Wave Image

الديمقراطية والتحديث الاجتماعي العربي

الديمقراطية هي الحل! شعار يردِّده المثقَّفون حين يتعرَّضون في حديثهم لموضوع التطوُّر الاجتماعي والتقدُّم. ويَرونَ في صورته العامة المُجتزَأة البلسمَ الشافي في جميع بلدان العالم الثالث .. الاقتداء بالغرب «الديمقراطي» لضمان المسيرة نحو المستقبل الحداثي، وسد الهوة بين التخلُّف والتقدُّم. ويزيد المثقَّفون ورجال السياسة خطابهم تفصيلًا فيُحدِّثوننا عن خطواتٍ إجرائية، وتدابيرَ ذاتِ طابعٍ سياسي في المحل الأول؛ انتخابات نيابية، ومجلس تشريعي أو مجلسين، وأحزاب، وحق تداول السلطة .. إلى غير ذلك من أمورٍ تنحصر في مجال السياسة الاجتماعية وإن ظلَّت أسيرة جدلٍ نظري.

وتبدو الديمقراطية حسب هذا التصور، وخطواتها الإجرائية السياسية وكأنها وصفةٌ محدَّدة العناصر، محدودة المجال، صالحة للتطبيق، جاهزة للنقل من مجتمعٍ إلى آخر. إنها في رأيهم، إجراءاتٌ وتدابيرُ يكفي أن ينادي بها المُعارِضون والمثقَّفون بعامة، ويكفي أن يقتنع بها ذوو السلطان ويصدُر بها فرمانٌ باستيرادها وتطبيقها ليغدُو المجتمع ديمقراطيًّا .. ولو تخيَّلنا الأمر على هذا النحو لاكتشفنا في ضوء تجاربَ جزئيةٍ تاريخية أن هذه الوصفة العلاجية سرعان ما تحوَّلَت بالفعل إلى إجراءاتٍ شكلية .. زُخرفٍ يتحلَّى به المجتمع إلى حين، يتباهى به قولًا لا عملًا، ويعجز الإنسان عن أن يتجاوز منطقَ التطوُّر التاريخي للمجتمعات وخصوصيتها الثقافية الحضارية.

وأحسب أننا نخطئ تمامًا إذا تصورنا نظريًّا أن ثمة شيئًا اسمه الديمقراطية السياسية، ظاهرةً منفصلة، وكيانًا مستقلًا، ووصفةً متكاملة جاهزة للاستيراد لعلاج أمراض المجتمعات. وكم أخطأنا، من منظورٍ تاريخي علمي، إذ ردَّدنا أن الديمقراطية نظامٌ اجتماعي قديمٌ قِدَم عصر الإغريق، وأن الإغريق أول المجتمعات تطبيقًا وتعريفًا لها ومعرفةً بها. لقد كنا هنا نردِّد مقولة الرجل الأبيض الأوروبي المؤمن بالمِحوَرية الأوروبية، وأن كلَّ ما هو جيد في تراث الإنسانية هو سليل حضارة الغرب/الإغريق. ويلزم عن ذلك بالتالي أن بلدان الإنسان «الحامي» أو «السامي» دون الآري هي بلدانٌ عقيم لم تبتكر أثَرًا حضاريًّا صالحًا للإنسانية.

وحقيقة التاريخ غير ذلك؛ فالمجتمع اليوناني القديم لم يعرف معايير ديمقراطية العصر الحديث ولا ظروف وأسباب تطوُّرها ونشأتها الاجتماعية ومحدِّدات معالمها؛ إذ كان المجتمع الإغريقي منقسمًا بين أحرار وعبيد. لم تكن هناك مساواةٌ في الأعباء المدنية والاجتماعية بعامةٍ مثل الضرائب التي يُسهِم فيها الأحرار المتميزون، أما الأرقَّاء فعليهم السُّخرة، وهم بعض المَتَاع، وليس لهم حقُّ الإدلاء برأي، أو قل ليس لهم رأي؛ فهم تابعون في عداد السائمة، ولم تكن المرأة مساويةً للرجل دَورًا ومكانة … إلخ. هذا فضلًا عن أن نظام إدارة المجتمع الإغريقي لم يكن نظامًا متميزًا ولا متمايزًا قياسًا إلى مجتمعات العصور القديمة، التي اعتاد حكامها الاعتماد على مشورة المقرَّبين من أهل الحكمة والرأي وإن تباينَت مُسمَّياتهم.

إن استخدام الإغريق للكلمة أو المصطلح لا يعني أنهم أوَّل من ابتدع نظام حكمٍ ديمقراطي في التاريخ على النحو الذي نفهمه الآن؛ أولًا لأن محتوى المصطلح في عصرنا غيره قديمًا، سواء من حيث المفهوم أو الدلالة الوظيفية والأساليب الإجرائية والوعي الاجتماعي به وشروطه. ثانيًا إن هذا القول فيه إغفالٌ لتطورية التاريخ الاجتماعي؛ ذلك أن النموذج الإغريقي نشأ داخل مجتمع تحكمه قيودٌ صارمة لا تنطوي على ديناميات التطوُّر وإعادة الملاءمة في الزمان وفقَ متغيراتِ محتوى الواقع الاجتماعي الحي. وكان شأنُه شأنَ نُظمٍ اجتماعية عديدة — نظام الدولة/المدينة — في قديم الزمان، وربما شأن مجتمعاتٍ راهنة لا تزال على تخلُّفها في عصرنا هذا من حيث العلاقات الاجتماعية والدور الاجتماعي (المرأة مستبعدة أو منتقَصة، ونظامُ حياةٍ اجتماعية قائمٌ على الاسترقاق حيث الرقيق أداةٌ اجتماعية للإنتاج وضرورية لبقاء المجتمع على صورته التقليدية؛ فهم أساس الاقتصاد، وإلغاؤهم أو مساواتهم وتحريرهم يعني التحوُّل إلى بنيةٍ اجتماعية مغايرة). هذا علاوةً على مجتمعاتٍ محلية أخرى كثيرة مهمَّشة داخل الدولة المدينة الإغريقية.

