ليس تنمية ثقافية بل تحوُّل حضاري
من مفارقات تاريخ حياتنا الثقافية أن مصر وشرق المتوسط هما المنطقة التي ابتكَرَت الأبجدية والكتابة، ولكن نجد المنطقة العربية جميعها لا تزال أسيرةَ الثقافة الشفاهية. وبعد أن كان الغرب في العصر الوسيط يردِّد قولًا مأثورًا: «إذ اتجهتَ جنوبًا ازددتَ ثقافة.» فإذا الغرب الكتابي المتقدِّم حضاريًّا يقف الآن على عتبة قفزةٍ حضارية جديدة ينتقل بها من الثقافة الكتابية إلى ثقافة اللغة الإلكترونية. وهذه نقلةٌ حضارية سوف تفضي إلى تحولٍ كيفي جذري بالنسبة للإنسان وقدراته على التحصيل والتحليل والاستجابة والإنتاج التقني والمعرفي، وبالنسبة إلى أدوات المعرفة التي تغلُّ فيضًا يتجاوز في العام الواحد ما أنجزَتْه البشرية في قرون، وتهيِّئ إمكانات للمعالجة والتوثيق والتفاعُل المعرفي؛ فالمفكر الآن يجد العالم والتاريخ والعلوم والفنون بين يدَيه، ويجد العلماء والمفكرين على اتصالٍ وثيق به وفي حوارٍ مباشر معه. وسوف تتغيَّر جذريًّا صورة الإنسان والمجتمع والوجود ومدى التشابُك الوثيق أو التداخُل فيما بينهم وكأننا إزاء رؤيةٍ جديدة لوحدة الوجود. وسوف تتغيَّر كذلك العلاقات داخل المجتمعات وفيما بينها حيث يصدُق الرأي أن المعرفة قوة وقدرة وسلطة، وهي الآن على المستوى العالمي لها ولمن يملكها وينتجها الهيمنة والتحكُّم من بُعد.
ولكن مع هذا كله لا تزال المجتمعات العربية أسيرة طورٍ حضاري بدائي أو متخلِّف تجسِّده وتمثِّله الثقافة الشفاهية بكل خصائصها. وليس هذا على سبيل المجاز، بل هو واقع الحال، وناتج التاريخ، وشهادة الإحصاء؛ فقد عاشت شعوب المجتمعات العربية رعايا للولاة من المماليك والعثمانيين ومن بعدهم الغرب الاستعماري الذي بنى قوَّته على حساب استنزاف مواردنا وقدراتنا، وترسَّخ شعور التبعية. وظلت الشعوب العربية طوال هذه القرون مجتمعاتٍ عاطلة من الإنتاج والإبداع المعرفي أسيرة الموروث والثقافة الشفاهية مما ضاعف من تخلُّفها وفقدان الرابطة الثقافية العقلانية. وأجهضَت قوى القهر والاستبداد كل محاولةٍ للنهوض. وهذه حقبة بحاجة إلى دراسة في ضوء سوسيولوجيا المعرفة. ويكفي أن بعض هذه المجتمعات لم تأخُذ شكل دولة/مجتمع إلا منذ بضعٍ عقود. ولا يزال أكثرها يُعاني التمزُّق والتفرُّق والانقسامية.
ولا تزال المجتمعات العربية جميعها حتى أعرقها حضارة، وعلى الرغم من محاولات النهوض المتعثرة، لا تعتمد في ثقافتها الكتابة والتوثيق والكتاب، بل تعتمد السماع والتواتُر قاعدة ومرجعًا لاكتساب المعرفة؛ فالثقافة الشفاهية هي ثقافة الجَرْس والكلمة المنطوقة والذاكرة والتراث المحفوظ المتواتر مع مرجعية ومركزية النص وقُدسيته. والكلمة هي الواقع، بل هي فعل الواقع وكينونته. وتصوغ الثقافة الشفاهية عقلًا ينزع إلى النظرة الكلية المجتزَأة .. يأخذ الأحداث إجمالًا وإيجازًا واختصارًا .. ويُلخِّص الوجود خارج الزمان والمكان في حكمة أو قولٍ مأثور ..
