ العمل أو تعطيل الفعل الاجتماعي.

وأفضى بنا غياب الفعل (العمل الاجتماعي الإنتاجي والإبداعي) ومن ثَم غياب الفكر بالتلازم إلى شيوع ورسوخ خاصية التبعية الفكرية لتُراث الماضي على ما فيه من تشوُّهات أو لفكر الحداثة الغربية على ما فيه من عناصر استلاب. ونحن في الحالَين عاجزون عن النقد العقلاني.

إن الفراغ الفكري هو في الجوهر والأساس قرينُ تعطُّل العمل الاجتماعي؛ فكلمة عمل تعني مجتمعًا؛ تمامًا مثلما أن كلمة فكر تعني مجتمعًا عاملًا مبدعًا؛ ذلك أن العمل الاجتماعي المتمثِّل في استراتيجيةٍ تنموية شاملة لجميع أنشطة المجتمع هو ركيزة إنتاج المعرفة اجتماعيًّا. إنه الهمُّ المشترك، والموجِّه للنشاط الاجتماعي ومناطُ توحُّد صورة المجتمع حاضرًا ومستقبلًا، وعلة الانتماء. والعمل/المجتمع هو بيئة ومجال التفاعُل الذي يرسِّخ أواصر المجتمع ويفرِز ثقافته، إن خصوصية النسق الأيكولوجي تنعكس على خصوصية العلم وتتجلَّى في خصوصية الثقافة .. ليس العمل أداة إشباع حاجاتٍ بيولوجية بل قوةٌ دافعة لخلق المزيد من الحاجات والمزيد من الإشباع والتقدُّم، واطِّراد إنتاج المجتمع روحيًّا وماديًّا، وتعديل الطبيعة وإحكام التعامُل معها .. أي أساس تحوُّل طبيعة الإنسان ذاتها وتحقيق مزيد من الترابُط الاجتماعي وترسيخ عوامل البقاء وأساس إنتاجِ محتوى العقل. والعمل الاجتماعي هو تجسيد حركة التاريخ، هو العمل الواعي من جانب الإنسان/المجتمع؛ أي إنتاج واطِّراد إنتاج المجتمع عن وعيٍ وعن عمدٍ وفقًا لرؤية وإطارٍ ثقافي.

ولن نجد في التاريخ تجمعًا بشريًّا يُنتِج معرفة تتجاوز الحد الأدنى لمقتضيات البقاء التلقائي. ويتوقَّف المجتمع عن نشاط إنتاج المعرفة حين يتوقَّف عن العمل في إطارٍ نسقي داعم للانتماء. هكذا نجد مؤسسات إنتاج المعرفة في الحضارات القديمة بؤرة تجميع أنشطة المجتمع في ترابُطها وانتماءاتها كأنها جهازٌ عصبي مركزي رابط لشبكة الأعصاب بكل خلايا الحس. وهكذا نجد مؤسسات إنتاج المعرفة في مجتمعات الحضارة الحديثة مع تعدُّدها وكثافة ارتباطها بالإنسان العام.

ولكن الملاحظ أن الإنسان العربي عاش قرونًا تجمعاتٍ بشرية لا مجتمعات، فاقدًا هُويته القومية، رعايا تابعين، وقد تعطَّلَت مؤسسات إنتاج المعرفة إذ تحوَّل الإنتاج إلى جهدٍ فردي للكسب والارتزاق دون لحمةٍ اجتماعية أو جهازٍ عصبي مسئول عن تنسيق المعارف، أو لا تتجاوز مهامه حدود استتباب الأمن الداخلي.

والعمل الاجتماعي هو الذي يطرح تساؤلات الواقع وإشكاليته ويفرِز القضايا الفلسفية المعبِّرة عن مشكلات هذا الواقع المنتِج للمعرفة من خلال العمل بمستوياته المختلفة. وهو المعيار الذي يؤكد على ضرورة زحزحة الفكر وإزاحة الإطار المعرفي/القيمي الذي جف معينه وبات مُعوِّقًا لمزيد من العمل المبدع وتطوُّر الاحتياجات المجتمعية الداعمة للبقاء؛ إذ إن العمل علاوةً على كونه التعبيرَ الحقيقي عن الانتماء والتلاحُم بين الإنسان/المجتمع وبين الواقع، فإنه بهذه الخاصية أيضًا أساس وأداة التغذية المرتدة بين الفعل والفكر، ومن ثَم التجديد والنقد والإبداع بدلًا من التبعية الخرساء التي لا تُنتِج فكرًا. ونحن اجتماعيًّا، وبسبب قرون التبعية، لا نزال نعيش حضاريًّا عند مستوى الرعي والزراعة، علاوةً على ما أصاب ثقافتنا الاجتماعية المعاشة على مدى هذه القرون من تشوُّهات. هذا بينما حضارة العصر هي حضارة الإنسان العام المشارك بفعاليةٍ حرة في إدارة شئون المجتمع وفي إبداع ثقافته.