والحديث عن الديمقراطية باعتبارها الملاذ والعلاج إنما ينصَبُّ أساسًا في بلدان العالم الثالث على ما يُمكِن أن نُسمِّيه إجراءات وشكليات الديمقراطية السياسية؛ أعني إجراءاتٍ وتدابيرَ هيكلية تتعلق بنظام إدارة وحكم المجتمع والعلاقة المتبادلة بين عناصر البِنية ذات السلطة السياسية أو صنع القرار، ولكي نتحدث عن مدى ملاءمة الديمقراطية لتحديث المجتمعات المتخلِّفة، علينا أن نسأل، وضعًا للأمور في نصابها، وتحديدًا واضحًا للمفاهيم، هل هذه الشكليات هي الديمقراطية حقًّا؟ أو ماذا نعني بالديمقراطية؟

نعم الديمقراطية في الممارسات الاجتماعية هي التي تُضفِي هالة المشروعية على الحياة السياسية الحديثة. مثال ذلك أن القوانين والسياسات والقرارات والأحكام تكتسب مشروعية وتبريرًا عندما تُوصَف بأنها ديمقراطية وفقًا لمعاييرَ محدَّدة يتم استيفاؤها. وإذا كانت الديمقراطية كشكلٍ ملائم لتنظيم الحياة السياسية هي حصادٌ متطور باطِّراد لأسلوب عملٍ اجتماعيٍّ سياسي اقتصادي ثقافي قرين العمل، فإن الوصول إلى هذه الغاية غير النهائية جاء، ويجيء عَبْر صراعات وتحولاتٍ اجتماعية مكثَّفة، ومن ثَم تحوُّلاتٍ في المفاهيم والإجراءات والأدوار والهياكل وصورة الإنسان داخل المجتمع. وليس ما تم الوصول إليه هو نهاية المطاف؛ إذ سوف يتغير في اتساقٍ مع تغيُّر بنية المجتمع وهياكله الإنتاجية وإبداعاته العلمية والتكنولوجية، وتتحدَّد معه أُطُرٌ جديدة لدَور الإنسان الفرد في المجتمع. والأمر لا يخلو من إشكاليات ومحاولات لإعادة التعريف.

الديمقراطية عملية تاريخية

وإذا كانت النهضة الأوروبية عرَّفَت الديمقراطية بأنها حُكم الشعب فإنه تعريف بحاجة إلى تفصيل. ما معنى حُكم وما دلالته ومقوِّماته وكيف يكتسب مشروعيته؟ وما معنى الشعب ومكوِّناته وعناصره ذات الأهلية التي لها الحق في أن تحكُم نفسها؟ وما نوعُ المشاركة المخصَّصة لهم على السواء، باعتبارهم سواسية، أو لكل شريحةٍ دورها وَفْق معايير محدَّدة ديمقراطيًّا؟ ومن ثَم ما مدى المشاركة في صُنع القرار والحُكم لكل فردٍ أو لكل بِنيةٍ مجتمعية؟ وهل الديمقراطية هي مجموعةٌ محدَّدة من المؤسسات السياسية، وكاملة؛ أعني كما قلتُ في صدر كلمتي وصفة جاهزة للتطبيق؟ أم هي عمليةٌ اجتماعية تاريخية لها شروطها تجري وتتطوَّر داخل المجتمع في الزمان ولها أساسياتٌ تتلاءم مع المكان؟ وكيف يُؤثِّر نظام حكم المجتمع السياسي على طبيعة وديناميات الديمقراطية؟ وما مدى الإلزام الذي تتمتَّع به أحكام الشعب، وحدود الإلزام والالتزام بطاعتها؟ وهل هو إلزامٌ مطلَق أم ينطوي على فرص أو دينامية الحركة والتغيُّر ثم الانشقاق؟ وتحت أي ظروفٍ تلجأ الديمقراطية إلى القَسْر والإكراه ضد عنصرٍ من الشعب أو ضد الخارجين عن الشرعية، وحدود ذلك دون الخروج عن الإطار العام لمفهومها نظريًّا وتطبيقيًّا؟ وهل تسمح الديمقراطية بنوعٍ من السلطات الشعبية الموازية مثل الحكم الذاتي للأقاليم أو الدويلات والولايات الداخلة في اتحاد؟ وبعد هذا هل الديمقراطية في تعريف الغرب لها واحدة؟ إن آلية أو مرجعية إضفاء الشرعية على القرارات متباينة. ومن الأهمية بمكانٍ بيانُ ذلك لفائدته عند النظر إلى واقعنا العربي؛ فهناك ديمقراطية المشاركة Participating Democracy حيث يشارك الناس مباشرةً في صنع القرارات المتعلِّقة بالشئون العامة. وهناك الديمقراطية الليبرالية أو النيابية Liberal or Representative D. وهذه نظامٌ يعتمد على النواب المنتخَبين مباشرةً أو على مرحلتَين، ويتعهَّدون بتمثيلِ مصالح آراء المواطنين داخل الالتزام بإطار الحكم القائم دون محاولة الخروج عليه؛ أي عهد بالعمل وفقًا للدستور. وهناك ثالثًا ديمقراطية الحزب الواحد الذي يرى أنه هو المعبِّر عن مصالح الشعب عامة، ويقدِّم مرشَّحيه إلى الناس لانتخاب من يَرونَه الأصلحَ في نظرهم.

ويجب الإشارة إلى مُسمًّى رابع حاول البعض أن يُروِّج له في العالم الثالث وهو ما شاع باسم «ديمقراطية الموافقة أو التفويض»، أو ما يمكن أن نُسمِّيه البيعة الصامتة أو الصريحة. مثال ذلك أن يتم إجراءُ استفتاءٍ عام للموافقة على حاكمٍ بذاته وعلى كل ما سوف يصدُر عنه مستقبلًا؛ إذ يُناط به أمر تسيير وتدبير شئون الدولة مستعينًا بمن شاء من أفراد وآليات، أو أن تجري البيعة في إطار عددٍ محدود من الصفوة ممن يحملون اسم العائلة أو صفة أهل الحَل والعَقد دون الكافة. وهذا شكلٌ يتنافى تمامًا مع المحتوى الحقيقي لمفهوم الديمقراطية حتى بالمعنى السياسي الخالص.

إن النظرية الديمقراطية الليبرالية نشأَت وتطوَّرَت لتكتمل مرحليًّا، وليكتمل مفهومها وإجراءاتها تاريخيًّا مع تطوُّرٍ عضوي وموضوعي لهياكل المجتمع وللإنسان في المجتمع؛ لهذا نرى أن الديمقراطية ليست في واقع الأمر قاصرةً على الشكل السياسي أو الإجراءات السياسية وإنما تشمل في آنٍ واحد، وفي تكامُل، كل أنشطة الحياة والبشر، وإن كانت الآليات السياسية هي الأبرز والأوضح دائمًا؛ ومن ثَم أقول ليس هناك شيءٌ اسمه الديمقراطية السياسية وإنما هناك المجتمع الديمقراطي. ومَيْزة هذا التعريف هي تأكيد الدلالة التطوُّرية للمجتمع في الزمان والمكان، وأن المجتمع الديمقراطي وليدُ مرحلةٍ تطورية بذاتها ولها شروطها التي تصنع بيئة ومُناخًا ومِزاجًا أو ذهنيةً عامة وتصنع أبنيةً ومؤسساتٍ اجتماعية فرعية ورئيسية تكون جميعها من حيث هي ثقافةٌ اجتماعية مكملةً للآلية السياسية وداعمةً لها، بل كفيلة وضامنة؛ إذ تعوق هي ووعي الناس كل أسباب ومحاولات الردَّة.

