Wave Image

الخصوصية .. مظاهر القوة وعوامل الوهن

ما إن شَرعتُ في تأمُّل الموضوع حتى تزاحمَت في رأسي تساؤلاتٌ كثيرة متناقضة: ما الذي نعنيه بالخصوصية؟ ولماذا السؤال والبحث عنها؟ وأي خصوصية نقصد: ثقافية أم اجتماعية أم لغوية أم أيكولوجية .. إلى آخر هذه المصطلحات التي امتلأَت بها الساحة وذاعت في سوق الفكر العربي. وما معنى هذا كله على ألسنة المثقَّفين أو المشتغلين بالفكر .. هل ثمَّة اتفاقٌ حولها؟ أو هل ثمَّة معاييرُ وقواعدُ منهجية للبحث؟ .. وتذكَّرتُ هنا قول الشاعر:

تخالَفَ الناسُ حتى لا اتفاقَ لَهُمْ
إلا على شجَبٍ والخُلفُ في الشجَبِ

ولكن إصرارنا على بحث موضوع الخصوصية أو الهُوية أو غيرهما من مسمياتٍ ومترادفاتٍ على مدى قرنَين من الزمان ليُعاوِد كل جيل السؤال من جديد إنما يعني أحدَ أمرَين؛ إما أننا نسير على نهجٍ خاطئ وندور في حلقةٍ مفرغة لا تصل بنا إلى الغاية. أو يعني، في تصوُّرنا، أن الهُوية بمفهومها النظري المجرَّد هي مفتاحُ أزمتنا الذي إذا ما اهتدينا إليه انفتح تلقائيًّا باب النهوض الاجتماعي على مصراعَيه وانغلق باب التخلُّف .. هكذا وكأننا إزاء قصة من قصص ألف ليلة في التراث.

وهل السؤال هو دعوة للبحث في الخصوصية على نحوٍ أكاديمي .. إذن فإن الأمر يقتضي التزامًا بقواعد مناهج البحث من حيث التحديد الزماني المكاني وتحديد وتوصيف الظواهر؟ أم أن السؤال دعوةٌ للبحث عن الخصوصية وكأننا نبحث عن شيءٍ فقدناه ونسعى جادِّين لاستعادته؟ ولكلٍّ من السؤالَين اجتهاد عندي في ضوء الآراء التي تزخر بها الساحة.

نحن نسمع أن الأكراد والكلدانيين والأشوريين، أو الأرمن المهاجرين من أوطانهم بسبب الاضطهاد والاستبداد يسعَون في بلدان المهجر إلى تجميع أنفسهم وتأكيد خصوصيتهم لتوحيد صفوفهم في الغربة دفاعًا عن قضيتهم، وخوفًا من الذوبان في محيطٍ بشري غريب .. فهل يا تُرى نحن نسأل عن الخصوصية من نفس المنطلق ولنفس السبب؟ .. ونسمع أن اليهود داخل إسرائيل يسألون: من نحن؟ .. اليهود منقسمون فيما بينهم .. وماذا عن العرب الموجودين داخل إسرائيل، هل يسألون السؤال نفسه؟ وبماذا يجيب العرب؟ وهل إسرائيل دولةٌ يهودية بحيث تستثني العرب؟ إذ لو كان الدين هو الأساس، هو الخصوصية، لأصبح الاستثناء لازمًا. وماذا في عصر العولمة التي تخترق رياحها الحدود؟

وفاض خاطري عند تأمُّل هذه التساؤلات.

الحديث عن الخصوصية يأتي على مستويَين؛ خصوصية الإنسان/المجتمع من حيث هو نوع؛ أي خصوصية النوع البشري على مستوى التطور الارتقائي الحي، ثم خصوصية الإنسان/المجتمع على المستوى الحضاري المحلي أو العالمي؛ أي ما اكتسبَتْه المجتمعات على مدى تاريخها في تطويرها لِلُغاتها وعناصر ثقافتها واستجاباتها وأساليبها المميزة في العمل وأساليبها في تنظيم هياكل وبِنَى حياتها وعلاقاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وملاءمة هذا كله للمسرح الجغرافي الذي تجري عليه تلك الأحداث، والتفاعُلات المحلية والإقليمية والعالمية المؤثِّرة على هذا سلبًا وإيجابًا.

وثمَّة تفاعُل وتأثيرٌ متبادل بين الخصوصيَّتَين؛ إذ بات من المسلَّم به لدى علماء البيولوجيا التطوُّرية أن عملية التطوُّر اجتماعيًّا هي عملية تطوُّرٍ مشترك جامعة بين الثقافة والسلوك التكيُّفي من ناحية وبين الطراز الوراثي الظاهري Phenotype. ويشكِّل المستوى التطوري لخصوصية النوع القاعدة والمرتكز لخصوصية الإنسان/المجتمع على المستوى الحضاري المحلي حيث يكون الإطار المحلي أيكولوجيًّا وحضاريًّا هو مسرح النشاط والعامل المباشر المحدِّد لخصوصية الإنسان/المجتمع. والخصوصيتان التطوُّرية البيولوجية والحضارية الاجتماعية كلاهما في وحدتهما الجدَلية صيرورتان تاريخيتان وإن تبايَن الإيقاع الزمني لكلٍّ منهما.