ومع غياب الفعل المجتمعي تعطَّل الفكر ولم تبقَ لنا غير التبعية في الإنتاج المادي وفي الفكر النظري. وعجز الإنسان العربي، اليسار واليمين على السواء، عن إبداع فكرٍ مع غياب قضايا العمل المشتركة وحلَّقنا جميعًا في فضاء المجرَّدات النظرية وإن تباينَت مسمياتها. وآثرنا نماذج الفكر أو المشروعات الجاهزة بعد أن أصابتنا عُنَّة فكرية تاريخية، وترسَّخَت عادة استيراد السلع الفكرية والمادية سلعًا جاهزة، وأخذنا ما نستطيع دون تدقيق أو تمحيص أو إدراك لعلاقة ذلك بجهدٍ محلي؛ إذ ماذا نأخذ وماذا نرُد، وماذا ننتقي وعلى أي أساسٍ وقد غاب الفعل؟ ونُهدِر جهودنا في سبيل عمليةٍ عبثية هي التوفيق بين موروثٍ ووافد، وزعمٍ وهمي خاطئ هو الحفاظ على الهُوية. هذا بينما هوية المجتمع فعلُه وفكرُه الإبداعيان معًا حيث تتجلَّى الهُوية وتزدهر .. وبدون فعلٍ يكون تحليقٌ في فراغ أوهامٍ مجسدة لا تدعم هُوية، ولا تحقِّق ذاتًا، بل ولا تُنتِج إلا أضغاث فكرٍ لا يقيم حياة. وبدون فعلٍ وفكرٍ إبداعيَّين تنقطع أواصر العلاقة المعرفية بين الأجيال .. فلا تواصُل .. إذ البيئة في عيون كل جيلٍ دائمًا جديدة، والعُدَّة الثقافية قديمة، والغُربة عن الواقع هي المُناخ السائد، ولا يبقى على الساحة غير فكرٍ وافد يُحاوِل التغلغُل والنفاذ بكل ما يملكُ من سلطان .. ويبدأ كل جيلٍ من الصفر، ويرى في المعرفة الموروثة عن الماضي أو الوافدة من الغير في الحاضر اكتشافًا جديدًا .. وتظل حياتنا دوَّارة عودًا على بدء تكرارًا نمطيًّا.

وأودُّ أن أزيد الأمر تفصيلًا لأُوضِّح على عجلٍ مسألةَ وحدة الفكر والفعل الجدلية في المجتمع ودلالتها التضامنية ودورها الإيحائي. إن أخطر ما نُعانيه منذ قرون، بل لعل هذا هو أُس الداء وعلَّة التحجُّر والجمود، هو غياب العمل الاجتماعي النَّسَقي. إن الإنسان، كما قُلتُ، يفكِّر إبداعيًّا حين يعمل، وإذا تعطَّل العمل غاب العقل المبدع. ونعني بالعمل مرةً أخرى العمل الاجتماعي القائم على التفاعُل المشترك، ومن ثم يكون الفكر منتجًا اجتماعيًّا حين يرتكز على التفاعُل الذي يدعم التلاحُم والانتماء، والذي يتجسَّد في مشروعٍ قومي أو استراتيجيةٍ تنموية تطوُّرية اجتماعية. وتؤكِّد الدراسات أن الإنسان الذي يعمل هو الذي يبدع فكرًا ويرتقي سُلَّم التطوُّر الحضاري. وأبسطُ مثالٍ على اقتران الفعل بالفكر وصولًا إلى التكيُّف مثالُ من يرتدي نظارةً تُشوِّه صورة الواقع المألوف؛ فإن من يقبع في مكانه والنظارة على عينَيه لا يتكيَّف مع الواقع على عكس من يتحرَّك ويحاول العمل بيدَيه؛ أي التفاعُل مع البيئة، فإن صورة الواقع تتعدَّل وسرعان ما يتكيَّف مع الواقع ويتعامل معه بنجاح.٣ وبذا فإن العمل المجتمعي إزاء مهامَّ مشتركة شرطٌ للتكيُّف مع الواقع المتغير .. والعمل أداة تَلاحُم ومحكُّ مراجعة، ومعيارُ صدق، وشرطُ الإبداع والتجديد الفكري.

ومن خلال العمل تتحدَّد الاحتياجاتُ العملية للمجتمع، ومهامُّ المستقبل ومعوِّقاتُ الحركة المادية والفكرية، وتتعدَّد تيارات الفكر في تفسير الواقع. وتكون المعرفة وتأويلات الواقع ردًّا على سؤالٍ يطرحه العلم على أرضية الواقع .. وإذا تعطَّل العمل توقَّفَت التساؤلات وحلَّق التفكير في فراغ التهويمات الميتافيزيقية، ويدور الجدل في حيزٍ نظريٍّ مجرد؛ فالعمل هو مجال اختبار الفروض، ومجال التكيُّف المضاد ضد أيِّ تشويهٍ للصورة أو الفكرة. والعمل هو علَّة التطوُّر والارتقاء، ارتقاء الفكر والأعضاء (الحس والأعصاب) كما وأنه هو أساسُ تصحيحِ أي أخطاءٍ في الإدراك والتقدير والتوقُّع. ونحن نعني هنا بطبيعة الحال العمل المجتمعي، الموحَّد الهدف، وعلاقته بالظواهر الطبيعية والإنسانية المشتركة.