وتعتمد الثقافة الشفاهية التلقين واستظهار النص، والأخذ عن الشيخ أو الفقيه، فالفقهاء ومن ناظرهم، هم حفَظة وسدَنة النصوص، وهم عقل الأمة. ومن ثم تعطَّل دور الذات في التثقيف والنقد والحكم العقلاني وفي العقل الإرادي والإبداع والتغيير. وتغدو ثقافة المجتمع ثقافة انحصارٍ ذاتي حضاري .. إذ يرى الشفاهي نفسه والكون كلَّه من خلال النص .. فالنص له الخلود، والبيئة الحضارية التي تولَّد عنها النص خالدة أيضًا وحريٌّ أن تدوم .. ومن هنا فهي ثقافةٌ جبرية مغلقة محافظة التزامًا بالنص وحفاظًا عليه، ولا تُفضي إلى التحول والابتكار؛ إذ ترى في هذا خروجًا على النص .. وإنما النص مصدر المعرفة، وأساس التكيُّف والسلوك .. ولذلك تعتمد تكرار النص خوفًا من الضياع .. فنطق الكلمة هو الوجود. وتشيع عبارة قال أو يُقال وتكون عبارةً صادقة مصدَّقة بحكم وحدة الذات والكلمة .. وتترسَّخ بذلك لدى العامة مشاعر الدونية والتبعية. وهل لنا أن نجد غير هذا في مجتمعات تغلب عليها الأمية الأبجدية، وتسودها الأمية الثقافية، وعاطلة عن إنتاج المعرفة على مستوى العصر، ومقطوعة الصلة بعلوم الحضارة، ناهيك عن الإسهام فيها من حيث الإبداع النظري والإنتاج التقني؟ والأمية الأبجدية والثقافية تعني شيوع الثقافة الشفاهية وغلبة الفطرة على العقلانية النقدية المنهجية.
وإذا كانت المعرفة مصدرها الكلمة أو النص الذي يستوعب الوجود زمانًا ومكانًا، وأمره موكولٌ إلى الفقيه أو إلى المتحدث باسم السلطان صاحب الكلمة، فإن هذه الثقافة تصوغ وعيًا زائفًا بالمعرفة، معرفة الإنسان والمجتمع والطبيعة، وترسِّخ شعورًا زائفًا بالاعتمادية والتواكُل والأمان .. ويجسِّد هذا كلَّه شعورٌ زائف بالقناعة المعرفية دون كل ما هو خارج النص .. إذ يفضي إلى غرس عادة الانصراف عن البحث ومغامرة الاستكشاف المعرفي تأسيسًا على تصفُّح كتاب الطبيعة ووقائع حياة المجتمع والنفس، والعزوف عن السعي الإرادي العقلاني اليقِظ الحذِر والمسئول لبناء الحياة في إطار منظورٍ مستقبلي؛ فالفضول المعرفي فعلٌ إنساني أصيل وليس بالوكالة، اعتمادًا على فاعل غير الذات يجعل من الإنسان مناسبةً ووسيطًا لا فاعلًا أصيلًا .. وليس غريبًا أن يقترن القعود عن البحث المعرفي بالتقاعُس عن قبول التحدي في واقع الحياة والاستجابة النَّشِطة إزاءه، وهي أساس التطور الحضاري .. فكل شيء يتم بالوكالة عنَّا.
والكلمة في الثقافة الشفاهية كلمةٌ آمرة ناهية قاطعة، ومن ثَم الالتزام بها أو التعصُّب لها، والتطرُّف معها .. وكذا جمود الفكر. ويسود الاعتقاد أنه كلما ازددتَ التزامًا بالكلمة؛ أي كلما ازددتَ تطرفًا معها، كنتَ أقرب إلى صاحبها .. إما أن ترفض الكلمة جملةً أو تقبلها جملة .. أي إما الكفر المطلَق أو الإيمان المطلَق وليس الحوار .. وليس البحث العقلاني في الأسباب وتقديم البرهان؛ فالثقافة الشفاهية لا تقبل حق الاختلاف .. إما معي مؤمنًا بكلمتي وإما ضدي. وهكذا نجد من يؤمن إيمانًا كاملًا أعمى بكلمة صاحب السلطان، أو من يكفُر بها تمامًا .. لهذا لا مانع من أن نجد من يكفِّر الجميع لأنهم لا يؤمنون بكلمته دون حوار أو إبداء أسباب.
