Wave Image

العمل الاجتماعي هو المنتج والمحدد للفكر

عارض كثيرون ما ذهبنا إليه بشأن جفاف ينابيع الفكر العربي على مدى القرون الأخيرة، وتوقُّف الإبداع والتجديد مع توقُّف الفعل الإنتاجي الاجتماعي. ونعني بالفعل الإنتاجي فعاليةً اجتماعية نشِطة إزاء الطبيعة والمجتمع والإنسان في إطارٍ من التنافُس وعلى مستوى حضارة العصر ضمانًا للبقاء وسبيلًا إلى الارتقاء. واتخذنا حالةَ الفكر اليساري العربي مثالًا وشهادةً يمكن تعميمها على اليسار واليمين. واستشهدنا بالفكر اليساري لأنه يُردِّد لغةً عصرية في سياقٍ اجتماعي غير عصري.

وقيل إن الفكر العربي — يساره ويمينه — عرف مفكِّرين أفرادًا أفذاذًا أغنَوا المكتبة العربية أو الخطاب العربي بكتاباتهم وبفكرهم على مدى عصر محاولات النهضة والتحديث. ولكن مثل هذا القول يُغفِل علاقة الفعل بالفكر الاجتماعيَّين باعتبار الفعل الإنتاجي هو الأول والمنطلَق على مسار تاريخ التطور، ويُغفِل التفاعُل بين الفكر والمجتمع من خلال شهادة العمل الإنتاجي والذي يتجلَّى في حركته صعودًا أو هبوطًا، ويُغفِل أيضًا دَوْر النسَق الفكري الاجتماعي وحركته التطوُّرية من نسقٍ إلى نسقٍ بينهما قطيعةٌ معرفية.

ونعني بالنسق بداية ذلك الكل المترابط المتكامل العناصر مرحليًّا بحيث يخلُق رؤيةً شاملة عن العالم تُحدِّد نشاط المجتمع ونهجه في التعامُل مع الظواهر، ويظل في تفاعُلٍ حي دينامي مع الفعل الاجتماعي في الواقع؛ ومن ثَم يكون نسقًا معرفيًّا مفتوحًا غير منتهٍ، بل يقبل إضافاتٍ جديدة تفضي إلى تحوُّلٍ عامٍّ بفضل هذا التفاعُل الحي مع النشاط العملي الجمعي. وهكذا يكون فكر المجتمع نسقًا أو بِنيةً ذهنية جديدة لرؤية جديدة إلى العالم في اتساق مع ظروف وأوضاعٍ علمية وتقنية لحضارةٍ جديدة فاعلة نَشِطة؛ ومن ثَم يكون هذا النسق في تكامُله مُعبِّرًا بلغة؛ أي بفكرٍ جديد، عن جماعِ أنشطةِ الإنسان/المجتمع اقتصادًا وعلمًا وتعليمًا وسياسةً وعلاقاتٍ اجتماعية وصورة الإنسان والطبيعة … إلخ. وبذا يصنع إطارًا معرفيًّا/قيميًّا جديدًا.

معنى هذا أنه يستحيل علينا أن نفكِّر اجتماعيًّا، كمثال، في مفهوم الحرية الفردية من حيث هو قيمة ودَور، أو مسألةٌ مطروحة للبحث في مجتمعٍ عبودي أو زراعيٍّ متخلِّف؛ إذ إنها هنا قضيةٌ فارغة بغير موضوع. وإنما الحرية الفردية بكل تبايُناتها وتطوُّراتها كحقٍّ فطري رهن مجتمعٍ استلزم نشوء علاقاتٍ جديدة اقتضَتها نقلةٌ حضارية متميزة ومتمايزة؛ حيث الحرية الفردية استجابةٌ وضرورة في صورة آليةٍ جديدة للحفاظ على بقاء المجتمع وضمان الأسلوب الأمثل لفعاليته. ويستحيل علينا كذلك أن نتحدث أو نطرح للحوار مسألةَ حقوق البروليتاريا السياسية والاقتصادية في مجتمعٍ رعوي أو زراعي. ويستحيل أن تنشأ لغة أو أن يتواصل مجتمعٌ فكرًا بشأن مسألة حرية الفكر أو الفصل بين السلطات في مجتمعٍ رعوي قَبلي أو زراعيٍّ إقطاعي مثلًا. وحين يفرض البعض المسألة مُحاكاةً وقسرًا فإنها تغدو زخرفًا أو شيئًا مُعلقًا في الفراغ.