والعمل المجتمعي هو منطلق الشعور بأزمة في التعامُل مع تحديات الواقع. وتتجلَّى هذه الأزمة في الفكر. وبذا يكون العمل هو الحافز إلى التغيير ومظهر انتماء الفكر للواقع والتاريخ. وإذا كان العقل سلوكًا تفسيريًّا أو كما قيل، دائرة تأويلية، فإن هذه الدائرة لا تتحقَّق موضوعيًّا ويطَّرد وجودها وترتقي وتأخذ مضمونًا إلا من خلال العمل أو التفاعُل العملي المجتمعي حيث وجودُ المجتمع شرطٌ للتفكير وللعمل المترابط. وجديرٌ بالملاحظة أن كل الوظائف العقلية العليا هي علاقاتٌ اجتماعية ذاتية تجري في ترابُط وتكامُل من خلال العمل المشترك؛ وبالتالي يكون العمل هو شرط المعرفة المتجدِّدة ونسَقيَّتها.

ومثلما أن التعلُّم عملية اجتماعية، فإنه أداةُ اكتساب الفرد لخبرة العمل والفكر الاجتماعيَّين واطِّرادهما في صورة بنيةٍ متكاملة غير مُتجزِّئة أو مفتَّتة ومراجعتها في ضوء دائرةٍ تفسيرية جديدة قوامُها العمل.

إن العالم يتغيَّر ومن ثَم يستلزم تكيُّفًا مضادًّا دائمًا أي مواكبًا لهذا التغيُّر عملًا وفكرًا .. تمامًا مثل تغيُّر صورة البيئة مع النظَّارة المشوَّهة ويحدُث التوافُق عَبْر العمل وبفضل التغذية المرتدة بين جدل العمل والإدراك أو الفكر في وحدةٍ متكاملة .. كذلك فإن التغيُّر الحضاري يلازمه حاجة إلى تكيُّفٍ مضاد للتوافُق مع الصورة الجديدة للعالم وصولًا إلى حالة تكيُّفٍ مضاد وتوافُقٍ نفسي وعقلي .. ومن ثَم هناك اقترانٌ دائم بين الإدراك والفعل والتغيُّر المستمر للمعرفة مع تغيُّر الفعل والبيئة أو المثيرات؛ ولذا فإن العقل يتواجد في واقع التفاعُل بين الفرد/المجتمع الذي هو منتَج اجتماعي؛ أي ثمرة العمل/الفكر.٤
والعمل الجمعي هو مصدَر ومجلَى الإدراك النسَقي للفكر؛ أي إدراك العمل في صورة بنية أو مشروعٍ مشترك يُسهِم في وحدة وتكامُل إدراك المثيرات والمدرَكات وترتيبها، ثم يكون العمل أساسًا بمثابة المكبر Amplifier الذي يُحوِّل المدركات والمثيرات إلى حالة إرسالٍ عالية المستوى تجمعُها شبكةٌ نسقية واحدة. ونعرف أن الأفراد كأفراد أو تجمُّعٍ بشري، لا مجتمع، لا يخلقون مجتمعًا قائمًا على العمل والفكر .. وحين يتوفَّر العمل يتوفَّر الفكر وينصَبُّ على محورٍ مشترك وهمٍّ واحد ويكون خلافنا موضوعيًّا بدلًا من التهويم في عماء المجهول بين يسار ويمين وكلاهما بغير مضمونٍ مجتمعي واقعي. وهل نُنكِر على سبيل المثال أن فكر التنوير، الذي هو صياغةٌ لبنيةٍ ذهنية جديدة ومقدمةٌ لتحوُّلٍ حضاري كان وليد معارفَ جديدة انبثقَت عن الثورة والاكتشافات العلمية؟ كذلك فِكر نَقْد عقل الحداثة انبثق عن تغيُّرات في علاقات الواقع المادي وفي ثورة المعلومات والتكنولوجيا .. والفكر النقدي في الحالتَين وليد تحوُّلاتٍ مادية مجتمعية في العلوم والعلاقات والثورة التكنولوجية. كذلك فإن تعدُّد الآراء واختلافها مُنصَبَّة على أمورٍ موضوعية، هي فكر رهن تحولاتٍ موضوعية أو نشاطٍ مجتمعي.

إننا وبسبب تعطُّل العمل المجتمعي ومن ثَم غياب الفكر نعيش بغير تاريخ؛ ذلك لأن التاريخ هو فعلٌ اجتماعي، ونعيش حياةً خارج عصر العقل وليس لنا أن نَصِف أي تيَّارٍ فكري بالعقلانية في مجتمعٍ غير منتج للعقل وآليَّاته .. العقل الذي هو جماعُ إنجازات الفعل والفكر للإنسان/المجتمع في أحدث صور مراحل الارتقاء ليكون عَتاد وآليَّة الدائرة التفسيرية التي أشرنا إليها .. إذ يكون العقل بذلك تجسيدًا لمنتَج المجتمع من علومٍ ومناهجِ تفكير .. وهنا تتأكَّد تاريخيته واجتماعيته .. وبذا يكون العقل، والتيار الفكري العقلاني بالتالي، عقلًا حضاريًّا؛ أي آليَّة ملازمة للحضارة في ازدهارها، والوجه الآخر الفكري والثقافي المقابل للوجه المادي للحضارة.