والثقافة الكتابية في تطوُّرها، خاصة بعد الطباعة، أثبتَت النص مستقلًّا خارج الذات، ووضعَتْه في سياقه الزماني والمكاني، وأضحت أساسًا للتجريب وللتواصُل الموثَّق، ولاسترجاع المعلومات، وأفضت إلى منهج وقواعد للفكر والدراسة والمقارنة والنقد والتحكيم والتحقُّق على أساس منهجٍ عقلاني. وصاغت الفكر في أنساق، ولم يعُد الزمان فضاءً زاخرًا بأحداثٍ متفرِّقات، بل بينها تسلسلٌ سببي وروابطُ علِّيَّة متبادَلة ومتفاعِلة .. الثقافة الكتابية هي التي مهَّدَت السبيل بعد الطباعة للإصلاح الديني وفعالية الفكر النسَقي، ومنهجية المراجعة والنقد للنصوص، وموضوعية أو علمية البحث والتواصُل بين العلماء، والارتقاء بالحضارة طورًا بعد طور .. وساعدَت الكتابة على التراكُم المعرفي الموثَّق، وعلى التحوُّل الكيفي من نظرية إلى نظرية تأسيسًا على هذا التراكُم المقترن بالبحث المنهجي وبمشكلات البحث وقضايا المجتمع. وهيَّأَت قدرة على التجريد وتجاوُز الحديث الآني، والتواصُل بين الأجيال، وتشكل النشاط المعرفي في صورة تياراتٍ فكرية متطورة.
ونحن لا نزال نجفلُ ونجترُّ موروثًا شفاهيًّا بدعوى الحفاظ على ذاتيتنا الثقافية. ننظر إلى الهُوية الثقافية وكأنها راكدةٌ مكتملة لا تاريخية أو كينونة اكتملَت وتحقَّقَت خارج الزمان والمكان تسري عَبْر الأجيال وكأنها جينة جبلِّية تُتَوارث وتكشف عن طبيعة الإنسان/المجتمع الواحدة في كل الأزمان؛ ومن ثَم فهي صمَّاء غير متفاعلة مع الواقع الاجتماعي والطبيعي، المحلي والعالمي على السواء .. إنها في نظرنا وجودٌ مطلق .. وغالبًا ما يحصُرها البعض في العقيدة. وننسى أن الهُوية الثقافية هي في جوهرها وخصوصياتها وليدةُ فعاليةٍ متطورة، وأن بين هذه العناصر تفاعلًا جدليًّا مطَّردًا لا ينتهي. والهوية الثقافية الاجتماعية إما إلى تفتُّح وازدهار بفعل النشاط الاجتماعي الإنتاجي الإبداعي المولِّد للمعرفة، وإما إلى انزواءٍ وانحسارٍ ثم تحلُّل إذا ما ساد المجتمعَ الركودُ وعطالةُ الإنتاج وعاش عالةً على الآخرين يستهلك إنتاجهم المادي والمعرفي. وحين يكون هذا حال المجتمع يسودُه الخواء الفكري والمعرفي، وخوَر العزيمة وضعف الاستجابة.
ولقد واجهَت المجتمعات العربية في تاريخها الوسيط والحديث عقباتٍ خارجية عاقت نموَّها الحضاري بوجهَيه المادي التقني والثقافي المعرفي، ولا تزال تتضاعف حدة وخطر هذه العقبات على نحوِ ما يبين في صورة العولمة التي سنعرض لها، ولكن أخطر العقبات هي عقباتٌ داخلية تشلُّ القدرة على الاستجابة للتحديات في مضمار الصراع الحضاري. وبعضُ تلك العقبات الداخلية الثقافةُ الاجتماعية المعاشة وهي ثقافةٌ شفاهية تتعارض مع خصائص الثقافة الاجتماعية التي أفضت إلى نشوء وتطوُّر العلم لغة وفكرًا ومبحثًا ومنهجًا ونظريات وتقانة، واتسعَت شُقَّة التعارُض ومن ثَم التخلُّف، بعد القفزة الحضارية الجديدة الواعدة، حضارة عصر الفضاء واللغة الإلكترونية وفيضان المعلومات.