ولهذا ليس غريبًا أن اليابان في مستهل عصر الميجي/النهضة في نهاية القرن اﻟ «١٩» لم يكن في لغتها/فكرها مصطلحٌ مقابل الحرية الفردية. ودار جدلٌ طويل حول كيفية ترجمته وعن معناه. كذلك الحال في الصين حيث كلمة الحرية الفردية الجديدة تعني حرفيًّا «ما هو مُنتقَص من السلطان»؛ فالتاريخ الصيني أو الفكر الصيني لم يُنتِج رسمًا أو كلمة تعني حقوقًا فردية بمعنى حقوقٍ سياسية أو حقوق الإنسان على نحو المفهوم الذي استحدثَته أوروبا وتطوَّر ابتداءً من الثورات الإنجليزية والماجنا كارتا ليغتَني المدلول ويتعدَّد باطِّراد. ونجد عبارة حقوق الإنسان الآن في الصين من رسمَين؛ قوان لي، Quan Li أحدهما يعني سلطة أو قوة والثاني يعني «نفع أو فائدة»؛ أي الحقوق التي من المفيد أن يُسبِغها صاحبُ السلطة، وبالطبع يستقطعها من نفسه وليست الحقوق الفطرية كما يُشير أي إعلانٍ لحقوق الإنسان وليدة عصرِ الحداثة. وكذلك الحال في مجتمعاتنا العربية لو حلَّلنا وتتبَّعنا إيتمولوجيًّا لفظتَي الحرية والفردية ومفهوم كلٍّ منهما وتطوُّر دلالته في التاريخ؛ إذ نجد مصطلح الحرية الفردية صياغةً حديثة بغير مضمون في الممارسة وغير مغروسٍ في الثقافة الاجتماعية وإسقاطه لا يترتب عليه أزمةٌ اجتماعية. ولا تزال الحرية هي حرية الحاكم، وهي اجتماعيًّا مِنَّةٌ من الحاكم. ولا تزال المجتمعات العربية حين يفكِّر مثقَّفوها وأبناء النخبة في الديمقراطية يفكِّرون فيها كشِعار، وتتطلَّع الأنظار إلى الحاكم صاحب السلطان لأنه المانع المانح .. ثم إن الفرد المثقَّف تزداد مساحة حريته بازدياد قُربه وولائه من صاحب السلطان، وتحدث المفارقة إذ تعني الحرية هنا نقيضَها وهو المزيد من الطاعة والولاء.

ولهذا نقول إن اللغة/الفكر شاهدٌ على أن العمل الاجتماعي هو المصدر، وإن أوروبا التي ننهل من منابعها لنُردِّد ونقول نحن نفكر لم تبدأ إبداعها الفكري إلا في العصر الحديث .. إذ أبدعَت فكرًا حين أبدعَت عملًا انتقل بها حضاريًّا وتغيَّر جذريًّا نمطُ تنامي الإنتاج، وأصبح بين الفكر والعمل جدلٌ مطَّرد على مستوًى جديد. وشهادة من حياتنا الاجتماعية القديمة؛ إذ نجد، كمثال، أن المعارف الفلكية وتقسيم السنة إلى شهور هو ثقافةُ مجتمعٍ يعمل بحرفة الزراعة في ظروفٍ بيئية طبيعية لها خصوصيتها، وبذا كان للمعارف وظيفةٌ في النشاط الاجتماعي تدعم المعرفة وتطوِّرها مثلما كان هذا العمل باعثًا ومحدِّدًا لها؛ إذ هل كان بإمكان المصري في العصر القديم مثلًا أن يضع ثقافة شهور السنة إلا تأسيسًا على حرفة الزراعة كعملٍ اجتماعي لا فردي، وهو ما يصدُق على الصين أو ما بين النهرَين؛ أي في ضوء خبراتٍ يتبادلها ويصوغُها أبناء المجتمع في صورةٍ ثقافية اجتماعية؟ وهل كان بإمكان الفلاح أن يُبدلَ هذه الشهور بالشهور العربية التي لها قدسيةٌ دينية ورمزية ليهتدي بالشهور البديلة في عمله الزراعي وحركته وتنبُّؤاته الخاصة بالطقس مثلًا؟ إن حياة الفلاح المصري تُجيب على هذا السؤال؛ فقد أصبح المجتمع الريفي يلتزم تقويمًا سنويًّا اثنينيًّا أو ثلاثيًّا محتفظًا بتقويمه القديم لأغراضٍ عملية إذ هو دليله في عمله الزراعي.