والخصوصية التطوُّرية للنوع؛ أي خصوصية الإنسان/المجتمع المميزة له عن سائر الكائنات هي الفعلُ والتفاعُل الاجتماعيان في علاقةٍ متبادلة فيما بين الأفراد وفيما بين المجتمعات، وهي العلاقة المُنتِجة للفكر وللثقافة وللتاريخ. وتمثِّل علاقة العمل الاجتماعي والذاتية المشتركة الإطار العام المحدِّد للعلاقات التي يجري فيها وباسمها ويُعبِّر عنها النشاط الثقافي الاجتماعي. ويتميَّز النوع البشري كذلك بخصوصيةٍ مميزة هي القابلية الهائلة للتحوُّر والتنوُّع؛ ذلك أن البشر لا يقنعون بمجرد الحياة لتكون الحياة اطرادًا عشوائيًّا، ولا بمجرد الحياة في علاقاتٍ سكونية نمطية ثابتة أو استاتيكيةٍ مطردة، بل البشر يُنتِجون العلاقات الاجتماعية في اتساقٍ مع الفعل الاجتماعي، مثلما يُنتِجون حياتهم ويُطوِّرونها لكي يعيشوا؛ إذ إن حياة الفعل الاجتماعي النشِط تدفَع تلقائيًّا إلى المزيد من الحاجات ومن ثَم إلى المزيد من التطوير والتنوُّع. إن البشر يُنتِجون هذه العلاقات من خلال الابتكار المستمر لسُبلٍ جديدة للفعل والتكيُّف، ويُنتِجون الثقافة والتاريخ. ومع تعدُّد المكان وامتداد الزمان تتنوَّع سُبل الفعل والفكر والثقافات والتاريخ.

لهذا نقول إن الهُوية الاجتماعية هي فعل أو نشاط النحن الاجتماعية في التاريخ، وهذا النشاط استجابة لإرادة ووعيٍ اجتماعيَّين. وإذا ما فقد المجتمع هذه الخصوصية فكأنما فقد خصوصية النوع لتغدو حياته شأن حياة الحيوان، تكاثرًا أميبيًّا، واطرادًا قدَريًّا عفْويًّا سقطَت عنه إرادة الفعل، وتعطَّل إنتاج الفكر الذي يتولَّد استجابةً لتحديات الواقع المتغيِّر المتجدِّد أبدًا .. لهذا فإن الإنسان/المجتمع يُنتِج ثقافته على النحو الخاص به زمانًا ومكانًا، ويكتسب خصوصيته من طبيعة استجاباته في إطاره الأيكولوجي المميز، ومحيطه العقلي، ونهجه في الحوار وفي التعامُل مع النفس والطبيعة .. ولهذا يمكن القول إن التنوع والابتكار والفعل الإرادي والفكر المتجدد وقابلية التطور والتحور اجتماعيًّا هي جميعها خصوصيات تميِّز النوعَ البشري وتُمايِز بينه وبين غيره من الكائنات. ونقول استطرادًا واتساقًا إن المجتمع الذي لا يعمل في إطارٍ قومي هادف ولا يحدِّد ولا يبتكر استجابةً لتحديات الواقع هو مجتمعٌ عاطل من الفكر أيضًا. ومثل هذا المجتمع لا يملكُ إلا أن ينكُص ويرتَد إلى رصيده الموروث المغترب عن الزمان وعن الواقع، وتكون حياتُه كهفًا مصطنعًا وحنينًا إلى ماضٍ ولَّى أهلُه وزمانُه. والعمل الاجتماعي الهادف في ضوء تحديات الواقع هو جوهرُ وأساسُ روحِ المعاشرة الاجتماعية المتجدِّدة التي تُحكِم الترابُط المتزايد بين أبناء المجتمع، وهو مَنبَت أو مَصدَر توليد الصورة العقلانية المشتركة للمجتمع في بُعدَيها الزمان والمكاني .. وبذا يترسَّخ شعور الانتماء على نحوٍ نشط وإيجابي، وتتماثَل الأهداف، وتتكافَل الجهود، وتتعزَّز الروابط.

والثقافة حسب هذا المعنى مُنَتجٌ اجتماعي لتكييف فُرص ومُناخ ونهج الفعل والتفاعُل الاجتماعيَّين .. إنها إطار الفعل والتفاعُل .. إطار العمل والعلاقات والتأثُّر والتأثير وليست علة ذلك. ومقتضى هذا القول إن دراسة ثقافة مجتمعٍ ما في ازدهارها أو انحطاطها تستلزم دراسة حالة الفعل أو النشاط الاجتماعي، وعلاقة التفاعُل فيما بين أبناء المجتمع، وكذا فيما بين المجتمعات على المستوى الإقليمي أو العالمي وما تولَّد عن هذا التفاعُل من إيجابيات أو سلبياتٍ عزَّزَت فعالية المجتمع وتلاحُمَه أو العكس.

