ثقافتنا والدائرة المغلقة١
أحسب أن الحديث عن عَلَم من أعلام الثقافة لا يكتمل دون الإشارة إلى عصره .. باعتبار العصر موضوع الدرس والبحث مرحلةً في مُتَّصِلٍ تاريخي ينطوي على الأسباب التي تُبرِّر القطيعة والتجاوُز أو التحوُّل الحضاري .. إنه كيانٌ حي له حَراكُه وديناميته وآلياته وترابطاته السببية داخل الوجود الاجتماعي التاريخي .. إذ يشكِّل العصر مناخ التربية والنشأة، ومجلًى لخصوصية التحديات؛ تحديات الماضي في سلبياتها كما يُدرِكها الوعي الاجتماعي النابه، وتحديات الحاضر أملًا منشودًا وهدفًا مرسومًا على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
فالمثقَّف العَلَمُ ضميرُ مجتمعه، ونبتُ عصره، شاهد عليه وظاهرةٌ متجلِّية من ظواهره .. ومن هنا هو المثقَّف الدور والهدف، ومن هنا يأتي اختياره لحياته ولنهجه في هذه الحياة ولأساليبه في التوسُّل إليها .. أعني النشاط الاجتماعي الذي اختاره دلالةً على ذلك.
وصورة المثقَّف العلم، وحقيقة الدور الذي قام به إنما يظهران من خلال بانوراما أحداث المجتمع في حركتها السببية صعودًا وهبوطًا، إقدامًا وانحسارًا .. كيف رأى المجتمعُ عَبْر مثقَّفيه تحدياته وكيف استجاب، وكيف كانت المواجهة .. ثم كيف نجح أو أخفق .. وكيف عاود الصحوة؟
والحديث عن عصر محمد بدران وجيله من المثقَّفين حديث مداه قرنان من الزمان .. هما صفحتان في تاريخ حياتنا الثقافية وتجلِّياتها بكل ما انطوت عليه من صعود ثم هبوط، انتصار ثم هزيمة، أحلامٍ راودتنا ثم كوابيسَ دهَمَتنا .. صفحة هي قرن البعث المصري على مدى القرن التاسع عشر .. وصفحةٌ تالية هي قرن التحرُّر والاستقلال السياسيَّين على مدى القرن العشرين. وانتهت كل صفحة أو كلُّ قرن بنكسةٍ أو هزيمةٍ تحول معها جيل من المثقَّفين إلى فلول جيشٍ مهزوم، كلٌّ ينشد الخلاص لنفسه فردًا .. لم يعُد المثقفون جوقةً واحدة أو فريق عمل في معزوفةٍ مشتركة متعدِّدة الأنغام تستهدف سمع وضمير وأحلام الأمة .. بل أفرادٌ عيونهم على السلطة تقربًا وزُلفَى، وعلى المال طمعًا وشهوة .. ولكن لكي يتولَّد من رحم هذا الجيل جيلٌ آخر جديد هو جيل الصعود .. وكأن مصر تحاكي من جديد قصة أوزير اغتيالًا ثم بعثًا من جديد .. وكأن المثقَّفين هم إيزيسُ الزمان موكولٌ إليهم بعد كل هزيمة وتجرُّع معاناتها جمع الشمل، ولم الأشلاء، والبعث الجديد.
وهكذا تكاد كل صفحةٍ جديدة أن تكون عودًا على بدء، أو تكرارًا لمحاولةٍ متعثرة من أجل النهوض، أبطالها وروَّادها المثقَّفون .. لعل أن تصل الصحوة الثقافية في قرن من الزمان مداها وتبلغ غايتها وتسري انتصارًا ووعيًا خلَّاقًا في شرايين حياة المجتمع العامة والخاصة على السواء.