لهذا فإن ما نريد أن نؤكِّده كبُعدٍ أساسي يُغفِله المثقَّفون عادة في مناقشاتهم لمسألة الفكر العربي، والفكر بعامة هو بُعد العمل الإنتاجي الاجتماعي ومضمونه الحضاري باعتباره المحدِّد الأول لعلاقات التفاعُل المجتمعي والمنتج الأساسي للثقافة وللفكر الاجتماعيَّين، والمحك الحضاري الشاهد على صدق أو زيفِ فكرٍ ما اجتماعي لا فردي .. وجمود العمل يُفضي إلى نزعة المحافظة ومن ثَم جمود الفكر .. قل لي ماذا يعمل المجتمع أقول لك ماذا يُنتِج من فكر. والذي نبحث عنه وننشُده هو فكرٌ اجتماعي قرين عملٍ إنتاجي يُعزِّز انتماءنا إلى العصر.

إن الفكر الاجتماعي ليس كما يتصور البعض فكرًا نظريًّا من إبداع فردٍ عبقري، مستقل وغير مشروط اجتماعيًّا. وإنما الفكر الاجتماعي نشاط أو منتجٌ اجتماعي وإن جاء على لسان فردٍ مفكِّر فيلسوف أو عالمٍ فنَّان. إنه فكرٌ له شروطه السوسيولوجية وقرين مستوًى حضاري، ومن مؤشِّراته فعالية الإنسان؛ ومن ثَم يكون الفكر جزءًا من نسق أو إطارٍ معرفي/قيمي ومتسقًا معه .. إلى حين. قد يكون الفكر في مجال علمٍ متخصص أو مبحثٍ إنساني بذاته، ولكنه بعض هذا النسق أو الإطار الاجتماعي؛ ومن ثَم يتسق معه ليؤلِّف المجموع إطارًا معرفيًّا/قيميًّا في مستوًى حضاريٍّ مميز.

مثالُ ذلك مفهومُ الزمن كثقافةٍ اجتماعية وكفكرٍ فلسفي نراه في المجتمعات الرعوية والزراعية يعني الدهر الأبدي ذا السطوة على الإنسان وهو القادر على التدبير صاحب الأمر، منه المبدأ وإليه المعاد. والإحساس الثقافي الاجتماعي بالزمن ليس التواتُر تأسيسًا على زخم الأحداث والأفعال في تعاقُبهما، بل إنه امتدادٌ مسطَّح لذرَّات أشبه بذرَّات الرمل بغير نظامٍ يسمح بأن تقتطع الحدث منفصلًا عن السياق، إنه تعاقُبٌ غير متصل ولا منتظم، وليس تتابعًا سببيًّا لأن السبب الأول خارجه.

وإذا تأمَّلنا مسألة الزمن مفهومًا ومدلولًا في عصر حضارة الصناعة حين أصبح الفعل الإنساني إرادة وأحداثًا متعاقبةً سريعة التلاحُق نجد الزمن هو التاريخ، تاريخ الفعل الإنساني/الاجتماعي في تعاقبٍ سببي شأن سببية الفعل الإنتاجي المادي. ونرى إيقاع الزمن أمرًا محسوسًا للإدراك، آخذًا في التسارُع باطِّراد مع تسارُع التطوُّر التقاني وأثَره المحسوس في المجتمع وضرورة ملاحقته وما يترتَّب على النجاح أو الفشل في الملاحقة من إيجابيات أو سلبياتٍ اجتماعية وفردية.

ولنتأمل معنى الزمن ودلالته وتطوُّره في ظل الآلة البخارية ثم الطاقة الكهربائية ثم الطاقة النووية ثم الزمن واحتمالاته في عصر الإلكترونيات وثقافة المعلوماتية وتجلِّيات هذا كله في العمل والفكر الاجتماعيَّين على السواء.