وخصوصية النوع، والتي يمكن أن نُسمِّيَها الخصوصية القاعدية تمثِّل قاعدة وركيزةَ نشوء وتجلِّي الخصوصية الثقافية للإنسان/المجتمع على المستوى المحلي أو القومي والتي يمكن أن نُسمِّيَها الخصوصية المشتقة. وتتنوَّع وتتعدَّد الخصوصيات الحضارية بوجهَيْها المادي (التقاني) والمعنوي (الثقافي) في إطار بُعدَي الزمان والمكان، فالحضارة هي إبداع الأدوات المادية (التقانة) والمعنوية (الإطار الفكري/القيمي) أي الثقافة استجابة لتحدياتٍ وجودية يفرضُها الواقع المتجدِّد بتفاعُله مع الإنسان/المجتمع. وهذا التعريف يتسم بالدينامية .. إذ يُدمِج الإنسان/المجتمع كأحد مكوِّنات البنية الحضارية بسلوكه وفكره وقيمه، وباعتباره طَرفًا في حوارٍ نشِط مع الطبيعة وخصوصيتُه مستمدةٌ من واقع حاله. وهنا لا يكون الإنسان/المجتمع كينونةً ذاتية مستقلَّة مطلَقة منفصلة عن الطبيعة، ولا يكون عنصرًا مؤثِّرًا فيها فحسب، بل هو طرف حوارٍ واستجابة وتفاعُل في بنيةٍ وجودية حية مشتركة متنوعة ومتحورة أبدًا. ويتسق هذا التعريف أيضًا مع مفهوم التعدُّدية والتنوُّع والتطوُّر في الزمان والمكان. وإن كان هذا لا يمنع، علاوةً على ما سبق، من النظر إلى آلية التحول الثقافي في ضوء تطور ونشاط الجهاز العصبي للإنسان/المجتمع من حيث الاختزان والرصيد (الذاكرة الفردية والجمعية) والتغذِّي على الجديد، وممانعة القديم لهذا الجديد على نحوِ ما يحدث في الصراع أو التناقُض بين الجديد والتقليد.

الخصوصية والفعالية الحضارية

في ضوء ما سبق نقول إن الخصوصية الحضارية المتحوِّرة بوجهَيها المادي والمعنوي هي ما يتفرَّد به الإنسان/المجتمع من صفاتٍ مميزة من خلال الصيرورة التاريخية التي هي تفاعُلٌ حي إرادي عقلاني في بيئةٍ طبيعية جغرافية من خلال الوجود الإنساني المتمثِّل في المجتمع لا الفرد بإيجابياته وسلبياته. وإذا كانت الاستجابة، التي هي فعل وتفاعُلٌ إرادي اجتماعي، شرطًا أساسيًّا، فإن الإنسان/المجتمع، في أي حضارةٍ انهارت أو تيبَّسَت وجمدَت وكفَّت عن الأخذ والعطاء، بحيث لم يعُد يُسهِم في اطراد العملية التاريخية ببناء حضارةٍ بديلة من صنعه ومُعبِّرة عنه، هنا تضيع هويته، ويفقد تفرُّده الإيجابي، بل إنه يغدو مسخًا؛ إذ لا شيء في مجال الثقافة يبقى على حاله، وإنما الثقافة أو الهُوية الثقافية هي الإنسان/المجتمع إمَّا إلى تقدُّم وازدهار أو إلى تدهوُر وانحسار، ويعيش مثل هذا المجتمع في غربتَين؛ غربة في الزمان وغربة في المكان.

والوعي والعقل الاجتماعيان هما نتاج هذا التفاعُل، وهما أيضًا وفي الوقت ذاته أداةُ هذا الصراع. إنهما وليدا الصراع من حيث كونهما أداةً ومحتوًى؛ ومن ثَم يتعيِّن لمعرفة طبيعة الخصوصية الثقافية أن نسأل عن طبيعة هذا الصراع الوجودي وأطرافه، وعن الوسط الأيكولوجي الذي يدور فيه، والعوامل المحدِّدة لنهج الصراع. ودَور الوعي والإرادة أو مساحة كلٍّ منهما حضورًا أو غيابًا. وطبعيٌّ أن يتطوَّر هذا كله مع التطوُّر الحضاري في إطار الصراع بين الموروث والجديد.