الديمقراطية إذن نهج يبرز إلى واقع الحياة تعبيرًا عن حاجة اجتماعية، ويرى الناس في هذا النهج الوسيلة الأوفق لحل مشكلة طارئة. ومن هنا يكون أو يتحقق الانتماء والالتزام الديمقراطي العام. وبذلك يكون إضفاءُ أو تطبيقُ النهج الديمقراطي في الحياة السياسية خطوةً نحو إضفاء الديمقراطية على نشاطات المجتمع، وعلى المُناخ الاجتماعي، وعلى حقوق وواجبات الكافة، ويكون الدستور تعبيرًا وضمانًا. وبقَدْر ما تكون الديمقراطية حسب هذا التصوُّر إجراء سياسيًّا أصيلًا يهدف إلى ضمان حرية التعبير والاختلاف والإرادة .. تكون أيضًا آليةً لضمان اطِّراد حركية المجتمع كبنيةٍ عامة متكاملة في تطورٍ ارتقائي، وقادرة على تصحيح نفسها ذاتيًّا بآلياتها، وبفضل مقوِّماتها التي تغدو ثقافةً سائدة وأسلوبًا في الممارسة، وهياكلَ تنفيذية.

الفصل بين السلطتَين الزمنية والدينية

جاءت النظرية الديمقراطية الليبرالية تعبيرًا عن، ومحصلة صراعاتٍ اجتماعية هي مخاض وآلامُ ولادة مجتمعٍ حضاري جديد في علاقاته ونشاطاته وأهدافه ورؤيته للإنسان ولدوره في المجتمع. وخرج المجتمع الوليد، وهو المجتمع الصناعي، من رحم مجتمعٍ هرمٍ كان نسيجه وفكره خاضعًا وتابعًا للسلطتَين السياسية والدينية متحدتَين وهما مصدر القانون والحقوق لهما الطاعة وعلى الكافة الخضوع والانصياع باسم طاعة الدين، ولكن هذا في حقيقته وفاءٌ للمصالح الدنيوية لهاتَين السلطتَين وإن أضفَيتا عليها صبغةً قدسية.

وبشَّرَت النظرية الديمقراطية الوليدة بسيادة سلطة الدولة في تمايُز عن سلطة الدين، بمعنى توزيع الاختصاصات، أو الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، مع احترام سيادة كلٍّ منهما فيما يخُصُّه، ولكي تباشر الدولةُ الجديدة صاحبةُ السيادة المستقلة إدارةَ شئون المجتمع الدنيوية لا بد لها وأن تعتمد على العقل في فهم وتدبير هذه الشئون الجارية والطارئة والمتشابكة لما يقتضيه هذا من تخصُّص ودراية وعلم. وهذه قُدراتٌ ومؤهِّلاتٌ متمايزة جميعها عن قُدرات ومؤهِّلات «العلم» الديني. وأكَّدَت النظرية الديمقراطية الليبرالية سيادةَ الفرد مع سيادة الدولة، والتوازُن بين حقوق وواجبات كل طَرَف، باعتبار العلاقة علاقةً تعاقدية غيرَ منظورة وملزمةً لهما. واقتضى هذا ظهور نظرياتٍ تمجِّد دَور العقل والقانون وحرية الاختيار والتعاقُد مقترنة بالمساواة بين الأفراد دون تمييزٍ على أساسٍ من جنسٍ أو نوعٍ أو دينٍ أو عُمر.

نشأة الدولة/الأمة

كان التحوُّل من الدولة/المدينة إلى الدولة/الأمة استجابةً لمقتضياتٍ اجتماعية اقتصادية، مثلما كان خطوةً أولى على طريق حضارة التصنيع؛ أي التحوُّل من الكيان المحلي، الزراعي أو الرعَوي، النمطي المحدود إلى دولةٍ أكبر حجمًا تتوفَّر لها إمكاناتٌ بشرية ومن ثَم اقتصادية تتجاوز عامل الجنس أو الدم أو غير ذلك من أسباب ترابُط المجتمع التقليدي المحدود إلى أسبابٍ تُوصَف بأنها عناصر الهُوية القومية. وطبعيٌّ أن اشتملَت البِنية الجديدة، شأن بنيةٍ اجتماعية، على أسبابٍ للتوتُّر الاجتماعي، مثلما قدَّمَت حلولًا لمشكلاتٍ سابقة. وصاغت معالم إطارٍ جديد للانتماء. وتهيَّأَت بذلك للدولة قُدراتٌ تنافسية بين الدول حيث الاقتصاد يمثِّل الدعامة الأولى. واقترن عصر التصنيع، دعمًا لهذه القدرات، بنظامٍ تعليمي عام نظري وتقني، وبنهضةٍ في التعليم الأكاديمي والبحث العلمي. واقترن أيضًا بخاصيةٍ مميزة هي نشوء المؤسَّسات الاجتماعية التشريعية والتنفيذية والقضائية واعتبارها سلطاتٍ سياديةً مستقلة. وتزايد تعقُّد البناء الاجتماعي، وظَهرَت هياكلُ اجتماعيةٌ جديدة اقتضتها ظروف التطوُّر، نذكُر منها كمثالٍ النقابات والأحزاب والاتحادات وغيرها. وضَم هذا كلَّه إطارٌ قومي يدور في داخله الصراع والتنافُس ولكن باسمِ الأمة القومية ووفاءً لمصالحها حسب رأي كل فريق.

وتميَّز مجتمع حضارة الصناعة بخصوصياتٍ جديدة هي استجابة للتحوُّل التطوُّري، ونقلةٌ ارتقائية بالإنسان خرجَت به من إطار الذوبان في النسيج إلى إطار التميُّز والفردية أو إطار الذاتية المستقلة؛ إذ يُوصف مجتمع الصناعة، قياسًا إلى المجتمعات المحلية السابقة عليه، بأنه مجتمعُ الحرية الفردية، والإرادة الفردية، والمسئولية الاجتماعية الفردية، والمشاركة الفردية في بناء المجتمع. وأعلنَت الثورة الفرنسية بلسان مفکِّري وفلاسفة التحوُّل الحضاري الصناعي أن الدولة/الأمة إطارٌ قومي لجميع المواطنين وهم سواسية أمام القانون، وأن الهدف من تضافُر الجهود الجمعية، وإن تباينَت الوظائف، هو سيادة مبادئ الحرية والإخاء والمساواة. وأكَّد فكر الثورة أن الذات أو الفرد موجود داخل إطارٍ قومي هو النسيج الاجتماعي ومناط الانتماء والنشاط، ونطاق الخيارات بإرادةٍ حرة في تكافلٍ اجتماعي. الذات هي المفكِّر أو الفاعل المستقل والملتزم ذاتيًّا في العالم، والذات موجودة وفاعلة في علاقةٍ مع البيئة والمجتمع حتى وإن عانت اغترابًا عنهما.