وكي تبين الصورة واضحةً نبدأ الحديث بذكر واقعةٍ تاريخية هي طرفةٌ مأساوية يصدق معها المثل القائل: «شرُّ البليَّة ما يُضحِك»؛ إذ وردَ في أخبار الجبرتي عن أحداثِ مصر قُبيل الحملة الفرنسية أن جاء إلى مصر باشا جديد واليًا عليها. وأقبل عليه جمعٌ من كبار علماء مصر مهنئين. وقال الباشا الجديد: سمعت أن مصر مهدُ حضارة وأرضُ علم مما حبَّبني في أن آتي إليها لأحصِّل بعض علمها. وسأل جَمْعَ كبار العلماء عما إذا كانوا سمعوا شيئًا عن الغرب أو عن علم الرياضيات. صمتوا جميعًا فاغرين الأفواه، ثم تقدَّم أحدهم في حياء، وقال للباشا إن لنا كبيرًا لم يحضر معنا وسمعناه قال مثل هذا الكلام يومًا. ودعا الباشا كبير كبار العلماء وهو الشيخ حسن الجبرتي والد الجبرتي المؤرخ. وسأله الباشا وأجاب الشيخ حسن. وخرج العلماء، وقالوا للشيخ حسن «سترك الله كما سترتنا عند الباشا؛ إذ لولا وجودك لعرف أننا جميعًا حمير.»
هذه واقعةٌ تاريخية لها دلالتها العميقة عن حالة الظلمة الفكرية والثقافية، وعن الجهالة القاتمة التي كانت تعيشها مصرُ العلماء .. فما بالُ العامة من أهلها .. ولها دلالةٌ أخرى أعمقُ بالنسبة لقضية نلوكُها ونُطيلُ الرطان بشأنها ونبحثُ في متاهات الموروث عنها وهي قضية الهُوية الثقافية .. إنها حسب هذه القصة حالة التمزُّق، تمزُّق الإنسان/المجتمع بين واقعَين .. واقعٍ حضاري يبهرُ العقل والوجدان .. وبين وجدان أو وعيٍ ترسَّب فيه التقليد وتخلَّف .. وليست القضية أبدًا مصالحة بل قطيعةٌ معرفية وفعلٌ اجتماعي جديد .. أو نحو بعثٍ جديد.
وأوَّل من أرهصَ بشائر البعث هو الشيخ حسن العطار وصحبه أو تلامذته .. هذا الشيخ الذي ازدرى طريقَ علماء عصره وعلومهم وأدرك عقم وتفاهةَ ما يحشُون به رءوسهم وما يلوكونه من كَلِمٍ يُسمُّونه علمًا في اللغة أو في الدين .. وأدرك حقيقةَ حياة الكهف المظلم الذي يحتويهم وليس له من سبيل إلى النور .. نور العلم الحق. واعتاد أن يقول: «إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدَّد فيها من العلوم والمعارف ما ليس فيها.»
وانحرفَ عن طريق أقرانه من علماء مصر، وعُني بدراسة الآداب وعلوم الهيئة والطب والفلك والرياضيات. وأقام مدرسةً أو تيارًا ثقافيًّا جديدًا كان له شأنٌ عظيم في البعث الثقافي لمصر الجديدة، والذي امتد أثره إلى مختلف أنشطة الحياة الاجتماعية. وضم جيل البعث:
-
(١)
الشيخ رفاعة الطهطاوي.
-
(٢)
الشيخ إبراهيم الدسوقي.
-
(٣)
الشيخ محمد عياد الطنطاوي.
-
(٤)
الشيخ محمد عمر التونسي.
وانهزم جيل البعث، وانفرط عقده، وخمدَت جذوتُه وإن لم تنطفئ، أو لنقل انحسر تراثُه من فكر التنوير. وشهد ختام القرن التاسع عشر ميلادَ جيلٍ جديد من رحم الهزيمة، جيل حمل مشعل التنوير مرةً ثانية، وحمل آمال وطموحات مصر .. كان مطلع القرن العشرين بشيرًا بنهضةٍ مصرية/عربية جديدة مثلما كان آخر القرن الثامن عشر ومطلع التاسع عشر الصفحة الأولى للبعث المصري .. الذي تعثَّر .. شهد ختام القرن ولادة شخصياتٍ لها دورها في صناعة تاريخ الوعي الثقافي المصري، وكان لها دورُها الفاعل في نهضة العقل ومحاولة الربط بين العقل المصري المتطلع لاستعادة الدور والعافية بعد وعيه بذاته وبتاريخه وبحقه، وبين العقل الأوروبي المنطلق والممثِّل لحضارة العصر.