وهكذا تغيَّر الزمن مفهومًا ومدلولًا وقيمةً في الفكر النظري وفي الممارسات الاجتماعية .. وتجلَّى هذا في المجتمعات التي تحوَّلَت حضاريًّا دون غيرها .. وظَهرَت بحوث ودراساتٌ علمية وفلسفية عن الزمان رهن واقع الفعل أو النشاط البحثي العلمي الذي هو تجلٍّ للنشاط العملي الاجتماعي. مثال ذلك أن مفهوم الزمن من حيث هو بُعدٌ رابع والذي جاء على لسان أينشتين وعبَّر عنه في نظريته عن النسبية ليس اجتهاد فردٍ عبقريٍّ مقطوع الصلة بالشروط الاجتماعية، إنما هو مشروط بمستوى تطوُّرٍ اجتماعي حضاري، أعني رهن مستوًى علمي تقني هو الوجه المعبِّر عن حضارة بذاتها وعن قضايا حضاريةٍ متواليةٍ ومتوالدة يغذِّي بعضُها بعضًا في حركةٍ متطورة.

لذلك أرى أنه ما كان ليتحقق إلا في أَوْج حضارة عصر التصنيع وخطوة على الطريق إلى عصر المعلومات؛ ومن ثَم فإن هذا الشرط الحضاري الذي هو جماع مظاهرِ تطوُّرٍ اجتماعي علمي وتقني … إلخ. كان السبب والمناسبة لكي ينتج العالم العبقري أينشتين نظريتَيه عن النسبية الخاصة والعامة كامتداد لتطوُّر علم الفيزياء في المجتمع العلمي المتعدِّد المباحث وفاءً لتطوُّرٍ اجتماعي شامل ولكي يتردَّد صداها في النظريات الإنسانية مثلما تردَّد في السابق صدى نظرية التطوُّر واتسع نطاقها من التطوُّر البيولوجي إلى التطوُّر منهجًا ونظرية في العلوم المختلفة.

ولنقُل الشيء ذاته عن مفهوم فيرنر هيزنبرج عن علاقة عدمِ التحدُّد؛ فهذا المفهوم رهن زمانٍ ومكان لهما شروطهما الحضارية العامة المتمثِّلة في إنتاجٍ علمي هو إنتاج مؤسسةٍ علمية اجتماعية مترابطة وإن تعدَّدَت فروعها؛ أعني أن هيزنبرج ما كان له أن يقدِّم هذا المفهوم إلا باعتباره عالم فيزياء واجه مع أقرانه مشكلاتٍ تجريبية دار بشأنها جدلٌ ممتد، وتمرَّس علميًّا وعمليًّا واجتماعيًّا على هذا العلم، وهيأ له المجتمع إمكانات البحث، وعبَّر المجتمع عن حاجته إلى هذا العلم أو البحث العلمي، وكشفَت البحوث العلمية على يدَيه وعلى أيدي أقرانه مشكلاتٍ علميةً تجريبية تستلزم حلولًا جديدة ونظرة إلى العالم وإلى الظواهر مغايرة. ومن هنا جاءت عبقريته في علم الفيزياء وفلسفتها أداة اجتماعية متميزة للاستجابة والاكتشاف للمرحلة التاريخية. ومن هنا أيضًا كانت أزمة علم الفيزياء، أو أي علم آخر، يتردَّد صداها لتكون أزمة المجتمع العلمي. وطبعيٌّ أنَّ تقدُّم علم الفيزياء هو تقدُّمٌ اجتماعي قرين مظاهرَ أخرى للتقدُّم في علوم عديدة تؤلِّف معًا نسقًا لعلوم الإنسان والطبيعة يُؤثِّر في بعضها البعض ويغذي بعضها بعضًا. وأخيرًا لم يكن بالإمكان أن يظهر مفهوم علاقة عدم التحدُّد إلا في شروط هذا المجتمع الذي بلغ مستوًى رفيعًا في التقدُّم الحضاري لحضارة عصر التصنيع تحديدًا دون أي حضارةٍ أخرى سابقة. والإفادة العلمية بهذا المفهوم، وكذا تطويره، وتجلياته في الفكر الاجتماعي، لا تكون إلا في مجتمعٍ حقَّق مستوًى مناظرًا من التقدُّم الحضاري وإلا تحوَّل الحديث عنه مجرَّد رِطان.