المستقبل

ويقودنا هذا إلى المستقبل .. إلى يسار المستقبل لا مستقبل اليسار. لم تعُد قضية المستقبل بالنسبة لبلدان العالم العربي مسمياتٍ مذهبية، وليست التماسًا مطلقًا، ابتداءً وانتهاء، لمرجعياتٍ خارج الزمان أو المكان. وحريٌّ بنا أن نكون فقهاءَ عصرِنا تأسيسًا على الالتزام بمنهج التفكير العلمي والاجتهاد لاستيعاب علوم العصر بعقلٍ مفتوح .. القضية المُلحَّة الآن بناء الأمة والإنسان على نسَقٍ حضاري معاصر .. وثمَّة مهامُّ تبدو متعددة في ظاهرها، ولكنها جميعًا على قدَم المساواة من حيث الأهمية والضرورة كمدخلٍ إلى العصر. من ذلك مثلًا علاجُ حالة اختلال الأنا للمواطن في كل بلدٍ عربي. وتتمَّثل أعراض هذه الحالة في فقدانِ الحس التاريخي الصادق وفقدان الوعي العقلاني النقدي بالتاريخ الثقافي وفقدانِ الدراسة التحليلية التاريخية الاجتماعية لمجتمعاتنا وتناقُضاتها والقوى الاجتماعية المتباينة وما لذلك من آثارٍ سلبية على بِنيتنا الذهنية. وهذه الدراسة سبيلُنا العلمي لبناء نسقٍ معرفي عن الهُوية في التاريخ. إن حالة اختلال الأنا ليس مصدرها فحسب صدمة العربِ إزاء الغربِ وقوَّته وإنجازاته، بل يتعيَّن البحث عن مصدرٍ موازٍ آخر داخل تاريخية الظاهرة؛ فالأنا الاجتماعية مفكَّكةٌ فاقدةٌ للوعي الجمعي بالذات التاريخية، وإن ما نسميه اليوم إجمالًا وتجاوزًا باسم الذاتية العربية لم يكن وجودها مكتملًا أو واضحَ المعالم في الوعي الجمعي، بل كان وجودًا منسلخًا عن ذاته إذ عاش قرونًا أسير تهويمات عن ذاتيةٍ متعالية في ظل الخلافة العثمانية مثلًا .. فالمواطن عثمانلي ونحن رعايا .. وليس لنا وجودٌ اجتماعي بما له من شروطٍ ضرورية. إن الإنسان/المجتمع لا بُد وأن يتوفَّر له وعيٌ جمعي عَبْر حسٍّ تاريخي صادق لكي تتضافر القوي في حركةٍ مستقبلية تأسيسًا على انتماءٍ صادق يُشكِّل الوعي بالتاريخ.

ومن قضايانا المُلحَّة التي تُمثِّل مقدمةً أساسية للانتقال الحضاري ثورةٌ في التعليم، وثورةٌ في قيمة الإنسان أو ردِّ اعتبار الإنسان. ويشمل هذا ردَّ اعتبار الوعي التاريخي بكل تناقُضاته والكشف عن المنفيِّ الفعَّال .. تأكيد جلال الذات الإنسانية بفضل تأكيد مسئولية العقل الناقد، وأن تعمد الأمة في نشاطها التربوي والتعليمي داخل البيت وفي المدرسة والجامعة إلى تدريب النشء على إعمال العقل وممارسة النقد على أساسٍ منطقي سليم، وتهيئة المُناخ لإنماء القدرات الإبداعية في مجالات الآداب والعلوم والخيال العلمي، وغرس عادة النهَم المعرفي وعادة التمرُّد على التقليد والشجاعة في إبداء الرأي دون قيودٍ غير قيود العقل، وبناء عادة التسامُح، باعتبار هذه جميعها خصوصياتٍ حضارية .. تسامُح مع الثقافات والشعوب والمعتقدات وبيان أن معنى الحياة يزداد ثراءً وخصوبةً من خلال الأُخوَّة الإنسانية والتفاعُل والمعايشة والمنافسة في العلم والفكر والعمل. وسبيلُنا إلى هذه الدراسة العقلانية المقارنة دون تحيُّز، وإيمان بأن أفضل الشعوب أكثرهم عملًا وأغناهم وأخصبهم فكرًا .. وأن قيمة الفعل والفكر هي كبرى القيم وأعظم الفضائل، وأن العقل قرين الفعل، مع بيان دَورِ العمل الاجتماعي واقتران العمل بالفكر الإبداعي. والجدير بالملاحَظة أن المُعوِّقات الاجتماعية والثقافية من أخطر العوامل المؤثِّرة في تنمية القُدرات الإبداعية التي هي من أبرز خصائص الحضارة والإنسان العصري.