مع مطلع القرن العشرين أو قُبيله بقليل كان ميلاد طه حسين، وعباس العقاد، وإبراهيم المازني، ومحمد بدران، وأحمد لطفي السيد، وأحمد أمين، ومحمد مندور، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وعلي مصطفى مشرفة، وسلامة موسى، وحافظ إبراهيم، وعبد الرحمن شكري، ومحمود مختار .. وآخرون من أهل العلوم والآداب والفنون. جميعهم على عكس جيل الهزيمة، أعلامٌ قاموا بدورٍ مبرز في حركة النهضة الفكرية المصرية وتجديد الوعي الثقافي. استغرقَهُم هَم النهوض بالأمة ثقافيًّا وفكريًّا. واصطلحَت جهودهم على تطوير الفكر المصري أدبًا وعلمًا وفكرًا حضاريًّا، بل وتطوير الثقافة العربية، لغةً وأدبًا، بعد طول انحسار .. عاشوا هموم أمتهم وأحلامها كلٌّ بطريقته وحسب نهجه ومجال تخصصه .. وضاقوا بهذه الهموم وسَعَوا إلى تخليص الأمة منها وليس إلى الخلاص الفردي .. وكانت حقبة الربع الأول من القرن العشرين حقبة اختمارٍ وتأمُّل وتفكير واستطلاع وتقليب للرأي والنظر .. ولهذا كانت تمهيدًا لحقبة إبداعٍ جديد في العلم والفكر، والخطر بجرأة في كل مجال من مجالات المعرفة، ومنها الترجمة التي أبدع فيها محمد بدران.
لم تكن القضية بالنسبة لجيل النهضة من المثقَّفين على مدى النصف الأول من القرن العشرين قضية ثقافةٍ مجردة .. ولا ترجمة من أجل الترجمة، ولا حفظ واستظهار، ولا الوقوع أسرى تقليدٍ بهيم .. وإنما عقلٌ جديد متفتح باتساع آفاق الدنيا والتاريخ .. إنها قضيةُ وجود .. انتزاع حق الوجود على أساسٍ من العلم والمعرفة .. الإنسان المصري يؤكِّد ذاته ووجوده فكرًا وفعلًا نهضويًّا .. إنه البعث الجديد.
ضاق جيل مطلع القرن العشرين بالتخلُّف عن ركب الحضارة .. التخلُّف وجمود الفكر وعطالة التفكير العقلاني والفعل الإنتاجي .. وضاق بروح الهزيمة والأنانية التي سادت بين جيل المثقَّفين في أواخر القرن التاسع عشر .. وأمامهم التحدِّي الحضاري الأوروبي .. وفي وجدانهم ما ترسَّب وما عقلوه من تحدِّي التاريخ بكل ما فيه من تخلُّف وتزييف وقهرٍ للإنسان .. ومن سلوكياتٍ سلبية انهزامية.
كانوا جميعًا قلوبًا وعقولًا وفكرًا .. منظومة ونسقًا وهدفًا مشتركًا وعملًا متآزرًا .. ضد الجمود والانغلاق .. سعيًا إلى الانفتاح على الحضارات. ضد فرض حَجرٍ فكري صحي لفحص كل وافد، وإنما الإقدام والانفتاح من موقع الثقة والمخاطرة .. الثقة النابعة من فعالية الواقع المصري في مجال الإنتاج الإبداعي، والمخاطرة من حيث جرأة الاستعداد لتحمُّل التبعاتِ الجسام شريطةَ وضوح الرؤية والوسيلة والهدف.