مفهوم العقل وعصر الحداثة

ودعم عصرُ الصناعة مفهومَ الحداثة الذي يُشير إلى تجلِّيات الواقع الجديد بإبداعاته العلمية والتكنولوجية والسياسية. وعزَّز أيضًا وبالتالي مفهومَ العقل، ومفهوم الوعي لدى الإنسان الفرد بحيث أضحَت هذه العناصر هي مقوِّمات وأسباب وصفِ مجتمعٍ ما بالحداثة، وأضحت هي شروط التحديث. ويتميز المجتمع الصناعي، أو مجتمع حداثة العصر بأنه مجتمع ثورةٍ دائمة على عكس المجتمع الزراعي أو الرعوي الذي يتصف بالنمطية أو التقليدية. وشَهدَت القرون الثلاثة الأخيرة من حياة حضارة التصنيع ثوراتٍ في السياسة وثوراتٍ في الفكر، وتمرُّدًا على التقليد. وظَهرَت مفاهيمُ جديدة عن التاريخ. لم يعُد التاريخ يسير في حركةٍ دورانية عَودًا على بَدء يعزِّز الحنين إلى الماضي، بل ظَهرَت النظريات الاجتماعية التي تحدِّثنا عن التاريخ في حركةٍ خطية مطَّردة عَبْر ثوراتٍ اجتماعية حضارية. ونشأَت أُطرُ مفاهيمَ جديدة عن القطيعة الفكرية مع الماضي، وعن التقدُّم المطرد أبدًا بفضل سيادة العقل وحصاده وإنجازاته من بحوثٍ علمية واسترشادٍ في التطبيق.

هكذا أصبح المجتمع الديمقراطي الصناعي في حركته الزمانية مجتمع الفعالية المجتمعية الحرة للإنسان/المواطن المشارك في إدارة شئون أمته. ومع هذا التحوُّل الاجتماعي والجمعي لإنسانٍ جديد وعقلٍ جديد بدأت فعالية الإنسان/المجتمع مع ظواهر الطبيعة والنفس، وبدأَت مخاطرة الاستكشاف والفهم، وتجلَّت الرغبة المُلحَّة في تشريح وفهم النفس والمجتمع والطبيعة والوجود وفهم الأنا والآخر في إطارٍ فکري جدید. وطبعيٌّ أنْ لم يكن هذا كله بريئًا من المصالح والأطماع الخاصة بكل أمة أو بفئاتٍ داخل الأمة إذ هكذا الإنسان/المجتمع. ولكن اتجه الفكر الاجتماعي إلى تمجيد الحق والحرية والتاريخ والتقدُّم والعلم؛ أعني تمجيدَ حق وواجب الإنسان/المجتمع الحر في إعمال عقله وتنفيذ إرادته الاجتماعية على أساسٍ من معرفةٍ علمية بهدف التقدُّم الاجتماعي والانتصار في حلبة المنافسة على الأصعدة المحلية والإقليمية والعالمية.

خصائص حضارة الصناعة

حضارة عصر الصناعة تميَّزَت وتمايزَت عن الحضارات السابقة عليها بأمورٍ كثيرة مهمة. إنها ما كان لها أن تبدأ لو لم يسبقها التحوُّل إلى عصر الكتابة وتقدُّم التعليم النظري والعملي مع التخصُّصات الفنية والأكاديمية. هذا على عكس حضارتَي الزراعة أو الرعي إذ يمكن أن تستمر مع توفُّر مستوًى تعليمي محدود يمثِّل فيها الكتبة ورجال الدين صفوة المجتمع.

وتميَّزَت الحضارة الصناعية بأنها حضارة ثورةٍ إنتاجية مطَّردة. وهذا على عكس حضارتَي الزراعة والرعي إذ يغلب عليهما الطابع النمَطي. وليس غريبًا أن رأى البعض ما يُسمَّى نمط الإنتاج الآسيوي الذي يُشبِّهونه بالمومياء المحنَّطة، وأنه نمطٌ تقليدي مطَّرد لا يعرف الابتكار إلا في أضيق الحدود وأدنى المستويات استجابة لضروراتٍ مُلحَّة عملية لا تتعارض مع مصالح الصفوة الحاكمة. وانطوت هاتان الحضارتان على أدنى قَدْر من تدخُّل الإنسان في عمليات الإنتاج أو في علاقته مع الطبيعة حتى لتكاد تصل علاقة التدخُّل في حالة الرعي مثلًا إلى الصفر. ومعروفٌ أن درجة ثَراء الفكر الاجتماعي رهن ثراء الفعل الاجتماعي وتدخُّل الإنسان في الطبيعة.

وتُعتبَر حضارة الصناعة أول حضارة في تاريخ الإنسانية اعتمدَت على قَدْرٍ كبير ونشِط من تدخُّل الإنسان/المجتمع في عمليات الإنتاج والتفاعل مع الطبيعة، بل وتغيير المادة الخام أي التصنيع، والعمل على تغيير بعض الظواهر والتحكُّم فيها؛ ولهذا تميَّزَت بثراءٍ فكري اجتماعي، وفهمٍ لظواهر الطبيعة والإنسان والمجتمع. وأفادت الكتابة في تسجيل وإثبات حصاد فهم وفكر الإنسان/المجتمع، كما أفادت في إثبات ذلك موضوعيًّا ليكون موضوع دراسة ومراجعة وحوار. وعاد هذا كله على المجتمع بفائدةٍ علمية تمثَّلَت في تراكُم الحصاد المعرفي وجعلِه موضوعَ حوار وثقافةٍ علمية عامة. وازداد هذا الحصاد نقاءً وموضوعيةً وصياغةً نظرية وكشفًا عن قوانين الظواهر من خلال الدراسات الأكاديمية. وتطوَّرَت الجامعات، وتعدَّدَت التخصُّصات، وأصبح للعلم وللعلماء دَورٌ ومكانة عظيمَين.

وتتميَّز طبيعة العمل أو الفعل الإنتاجي الاجتماعي في عصر الصناعة بأنه متغيِّر متطوِّر باطِّراد مع الإفادة بحصاد التجارب السابقة؛ ولهذا تُوصَف طبيعة العمل الاجتماعي في عصر الصناعة بأنها طبيعةٌ ثورية أو تثويرية لا تستقر على حال وتتنافى مع النمطية أو الاطِّراد النمطي الذي هو خاصية حضارتَي الزراعة والرعي. إن الصناعة التي هي التجلِّي المادي للعلم والتكنولوجيا، شأنها شأن رأس المال، تنزع بتلقائية وبقوة الدفع الذاتي إلى التراكُم والتطوُّر المطَّرد المتسارع بفضل تراكُم الجديد من الابتكارات العلمية والتقنية. وهكذا شَهِد، ويشهد عصر الصناعة تطورًا سريعًا متلاحقًا، وتحولًا ثوريًّا من إنتاجٍ علمي وتكنولوجي إلى آخر. وأصبح الإنتاج معتمدًا على قدْرٍ أكبر من المعلومات التي تتزايد بصورةٍ أُسِّية حتى أصبحنا في عصر تفجُّر المعلومات.