هكذا كان أينشتين وهيزنبرج، أو هكذا كان فكرهما العلمي والفلسفي حلقة في سلسلةٍ ممتدة مع زمنٍ بدايته حركة المجتمعات الأوروبية نحو النهضة وبناء مجتمعاتٍ جديدة حضاريًّا متطورة فكرًا وعملًا، وصدًى لحوار ومشكلاتٍ علمية زخر بها المجتمع العلمي استجابةً لواقعٍ حضاري اجتماعي نَشِط. وهكذا أيضًا كان بيكون وديكارت واسبينوزا وهيجل وجرامشي وماركس وكينز وآدم سميث وشارلس ديكنز كلٌّ في مجاله ومعًا في أوروبا وبيرس ووليم جيمس امتدادًا لأوروبا في الولايات المتحدة أو غيرهم وغيرهم بمن فيهم أعلام الفن والنقد الأدبي حيث الجميع بعض نسيج المجتمع وكلٌّ يحكي مرحلةً من مراحل تطوُّره. قصة ممتدة إلى أن وصلنا إلى مفكِّري ما بعد الحداثة وخصومهم ولا نستطيع أن نعزل فكر واحدٍ منهم — فوكو، ليوتار، دريدا، هابيرماس — كمثال عن واقعه ونراه مبدعًا فردًا مفارقًا، وكأنه يفكر لنا، بل لا نستطيع أن نفهمه ونستوعبه ونتبنَّاه أو نرفضه بفعالية إلا إذا عشنا ظرفه الوجودي التاريخي، أو كان لنا ظرفٌ وجوديٌّ له فعاليةٌ اجتماعية إنتاجية نَشِطة. ولا نستطيع أن نعزل أيًّا منهم عمن سبقوه لأن العمل الاجتماعي ممتد، والفكر الاجتماعي قرينه امتدادًا وتطورًا وتنوعًا. ولا نستطيع أن نعزل قضاياه الفكرية محتوًى وصياغةً عن واقع الحياة الحضارية المعيشة بتناقُضاتها .. وإن كلًّا منهم شاهدٌ على واقع عصره صعودًا أو هبوطًا، ديناميةً أو جمودًا، وشهادتهم أنَّ نبع الفكر ثَرٌّ فيَّاض؛ لأن الواقع نَشِط يطرح مشكلاتٍ جديدة، وفكرٌ نَشِط يستجيب في محاولة لصوغ الإطار المرشد ووضع الحلول في حركةٍ موازية مع حركة الواقع المتجه إلى طرح الجديد من المسائل. وإذا توقَّف المجتمع الغربي عن الفعل، مثلما كان قبل النهضة فسوف يتوقَّف عن العطاء الفكري؛ فمشعَل الحضارة لا يتوهَّج إلا بزيت الفعل الإنتاجي الاجتماعي.

واستطرادًا نسأل ألم يكن الفكر اليساري على لسان ماركس حصاد تاريخ نشأةٍ وتكوينٍ اجتماعيَّين متميزَين في الغرب، وسجالًا ضمن معاركَ فكريةٍ واسعة ومتباينة هي تعبيرٌ عن قضايا وليدة الحركة الإنتاجية ونمط التنامي الإنتاجي الرأسمالي الصناعي وليس تهويمًا أو إبداعًا نظريًّا. وجاء هذا الفكر على لسان كلِّ طرفٍ التماسًا لحل مشكلاتٍ يطرحها الواقع الاجتماعي المتطور علميًّا وتكنولوجيًّا ومن ثَم فعاليةً اجتماعية إنتاجية. تنوَّعَت التيارات الفكرية، وجميعها تياراتٌ مرحلية، تعبيرًا عن تنوُّع مسارات التطور الحضاري الذي عايَشَه الغرب في محاولة لصَوغ نَسقٍ فكري يكشف عن نظرةٍ جديدة إلى العالم في اتساقٍ مع علوم العصر. وما كان لتيارات الفكر أن تظهر إلا قرين هذه الخصوصيات التطوُّرية في زمان ومكانٍ محدَّدَين.

ولقد كان الفكر اليساري في الغرب نسقًا مفتوحًا؛ ومن ثَم تطوَّر وتعدَّدَت مذاهبه، على عكس الحال في الشرق العربي إذ يتحول على أيدي أنصاره إلى عقيدةٍ جامدة أو نسقٍ مغلقٍ اتساقًا مع ثقافةٍ اجتماعيةٍ سائدة. وهذا هو عينُ ما نجده في الفكر السلفي؛ جمودٌ عقائد وخواءٌ اجتماعي وفكري، ومشكلاتٌ نظرية ماضوية، هي تهويمات مع السلف نفرضها قسرًا للنظر على هديها إلى واقعٍ راهن مغاير.