فالإنسان الذي يعيش على قطف الثمار يرى الطبيعة هي الواهب المعطي؛ إذ يجد الثمارَ دانيةَ القطوف من حوله. والإنسان في بيئة الرعي لا ينشُد غير فيءٍ يستظل به وعيناه إلى السماء تتأمل المعطي الوهَّاب بينما أغنامه سارحةٌ ترعى وتتوالد وتتكاثر، ولا يكلِّف نفسه سوى عناء التعبير عن الحمد والشكر والامتنان. والإنسان في البيئة الزراعية التقليدية قديمًا يبذل قدْرًا أكبر من الجهد والمتابعة ولكن الأمر في رحم الغيب متروك لرضاء القدَر؛ ولهذا أرى أنه في مجتمع الشرق القديم نشأَت ثقافةٌ هي وليدة خصوصية العمل الاجتماعي وعلاقاته في مجال الرعي والزراعة، وتميَّز فكر الصحراء والزراعة التقليدية بأنه فكرٌ سكوني «استاتیکي» على عكس فكر البحار والطبيعة المتغيرة القُلَّب دومًا فإنه فكرٌ دينامي متغير .. ولذلك نجد أبناء الرعي والزراعة أنزَعَ إلى الفكر المحافظ المتجانس. وثقافة الشرق التقليدية لها تبايُناتُها حسب طبيعة العمل ومقتضياته من ارتحال أو استقرار. إنها أشبه بثقافة أو حضارةٍ عنقودية لها خيط أو عصبٌ أساسي جامع ولكن لكل وحدةٍ تمايُزها الفرعي. وتميَّزَت هذه الثقافة في عموميتها بخصوصية نهج الصراع بين الإنسان ضد الخطيئة اشتياقًا إلى الغيب المطلق المتعالي والمفارق الفعَّال. وهذه رؤية تنطوي على تصوُّرٍ رمزي لعلاقة الإنسان بالوجود وطبيعة العمل. هذا بينما نجد في ثقافة الصين وجنوب شرق آسيا كمثالٍ آخر لحضارة/ثقافةٍ عنقودية خصوصية صراع الإنسان/المجتمع ضد اللاتناغُم اشتياقًا إلى التناغُم. وهذه ثقافة تؤكِّد تلاحُم البيئة الاجتماعية، وأن الخطيئة هي كل ما يُفسِد هذا التناغُم والتلاحُم في الوجود وفي المجتمع وفي النفس وفي الفكر. ونجد كمثالٍ ثالث عند الإغريق والرومان أو في القارَّة الأوروبية خصوصية صراع الإنسان ضد الطبيعة، البحار والجبال، من أجل فهم مظاهر انتظامها، ومن أجل انتزاع الوجود أو البقاء؛ أي صراع ضد القدَر وإن تخفَّى وراء قِناع، وهي أيضًا ثقافة المخاطرة في بيئة الجبال والبحار والإبحار والتي فرضتها طبيعة العمل والحياة، وهي ثقافة المهاجرين المغامرين في اليابان والأمريكتَين كمثالٍ رابع.

ونلحظ في هذا كله أن الإنسان/المجتمع لا يعيش علاقاته مع النفس والبيئة الطبيعية وما وراء الطبيعة بشكلٍ مباشر وإنما يعيشها من خلال رموزٍ وتصورات أو بِنًى ذهنية تشكِّل الإطار المعرفي القيمي. وتكون الثقافة الاجتماعية بقدْرِ ما هي الإطار المحدِّد لنهج السلوك، حجابًا بين الإنسان/المجتمع وبين واقع الوجود الطبيعي وما وراء الطبيعي. إنه يتعامل مع الوجود من خلال هذا الإطار المعرفي/القيمي. ويعبِّر الإنسان عن هذا كله من خلال المنتجات الاجتماعية؛ الفن والأدب والمأثورات ومن خلال الطقوس والشعائر .. وتتميَّز هذه الأُطر بقابلية التنوُّع الشديد، وبقابليتها للتأثُّر والتطوُّر بفعل أو حسب قوة العلاقات والتفاعُلات والنشاط الاجتماعي .. ويتوقف سيادة وعيٍ معيَّن دون غيره على الموقف والوضع التاريخي الحضاري، وعلى نوع العمل الاجتماعي والتفاعُلات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات والنظم الحاكمة لهذه العلاقات. وتتبايَن صُور التعبير داخل المنظومة الحضارية الواحدة وإن جمعَها جذرٌ مشترك؛ لذلك نُشبِّهها بالعنقود الجامع لخصوصيات ثقافيةٍ فرعية .. مثال ذلك التعبير الديني عند المجتمع البدوي نراه مغايرًا للتعبير الديني في المجتمع الزراعي المستقر، وهو ما يعني أن الوعي الاجتماعي الديني في المجتمعات الإسلامية «أو الشرقية عمومًا» متباينٌ بتبايُن طبيعة المجتمعات وليس كما يظن البعض أنه خصوصيةٌ واحدة؛ إذ تسُود المجتمعات الزراعية، كمثال، خصوصية التعبير عن العلاقة بالأولياء والتقاليد المؤسَّسية الدينية في صور ورموزٍ متباينة على عكس المجتمع البدوي فإنه بحكم الارتحال لا يعرف مزارات الأولياء ولا نظام المؤسسات الدينية المستقرة، ولا الوطن الأرض وإنما يوحِّد المجتمع بين العقيدة والشيخ؛ فالشيخ هو الجامع أو التجسيد لهذه الخصوصيات ومَنْ حوله أتباع. والانتماء انتماءٌ إلى فكرة أو عقيدة وليس إلى وطن؛ ولهذا ليس غريبًا أن نجد الدعوات المُنبثِقة عن هذه البيئة تُناهِض دائمًا الانتماء للوطن، وتؤكِّد الانتماء للعقيدة متجاوزة المكان والتاريخ.