صعود دَور الإنسان العام

ويتولَّد مع كل حضارة، من خلال فعل الإنتاج الاجتماعي، فكرٌ جديد يحمل طابع الحضارة. ونظرًا لأن حضارة عصر الصناعة حضارةٌ مطَّردة، بل ثورية التغيير، فإن فكرها الجديد يختلف تمامًا عن فكر حضارتَي الزراعة والرعي التقليديَّين. إنه فكرٌ دينامي مطَّرد التغيير، متعدِّد التيارات، شأن عملية الإنتاج الاجتماعي التي هي علة وإطار إنتاج الفكر الاجتماعي. ويؤكِّد هذا الفكر على الإنسان العام وقُدراته ومشاركته الاجتماعية، بل وضرورته كعنصرٍ كيفي داعم للكيان الاجتماعي وليس كمًّا عدديًّا؛ ولهذا فإن فكر حضارة عصر الصناعة، على اختلاف مذاهبه، فكرٌ يرفُض التواكُل والتقاعُس وترك أمور الدنيا لقدراتٍ أو فعالياتٍ خارج حدود الواقع، ويؤكِّد إرادة الفعل الإنساني والاجتماعي والوعي الفردي ووعي المجتمع، ويصوغ في سبيل ذلك أُطرًا للفعل الاجتماعي وللمساهمة في إدارة الشئون الاجتماعية للأفراد والمجتمعات في صورة مؤسساتٍ ذات إرادةٍ نافذة؛ ولهذا اقترنَت الحداثة الصناعية بخصوصياتٍ تتعلَّق بصورة الإنسان والمجتمع ودَورِ كلٍّ منهما تأسيسًا على مفهوم الحرية والواجب والمسئولية. واقترنَت لزومًا، بعلاقاتٍ مؤسسية اجتماعية تُهيِّئ آلية إدارة شئون المجتمع ومعالم الهيكل الاجتماعي.

ولا ينفي هذا أن المجتمع الحداثي يتحرَّك من خلال تناقُضاتٍ داخلية وفي إطار منافساتٍ عالمية تتغيَّر فيها الأدوار والعناصر وطبيعة قُوى أطراف المعادلة على المستويَين المحلي والعالمي، وصورة المحلي والعالمي، والذاتي والاجتماعي. وفي جميع الأحوال أصبحَت حضارة عصر الصناعة والقوى الفاعلة فيها مُؤثِّرةً بفضل ما أنتجَته من فكرٍ وثقافةٍ وعلوم وتكنولوجيا مصبوغة بمصالح العناصر أو الأطراف المُنتِجة. وحدَّد هذا الإطار العالمي أو الظرفُ الكوني الضاغط طبيعةَ الصراع على الوجود. وبهذا لم يعُد مقبولًا ولا ممكنًا بالنسبة لمجتمعٍ رعوي أو زراعيٍّ تقليدي أن يحيا على نحوِ ما كان يحيا تقليديًّا. سيظل بإنتاجه المادي والفكري متخلفًا وفريسةً سهلة. ولم يعُد مقبولًا بناء هيكلٍ اجتماعي يشتمل على مؤسساتٍ زخرفية باسم الديمقراطية. وإنما الشيء الوحيد المقبول هو تحوُّلٌ حضاري يفضي إلى بناء مجتمعٍ وإنسانٍ جديدَين قادرَين على البقاء والتحدي والتعاون والتنافُس في ظل حضارةٍ صناعية عمادُها تحوُّلٌ ثوري مطَّرد، وإبداعٌ فکري ثَري دائم التغيُّر، وابتكارٌ تكنولوجي متسارع.

تعدُّد وتنوُّع المراكز

وجدير بالإشارة هنا، مثلما هو جدير بأن يكون في خلفية أذهاننا عند المقارنة مع بلدان العالم الثالث بعامة، والبلدان العربية بخاصة، أن العصرَ الحديث، عصرَ حضارة الصناعة أو الديمقراطية الليبرالية المتطوِّرة أبدًا، يتميَّز بدرجةٍ عالية من التبايُن الهيكلي والوظيفي والاجتماعي في مجالات الاقتصاد والسياسة والعلوم … إلخ. وإذا كانت الديمقراطية الليبرالية جاءت استجابةً اجتماعية وظيفية لهذه الاحتياجات المتباينة ولهذه التعدُّدية الهيكلية، وتتطوَّر أكثر فأكثر مع زيادة تعقُّد المجتمع، وزيادة تخصُّصات عناصره، فإن هذا يعني أنها في تناقُضٍ اجتماعي تاريخي مع واقع بلدٍ يقوم نظامُ الحكم فيه على أساس تجانُس النسيج الاجتماعي وواحدية السلطة، أو يكون نظام الحكم رهنَ التمييز في الحقوق والواجبات على أساسٍ من الجنس أو الدين أو النوع أو المرتبة والمكانة الموروثة، أو مجتمع لم تتباين بعدُ وظائفه الاجتماعية الإنتاجية المتمثِّلة في أنشطة المجتمع.

إن المجتمع الديمقراطي مجتمعٌ قائم على دستورٍ نابع من حاجةٍ اجتماعية، ومُعبِّر عنها تفصيلًا والذي بدونه يرتدُّ المجتمع، بل وينهدمُ بناؤه وتسودُه الفوضى؛ ومن ثَم تبدو الإجراءات القانونية، الثقافة الاجتماعية الديمقراطية هما الضمان لنجاحِ تحدِّي أسباب الفَناء الحضاري. وها هنا تكون عناصر الدستور دالةً على مدى تعقُّد بنية المجتمع، وتعدُّد حاجاته وآلياته ومستوى دَورِ كلٍّ منها. ويُعبِّر الدستور كذلك عن تنوُّع مراكز السلطة وتعدُّدها ونطاق فعاليتها، وهي المراكز التي نشأَت عن ضرورةٍ اجتماعية وليس محاكاة أو استكمالًا لزخرف الحداثة. ويقضي دستور المجتمع الديمقراطي بتعدُّد الآليات لدعم المنافسة والحوار بين منابرَ متعدِّدة، وحقِّ تداوُل السلطة فيما بينها وَفقَ شروط ومعاييرَ متطورة. ويقضي أيضًا، نظريًّا، بأن تكون سلطة صناعة القرار متعدِّدة المرتكزات ومتحرِّرة من القيود؛ قيودٍ اقتصادية مثلًا ناتجة عن تسلُّط مركزٍ أو فئةٍ لها الهيمنة على المال أو الإنتاج، أو قيودٍ معلوماتية نتيجة هيمنة جهازٍ على مصادر المعلومات أو الإعلام أو احتكار هذه المصادر لصالح مجموعة دون الآخرين، أو لصالح أيديولوجيةٍ بذاتها مما يهدم أساسًا مبدأ النقد الموضوعي، ويُؤثِّر سلبًا على الفكر والعقل ويحول دون اتخاذ قرارٍ صائب .. أو غير ذلك من قيودٍ نابعة من تراثٍ فكري أو علاقاتٍ عائلية … إلخ.