ينقلنا هذا إلى إشكاليةٍ أساسية عن علاقة اليسار الماركسي بالديمقراطية. لقد استمر الصراع على مدى القرن العشرين بين الغرب الرأسمالي والشرق الماركسي يدور حول محورٍ واحد سياسي المضمون قطباه ما يُسمَّى بلغة الغرب العالم الحر أو العالم الديمقراطي من ناحية والعالم الشمولي أو الستار الحديدي من ناحيةٍ أخرى .. والإشكالية هل اليسار ضد الديمقراطية كبنيةٍ اجتماعية لمرحلة تطوُّرٍ حضاري تاريخي وأنه ضدها بحكم طبيعته وتكوينه الفكري ونظام إدارته لشئون المجتمع؟ أو كما يُقال أحيانًا إن الديمقراطية والماركسية ضدَّان لا يجتمعان، وهو ما يعني تحذير المجتمعات من النظر إلى مشكلاتها وقضاياها من منظورٍ يساري حفاظًا على حقوق الفرد ودوره في المجتمع، وحفاظًا على مقوِّمات المجتمع الديمقراطية وهي التعدُّدية، وحق تداوُل السلطة، وحق المرء في إدارة شئون بلاده بالوكالة عَبْر أجهزة ومؤسساتٍ تمثيلية يشارك بإرادته القوية في تشكيلها، ثم حقه في أن ينعَم بجهده المشترك مع الجماعة في مجالات أنشطة المجتمع من تعليم وصحة وخدمات … إلخ، ثم ديمقراطية الفكر الاجتماعي ممثَّلًا في تياراته والذي يعني عدَم مصادرة حق الفكر في التطوُّر العلني وتعزيز قوَّته. ويعني كذلك أن الفكر الاجتماعي نسَقٌ مفتوح متجدد؛ أعني النفي المطَلق لكل فكرٍ نهائي ومطلَق. ويلزم عن هذا القول بأن إيمان الماركسية بحتمية حركة التاريخ إنما هو مصادرةٌ على حق المجتمعات في تجديد فكرها وتنوُّعه وتطوُّره. إنه مصادرةٌ لأي تطوُّرٍ مادي أو فكري يفضي إلى تغيُّر في علاقات البِنية الاجتماعية.

وأودُّ بدايةً أن أشير إلى أن الديمقراطية ثقافةٌ أو آليةٌ اجتماعية متطوِّرة باطِّراد، هي اليوم غير الأمس، محتواها وإطارها يزدادان ثراءً مع تطوُّر رؤية الإنسان للعالم بفعل التطوُّر العلمي وتطوُّر المعارف وما يقتضيه هذا وذاك من تطوُّر علاقات وصيغ التفاعُل الاجتماعي بين أبناء المجتمع. ونحن لا نستطيع أن نقيس ماركسية الأمس على ديمقراطية اليوم في ضوء مقتضيات التطوُّر الحضاري وإلا أسقطنا ركنًا أساسيًّا من أسباب انهيار النظم الحاكمة الماركسية السابقة. كما ينبغي أن أُشير إلى ماركسية القرن التاسع عشر حين قالت بحتمية التحوُّل التاريخي فإنها كانت في هذا متسقةً مع المزاج العلمي آنذاك والحتمية الميكانيكية. هذا على الرغم من جدلية المنهج؛ إذ ساد القول بحتمية المسار والغاية وأحادية الاحتمال. وثبت خطأ الحتمية إثر أزمةٍ علمية طاحنة في أواخر القرن اﻟ «١٩» ومطلع القرن العشرين، ولكن من أسفٍ أن الفكر الماركسي الذي طغى وأصبحَت له السيادة كان في أيدي عقولٍ أورثوذكسية تستسيغ الحتمية وإن ردَّدَت كالبَبَّغاء الحديثَ عن العلاقات الجدَلية في تفاعُلها وحركتها. وهذه خطيئة الجمود العقائدي والفكري بعامة. وبينما تطوَّر وتغيَّر هذا الفكر في أوروبا مَهْد الماركسية جمد وتحجَّر في بيئةٍ أخرى بعد أن دانت السلطة لأنصار الماركسية وتحوَّلوا إلى كهنةٍ محافظين .. والملاحظ كذلك أننا حين نتحدث عن الديمقراطية فإننا نتحدث عن الديمقراطية السياسية لا عن المجتمع الديمقراطي بما لهذا من دلالة تطوُّرٍ تاريخي لبِنيةٍ بذاتها .. أعني أننا نُفرغُها من تاريخيتها وشموليتها لمجموع أنشطة المجتمع، ثم إننا علاوةً على هذا نتحدث وكأننا أبناء السياق الاجتماعي والتاريخي لأوروبا بخصوصيَّتها الثقافية والتاريخية .. إن الديمقراطية صيغةٌ لها شروطها الوجودية والثقافية والتاريخية؛ لذا فهي ابتكارٌ تاريخي أوروبي لآليةٍ اجتماعية تُحقِّق حسب الافتراض أقصى قَدْر لتعبئة طاقة المجتمع في حركته وبناء علاقاتٍ اجتماعية ملائمة لهذه التعبئة وتعزيز دينامية الحركة المطَّردة نحو الهدف. وجاء هذا الابتكار استجابةً لحاجات ومتطلَّبات التغيُّر الاجتماعي في إطار الصراع، واستجابةً ملائمة للسياق الثقافي التاريخي وللهدف الحضاري؛ ومن ثَم يحمل في طياته خصوصية المجتمع في تاريخيته؛ ولهذا أقول إنها ثقافةٌ أو آليةٌ اجتماعية أو هي نوعٌ من التكنولوجيا؛ أي أداة المجتمع المعنوية المتلاحمة مع وجوده المادي في تعامُله مع الواقع. ومن هذه الزاوية ننظر إلى الديمقراطية ونضع في الاعتبار احتمالاتِ تعدُّد صيغها من بيئة أو وسطٍ تاريخي مجتمعي إلى آخر. ويصدُق الشيء نفسه حين نتحدث عن اشتراكية أو عدالةٍ اجتماعية؛ أي عن ابتكار علاقاتٍ للتفاعُل الاجتماعي وقوة دفعٍ لحركة المجتمع تكفُل له ديناميةً مطَّردة وَفقًا للمستوى الأمثل في حدود الإطار الحضاري والتنافُس الحضاري.