وهذا على عكس الحال تمامًا في حضارة التصنيع التي هي شيءٌ جديد تمامًا غير مسبوق. هنا الإنسان ولأول مرة في تاريخه الحضاري يتدخل بإرادته ليُغيِّر من طبيعة أشياء إلى أشياءَ أخرى، بل إنه إزاء ظواهرَ طبيعية جديدة، وهو الفاعل الصانع والمسئول عن حاضره ومستقبله على الأرض .. والجديد هو العمل الاجتماعي الذي تتطوَّر أدواته، والذي تولَّد عنه إطارٌ معرفي/قيمي جديد ورؤيةٌ جديدة لصورة الوجود والإنسان وحدودهما وإيقاع الزمان والتحوُّل المتسارع على أيدي الإنسان/المجتمع. إنها خصوصيةٌ مغايرة ولكن في متصلٍ تاریخي متعدد ومترابط المراحل تأسيسًا على الخصوصية القاعدية للنوع البشري.

لهذا كله فإن دراسة الخصوصية أو الهوية الثقافية أو الذاتية القومية .. إلى آخر هذه المسمَّيات يتعيَّن أن تجري في ضوء منهجٍ متداخل المباحث Imterdisciplinary أي في ضوء مناهج ومنجزاتِ علومٍ عدة وثيقةِ الصلة بالموضوع؛ من بينها سوسيولوجيا المعرفة عن نشأة الأُطر المعرفية/ القيمية وتكوينها وتاريخيتها، وفي ضوء علم النفس التكويني وعلم نفس المعرفة، والتاريخ الاجتماعي والظروف والملابسات التي أثَّرَت إيجابًا وسلبًا في هذه الأُطر المعرفية/القيمية، وأيضًا في ضَوء علم الوراثة والعلاقة بين العمل الاجتماعي والسلوكيات المكتَسَبة وعمليات التكيُّف وبين الطراز الوراثي الظاهري Phenotype بحيث تنشأ وتترسَّخ ظواهرُ سلوكية تتوارث اجتماعيًّا وتأخذ طابعًا ثقافيًّا.

تأسيسًا على ما سبق نری خطأ القول إن الخصوصية أو الهُوية القومية مطلقة لا تاريخية وواحدة في كل زمان ومكان. كأن يقول قائل مثلًا إن هُوية الأمة الإسلامية هُويةٌ واحدة مطلقة، إنها «الحقيقة المطلَقة للأمة الإسلامية، وإن الانفتاح على الحضارات أو التطور الحضاري لا يغيِّر من هذه الحقيقة المطلقة، وإن سِمَتَها المميزة هي التديُّن.» هكذا وكأن مصر مثلًا قبل الإسلام أو قبل المسيحية لم تكن متدينة، أو أن المجتمعات غير المسلمة غيرُ متدينة ولا تعرف ثقافاتها الاجتماعية شيئًا عن الأرواح والغيب أو عن القيم المؤسَّسة على عقيدةٍ دينية. ويبدو هنا وكأن الدين خصوصيةٌ في المطلق بمعزل عن الإنسان/المجتمع والتاريخ. ومثل هذا القول يعزل الدين نشأةً وتكوينًا وحياةً متطورة عن واقع الفعل الاجتماعي التاريخي، ولا يرى أن الدين هو الإنسان/المجتمع الذي هو فعاليةٌ نشِطة في الزمان وفي المكان ويتأثَّر بهذه الفعالية سلبًا وإيجابًا .. ودون ذلك تهويمٌ في فراغ. ونلحظ هنا إغراقًا في المطلَقات والمعميات؛ فكلمة «أمة» مطلَقة دون اعتبار للزمان والمكان والتاريخ الاجتماعي .. وكذا صفة التديُّن. ويكشف هذا عن وجهٍ أيديولوجي سیاسي غيرِ علمي في طرح القضية. والحديث المطلَق المرسَل، فضلًا عن أنه غير علمي منهجًا ومبحثًا، فإنه أيضًا دعوةٌ ضمنية إلى ردةٍ سلفية وكأن الخصوصية أو الهُوية ظاهرةٌ غير أرضية أو غيرُ اجتماعية شَهدَت ميلادها، وبلغَت أَوْجَها وقت ازدهارها طفرةً واحدة على أيدي السلف الصالح؛ ومن ثَم فهي النموذج الأوْلَى بأن تقتدي به جموع الأمة أو المجتمعات الإسلامية.

ونحن إذ نُقرِّر أن الخصوصية صيرورةٌ تاريخية نشأة وتكوينًا وتطورًا بناء على خصوصية النوع، فإن هذا يعني ضرورة بحث الخصوصية في تطورها التاريخي الاجتماعي وبيان عوامل الازدهار والانحسار، والقوة والوهن. وحريٌّ بنا أن نلتمس هذا لا في الانتماء اللفظي إلى فكر أو عقيدة، بل في حالة المجتمع من حيث الفعل أو النشاط الإنتاجي الإبداعي والمُنْتَج الفكري الثقافي؛ أعني الواقع الحضاري بوجهَيه، والوحدة الجدلية التفاعُلية بين الإنسان/المجتمع وبين الواقع المتغيِّر، وأيضًا التفاعُل في المحيط الإقليمي والعالمي سواء كان في صورة حوار وتبادُل تأثيرٍ سلمي أو في صورة صراعٍ وحروب.