خصوصياتٌ حضارية

ولكن نعود مرةً أخرى إلى سؤالنا: هل مجتمعات العالم الثالث بعامة هي مجتمعاتٌ ديمقراطية بالمعنى الذي أوردناه؟ أعني هل عانت وواجهَت مخاض وآلام التحوُّل الحضاري الصناعي وقيام مجتمعاتٍ تجد حاجاتها الماسَّة، بحكم تعقُّد نسيجها الجديد وتعقُّد وظائفها، في قيام شكلٍ ديمقراطي تعبيرًا عن احتياج ومزاج وعلاقاتٍ جديدة وعقلٍ جديد يسعى إلى التلاؤم مع هدفٍ مستقبلي تطوري ومع بنيةٍ اجتماعية معقَّدة متعدِّدة الوظائف؟ أم لا يزال التطبيق الديمقراطي غير واردٍ بإلحاح بسبب جمود البعض وأنه تطبيقٌ شكلي بسبب قصور أو تخلُّف البعض الآخر وافتقاره إلى قوة الدفع التي تشكِّل دينامية الحركة القادرة على التحدي؟

ولكن أليست الديمقراطية كإطار وبنية هي تعبيرًا عن ثقافةٍ اجتماعية وأداة لهذه الثقافة في تطوُّرها؛ بمعنى أنها بالضرورة، شأنها شأن آلياتٍ وأُطرٍ اجتماعية أخرى، تحمل بصمة الثقافة الاجتماعية، وتُعبِّر عن طبيعة البنية الاجتماعية والخصوصية الحضارية في تعدُّدها على مدى الزمان والمكان؟ إن الغرب الذي يتباهى بأنه مهدُ الديمقراطية، وأنه موطن الديمقراطية أدرك مفكِّروه مؤخرًا أن الحضارة ليست هي فقط الحضارة الغربية، بل ثمَّة حضاراتٌ أخرى عريقة لها إسهاماتها في أنشطة الحياة المختلفة. وبات واضحًا أن الخصوصية الحضارية أو الثقافية تتجلى بالضرورة في أسلوب العمل والفكر؛ ومن ثَم لا بد وأن تضفي خصوصيةً مميزة على الديمقراطية باعتبارها منتجًا نابعًا من الواقع، وباعتبارها أسلوبًا مجتمعيًّا في التعامل مع الواقع الجديد.

الأصالة والحداثة وتجربة اليابان

تُعتبر حالة اليابان تجربةً عصرية واضحة الدلالة؛ إذ خرجت اليابان في أواخر القرن التاسعَ عشر من تحت عباءة صراعٍ طويل زائف وفارغ المضمون حول الأصالة والحداثة. وذهب الأصوليون إلى أن الأصالة التزامٌ شكلي بكل العادات والتقاليد الحياتية وبكل تعاليم العقيدة في كل شأنٍ من شئون الدنيا .. والسياسة والتعليم … إلخ. وذهب بعض الحداثيين، اتساقًا مع مفهوم المركزية الأوروبية، إلى أن الحداثة هي محاكاة الغرب في كل عاداته وتقاليده الشكلية، ولكن المطلب الاجتماعي المُلحَّ وهو قبول تحدِّي الغرب الحديث الذي يمثِّل قوةً باغية طاغية، دفع التيار العقلاني إلى التماس أسباب قوة الغرب، واستكشاف أسباب ضعف اليابان في الداخل. وسمعنا من قال: أيهما أحبُّ إلى نفسك كونفوشيوس أم الحقيقة؟ وأجابوا لقد كان كونفوشيوس يحضُّنا على التماس الحقيقة فهو داعيةٌ إليها ونخطئ إذا آثرناه عليها. وعجز التقليديون عن مواجهة التحدِّي الحداثي بأسلوبٍ عملي يتجاوز حدود الخطاب النظري أو الرطان الديني. وظهر من قال لقد جفَّت ينابيع التقليد.

وانتصر تيار العقلانية. وبدأَت المسيرة عَبْر الحقيقة الاجتماعية التي يكتشفها البحث بعقله العلمي. وتحدَّدَت مهامُّ التحوُّل الاجتماعي؛ أمةٌ حديثة غنية، وجيشٌ حديث قوي، وبهذا فقط يمكن مواجهة التحديات ونؤكِّد أصالتنا الإبداعية. وعرفَت اليابان أن التحديث ليس تغریبًا، بل هو سبيل الأمة لتأكيد ذاتها، وأن شرط التحديث الاجتماعي ليس استيراد مظاهر لأغراضٍ استهلاكية ترسِّخ التبعية .. وإنما إنتاج الحداثة إبداعًا محليًّا .. بحثٌ علمي جاد، وإنجازاتٌ تطبيقية هي تكنولوجيا يابانية. وقدَّم المثقَّفون دروسًا في الاستشهاد من أجل نهضة اليابان وانتمائها الحضاري.

وعرفَت اليابان أيضًا، تأسيسًا على ذلك، شروطَ التحوُّل الاجتماعي. وهنا ظَهرَت تيارات توحيد الكيان الياباني في دولةٍ واحدة. وشهد المجتمع تحولاتٍ جذرية حداثية الشكل والمضمون في المؤسسات الاجتماعية السياسية والقضائية والتشريعية والتعليمية. وتوفَّرت مؤسسيًّا الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية لكل إنسانٍ دون عائق أو تمييز. وتقدَّمَت اللغة واغتنَت بمفرداتٍ لم تكن تعرفها في عصرِ ما قبل التحديث مثل الحرية الفردية وحق المرأة أو حقوق المواطنة؛ إذ بعد أن كانت تفتقر إلى الكثير من مفردات الحداثة لغياب مفاهيمها ودلالاتها في الحياة الواقعية، أضحت اللغة اليابانية، على الرغم من عزلتها، لغةَ خطابٍ علمي سياسي اجتماعي. وسادت المفاهيم العلمية في الوعي العام الاجتماعي الياباني.

وتأمَّلَت اليابان ذاتها، واقعًا وتاريخًا، وأعادت بناء إطارها الفكري التاريخي، واستعادت تراثها الثقافي ولكن في ثوبٍ جديد يحفز النهج الحداثي، ويؤكِّد حق الياباني أو واجبه في أن يبني حياته على أساسٍ مكين، وأن ينتزع وجوده داخل حلبة المنافسة العالمية.

وهكذا استطاعت اليابان إجراء مصالحة مع حضارة العصر، وأن تعيد تأويل تراثها بدلًا من أن يكون التقليد سلطةً ضاغطة لصالح التخلُّف. وتأكَّدَت روح الجماعة في الإدارة والتشاور المسبق واتخاذ وتنفيذ القرار في إطار نهجٍ حضاري، وإيمانٍ بالتغيير نحو الأصلح في القادة وفي أساليب العمل. وتحدَّدت مساحة الفعل الاجتماعي لكلٍّ من الدين والعلم دون حق أحدهما في الافتئات على الآخر. وقدَّمَت اليابان نموذجًا جديدًا للتحديث لم تغترب فيه عن ذاتها وإنما هي اليابان في طورٍ حديث، فإذا بنا إزاء تراثٍ جديد، ومجتمعٍ حداثي جدید هما نتاج الواقع الجغرافي التاريخي الثقافي لليابان. ويجسِّد الحصاد بكل صراعاته وتناقُضاته الإنسان/المجتمع الياباني العصري الجديد.