وهم في هذا كله على خلاف جيل الهزيمة من المثقَّفين في أواخر القرن التاسع عشر أو أواخر القرن العشرين الذي نعيشه نحن .. الآن قناعةٌ بما تخلَّف من موروث وانحصار داخله، وقناعةٌ برأي سلفٍ عاش حياته بفعله وبفكره الإبداعيَّين ومضى، وإقالةٌ للعقل النقدي، وغربةٌ عن العصر وروح العصر؛ أي غربة عن العقل العلمي.
صدق عزم الجيل الجديد من المثقَّفين، وعظُمَت همتهُم وجهودهم في سبيل صوغ صورةٍ جديدة لمجتمعٍ مصري جديد .. عقل جديد .. إنسان مصري حضاري الفعل والفكر، عالمي الأفق.
ولعل هذَين الجيلَين، جيل الهزيمة في أواخر القرن التاسع عشر ثم جيل النهضة من أتراب محمد بدران، هما من قصدَهما طه حسين حين قال في «مستقبل الثقافة في مصر» عام ١٩٣٨م.
عهد التقى فيه جيلان من المثقَّفين:
-
(١)
الجيل القديم الذي اتخذ الأدب وسيلة إلى العيش والثروة والحظوة عند الكبراء وأصحاب السلطان وعند الأغنياء والموسِرين مُهدِرًا في سبيل هذا كله كرامته وحريته ورأيه وشعوره أيضًا.
-
(٢)
الجيل الحديث الذي آثر الحرية والكرامة على كل شيء فلم يتخذ الأدب سبيلًا إلى الثروة، ولا إلى الحظوة، وإنما اتخذه سبيلًا إلى لذَّته العقلية، وإلى إيقاظ الشعور وتنبيه الشعب إلى حقه وواجبه، وترقية الذوق، وإذاعة الحياة العقلية الجديدة في مصر بوجهٍ عام.
ثم يقول: الواقع أني مُعجَب بهؤلاء المثقَّفين المصريين؛ فهم قد بذلوا الجهد، واحتملوا من العناء ما لا يشعر به المعاصرون لهم، وما سيقدُره لهم التاريخُ حق قَدْره. نشَئوا في بيئةٍ معادية للثقافة أشدَّ العداء، ممانعةٍ لها أشد الممانعة، وقد بدءوا بأنفسهم فحرَّروها من كثير من التقاليد الثقيلة الفادحة.
هكذا كان عصر محمد بدران .. جيل الاستقلال والتحرير مع باكورة القرن العشرين .. طليعة من المثقَّفين على مدى نصف قرن أو يزيد قليلًا .. همُّهم الأول إنتاجُ الثقافة تعبيرًا عن حاجة الأمة ومستقبلها، وتحولٌ حضاري لتكون أمةً منتجة مبدعة مساهمة حضاريًّا .. وتأكيدٌ للوعي بالدور الحضاري التاريخي .. والنهوض بهذا الوعي الاجتماعي العام ثقافة وفكرًا وطاقة إبداعية .. والتواصُل الحضاري من موقع الثقة والنِّديَّة، والإحاطة بعلوم العصر من موقع المشاركة، والإطاحة بحضارات الشعوب في تسامُح .. وبذل الجهد صادقًا، مُنزَّهًا عن المصلحة الفردية وعن طمعٍ في سلطة أو مال.
واستطاعت مصر بفضل جهود هذا الجيل أن تكون منطقة جذبٍ للمثقَّفين العرب ممن لهم دورٌ في الحياة، وتطلُّع إلى مستقبل، وإسهامٌ رائد في الفكر .. ووفد إليها من لبنان أعلامٌ أسهموا بدورٍ بارز مع جيل محمد بدران .. من أمثال فؤاد صروف، وشبلي شميل وجورجي زيدان وغيرهم.