ونحن إذ نُقرِّر أيضًا أن مصر والشرقَين الأدنى والأوسط تسُودُهما خصوصيةٌ ثقافية محورها الصراع بين الإنسان والخطيئة اشتياقًا إلى الغيب المطلق الفعَّال والمهيمن الجبَّار، فإننا في ضوء التزامنا بأن الخصوصية صيرورةٌ تاريخية، وأنها حدثٌ تاريخي يجري في إطار الفعل والتفاعُل الاجتماعيَّين؛ أي العمل الاجتماعي والإبداع الفكري نرى أن هذه الخصوصية، وهي ساحة ومحتوى ونهج العلاقة بالغيب، تتغيَّر بتغيُّر واقع الفعل والتفاعُل الاجتماعيَّين؛ ففي عصور الازدهار الحضاري ومع أَوْج النشاط الإبداعي المادي والفكري للمجتمع نجد مساحةً لإرادة الإنسان/المجتمع في شئون الدنيا دون إخلالٍ بمبدأ الإيمان بالغيب المتعالي المُفارِق. هذا على عكس الحال في عصور الانحلال والانحطاط الحضاري إذ تتلاشى مساحة إرادة الإنسان/المجتمع، ويسود مع الإيمان بالغيب منهجٌ غيبي في التفكير، وينصرف مخاض الإنسان/المجتمع كله إلى الغيب؛ أي يستغرقه الغيب ثقافيًّا بالكامل، ويستغرقه الوجدان المأزوم بالتناقُض بين الفكر الراكد النكوصي وبين واقع الحياة.

وحريٌّ بنا أن نلحظ الفارق بين الإيمان بالغيب ومنهج التفكير الغيبي؛ ذلك أن الإيمان بالغيب لا يحول دون اختصاص إرادة الإنسان/المجتمع بشئون حياته في الدنيا ومسئوليته عنها. أما منهج التفكير الغيبي الذي يسود في عهود الانحلال فإنه يُلغي الإرادة، ويُذيب فكر الإنسان/المجتمع في محيط الغيب؛ أي يُفضي إلى تغييب الفكر والعقل، ويتخلَّى الإنسان/ المجتمع عن إرادته ومسئوليته، ويجفُل عن قَبول التحدِّي، ويعتمدُ التواكُل، وتسقط أو تُهدر فعالية العقل. وهذا هو المنهج السائد تاريخيًّا في مصر منذ سقوط الحضارة المصرية. وأعني بسقوط الحضارة هنا سقوط الإرادة السياسية المصرية، وسقوط القضية القومية المصرية، وتعطُّل الفعل الإبداعي الإنتاجي الاجتماعي للمجتمع المصري في تكامله ووحدته.

إن مصر منذ الغزو الفارسي ٥٢٥ق.م. وإصدار قرارٍ بحل الجيش المصري، ونهب مؤسَّسات الإنتاج الثقافي للعقل المصري؛ أي المعابد، وهي تعيش بغير قضيةٍ قومية تمثِّل المجتمع في إرادته الموحَّدة وفي تكامُله وتفاعُله مع الخارج وتماسُك بنيته في الداخل. وتحوَّل الشعب المصري منذ ذلك التاريخ وعلى أيدي الغزاة المتعاقبين حتى ظهور أول داعيةٍ للتنوير الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، ثم أول حاكمٍ مصري عام ١٩٥٢م، أقول تحوَّل الشعب المصري منذ الغزو الفارسي وحتى هذا التاريخ إلى تجمُّع بشري لا مجتمع .. العمل جهدٌ فردي للخلاص الفردي من أعباء وعذاب الغازي، وتعطُّل إنتاج المعرفة كنشاطٍ مجتمعي .. وحريٌّ بنا أن ندرس ظاهرة الإنسان المصري على مدى هذا التاريخ لنعرف الحصاد النفسي للشخصية المصرية الفرد والمجتمع من أثَر تعطُّل العمل الإنتاجي والإبداع الفكري، والاستبداد والقهر على أيدي الحكام محليين وأجانب.

لهذا كله أری أن ثقافتنا الاجتماعية السائدة والمعيشة تتميز بخصوصية هي وليدة الانحلال الحضاري، والقهر الخارجي، والاستبداد السياسي، وتحلُّل الروابط الاجتماعية، وتعطُّل التفاعُل الاجتماعي .. هي ثقافة الهزيمة والإذلال.

وأول وأبرز هذه السمات أنه تسود مصرَ والبلدانَ المحيطةَ بها ثقافةُ الغنوصية .. وهي ثقافةٌ مغرقة في روحانيتها ونزعتها الباطنية. وهي ثقافة منسوبة إلى هرمس أو تحوت مثلَّث العظمات أو العظيم ثلاثًا على نحوِ ما اعتاد المصريون القسم بالله العظيم ثلاثًا .. والثقافة الهرمسية المتخلِّفة عن عصر الانحلال، والتي هي صورةٌ تأويلية لثقافة عصر الازدهار الحضاري، هي ثقافةُ الذوبان في الغيب وسقوط إرادة الفعل ومسئولية الإنسان/المجتمع .. ثقافةُ طلبِ الخلاص في الآخرة وأن الحياة تأمُّل لتجلِّيات الغيب، والسعادة في الخلاص ونيل الثواب الأخروي، والخير كل الخير للمرء في الإكثار من أعمال الإيمان.