التسلُّط أو الخضوع ثقافة الواقع العربي

ومن هنا نقول إن مجتمعًا لم يدخل حضارة التصنيع، ناهيك عن حضارة ما بعد التصنيع سيظل بحكم واقعه هذا أسيرَ احتياجاتٍ وضروراتٍ تنتسب إلى الماضي؛ ومن ثَم ستكون له آلياته وأساليبه في إدارة شئونه التي تتسق مع هذا الواقع وتبدو غريبةً أو مغتربةً عن عصرنا. وطبعي أن مجتمعًا غير معقَّد التكوين، وغير متعدد الهياكل، وغير متباين النسيج؛ أي مجتمعًا يعيش على مستوى ثقافة القبيلة، لن يكون بحاجة إلى ديمقراطية الأحزاب والمنابر المتمايزة بتمايُز الطبقات والشرائح الاجتماعية. كذلك فإن مجتمعًا محدود العدد، ومن ثَم محدود الأهداف والوظائف الاجتماعية إلى الحد الذي يقتضيه الاعتماد على وافدين، لن يحتمل الدعوة إلى ديمقراطية الأحزاب حتى وإن تشكَّلَت فيه تيارات، وسوف يظل قانعًا بمشورة أو بيعة الصفوة من أهل الحل والعقد. وهذا بواقع يوازي واقع الدولة/المدينة في التاريخ السابق على حضارة التصنيع ونشوء الدولة/الأمة.

لهذا فإن واقع المجتمعات العربية، من حيث البنية والعلاقات الاجتماعية ومن حيث الذهنية الاجتماعية، وبالتالي نوع الإنسان الفرد في وعيه وفعله وفكره، هو واقعٌ تامُّ التناقُض والتبايُن مع مقتضيات المجتمع الديمقراطي الصناعي أو مع حضارة العصر بعامة؛ إذ لا تزال المجتمعات العربية مجتمعاتٍ تراتُبية هرمية. المستوى الأعلى يجُب أو يحجُب ما دونه، يستوعبه ويطمسه رأيًا وفكرًا وتوجيهًا.

وإن بقي للأدنى أن يعمل، وأن يعمل فقط، فذلك في حدودِ ما يرسمه له المستوى الأعلى وما يراه بفكره؛ لهذا يظل المستوى الأدنى عاجزًا عن المبادرة وعينه على المستوى الأعلى. الفرد هنا كَمٌّ رقمي وليس قيمةً اجتماعية أو دورًا وفعالية في متكامل؛ ولذلك نجد مفرداتٍ مثل الحق الفردي أو الاجتماعي، والحرية الفردية هي مفردات أقرب إلى الرطان ليس لها مفهوم في الذهن ولا معنًى في التطبيق العملي، وليس لها رصيد في التراث الاجتماعي يضفي عليها دلالةً وحصانة. وليس هذا القصور مردُّه إلى المسئولين والحكام أو بسببهم، بل هو ثقافةٌ اجتماعية معيشة بحكم واقع التخلُّف الحضاري، وترسِّخ في الوجدان الاجتماعي ثنائيةً نقيضية حاكمة للسلوك العام هي ثنائية التسلُّط والخضوع؛ ولذلك نجدها قاسمًا مشتركًا بين قوًی حاكمة أو مُعارِضة فالجميع يحمل ويرث نفس خصوصيات الشمولية.

تراث الزراعة والرعي

الثقافة الاجتماعية العربية المعيشة هي تراث مجتمعات الزراعة والرعي أو القبيلة؛ إذ نعرف أن القبيلة ترى وجودها مجسَّدًا في رأس الجماعة؛ فالرأس هو فكر الجماعة وروحها؛ ولذلك نراه في حياته هو الأحكم رأيًا، والأرجح عقلًا، والأنقى بصيرة وصاحب الكلمة النافذة .. له الطاعة .. وما شاء هو لا ما شاءت الجماعة .. هو الراعي والكافَّة رعية أو رعايا لا مواطنين. والاختلاف خروج عن منطق التجانُس الجمعي. وليس غريبًا أن نرى هذه القيم هي محور آلية السياسة، ونرى المثقَّفين، بحُكم هذه الثقافة، عيونهم دائمًا على صاحب السلطان.

الدولة هي المثقَّف وهي الصانعة المنتجة للوعي الاجتماعي، وهي المحدِّدة لإطاره. والدولة بوصفها هذا هي المنتجة للمثقَّف التابع، العاجز عن المواجهة والتحدِّي أو التعالي على ذاته. والثقافة والتعليم والإعلام أدواتٌ لخدمة السلطة وأصحاب السلطان، ولصوغ عقلية ونفسية المواطن «الصالح» المؤمن بفضيلة الطاعة .. وليس الهدف بناء الإنسان حضاريًّا، ولا إنجاز استراتيجيةٍ تنموية شاملة تنقُض التخلُّف الاجتماعي والفكر التقليدي وذلك حتى لا تُفلِت السلطة من بين يدَي القابضين عليها، ويتجلَّى هنا تمركُز السلطة وتقدير الفرد الحاكم، وهو ما يتناقض تمامًا مع مبدأ المجتمع الديمقراطي، ويجسِّد لنا علةً أساسية من علل التخلُّف وإعاقة التطوير .. إنها دائرةٌ مفرغة تدور فيها تفضي دائمًا إلى اضمحلال وإجهاض أي جهدٍ نهضوي خارج إطار هيمنة السلطة. وتظل السلطة امتدادًا تقليديًّا وإن تغيَّر ظاهر الأداء، وهي مركز الثقل، وهي الحاكمة لطبيعة الدور الثقافي؛ ولهذا أيضًا ترسَّخَت على مدى التاريخ علاقة تحالفٍ استراتيجي بين الديني والسياسي، وكلاهما تقليديٌّ محافظ. وهكذا نجد التقليدي ممتدًّا عضويًّا في التاريخ الاجتماعي؛ نظرًا لامتداد التخلُّف الحضاري، ويُفرغُ التقليدُ كل جديد من مضمونه الثوري وإن حافظ على الشكل. وإذا سمحَت السياسات الرسمية ببزوغ تياراتٍ عقلانية فذلك في حدودٍ مرسومة لا تؤثِّر على الإطار التقليدي العام مما يجعلها تحوُّلاتٍ شكلية.

جذور الاستبداد

ونخطئ إذا تصوَّرنا أن حسم هذا التناقُض يتأتَّى بقرارٍ سلطوي؛ إذ إن السلطة، وإن كانت صاحبة مصلحةٍ ذاتية في بقاء الوضع، ليست هي السبب حضورًا أو غيابًا للديمقراطية. وإنما العلة هي طبيعة البنية والعلاقات الاجتماعية، والذهنية الاجتماعية، وطبيعة الحياة العملية التي هي حياةٌ قائمة على الريع أو الرعي أو الزراعة بصورتَيهما التقليديتَين. وإذا كانت هذه هي العلة فإن الهدف هو تغييرٌ جذري في البنية والعلاقات والعمل الاجتماعي مما يؤدي إلى تغييرٍ في الذهنية يتجلَّى في بنية وعلاقاتٍ اجتماعية جديدة هي بنية وعلاقاتٌ حداثية، وعقليةٍ حداثية، وبالتالي تنظيمٍ وإدارةٍ جديدَين للمجتمع اتساقًا مع مقتضيات حضارة العصر التي ننتمي إليها ونُسهِم فيها.