وأعود لأقول إن مفهوم التغيُّر والتغيير؛ أعني قدرة الإنسان على تغيير الواقع، وكذا الإيقاع الزمني لهذا التغيير، ما كان ليظهر إلا في ظل حضارة عصر التصنيع الذي هو عصر العمل المكثَّف والإرادي المتسارع والمعتمد على طاقةٍ غير الطاقة العضلية للإنسان؛ فالإنسان في حضارة الرعي أو قطف الثمار يكاد يكون كائنًا يعيش حياته. الحياة أو الطبيعة هنا تُعطيه دون جهدٍ منه تقريبًا ولا حيلة له إزاء العطاء ضنًّا منها أو سخاء؛ أعني دون أن يتدخل هو في تغييرها؛ أي دون أن يعمل باعتباره مجتمعًا، لا فردًا، في تغيير الشروط الوجودية المحيطة به التي تتحكم في العطاء للمجتمع. إنه قد يقنع بأن يستظل بشجرة تاركًا أغنامه ترعى وتتوالد فيرى ثروةً تتكاثر دون جهدٍ منه .. إنه عطاءٌ مطلَق من حيث لا يدري. ويكفيه في مجال الفكر التأمُّل النظري المجرَّد إعجابًا ودهشة واعترافًا بالقدَر إن أعطاه أو ابتلاه.

ويصوغ المجتمع إطاره المعرفي/القيمي تأسيسًا على هذا. وها هنا يكون فكر المجتمع وبِنيتُه وعلاقاته رهن هذه الشروط الوجودية التي يفرضها ويحدِّدها نمط الإنتاج ونمط التنامي الإنتاجي الذي يكاد يكون الحاصل فيه صفرًا؛ إذ لا سبيل إلى التنمية والتوسُّع في حدود ما هو متاح طبيعيًّا.

وينزع فكر المجتمع الرعوي إلى تأكيد سلطة الشيخ ظلًّا موازيًا لسلطة القدَر وامتدادًا للسلف، وأنه هو الراعي وهم الرعية. والفكر عندهم هو فكر الشيخ أي العقيدة التي هي تجسيد للقبلية/الأمة؛ والفضيلة هي الطاعة وصدق الإيمان والتلاحُم على أساس رابطة الدم أو العِرق. وإذا ضاقت بهم سبل العيش تطلَّعوا بعيونهم إلى من يعيشون في سعة. وسلوكهم الإغارة آليَّة لتنامي الإنتاج وإن ارتدَوا أقنعةً ثقافية تُبرِّر حقهم في الإغارة. وليس الوطن من قضايا الفكر؛ إذ لا معنى للوطن ما دام نمط الإنتاج لا يعرف ارتباطًا بأرض، وليست الأرض في ذاتها ضمانًا للبقاء. ولا تتجاوز قضاياهم الفكرية هذه الحدود.

وكذلك حال الإنسان/المجتمع في حضارة الزراعة. إنه يكِد ويكدَح بدنيًّا من أجل البقاء، ولا يعرف تفسيرًا سببيًّا كامنًا في ظاهرة الإنتاج واطِّراد حدوثها، ولا يُشكِّل جهده تدخلًا في مسار الأحداث، ولا يملك وسيلةً للتدخُّل أو حافزًا للبحث عن الأسباب والتطوير. إنه لا يعرف الأسباب، ولكنه يعرف اقتران الأحداث. يُقنِع الزارع بغرس البذرة وريها ومعرفة مواقيت الإنبات والحصاد، وليس له من فضلٍ في تدبير الماء واستنبات البذور. ونجد نمَط تنامي الإنتاجية هنا يُهيِّئ له هامشًا ضئيلًا من فائض الإنتاج اعتمادًا على قوَّته العضلية ومساحة الأرض المنزرعة. وتتحدَّد بِنية المجتمع وعلاقاته على أساس نمط الإنتاج ونمط التنامي. ونجد لغة المجتمع من حيث هي التعبير عن الفكر الاجتماعي لغةً تؤكِّد الإرادة الشاملة لقوة لها المشيئة في كل صغيرة وكبيرة وأنْ لا حَول ولا طَول للإنسان. وهنا يكون فكر الإنسان/المجتمع رهن مستوًى حضاري، وهو على الإجمال يعيش حياته.