شهادة الإحصاء
وشهادة الإحصاء عن واقع علاقتنا بالكتابة وبالكتاب والتي توضِّح ما أشرنا إليه بيانها كالتالي:
إصدارات الكتب عام ١٩٩١م
العالم | ٨٦٣٠٠٠ عنوان | |
أوروبا | ٤٠٣٠٠٠ عنوان | |
أمريكا الشمالية | ١٠٢٠٠٠ عنوان | |
العالم العربي | ٦٥٠٠ عنوان | أي واحد إلى ١٣٢ من إنتاج العالم متقدم وغير متقدم، وإلى ٧٥ بالنسبة لأوروبا. |
مصر | ٢٥٩٩ عنوانًا | وهي الأكثر إنتاجًا في العالم العربي وتعدادها ٦٠ مليونًا. |
إسبانيا | ٤٠٧٥٨ عنوانًا | حجم إنتاج مصر ١٨ مرة وسكانها نصف سكان مصر. |
ألمانيا | ٦٧٨٩٠ عنوانًا | |
اليابان | ٣٥٤٦٩ عنوانًا | |
إسرائيل (٤٫٥ مليون) | ٤٦٠٨ عناوين | نصف سكانها يقرءون بلغتهم الأصلية كتبًا مستوردة. |
فرنسا | ٤٣٦٨٢ عنوانًا |
العالم | ١٦٠ عنوانًا لكل مليون | |
أوروبا | ٨٠٢ عنوان لكل مليون | |
أمريكا الشمالية | ٣٦٥ عنوانًا لكل مليون | |
البلدان العربية | ٢٩ عنوانًا لكل مليون | ١ / ٣٢ من إسرائيل و١ / ٢٨ من أوروبا |
إسرائيل | ٩٢٠ عنوانًا لكل مليون |
العالم المتقدم | ٧٩٪ |
العالم العربي | ١٫١٪ |
مصر | ٦٤ |
ليبيا | ١٣ |
المغرب | ١٣ |
تونس | ٤٦ |
السعودية | ٥٤ |
سوريا | ١٨ |
إسرائيل | ٢٨١ |
إسبانيا | ١٠٤ |
ألمانيا | ٣١٧ |
فرنسا | ٢٣٧ |
المجر | ٢٢٨ |
يبقى بعد هذا تحليلُ ما نقرؤه وما لا نقرؤه لاستكشاف مضمون ما تُعنى به ثقافتنا:
حجم الاستهلاك | نصيب الفرد | |
---|---|---|
العالم | ٧٤٫٦ مليون طن متري | ١٣٫٥كجم (١٩٩٣م) |
أمريكا | ٢٩ مليون طن متري | ٣٨٫٦كجم |
أوروبا | ٢١٫٩ مليون طن متري | ٣٠٫٢كجم |
العالم العربي | ٠٫٧ مليون طن متري | ٢٫٩كجم |
وإذا سألنا عن مضمون الكتب وعن نصيب العلوم بعامة والعلوم الأساسية وعن نشاط البحث العلمي نجد الآتي:
١٩٦٧م | ١٩٧٦م | ١٩٨٣م | |
---|---|---|---|
العالم العربي مجتمعًا | ٤٦٥ | ١٣٢٣ | ٢٦١٦ |
إسرائيل | ١١٢٥ | ٣٢٩١ | ٤٦٦١ |
ونلاحظ هنا أن إسرائيل (٤ مليون نسمة) عام ١٩٦٧م، أكثر من العرب (٢٥٠ مليون نسمة) ﺑ ٦٦٠ بحثًا، وأن إسرائيل عام ١٩٨٣م، أكثر من العرب ﺑ ٢٠٤٥ بحثًا، بينما العالم العربي يضم ٧١ جامعةً وما بين ٣٠٠ إلى ١٠٠٠ مركز أبحاث. المشكلة في طريقة وهدف بناء الإنسان/العقل/الثقافة الاجتماعية، وكذا إدارة الموارد وتنظيم البشر.
وعن نصيب النشر العلمي من الكتب نجد دليل الكتاب المصري ١٩٩٠م، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب يُسجِّل إجمالي إصدارات عام ١٩٨٩م، وما قبله كالآتي:
-
أكثر من ٦٢٠٠ عنوانٍ مُؤلَّف ومُترجَم في جميع التخصصات؛ منها ٣٥٠ عنوانًا مؤلفًا ومترجمًا وردَت تحت عنوان العلوم البحتة والتطبيقية؛ من بينها كمثال الطب النبوي، إصلاح التليفزيون، العلاج بالأرواح، الطب الروحاني، الجبن الدمياطي وصناعته، الرضا لمن يرتضي.
-
٢٤ عنوانًا كتبٌ علمية مترجمة وليس من بينها كتاب في العلوم الأساسية.