وشَهدَت مصر، قياسًا إلى تاريخها لا قياسًا إلى مقتضيات حضارة العصر، نشاطًا ثقافيًّا محمومًا، تأليفًا وترجمة وإعلامًا، في صورة صحائف ومجلاتٍ ثقافية وندوات ومجامع أو لجانٍ علمية .. نشأَت الجامعة الأهلية أو المصرية تعبيرًا عن ذلك، ونشأ مجمع اللغة، ونشأَت الجمعية الجغرافية والتاريخية .. ونشأَت مجلة المقتطف والرسالة والثقافة .. ونشأَت دار المعارف التي أسسها نجيب متري عام ١٨٩١م، ونشأَت لجنة التأليف والترجمة عام ١٩١٥م، التي أسَّسها أحمد أمين، وكان من مؤسسيها عَلَمنا الثقافي محمد بدران. وضمَّت العديدين من أعلام ثقافة النهضة والتنوير. وفي منتصف الأربعينيات أُنشئَت الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية، ووضعَت من أهدافها الترجمة لإثراء الوعي العربي وإغنائه بإنجازات الحضارة. وكان من أهم هذه الإنجازات «موسوعة الحضارة» تأليف ويل دورانت، وهي من ٢٠ مجلدًا، والتي ترجمها محمد بدران.
كان محمد بدران، شأن أبناء جيله من الروَّاد، مثالًا للمثقَّف المصري وجدانًا وتاريخًا وطموحًا إلى الانتماء الحضاري من موقع مصري، مثالًا للمثقَّف المعبِّر عن آمال الشعب .. ومثالًا للالتزام القيمي في نشاطه الثقافي، بعيدًا عن إغراء السلطة وغواية المال. وإذا تأمَّلنا إنجازاته نجد حرصه على اختيار أمهات الكتب، وانتقاء الكتابات التي تغرس قيمًا حضارية؛ الحب والحرية والعدالة واستقلال الرأي. ونراه في ترجماته صاحب رؤيةٍ تاريخية مؤمنة بمصر وبعالمية الانتماء، بعيدًا عن الانعزالية باسم الوطنية الضيقة الأفق، وبعيدًا عن الاغتراب أو التغريب باسم العالمية، وإنما رؤيةٌ داعية إلى الانتماء الحضاري ملتزمة العقل العلمي. ولنتأمَّل نماذج ترجماته.
موسوعة الحضارة عملٌ علمي فذ، وجهدٌ خارق، وترجمةٌ رائعة. وهي عشرون مجلدًا.
وروائع الأدب العالمي الكلاسيكي. وتاريخ المسألة المصرية والنهضة الأوروبية، وأعلام الفلسفة الغربية … إلخ. إنها جميعًا تأتي انطلاقًا من رؤيةٍ تنويرية ونهوضية يؤمن بها هذا الجيل، وجميعها تفي بالهدف المرسوم، وتعالج عيبًا شديدًا أسهم في تخُّلف مصر والذي عبَّر عنه العالم المؤرخ وأحد أبناء هذا الجيل وهو الأستاذ الدكتور محمد شفيق غربال؛ إذ قال: «تفاقَم ضَعفُ مصر بعد أن انقطع الخيط الأخير من الصلات التي كانت تربط مصر ودول أوروبا.»
لقد كان أبناء هذا الجيل يؤمنون بأن الترجمة نشاطٌ اجتماعي يزدهر في المجتمعات القوية الواثقة بنفسها، المبدعة بإنتاجها، والقادرة على الأخذ والعطاء، والتعامل بكفاءة وندِّيَّة .. أما الضعفاء ومن جدبَت قرائحهم، وعقمَت إمكاناتهم فإنهم يلوذون بالعزلة، ويسدُّون الأبواب والنوافذ إلا لِما اتسق مع رؤاهم الأيديولوجية فيزدادون ضعفًا وانحلالًا .. فالترجمة أحد الأهداف الإبداعية لتعزيز قوَّتنا وسيادتنا واستقلالنا وإعادة بناء العقل المصري ليكون عقلًا ذا فعاليةٍ حضارية عصرية، وأن يكون نقدنا للآخر عن علمٍ لا عن جهل.
«في حياتنا العقلية تقصيرٌ معيب يصيبنا منه كثيرٌ من الخزي .. ومظهر هذا التقصير المخزي إهمالنا الشنيع للترجمة والنقل عن اللغات الأوروبية الحية؛ فما أكثر الآثار العلمية والفنية والأدبية التي تنعَم بها الإنسانية الراقية، وما أشدَّ جهلنا لهذه الآثار وغفلتَنا عنها!»