والحديثُ عن التناقُض المطلَق بين الماركسية، باعتبارها رمز نُظُم العدالة والمساواة وبين الديمقراطية، وكذا عن التطابُق المطلَق بين الرأسمالية والديمقراطية، باعتبارها رمز المساواة والحرية إنما هو حديثٌ مُرسَل لا تاريخي. ظَهرَت الماركسية باعتبارها القطب الراديكالي داخل الحركة الليبرالية. نادت هذه الحركة التي هي وليدةُ النزعة الإنسانية ثم التنوير وباعتبارها الوجه الثقافي لحضارة التصنيع، نادت بشعارِ حرية. إخاء. مساواة. ولخَّصَته في كلمة الليبرالية والتي تعني أدنى قَدْرٍ من تدخُّل الدولة في شئون الفرد. وطبعي أن كانت الحركة في مُستهلِّها تستهدف الغالبية من أبناء الأمة، كل أمةٍ ناهضةٍ آنذاك على درب حضارة التصنيع. وصاغت نهجها وصولًا إلى الهدف عَبْر مؤسساتٍ اجتماعية يُسهِم الفرد في الاقتراع الحر لتشكيلها. وعَبَّرَت عن هذا النهج باسم الديمقراطية.

وفارقٌ كبير بين النظر المجرَّد والواقع الاجتماعي العملي؛ ذلك أن الليبرالية انحاز بها واستأثر بمغانمها أصحابُ السلطة .. سلطة المال والسياسة .. ودار صراعُ مصالح وحقوق .. وظهر الفكر اليساري ماركسيًّا وغير ماركسي باعتباره القطب الراديكالي في هذا الصراعِ ضد احتكار الحقوق والسلطة؛ معنى هذا أن اليسار نشأ في رحم الليبرالية. ولا يمكن الحديث عن اليسار أو عن الليبرالية بدون الآخر. إنه وليدٌ شرعي رهن حركة الاستقطاب الاجتماعي، بل إن اليسار نما وترعرع خلال القرن التاسع عشر بفضل الاهتمام بقضية حقوق الإنسان والعدالة؛ أعني من منطلَق الشعار الحُلم والأُم لمراحل الإنسانية والتنوير والليبرالية (حرية – إخاء – مساواة)؛ إذ تحوَّل الكثيرون من أهل الفكر ومن العامة أصحاب المصلحة من النظام السياسي الاقتصادي الحاكم إلى اليسار .. ولكن داخل إطار الشعار الحُلم. واشتد الخلاف، بل والتطاحُن على معنى الحرية .. حرية شاملة الاقتصاد والسياسة والفكر … إلخ. حرية متوازنة .. أم حرية السوق والمشروعات كما يفهم البعض الديمقراطية الآن، والتي عبَّر عنها أحد المفكرين الرأسماليِّين حين قال إن الإنسان يُقايِض قدْرًا من حرياته مقابل قدْرٍ من طعامه والعيش في المجتمع.

تصارعَت قوى السلطة السياسية في الغرب وصاحبة المصلحة الاقتصادية ضد قوى المجتمع باسم الليبرالية. وكان هذا التناقُض قوة حَفْزٍ وصراعٍ داخل المجتمع الغربي .. واليسار الماركسي الابن الشرعي للغرب .. وسبق أن قُلتُ في مَعرضِ حديثي عن مسيرة حياة الغرب وتناقُضاته الاجتماعية وبروز قوة اليسار كتاب «نهاية الماركسية؟»: «بدأَت صدمةُ الغرب في النصف الأول من القرن العشرين بسبب الانتصار السياسي للقطب النقيض (اليسار الماركسي في روسيا) الذي أعلن بدايةَ نهاية الرأسمالية، وأن هدفه هو محو الطرف الآخر من الوجود التزامًا بحركة التاريخ وحتميته. وهذا ضربٌ من ضروب اللاعقلانية في التفكير غير الجدلي حين نفرض حتميةً خارج شروط الوجود الإنساني والتفاعل الجدلي .. ولم يَرَ هذا القطبُ أن الصراع حركةٌ جدلية بين قطبَين متناقضَين وصولًا إلى حقبةٍ أرقى بعيدًا عما يُسمَّى حتمية التاريخ شبة الغيبية.»