يقول هرمس: «اجمعوا بين محبة الديانة والحكمة، وقفوا أنفسكم على تعليمها، وإن قدرتُم على أن يكون زمان مقامكم في هذه الدنيا مصروفًا بأَسْره إلى ذلك دون غيره فافعلوا، ومتى كنتم بهذه الصفة سهُل عليكم ما يصعُب على غيركم.»

والسمة الثانية التي تؤثِّر سلبًا على جهدنا وقرينة بالأولى، هي أن مجتمعاتنا العربية، وبسبب الانحطاط الحضاري والقهر والاستبداد، وتعطُّل الفعل والفكر الاجتماعيَّين تسودها حتى الآن الثقافة الشفاهية، ثقافة الكلمة والصوت واللفظ. وهذه ثقافة عصور التخلُّف قياسًا إلى الثقافة الكتابية ودَورِها في الإصلاح الديني ونهضة العلوم والديمقراطية. وخصوصية الثقافة الشفاهية أنها ثقافة الكلمة والذاكرة والنص والعقلانية. ويحكُمها منهجٌ غيبي في التفكير يقتطع الفكر الاجتماعي من سياقه التاريخي؛ فهو فكر اللحظة. والكلمة هي الوجود، والنص هو المرجع القدسي، واستظهار النص سبيلنا إلى المعرفة عن الحياة والوجود؛ ولهذا فإن الشيوخ الفقهاء هم حفَظةُ وسدَنةُ النص، وهم عقلُ الأمة ومرجعُها، وسواهم أتباعٌ عليهم الطاعة .. ولذا فإن ثقافة النص هي ثقافة النخبة والتسلُّط والذاكرة، وأيضًا ثقافة الخضوع والتبعية عند العامة، وتسود هذه الثقافة في مُناخ الأمية الأبجدية والأمية الثقافية، وهو المناخ السائد على مدى قرونٍ من القهر والاستبداد.

وعاشت مصر وشعوب المنطقة قرونًا رعايا لرب السيف وسلطان العقيدة .. العقيدة هي الهُوية والخصوصية وليس الفعل الإبداعي والتلاحُم الاجتماعي تعبيرًا عن الانتماء الوطني. وطبعيٌّ أن نقول إن الأساس الموضوعي هو تخلُّف وانحطاط مستوى العمل الاجتماعي على المستوى الحضاري وعلاقات الفعل والتفاعُل فهذه هي علة الخصوصية الثقافية السائدة بيننا، ثقافة القهر والاستبداد. وليس العكس كأن نقول إن خصوصية الإنسان المصري هي الذل على نحو ما ذهب المقريزي في عبارته: «قال الرخاء إني ذاهب إلى مصر فقال الذل وأنا معك.» وليست خصوصيتنا المطلَقة هي الاستكانة والخوف أو الانصراف بكليتنا إلى الغيب وانصراف فكرنا وعقلنا، دون غرائزنا، عن الحياة الدنيا، وإنما هو واقع حالنا الحضاري والاجتماعي والسياسي وظروف التحلُّل والانحطاط والقهر والاستبداد .. وإلا فإن إصدار الأحكام المطلَقة، وهي منافيةٌ للعلم، تعني أن واقعنا اليائس قدَرٌ لا فكاك منه .. هذا على عكس منطق الواقع والحياة.

•••

أعود بعد هذا، وتأسيسًا عليه، إلى السؤال الذي بدأتُ به: لماذا عناء البحث النظري والسؤال عن الخصوصية وإرجاء التحرُّك نحو النهضة إلى حين الوصول إلى إجابةٍ حاسمة؟ هل لأننا بصدد عملٍ قومي .. نهضةٍ قومية لا سبيل إليها دون الإجابة مقدمًا على السؤال؟ ماذا عسانا أن نصنع بتعريف الخصوصية أو مترادفاتها عند مواجهتنا لتحديات الحضارة على الصعيد العالمي؟ إن سؤال ما هي خصوصية مجتمعٍ ما سؤالٌ نظري فلسفي واجتماعي، ولكنه يجد مُبرِّره في حالةٍ واحدة فقط حين نناقش حالنا، وواقع حياتنا وفعاليتها في التاريخ وعلاقتها بهذه الخصوصية التي هي حدثٌ مرحلي أو صيرورةٌ زمانية مكانية؟ أن نسأل في معرض دراسة عن الإنسان/المجتمع كظاهرةٍ تاريخية: ماذا جرى لنا في تاريخنا بحيث أصبحنا على ما نحن عليه من مظاهرَ سلوكية وبنيةٍ ثقافية تشكِّل خصوصية، ولكنها خصوصية ليست أبدًا أمرًا مطلقًا؟ كيف نراجع تاريخنا، ونتأمل واقع حياتنا على أساسٍ نقدي لنعرف مظاهر الضعف والخطأ، ونهج الاستجابة السلبية أو العازفة عن سلوك المخاطرة وقَبول التحدي بالفعل لا بالقول التماسًا لأسباب القوة التي تدعم جهدًا نهضويًّا، وتُسَلِّحنا برؤية علمية عن «النحن» في التاريخ بينما عيونُنا على المستقبل، وليس عن «النحن» في المطلَق كتعريفٍ مجرَّد نظن أنه ثابت مع الزمان، ونشعر بالحنين إليه، وأن صلاح حالنا في استعادته.