ثم يقول:
«ونحن أقل الأمم حظًّا من الترجمة، وأقلها علمًا لا أقول بدقائق الحياة العقلية الأوروبية، بل بأيسر مظاهرها.»
وكيف نُترجِم إذا كنا لا نقرأ؟ وكيف نقرأ، إذا كنا لم نتثقَّف هذه الثقافة التي تجعل القراءة جزءًا مُقومًا لحياتنا اليومية؟ .. لهذا القارئون الكاتبون منا، على قلَّتهم، يجهلون الحضارة الحديثة جهلًا تامًّا.
ونزدري حضارة أوروبا عن جهل.
لهذا فإننا نرى أن الترجمة نشاطٌ اجتماعي يمثِّل، حضورًا وغيابًا، عَرَضًا مهمًّا من أعراض القوة والضعف في المجتمعات. ونرى أن الموقف من الترجمة هو موقف من المعرفة والثقافة ومن حرية الإنسان .. إنها أداة المؤمن بالعقل الإنساني وإنجازات العقل وتفاعُله، والمؤمن بدَورِ الإنسان وبالحياة .. وأن الإنسان صانع مصيره على الأرض.
والتزم محمد بدران منهجًا في الترجمة أحيا به تراثًا عربيًّا كلاسيكيًّا سن قواعدَه أبو عثمان الجاحظ (٧٧٥–٨٦٨م) ومن بعده الأديب المؤرخ صلاح الدين خليل الصفدي (١٢٩٦–١٣٦٢م). وتتمثل قواعدُ منهج الترجمة عند الجاحظ فيما يلي:
-
(١)
أن يكون المترجم عارفًا بموضوع الترجمة.
-
(٢)
أن يكون بيانُه في الترجمة في وزن علمه بالموضوع الذي يُترجمه.
-
(٣)
أن يكون عالمًا باللغتَين.
-
(٤)
أن يكون عارفًا بأسلوب المُتَرجَم له وعباراته وألفاظه ومجازاته وتأويلاته.
والحق أن كل فردٍ من أبناء جيل النهضة في مصر كان أُمةً بذاته من حيث طاقة التأليف أو الترجمة. ولستُ في هذا مبالغًا عل الرغم من إيماني بأن حظَّنا في الترجمة شديد التدنِّي لا قياسًا إلى الماضي بل قياسًا إلى حضارة العصر ومقتضياته. وإنما أقول ما قلتُ قياسًا إلى أممٍ يربطنا بها لغةٌ مشتركة ومصيرٌ مشترك.
قدَّم محمد بدران وحده أربعة وستين مترجمًا من أمهات الكتب. ولكن إذا ما تأملنا إنتاج أممٍ عربية أخرى فسنجد ما يثير الدهشة والتساؤل .. التساؤل عن معنى الحياة والموقف من المعرفة كما أسلفنا .. هناك بلدانٌ عربية ليس لها اسمٌ حتى الآن على خريطة النشر .. وأكثر البلدان حديثةُ عهد بالنشر تأليفًا وترجمة .. وعدد قليل الحظ من الترجمة إلى حد القصور المعيب قياسًا إلى حالنا العربي الذي هو في جملته معيبٌ أشد العيب.
- تونس: على مدى ١٤ سنة من ١٩٦٦م إلى ١٩٨١م ترجمَت ٣٧ كتابًا منها ٨ قصص أطفال.
- الجزائر: على مدى ١١ عامًا من ١٩٧٠م إلى ١٩٨١م ترجمت ٢٤ كتابًا.
- السودان: حتى ١٩٨٠م، لم تُصدِر كتابًا واحدًا مترجمًا، ثم بدأَت تسمح بالترجمة وفقًا لشروطٍ أيديولوجية تُقرُّها السلطة. وأنشأَت جامعة الملك عبد العزيز مركز الترجمة والنشر عام ١٩٨٩م، وأصدر المركز حتى ١٩٩٨م؛ أي في عشرة أعوام، ١٢ كتابًا دراسيًّا مترجمًا.