وإذا تساءلنا عن تحليل المضمون تكفي الإشارة إلى ما يلي:
جاء في تحقيقٍ نشرَتْه جريدة الأهرام يوم ١٥ / ٥ / ١٩٩٥ أن الهيئة العامة للكتاب أصدرت إحصاءً يقول إنه قد صدر في مصر خلال عام ١٩٩٤م، وحده، ثلاثة آلاف عنوانٍ عن الشعوذة والدجل وصادفَت رواجًا كبيرًا.
وإذا تساءلنا عن الترجمة، كمؤشِّر على الفضول المعرفي العلمي، نجد أن العلوم الأساسية منعدمة (صفر).
عام ١٩٨٦م (حولية اليونسكو ١٩٩٢م) | ||
---|---|---|
العالم العربي | ٢٦٨ | |
إسرائيل | ٤٦٢ | مع ملاحظة أن ٥٠٪ من سكانها مهاجرون يقرءون بلغتهم. |
المجر | ١١٤٤ | |
إسبانيا | ٩٦٤٧ |
تؤكِّد هذه الإحصاءات أولًا ابتعادنا عن الكتابة والكِتاب وأننا لا نقرأ، وأَسْرى الثقافة الشفاهية بكل سلبياتها آنفة الذكر، وتؤكِّد ثانيًا غربة العلم في حياتنا، وانصرافنا عن النشاط العلمي الإبداعي، وغُربة التفكير العلمي. وليس السبب نقص الإمكانات المالية أو الكَم البشري لمن يقولون إن إسرائيل تكمُن قوتها في الدعم المالي فقط الذي تتلقاه من الخارج؛ فإن العالم العربي يعرف جيدًا كيف يُهدِر إمكاناته. ونشير كمثالٍ إلى ما يلي:
خلال عقد الثمانينيات أنفقَت البلدان العربية معظم دخلها، علاوةً على اقتراض ما لا يقل عن ١٤٠ مليار دولار، ولم ينَل العلم والبحث العلمي منها سوى نصيبٍ بالغ الضآلة .. جميعه بحثٌ علمي خدمي.
وفيما بين ارتفاع سعر النفط عام ١٩٧٣م، ونهاية عقد الثمانينيات تلقَّى العالم العربي ١٫٥ تريليون (مليون مليون) دولار عوائدَ نفطية، ومع هذا لم يظهر بلدٌ عربي واحد على عتبة الانطلاق الاقتصادي شأنَ النمور الآسيوية.
ويدَّخِر رجال الأعمال العرب — غير الحكومات — من أبناء الأقطار العربية النفطية في الخارج ١٢٠ مليار دولار، ومثلها لرجال أعمال من الأقطار العربية الفقيرة، ومع هذا لا نجد بين العالم العربي محاولاتٍ لبناء قاعدةٍ علمية تقنية وبشرية، بينما ما يلزم توفيره لإنهاض البحث العلمي، علاوةً على الثورة التعليمية، مبلغ ٢٫٢٪ من عوائد النفط العربية أو المدخرات في الخارج (د. عدنان مصطفی، أزمة البحث العلمي العربي، شئون عربية، نيسان (أبريل)، ١٩٩٦م).
في ضوء وضعنا المأساوي، المتخلِّف والمُتواكِل، ما هي الاستجابة اللازمة إزاء تحدي آلية التطوُّر الحضاري (عالمية العلم والتقانة) وكذا آلية الإدارة الأيديولوجية لهذا التطوُّر (العولمة وسياسة الهيمنة)؟ الأمران خطرٌ داهم مع إيجابية الأول وسلبية الثاني؛ إذ يفضي كلاهما إلى ترسيخ حالة التبعية القائمة المتأصِّلة.