هذا على عكس الإنسان/المجتمع في حضارة عصر الصناعة، ثم حضارة ما بعد التصنيع. نمطٌ جديد للإنتاج، ونمطٌ جديد غير مسبوق للتنامي الإنتاجي الاجتماعي، وعلاقةٌ جديدة تمامًا بين الإنسان والطبيعة، وتغيُّرٌ جذري في العلاقات الاجتماعية وهيكل المجتمعات، وفكرٌ جديد متنوِّع متسارع التغيُّر في موازاةٍ لتسارُع التغيُّر في الإنتاج. الإنسان هنا يغيِّر الحياة والطبيعة .. هنا تظهر فلسفات الإرادة والتغيير بقوة وكثافة؛ أي تغيير الواقع والطبيعية بإرادة الإنسان/المجتمع. وهنا تحدُث طفرةٌ في منهج البحث أو المنهج العلمي للبحث، وتتأكَّد الحاجة إلى فهم اطِّراد ظواهر وقوانينِ حركة الطبيعة وعلاقاتها؛ لذلك ظهر إلى جانبِ منطق القياس منطقُ الاستقراء ومنطق العلاقات ثمرةً للتحوُّل الحضاري في المجتمع وليكونا بعض النسَق الفكري الاجتماعي الجديد، ويُسهِما في صنع بِنيةٍ ذهنية جديدة بينها وبين السابق قطيعةٌ معرفية وإن تضمَّنَت السابقَ ولكنها تجاوَزَته. والفكر هنا لا يعتمد التجانسَ مظهرَ قوة وصدق بل التنوُّع مصدَر ثراءٍ ودينامية. وطبعي أن يظهر النقيض في سياق جدَل العلاقة بين العقل والوجدان ويتحرَّك الفكر في دوراته الجدَلية ولكن على نحوٍ أكثر خصوبةً وتنوُّعًا وتعقُّدًا.

ويتجلَّى هذا التحوُّل الحضاري في اللغة/الفكر؛ إذ تنشأ لغة العلم. ويتبدَّى هذا واضحًا في اللغة الطبيعية؛ أي لغة المجتمع السائدة؛ حيث نجد مجالًا لإرادة الإنسان في صُنع حياته، ومجالًا للفعل العقلاني في التغيير واستكشاف الأسباب الكامنة في اطِّراد أحداث الطبيعة والوجود الاجتماعي.

لهذا السبب نقول إن الفكر الاجتماعي — من حيث القضايا وأسلوب المعالجة والفعالية الإبداعية — مشروطٌ اجتماعيًّا رهن ظروفٍ وأوضاعٍ حضارية. وإن نجاح الفكر الاجتماعي ليس مرهونًا باستيراد أفكار وقوالب وأساليبِ معالجةٍ جاهزة من الماضي أو من مكانٍ آخر في الحاضر فنعيش إحدى غربتَين في الزمان أو في المكان، بل النجاح رهن إنتاجِ فكرٍ استجابةً لحاجاتٍ وتحوُّلاتٍ محلية بفعلنا نحن وتفاعُلنا مع الآخر على صعيد حضارة العصر فتكون أصالة فعلٍ وفكرٍ معًا. وهنا يكون الفكر الإبداعي تعبيرًا عن حالةٍ من التكيُّف مع واقعٍ جديد متغيِّر، وتعبيرًا عن إرادةٍ اجتماعية في التغيير، وأيضًا بالتفاعُل الحر مع الفكر العالمي.

معنى هذا أن المجتمع العربي حين يطرح مثقَّفوه قضية التغيير ويفكِّر بلغة حضارة التصنيع أو ما بعده فلا بد وأن يأتي هذا تعبيرًا عن تحوُّلٍ حضاري حقيقي في واقع الحياة وفي نمَط تَنامي الإنتاج، وفي هيكل المجتمع وفي العلاقات الاجتماعية … إلخ، فتكون اللغة أو يكون الفكر في اتساقٍ مع الواقع وتعبيرًا عن مشكلاته وتجلِّياته، واستجابةً له. وهنا يكون الفكر العربي في تفاعُله مع الفكر العالمي عامل تعزيزٍ وإضافة وإفادة؛ أي تلاقُح فكري. وها هنا تتعزز الوظيفة المعرفية التي هي قفزةٌ أو نقلةٌ حضارية في مجال الفكر/اللغة والمعرفة والعمل الاجتماعي معًا وفي آنٍ واحد.