وتنكَّب الغرب أو سلطاته الحاكمة طريق الليبرالية .. طريق الشعار الحُلم .. وظَهرَت المحورية الأوروبية والنزعات الاستعمارية الإثنية وما استَتبعَها من مظاهر تجارة الرقيق ونهب الثروات. وفرض الغرب نفسه نموذجًا أوحدَ للحداثة، وفرض إطارَه الفكري يفسِّر به تاريخنا وواقعنا، وهذه جميعها تتناقَض مع الديمقراطية أو الليبرالية. وكان طبيعيًّا أن تقف شعوب المستعمرات ضد الغرب وتنحاز التزامًا بطبيعة حركة المتناقضات إلى الطرف النقيض أو الاشتراكية حيث النظام المناهض سياسيًّا لسطوة الغرب.

ولكن الصراع من أجل الحرية، الذي لا نفصله عن الصراع من أجل الديمقراطية، استمر واحتدم داخل الغرب الرأسمالي وداخل الشرق الاشتراكي وإن اختلفت الأساليب بحكم اختلاف البِنية والسياق والتاريخ وآليَّة التفاعُل الاجتماعي.

واجهَت بنية النظام الاشتراكي في داخلها مناهضةً قوية للحكم الشمولي واعتباره مسئولًا عن تعثُّر البديل الاشتراكي النموذج. وكان هذا الوصف «النظام النموذج» خطأً آخر وقع فيه الشرق اتساقًا مع رؤية الحتمية، ورأى نفسه نموذجًا أوحدَ مثلما اعتبر الغرب نفسه النموذج الأوحد، وعلى نحو ما يرى الأصوليون نظامهم الماضوي النموذج الأوحد الأَوْلى بالاقتداء به واتِّباعه. ومثلما تنكَّب الغرب الشعارَ الحلم تنكَّب الشرق أيضًا سبيله إلى بناء مجتمعٍ عادل حر منفتح الفكر يمتلك آليَّة التطوُّر الدينامي المطَّرد ومن ثَم يفتح أفاقًا واسعة للتعدُّد. وأخطأ الشرق الاشتراكي أيضًا إذ زعم أن بوسع أي حُكمٍ مطلَق، أو حاكمٍ فرد أن يحقق بإرادته وحدها أو بقدرة حزبه وسطوته المجتمعَ الحديث وكأنه ارتد إلى فكرٍ سابق على الماركسية الأوروبية عن المستبد العادل. والجدير بالملاحظة أن صادف هذا الزعم هوًى في نفوس قادة اليسار وزعماء الفكر والحُكم في بلدان الشرق العربي والإسلامي بحُكم الثقافة الاجتماعية السائدة والموروثة. وهكذا أهدر اليسار الماركسي في الشرق أُسس الليبرالية الباكرة إذ أهدر الحرية وأورث الفكر جمودًا وتحجُّرًا عاق حركة التقدُّم العلمي والإبداعي وعاق آلية المجتمع في تصحيح ذاته ومواجهة الأخطاء، ولكن لا ننسى أن الغرب الموصوف بالعالم الحر والديمقراطي واجه من الداخل مناهضةً قوية بسبب إهداره بند المساواة كما واجه نقدًا شديدًا للمِحْورية الإثنية الأوروبية.

ونحن أيضًا حين ننتقد جمود اليسار وشموليته، وكذا مركزية الغرب وإثنيته إنما ننطلق من الشعار الحُلم الذي كان منطلق حضارة العصر ونراه أملًا يراودنا، ولكن بمقوماتٍ جديدة وعلى نطاقٍ أوسع لكي نخطو ببلادنا على أول الطريق للاندماج في هذه الحضارة كقوةٍ فاعلة ومشاركة. وفي ضوء تاريخ مجتمعاتنا وثقافتنا نرى النقد موجَّهًا إلى اليسار واليمين في بلادنا على السواء؛ لأن الجميع ينزعون بحُكم ثقافتهم الاجتماعية المعاشة والموروثة، وبحُكم التخلُّف الحضاري وطبيعة علاقاتنا الاجتماعية إلى سلوكٍ مناهض للديمقراطية كثقافة بكل مقوِّماتها .. على الرغم من كل الصخب والعويل عليها .. إن ثقافة الديمقراطية وعلاقاتها هي النقيض المطلَق لثقافة حضارة الرعي والزراعة والمجتمعات التي تعيش على الريع .. وثقافة الديمقراطية رهن تحوُّل الواقع الاجتماعي وعلاقاته على طريق الانتماء إلى حضارة العصر بوجهَيْها المادي والفكري.

الديمقراطية وثقافتنا الاجتماعية المعاشة نقيضان لا يجتمعان .. وهكذا الديمقراطية قياسًا إلى ماركسيِّي الشرق أو إسلامويِّيه على عكس ماركسيِّي وإسلامويِّي الغرب .. إذن الجميع في بلادنا وليس الماركسيون وحدهم، ولا من يحملون صفة الليبراليين ولا الإسلامويين .. الجميع مطالبون بابتكارٍ جديد يكون استجابةً لحاجة التقدم والاندماج في حضارة العصر .. ابتكار لآلية مجتمعٍ لتعبئة جهوده الفكرية والعملية والعلمية، وتحكُم علاقات التفاعُل الاجتماعي وصراعاته وحواراته .. أي تحكُم العلاقة الجدَلية بين الفئات المتباينة، وتكون قادرةً على تصحيح ذاتها بذاتها في ضوء التعبئة الطوعية؛ أي الديمقراطية التي تدعم الانتماء.