وحريٌّ أن يزداد شعورنا بالخطر المتوقَّع وبالتحدِّي الماثل إذا عرفنا الجذور التاريخية والاجتماعية لكلٍّ منهما. لقد اقترنَت القفزة الحضارية لعالمية العلم والتقانة في بدايتها، وعَبْر مسار تطوُّرها، بنشوء عقبةٍ خارجية جسيمة تمثِّلها مركزية إنتاج المعرفة والمعلومات، وكذا مركزية معالجتها وتوزيعها وتوظيفها على المستوى العالمي. وطبعيٌّ أن يكون المركز هو الدول الغربية الصناعية المتقدمة. وبات المركز هو المتحكم في بلدان الحافَة أو الأطراف. يحدُث هذا بينما البلدان العربية ولأسبابٍ وعقباتٍ داخلية، تعيش أسيرةَ الثقافة الشفاهية التي أفضت بها إلى أن تحتل موقعًا شديد التدنِّي على الحافَة. البلدان العربية تُهدِر إمكاناتها وطاقاتها على مستوى الدولة والمجتمع والفرد في مساربَ لا علاقة لها، موضوعيًّا، بمواجهة التحدي الحضاري العالمي، وكذا الإقليمي الذي تجسِّده إسرائيل بوجودها وبمشروعاتها مثل الشرق أوسطية. وتدعم الثقافة الشفاهية وترسِّخ حالة التبعية، وتعطِّل قدراتنا على الاستجابة أداةً واتجاهًا، وتحُول دون وضع تفسيرٍ عقلاني صحيح، كما تحول دون حشد وتنظيم كافَّة القوى.
أما عن العولمة فإنها أداة الهيمنة الأمريكية عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا وإعلاميًّا .. وهذه أيضًا لها تاريخٌ أمريكي خاص بها .. إنها الحُلم الأمريكي بمجتمعٍ عظيم عالمي تهيمن عليه أمريكا، والذي عبَّر عنه المؤرخ والفيلسوف الأمريكي جون فايسك في أواخر القرن التاسع عشر، حين صور الولايات المتحدة التي يحدُّها القطبان الشمالي والجنوبي. وتردَّد صدى هذا الحلم في خيال الأمريكيين، بل هو موضوعٌ دراسي يجري تلقينُه للتلاميذ. ونذكُر هنا ما قاله الروائي الأمريكي هيرمان ملفيل (۱۸۱۹–۱۸۹۱م): «نحن روَّاد العالم وطلائعه، اختارنا الرب .. والإنسانية تنتظر من جنسنا الكثير .. بات لزامًا على أكثر الأمم أن تحتل المؤخرة .. نحن الطليعة تنطلق إلى البرية لنقدِّم ما لم يقدِّمه الأوائل.»
أما عن النهج الثقافي للعولمة فهذا ما نجده في تعاليم بورهوس فريدريك سکینر عالم النفس الأمريكي ونبي صناعة العقول الذي أكَّد أن الحرية وَهْم، والكرامة وَهْم، والإنسان وَهْم، والعقل وَهْم. وهو يقول: حُق لنا أن نقول للإنسان بصفته إنسانًا مع السلامة وليُخلِّصنا الله منك. ويصدُقُ ذات الرأي على مفهوم العقل فهو مفهومٌ معطِّل.
ويؤكِّد أن الحرية بالمعنى الأمريكي هي حرية القبضة الحديدية للشركات متعدِّية القوميات .. إذ يرى أن الحرية الفردية أو حرية الإنسان والمجتمع وهمٌ نُجسِّده.
ووصولًا إلى تدجين الشعوب وترسيخ التبعية ودعم الهيمنة الأمريكية طوَّر سكينر مناهجَ سابقيه وابتدَع هندسة تكنولوجيا التحكُّم في السلوك عن بُعد. ويمثِّل بذلك أَوْج المدرسة السلوكية .. إنها هندسةُ صناعةِ مجتمعاتٍ بشرية حسب المواصفات المطلوبة، مجتمعاتٍ داجنة، وشعوبٍ تفعل ما نريده منها وتظُن أنها تفعل ذلك بحريتها واختيارها .. وينبغي ألا تريد إلا ما تريده أنت منها .. وهذا وَهْم الحرية .. إن حرية العبد تتجسَّد حين ينفِّذ أمر سيده فينجو من العقاب والتعذيب .. وهكذا أصبح صدام حسين حرًّا إذ أفلت من العقاب.
ويقول سكينر: «يمكن لحكومةٍ ما أن تحول دون لجوء المواطنين إلى الردَّة والنفور، وذلك بجعل الحياة أكثر إمتاعًا بتوفير الغذاء ووسائل الترويح، وتشجيع الألعاب والقِمار، واستعمال المشروبات الكحولية والعقاقير المخدِّرة والمُسكِّنة، ومختلف أنواع السلوك الجنسي بحيث تكون آثار ذلك جعل الناس في متناول يد السلطة وغير بعيدين عن عقابها ردعًا لهم.»