نحن الآن بواقعنا وحالنا محصِّلة تاريخ، ويُضنِينا شعور التخلُّف والعجز عن المنافسة ومشاعر الخوف والدونية .. والانصراف عن المغامرة، وعن الفضول المعرفي، وعن بذل الجهد للإسهام الإيجابي في حضارة العصر .. لماذا؟ وهذا هو السؤال، وليس أبدًا ما هي هويتنا أو خصوصيتنا الثقافية في المطلَق؟ أعني أن نُبدلَ السؤال بسؤالٍ دينامي مستقبلي: لماذا نحن كذلك تاريخًا وواقعًا؟ .. من منطلق محاولة الفهم العقلاني النقدي والطموح المستقبلي المُخاطِر .. إن السؤال عن من نحن إغراقٌ في النظر المجرد، وتيهٌ في حلقةٍ مفرغة قضينا معها قرنَين دون جدوى .. إن الذات أو النحن هي فعلٌ اجتماعي في التاريخ. الخصوصية فعلٌ تتجلَّى فيه صفات الذات، وتزدهر معه .. إن ما نفعله هو الذي يحدِّد من نكون.

فليكن سؤالنا سؤالًا يستحثُّنا على الفعل لا التأمُّل النظري المعمَّى .. يحثُّنا على تغيير الواقع لا الاستغراق في تهويمات.

إن تأكيد وحدة الانتماء وتعبئة الجهود على الصعيد الاجتماعي القُطري والقومي لا يكون بالبحث النظري المجرَّد عن الخصوصية أو الهُوية، ولا يكون من وراء قناعٍ أيديولوجي يُزيِّف التاريخ وإنما يكون تأسيسًا على التفكير من خلال الحقيقة العلمية لفهم تاريخنا، ذواتنا، كظاهرة، والكشف عن العوامل الاجتماعية المؤثِّرة سلبًا وإيجابًا في سلوكياتنا ورؤانا الثقافية من أجل إعادة بناء الإنسان الذي هو الهدف والأداة، ويكون كذلك بالفعل النشِط اجتماعيًّا بغية الانتماء الحضاري إلى العصر، وبغية التغيير الإرادي تأسيسًا على هذا الفعل الاجتماعي .. إذ لو قلنا الإسلام أو التديُّن أو الروحانية أو الشهامة أو العفَّة والطهر .. سيظل الانتماء شعارًا لفظيًّا. وواقع الأمر أن الناس يتعمَّق لديهم شعور الانتماء بفضل الانتماء المشترك إلى جهد وعملٍ يكفل الوجود والبقاء ويعزِّز قدرات التحدي.

والنهضة ليست بحاجةٍ إلى فكر أو هدفٍ مستنبط من الماضي، ولا العودة إلى خصوصيةٍ انتقائية، ولكنها، بعد فهمٍ عقلاني نقدي للتاريخ، بحاجة إلى عمل وفكرٍ إبداعيَّين على مستوى حضارة العصر، إلى فكرٍ يراجع الواقع كمحصلة تاريخ لا التراث كمعايشةٍ للماضي .. وهو تراثاتٌ متنوعة متضاربة .. حريٌّ أن يكون سؤالنا عن الخصوصية دعوةً إلى موقف وعمل، علاوةً على التفكير عَبْر الحقيقة العلمية، وتأويل الموروث في صالح الدعوة الجديدة .. إنسان العصر، وليس العكس؛ أي لا نعتمد الموقف وبرنامج العمل في ضوء الموروث.

لماذا لا نقول إن أحد التحديات التي نواجهها وتتعارض مع طموحنا أننا مهمَّشون عالميًّا .. لا يأتي لنا ذكرٌ في كتاب أو صحيفة أو وكالات أنباء .. ولا يعرف عنا العالم المتقدِّم والمتخلِّف إلا إننا بلادُ آثارٍ للسياحة وتاريخ قديم. ليس لدينا ما نقدِّمه وإنما نحن نستهلك منتجات العالم الأول فكرًا وسلعًا مادية ومن ثَم نحن زبائن أو تابعون. وإن زيَّف أحدُ الشيوخ هذا وقال: «لقد سخَّر الله لنا الغرب.» وهكذا أضحت التبعية باسم الدين أمرًا مستساغًا بل تعبيرًا عن رضا الغيب .. العالم لن يذكُرنا إلا بعطائنا وإسهامنا الحضاري الذي هو حصاد أفعالنا وإنجازاتنا العصرية في البحث العلمي والتقانة ونظامنا في إدارة حياتنا الاجتماعية .. لن يذكُرنا إلا إذا كانت لنا ضرورةٌ وجودية، ونسُد فراغًا في هذا العالم .. وليس غريبًا أن تردَّدَ على ألسنة بعض مفكري الغرب قولهم: «هناك شعوب لو اندثَرَت لن يشعر العالم بخسارة لفقدهم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