نعم المجتمعات العربية قضت قرونًا طويلة أسيرةَ ظلاميةٍ فكرية واستبدادٍ سياسي محلي وخارجي. عاشت قرونًا مغتربة عن ذاتها أسيرة وجود أو كياناتٍ محلية ضيقة محدودة. ودعمَت سلطاتُها الحاكمة نزعةَ الانتماء العقيدي الذي مارسَت في ظله وباسمه الاستبدادَ مما أثَّر سلبًا على الإنسان/المجتمع العربي. ويكفي أن ندرك أن عددًا غير قليلٍ منها لم يتجاوز عمره بضع عقودٍ كدولة ذات شكلٍ رسمي مستقل؛ ولهذا لا تحمل هذه المجتمعات رصيدًا من التاريخ السياسي أو الحَراك الاجتماعي الذي يُهيِّئ لها قوة دفعٍ ذاتي ورؤًى مستقبلية وإمكانات لتحوُّلٍ حضاري في اتساقٍ مع العصر. إن التراث الذي تحمله هو تراث التشتُّت والمحلية المحدودة والضيقة، والنظام الاجتماعي المغلق، وثقافة الانكفاء على الذات. إنها على الرغم من محاولات التغيير الظاهري لكي تحمل ديكورَ أو زخرفَ الدولة، لا تزال امتدادًا لنظام القبيلة أو الدولة/المدينة حيث القرار السياسي شأنٌ فردي خاص بالحاكم، وحيث المؤسَّسات الدستورية، إن وُجدَت، إنما تعتمد نهج التفويض لصاحب السلطان.

لهذا ليس غريبًا أن تكشف المجتمعات أو الكيانات العربية بعد هذا التاريخ من الاستبداد السياسي والتفريغ الفكري والجمود الاجتماعي عن واقعٍ مهيض يجعلها نهبًا مستباحًا لأطماع الآخرين، وسماواتٍ مفتوحةً لرياح الغزو الفكري التي تهبُّ على عقل إنسانٍ عربي خاوي الوِفاض، ومجتمعٍ عربي يعيش حياة اطِّرادٍ عشوائي واستمتاعٍ استهلاكي، وعزوفٍ عن الفعل والفكر وإعمال العقل وعن قبول المواجهة النشِطة لتحديات العصر. وإن مثل هذه المجتمعات إذا شاءت أن تأخذ سبيلها إلى التحديث والمساهمة الحضارية مع مجتمعات العالم فلا بد لها وأن تعي تاريخها وحاضرها بعقلٍ علمي ناقد لتختار الأسلوب الأمثل للتغيير والبناء. وسوف يدفع هذا إلى العمل على تجاوُز المصالح الذاتية الضيقة، وتجاوُز واقع التفتيت ومن ثم تشكيل تكتُّلٍ حضاري إقليمي قومي يُهيِّئ بنية المجتمع لخصائصَ جديدة.

ميلاد عصرٍ جديد

إن المجتمع الديمقراطي بكل مقوِّمات التحوُّل الهيكلي والفعالية الإنتاجية الإبداعية، وبكل أركانه ودعاماته من حرية فكرٍ وتعبير ومن ثم إبداع وحق في التغيير هو الأساس الصحيح للمناعة الثقافية في مواجهة أي رياحٍ معادية تستهدفُ زعزعة الذات الجمعية، وهو الأساس للتفاعُل الثقافي بين أَكْفاءَ أنداد؛ ومن ثَم فإن الديمقراطية، بالمعنى الذي أسلفناه، هي الأساس الراسخ لوجودٍ اجتماعي مكين، ولإنسانٍ عربي مبدع، واعٍ وحضاري، صاحب عقلٍ وفعل جديدَين.

وبات واضحًا أن هذا الشرط الموجب لزومًا للتحوُّل الحضاري يزداد إلحاحًا وحيوية الآن أكثر من ذي قبل. لقد بلغ عصر الصناعة، عَبْر مراحله أو موجاته الثلاثة، مرحلةً جديدة هي ثورةٌ جديدة. إنها ثورة على المبادئ الأولى لنشأة عصر الصناعة ذاته. وثورة على الواقع الاجتماعي الراهن الذي هو حصاد القرون الثلاثة؛ أي حصاد العصر الحديث. وهي ثورة في الفكر وفي الثقافة؛ إذ بعد أن كان نشوء الدولة الأمة ثورةً كبرى على الدولة/المدينة؛ وإيذانًا بتحوُّلٍ اجتماعي وسياسي واقتصاديٍّ كبير، وتحوُّلٍ جذري في الإنسان ومواصفاته وإمكاناته وعلاقاته، تبدأ ثورةٌ جديدة. ترى هذه الثورة الجديدة في الدولة/الأمة كيانًا محليًّا محدودًا، وواقعًا عقيمًا، وتدعو إلى الكوكبية مقابل المحلية. وتنطوي الدعوى على مقولاتٍ صادقة تدعمها تحوُّلاتٌ علمية وتكنولوجية، مثلما تنطوي على دعاوَى زائفة وعلى صراعات ومصالحَ متنافسة؛ أي إنها دعوَى صادقة في إطار من المنافسات شأن أي تحوُّلٍ حضاري في التاريخ. وأصبح الحديث الآن عن الظرف الكوني الذي يملك، إن لم يفرض، حرية الحركة والتسويق والإنتاج والمضاربة على المال في كل أنحاء المسكونة التي يراها مجال فعله ونشاطه وهيمنته.

لهذا كله فإن مناط الأمر على طريق التحوُّل الحضاري سيكون في جميع الأحوال مجتمعًا جديدًا وإنسانًا جديدًا، مجتمعًا ديمقراطيًّا على مستوى حضارة العصر مع الاحتفاظ بالخصوصية؛ رأي حر، مشاركة حرة، حقوق وواجبات لها السيادة ومتساوية بين الجميع، حكامًا ومحكومين، باعتبارهم مواطنين دون تمييزٍ على أساسٍ من عرق أو جنس أو دين أو نوع أو قبيلة أو عائلة، وأن يُجمِل هذا كلَّه دستورٌ هو الضامن والكفيل معتمدًا على العقل الحر حكمًا ومرجعًا، وأن تكون أُسُسه ثقافةً اجتماعية سائدة.

وحَرِي أن ندرك أنْ لا شيء يُولَد مكتملًا، وإنما يُولَد عَبْر زمانِ حمل ومخاضِ ولادة ومعاناةِ رعاية، وصراع وتطوُّرٍ مطَّرد، وأن يأتي هذا كله ثمرة اختيارٍ حر، واستجابة لفعلٍ اجتماعي حضاري نشِط يُولِّد حاجةً طبيعية داخلية إلى المشاركة في السياق الحضاري. وهكذا ينمو الجنين ويشبُّ الوليد في حضن طبيعة هي ذاتها دفء الأصالة والابتكار. ويحمل المجتمع الوليد بصمة الخصوصية، خصوصية الواقع والعصر، ويتميز بدينامية التطوُّر الارتقائي. إن الحداثة والمجتمع الديمقراطي بنيةٌ واحدة متكاملة متطورة، أو هما وجهان لعُملةٍ واحدة لا وجود لأحدهما بدون الآخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