ويقول: «الأقوى هو الغالب وصاحب الحق والحرية .. إن المطلوب هو قدْرٌ أكبر من السيطرة التي تهدفُ إلى فرضِ ثقافةٍ معيَّنة، وصَوْغ العقول وَفقًا لها.»
ويتحدَّث عن المدينة الفاضلة التي ينشُدها: «البقاء للأصلح هو قانون الطبيعة .. وهي طبيعةٌ حمراءُ الظِّلْف والناب. وإذا كان الإنسان قد خرج من الصراع وهو سيد الأنواع، فلماذا لا نتطلَّع إلى سلالةٍ بشرية تكون سيدة السُّلالات؟ وإذا كانت الثقافة قد تطوَّرَت بعمليةٍ مماثلة، فلماذا لا نتطلَّع إلى ثقافةٍ هي سيدة الثقافات؟» أي هيمنة الثقافة الأمريكية باسم العولمة.
أما عن أسلوب التحكُّم في أهل المدينة الفاضلة فيقول سكينر: «وكل من يشذُّ من أبناء المجتمع ويُصِر على التغيير أو تُحدِّثه نفسه عن الثورة والتمرُّد يمكن علاجُ هذا الشر الاجتماعي عن طريق تكثيف جرعات التجارب معه (مثل التجارب على الحيوانات لتعديل سلوكها) على نحوِ ما يحدُث في عمليات غسيل المخ. وإذا لم يُجْدِ معه هذا الدواء، فالتعذيب هو الأداةُ المثلى لعلاج الحالات المستعصية ولها «دُورُ استشفاء» أو «مراكز علاج» متخصِّصة في هذا الأسلوب المتَّبَع .. وهكذا تتحوَّل الصقور إلى حمائمَ وديعة».
ويدعونا إلى التخلِّي عن أوهامٍ معطِّلة: «الشرط الأساسي لنجاح تكنولوجيا السلوك هو أن نتخلَّى عن أوهامٍ ورثناها تتمثل في معتقداتٍ بالية تقول إن الإنسان ذاتٌ مستقلة، أو إن ثمَّة شيئًا اسمه حريةٌ فردية أو عقل.»
لهذا فإن القضية ليست أبدًا تنمية ثقافية .. إذ أي ثقافة تلك التي نبذل الجهد لتنميتها؟ وإنما القضية حشدُ الطاقات على اختلافها بغية الانتماء إلى حضارة العصر تأسيسًا على استراتيجيةٍ تنموية شاملةٍ كلَّ أنشطة المجتمع، ومتلائمةٍ مع مقتضيات التحوُّل الحضاري في العلاقات والمؤسَّسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والتعليمية والثقافية والإعلامية، وتؤكِّد الانتماء والإسهام الإيجابي للإنسان العام.
نريد تحولًا حضاريًّا نتجاوز به أنفسنا من منطلَق قَبول التحدي .. تحدي آلية الهيمنة باسم العولمة، وذلك بفضل مناعة الفعل العلمي والطموح الحضاري على أسسٍ موضوعية، واقتران هذا بقبول تحدِّي المركز .. والعمل على التعاون المنسَّق مع بلدان الأطراف، في إطار تنويرٍ إنساني جديد .. وأن يكون مشروعنا الحضاري ليس محاكاة، ولا قفزًا على الواقع، بل استجابة مجتمعية عقلانية نقدية إزاءَ تحدياتِ الداخل وتحدياتِ العولمة والشرق أوسطية التي هي صورةٌ مصغَّرة من العولمة وتعني الصهيونية.
والاستجابة للتحدِّي تكون منطلقًا صحيحًا حين تأتي ابتكارًا أصيلًا مُعبِّرًا عن تاريخنا بوعي صادق، وعن طموحنا وإمكاناتنا بتقدير علمي صحيح .. ليس الهدف تنمية ثقافية بمعنى المزيد من الرفاه الثقافي الاستهلاكي، على نحو ما يظُن البعض من أن التنمية الاقتصادية تعني المزيد من اليسار المالي .. الهدف تحوُّل حضاري؛ أي الإنتاج الإبداعي بوجهَيه المادي (التقني) والمعنوي (الفكري والثقافي) الذي يدعم ويرسِّخ ثقافة الابتكار والإرادة والتغيير .. هكذا نصون الهُوية التي هي فعل الأنا الاجتماعية في الزمان .. فإن ما نفعلُه هو الذي يحدِّد من نكون.