- الإمارات العربية: لم تبدأ النشر المنظَّم والترجمة إلا عام ١٩٩١م، بجهودٍ مصرية.
- الأردن: يهمُّني قراءة ردِّه على المنظمة العربية لبلاغة الدلالة. يقول التقرير:
أجاب د. عيسى الناعوري في تقريره عن واقع الترجمة في المملكة الأردنية
الهاشمية: «تزدهر الترجمة حيث تُوجد المؤسَّسات الداعية إلى تشجيعها ..
وهذا ما لم يتوفَّر في الأردن.»
والحقيقة أن عدد المترجمين في الأردن قليلٌ جدًّا، ومن المؤسف أن الكثيرين منهم، حتى بين أساتذة الجامعة .. يترجمون بلغةٍ عربية ضعيفة، وبعض المترجمين لا يتقنون اللغة التي يترجمون عنها .. وهذه مصيبةٌ لا في الأردن وحده، بل في العالم العربي برمته. ويضيف التقرير أن اللجنة الأردنية للتعريب والترجمة والنشر أصدرت ٧ كتبٍ مترجمة على مدى الأعوام ١٩٦٠م إلى ١٩٧٦م. هذا فيما عدا كتبًا فردية لمؤسَّسات تتبع هيئاتٍ أجنبية.
ورحل جيل بدران، جيل قرن الاستقلال والتحرير، الداعي إلى النهضة والتنوير. ورحلَت مع أبناء الجيل أحلامهم وإن تخلَّفَت تساؤلات بغير إجابة عن أسباب الهزيمة الكامنة في داخلنا وتراثنا: هل لأن ثقافتنا المعيشة تحتوي على بذرة تتنافى مع روح المخاطرة والكشف والبحث ومنهج التفكير العلمي؟ هل لأن الثقافة خضعَت للسياسة لا العكس؟ هل لأن الثقافة التنويرية انحصرَت داخل المدينة دون الريف؟ .. المهم سقَط المشروع القومي .. ومرةً أخرى المثقفون فلول جيشٍ مهزوم تُحرِّكهم ثنائيةٌ نقيضية حاكمة ثقافتنا المعيشة؛ ثنائية التسلُّط أو الخضوع .. واستساغوا الخضوع لكلمة السلطان وغواية المال .. واستقال العقل أو أُقيل.
وازداد العبء المنوط بمثقَّفي مصر والعرب بعامة إذا ما قيَّض لهم التلاحُم فريقًا من جديد، وذلك بعد أن اتسع نطاق الفعل والتأثير وبات نطاقًا إقليميًّا عربيًّا من المحيط إلى الخليج في إطار من العولمة أو العالمية .. ولكن لا يزال المرتكز عربيًّا هو هو .. مصر .. وإن ساور البعض الظن أنه بما تيسَّر له من أموال النفط، وبما أصابنا من فساد، وتهيَّأَت له الفرصة والقدرة على تغيير أطراف المعادلة الحضارية في الشرق العربي .. ولكن المال وحده لا يغيِّر الطبيعة وإنما الجهد والعمل الخلاق والفكر الإبداعي والعراقة الحضارية والتنظيم العلمي لإدارة الطاقات .. والتوسُّل في الحياة بأسباب حضارة العصر.
ولكن ونحن نودِّع قرنًا .. ونستقبل قرنًا جديدًا .. تُرى هل مصر على موعد لميلاد جيلٍ جديد لصفحةٍ جديدة هي صفحة النهضة الممتدة والتنوير الواسع النطاق إلى بطون الريف وزوايا النجوع .. صفحة ثالثة السيادة فيها للعقل العلمي الناقد والإنسان العام المستبد، مرحلة أكثر ارتقاءً وتطويرًا، تحمل معها العالم العربي، وتحقِّق انتماءنا إلى حضارة العصر .. ربما مع القرن القادم تجمع إيزيس أشلاء مصر أوزير، وتنعقد لهما أسباب الانتصار الدائم .. ربما.