وإذا كانت كلُّ حضارة لها متطلَّباتُها ولها نطاقُ إنجاز وتطبيق هذه المتطلبات، فإن ديمقراطية العصر بأشكالها المتباينة ليست مطلبًا لمجتمعٍ رعوي أو إقطاعي أو زراعي أو مجتمعٍ يعيش على الريع .. وإنما هي مطلب مجتمعٍ ينتمي إلى حضارة التصنيع. وازدادت الديمقراطية كثافةً أو ارتقاءً في حضارة ما بعد التصنيع أو قل هي تبشِّر بذلك .. إذ لم يعُد الإنسان مجرَّد مشاركٍ في انتخاباتٍ نيابية، ولا عنصرًا عدديًّا مستقلًّا عن سلطة ورقابة رجال الدين، بل بات إنسانًا آخر من حيث المهام المطلوبة من الإنسان العام في علاقته بالناس وبالطبيعة .. واجباته وحقوقه وتطلُّعاته، وقت فراغه واحتمالات تطوره وارتقائه .. وابتكار المجتمع لآلية تعبئة جهوده الطوعية لن يكون خاتمة المطاف، ولن تكون آليته المبتكرة نهائية، ولكنها خطوةٌ على طريقٍ ممتد طويل امتدادَ حركة المجتمعات في التاريخ، بفعل تناقُضات البِنية وعلاقات التفاعُل الاجتماعية، ودَوْر العقل العلمي في تخطيط المسيرة.

صفوة القول إن مدخلنا إلى العصر مشروعٌ يُبلوِر لنا مشكلاتنا المعرفية والوجودية ويكون محورَ استجاباتنا واختلافاتنا أو العامل الأساسي (اليسار واليمين) لتجسيد جوهر الأزمة على نحوٍ موضوعي؛ فالوعي بالأزمة موضوعيًّا هو مُنطلَق الوعي بالتناقُضات والمعوِّقات، وهو أيضًا صياغة التطوُّر المستقبلي للمجتمع .. أي منطلَق فكرٍ جديد نقدي للواقع وعملٍ جديد للبناء .. إن غياب العمل متمثلًا في مشروعٍ قومي يعني فقدان الوعي بالأزمة في موضوعيتها ويعني بالتالي ضربًا في عماء وفقدان التاريخ. وإن توفُّر الوعي بالأزمة دون الفعل الواعي في سياقٍ اجتماعي حافز للإنسان العام يعني فقدان المبادرة .. إن العمل المجتمعي سبيلُنا لطمس هُوة الاغتراب عن الواقع وعن التاريخ، ولمحو ازدواجية الوعي حيث يجمع المرء بين نسقَين معرفيَّين متناقضَين حداثيٍّ وموروثٍ دون قدرةٍ انتقادية عقلانية يحسمها واقع العمل.

والمشروع القومي الشامل هو المحدِّد لعناصر التنوير ولصياغة البِنية الذهنية للإنسان الجديد، وهو الكاشف على أساسٍ موضوعي عن المعوِّقات والتناقضات المحلية والخارجية على السواء .. في الساحة العالمية حيث يدور الصراع بين أممٍ متطورة وعدوانية النزعة وبين أممٍ تحاول ردَّ الاعتبار الحضاري لذاتها وتنتزع حقها في الوجود .. والتضافر والتكامل هو السبيل إلى انتزاع الحق .. وأقول ما قاله ماركس الشاب في عام ١٨٤٣م، لمن يلتزم الصكوك: «حتى وإن كانت مهمَّة بناء المستقبل لا تقع على كاهلنا نحن، إلا أن ما يتعيَّن أن نُنجزَه الآن ودورنا الواضح فيها هو أن نشُنَّ نقدًا لا هوادة فيه ضد الأوضاع القائمة.» ولكن أن يكون النقد نقدنا نحن لأوضاعنا نحن بكل خصوصياتها الزمانية والمكانية، وبناءً على دراسةٍ علمية تحليلية لتاريخية الظاهرة في شمولها واحتمالات حركَتها بجهودنا .. دراسة تصنع وعيًا اجتماعيًّا يُهيِّئ لنا، خلال مُناخ عملٍ وتفاعُلٍ اجتماعي حضاري لإنجاز استراتيجيةٍ تنموية شاملة، القدرةَ على إزاحة المعوِّقات المعرفية وصولًا إلى بِنيةٍ ذهنية ثقافية جديدة .. إلى صورةٍ وجودية ومعرفية جديدة تغيِّر من عاداتنا وسلوكنا، وتُكسِبنا عزمًا وإرادة على بناء الأمة والإنسان، وعلى الإسهام إيجابيًّا في بناء حضارة العصر بدلًا من أن نظل عيالًا لها.

١  رولاند فيشر، انبثاق العقل من المخ، الجذور الإحيائية للدائرة التأويلية، مجلة «ديوجين»، مطبوعات اليونسكو، القاهرة، عدد ٨٢.
٢  Karl Manheim’ ideology & utopia p. 45.
٣  رولاند فيشر، لماذا لا يتواجد العقل في الدماغ، بل في شبكة المجتمع الاتصالية، مجلة ديوجي، العدد ٩٥–١٥١، مطبوعات اليونسكو، القاهرة.
٤  المرجع السابق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