ولكن أن يعبِّر فردٌ عبقري هنا أو هناك عن فكرٍ جديد — غالبًا ما يكون شِعرًا وقصة — ليس قرين تحوُّلٍ اجتماعي، وغير مؤسَّس على منهج تغييرٍ إرادي اجتماعي للواقع يربط بين الفكر والعمل الاجتماعي في تفاعُلٍ جدلي سوف يظل غريبًا أو مغتربًا ولن يصنع نسقًا لفكرٍ اجتماعي جديد يُحدِث قطيعةً أو قفزةً تطورية معرفية. وسوف يظل كل فرد يُعبِّر بنفسه عن رؤيته ورأيه في استقلال عن الآخر. وهذا عينُ ما حدَث إذ قدم مفكِّرون أفرادٌ متميِّزون إنجازاتٍ فكرية كل بجهده الخالص في استقلالٍ عن الآخرين تعبيرًا عن طموحٍ وآمال وتطلُّعات وليس تعبيرًا عن احتياجٍ واقعي لتحوُّلٍ حقيقي في العلاقات والهموم الاجتماعية؛ ومن ثَم ظلَّ كلٌّ منهم مفكرًا فردًا وإن لم يكن فرديَّ النزعة. وظل كلٌّ منهم تقليدي البنية وإن عَبْر رؤية نظرية مستقبلية. وظل فكر كلٍّ منهم رجع صدًى وليس إبداعًا من وحي مشكلات وعمل الواقع؛ ولهذا نقول إن زهرةً واحدة أو زهراتٍ متفرقات لا تصنع بستانًا ولا حتى باقة؛ ولهذا لم يصنع المفكِّرون تيارًا؛ ولهذا أيضًا فإن المفكِّرين، وهم أفرادٌ كلٌّ منهم يُضمِر اثنينيةً فكرية، لم يصنعوا نسقًا اجتماعيًّا لفكرٍ اجتماعي يُعبِّر عن حضارةٍ جديدة يقف على عتبتها مجتمعٌ ناهض.

ولهذا كان الفكر الحضاري الجديد يزدهر أكثر مع مراحل المد الثوري وكثافة احتمالات التحوُّل الحضاري؛ وينتكِس أو يرتَد في حالات النكسة والردَّة الاجتماعيَّتَين؛ ولهذا كان المفكِّرون المستقبليُّون يردِّدون بحسن نيةٍ قوالبَ فكريةً صادرة عن عقل حضارة تجاوزَتْنا وإن كنا ننشُدها، بينما يعيشون اجتماعيًّا وثقافيًّا ظواهر حياتنا بعقلٍ زراعي أو رعويٍّ قَبلي. وعاشوا أو عانَوا ثنائيةً أو ازدواجيةً فكرية متجاورة غير متفاعلة؛ ومن ثَم كان يسيرًا جدًّا على البعض، بل وكان طبيعيًّا، أن يرتدُّوا، مع حالة الانتكاس الاجتماعي، إلى فكرهم الموروث وينسجموا مع التقليد من جديد.

وها نحن الآن نرى المجتمعات العربية تغشاها حياة الاعتماد على الريع لا الفعل الاجتماعي النشِط المفضي إلى التغيير. ونرى من يقدِّم النصح للشعوب العربية لكي تحقِّق ثرواتٍ طائلة عن طريق أنشطةٍ اجتماعية خدمية لا إنتاجية مما يرسِّخ الهُوة الحضارية والمعرفية، ولنا أن نسأل: حياة الريع، وإن حقَّقَت ثرواتٍ طائلة من نِفط أو سياحة، أي فكرٍ تُنتِجه وتحتاج إليه؟ ماذا عسى أن يشغل العلماء من قضايا علمية وماذا عسى أن تهتم به الجامعات ومؤسسات البحث العلمي؟ وما الذي تفعله حياة الريع لنكون قوةَ إنتاجٍ إبداعي في العلم الطبيعي؟ وما هو نمَط تنامي الإنتاج في ظل حياة الريع غير زيادة صادرات المواد الخام أو مضاعفة الوفود السياحية؟

مرةً أخرى الفكر الاجتماعي نشاطٌ أو منتجٌ اجتماعي وتعبيرٌ عن حاجةٍ اجتماعية واستجابةٌ لها، متطور أبدًا وجهدٌ إرادي للتكيُّف. وحياة الريع تعتمد الفكر المحافظ، وتركَن إلى التقليد، وتعزف عن التغيير مفهومًا وأداة، وتُسقِط إرادة الإنسان في الفعل والتغيير، وتقنَع بالقائم الموجود، وتتمنى له أن يبقى ويدُوم، وهذا كلُّه على نقيض حضارة عصر التصنيع وعصر المعلوماتية .. إنسان غير الإنسان فكرًا ولغة وعقيدة وفعالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