القصة المملة العاشرة: سيدي الطائر
لهذا يا سيدي الطائر لا أُؤمن بالتاريخ، كلهم كاذبون.
كلهم منافقون مدعون، مجرمون وقتلة.
١
هل انتهى دوري في السيجارة؟ خذ يا صديق.
عينا «بكري» محمرتان مُحتقنتان بالدم، يأخذ مني السيجارة في تراخٍ. ينفث الدخان في بطء وتلذُّذ. يَبلع الدخان ويَحبسُه في صدرِه لبرهة، تزداد معها عيناه جحوظًا واحمرارًا، ثم يخرجه دفعة واحدة مع سُعال طويل مُتقطِّع، يَسترخي أكثر في جلسته على الأرض، وتسبَح عيناه مسبلتان في الحائط المقابل، يرى فيه ما لا أراه.
– «البنقو ده نضيف يا مان.»
يقولها ذاهلًا، أهز رأسي مؤكدًا.
هذا الحزن الذي يطلُّ من خلف جفوني المُسبلة محصلة كل شيء.
هذا الشحوب الذي يَعتري ملامحي كان حتميًّا.
وكل ما تمنيتُه، من أضع رأسي على صدرها وأشكو لها كل شيء.
سأحكي لها عن الطفل الشرير الذي قابلني في استراحة الإفطار في المدرسة وسرق غدائي، عن البائع النصاب الذي خدعني بالهاتف المعطوب، عن الشرطي الذي ضربني في مركز الشرطة بكلِّ غلِّ الدنيا، عن أرَقِي الدائم، ونَوبات الصداع، عن الشعور الممض بغربتي عن ذاتي، وإحساس الضياع المخيف الذي يلفُّ كهولتي.
لم أكن أطلب شيئًا كثيرًا، فقط من تَستمع لزفراتي المتعبة، وشكواي، ثم تُخبرني بأن كل شيء سيكون بخير، غدًا ربما، أو بعده، فنم أيها الطفل السخيف.
لا زلت أحمل، بعض متاع، من ذكريات علاقة غابرة، و«سارة» عندما تصل إلى النشوة تَحتضنُني على صدرها المكتنز بقوة، وتتأمَّلني بنصف عين، نظرات ممتنَّة، لم أكن أكثر سعادة طوال حياتي كما كنت في تلك اللحظات، خلال ثلاثين عامًا أو يَزيد، ظللتُ أبحث عن ذلك الشعور مجددًا، بلا نجاح.
دومًا ما كنتُ الصدر الحاني، والحائط الذي يستندون عليه عند تعثُّرهم، يُطالبونني بأن أكون بالغًا، أنا مجرَّد طفل سخيف يَرهبُ المستقبَل والموت، ويبحث عن إمرأة بديل أمه ليرتمي على حضنها باكيًا، لكنَّني أجيد التظاهر بأنني لستُ كذلك.
سيَرونَكَ مُذنبًا أن تأخذ، بعد أن تعوَّد منك الناسُ العطاء.
سأحكي لها عن عبثيةِ الحياة، وجمال الموت، وعن كُفري بالحب.
سعل «بكري» مجددًا، أكَّد قوله السابق: «البنقو ده نضيف يا مان.»
هبط طائر على حافة الحائط الطيني، رأيتُه يحطُّ قبالتي عبر فجوة الباب الخشبي، نظر لي في هدوء، نفَض ريشَه، قلب وجهه يمينًا ويسارًا بسرعة.
حركة تقلب رأسَه كإيقاع موسيقي.
دو، ري، فا، مي، صول، لا، سي.
دو، ري، فا، مي، صول، لا، سي.
أهزُّ رأسي في بطء مُنتشيًا مع الوقع الموسيقي لحركة رأسه، يَهمِس لي بشيء في أذني، أنظر له في ذهول، تَرتجِف شفتاي تأثُّرًا، وتترقرق عيناي بالدموع.
قال لي: «ليس خطأك.» ثم طار مبتعدًا.
أنت أكثر من يفهمني أيها الطائر.
الحب شعور كريه، أكذوبتنا الأولى على أنفسِنا منذ فجر الميلاد، كأكاذيب مُسيلمة، وأكاذيب الحُبَيبات، وكذبات الخاشعين الراكعين في محاريب الله، كذبة انتعلناها عمدًا لنُوجِد لذواتنا معنًى يُبرِّر بقائنا واستمرارِنا في الحياة يومًا آخر، والخدعة الأعظم على مرِّ التاريخ، التي جادَت بها قريحة الرجل؛ ليَحصُل على جسد الأنثى مجانًا.
الحب ضعف، تمظهر آخر لقلَّة ثقتك بذاتك التافهة، واعترافك الضمني بهشاشتك، أنك تحتاج إلى آخر لتَكتمِل؛ لأنك لستَ كافيًا بنفسك لنفسك، في الواقع، لن تَكتمِل بآخر أو بدونه.
وكما المُورفين، وهمٌ كيميائي جميل، تعيشه وتُصدِّقه، يكون شعور الحب كتأثيرٍ جانبيٍّ لحشد الهرمونات والأنزيمات التي تَعبث بخلايا دماغك، وككلِّ الاضطرابات السلوكية واعتلالات المزاج، يكون شعور الحب مجرَّد اختلال في اتِّزان ناقلاتك العصبية، مجرَّد وهمٍ.
الحب وهم!
كما حياتك!
لا بدَّ أن تكون فيلسوفًا لتتقبَّل تفاهتك وتعيش حياتك بطبيعيتها، أن تُضادَّ كينونتك وكل حاجاتك الدفينة التي تُشعرُك بالوجود، والانتماء، لكنَّك لن تستطيع، لذلك تَهرُب من واقعك التعِس بأن تُصبحَ فيلسوفًا تَحُوز كل التضادِّ في دواخلك، وتُبرِّره بلغة رفيعة، أو تتديَّن، وتَبتكِر قصصًا خيالية، عن عوالم ساحرة تخلد فيها رُوحك أبد الآبدين، وتُصدقها!
يا لحُمقِكَ الذي لا ينتهي.
أنت أحقر من أن تعيش في جنَّة أو تتلظَّى في نار، مجرَّد كائن أناني يَعيش كبرغوث على ظهر كوكب ضئيل، يسبح وسط حساء حُطامِ كونٍ فوضوي.
حبيبتُك تخونك، وزوجتك تشتهي رجلًا آخر في ماضيها، وحياتك دورة كيميائية عبثية، بلا غايات خفية من أيِّ نوع، هي الفوضى، كل الفوضى، ولا شيءَ سوى الفوضى.
أنت مجرَّد ذِكرى خافِتة في ذاكرة كون عجوز رأى الكثير.
رأى الملوك، والأنبياء، والأغنياء، والجنود، والآلهة الزائفة، رأى كلَّ هؤلاء يَعبُرون أمامه، يُعربدُون قليلًا، ثم يَختفُون، وظل هو!
ستَتلاشى كما تلاشى الملايين قبلَك، وكما سيتلاشى الملايينُ بعدَك، ومع ذلكَ تظن أن ليس من بعدِك أو قبلك!
ستموتُ ببساطة وتتفكَّك إلى عناصرِكَ الكيميائية الأولى، وتذوب في الأرض كأن لم تكن، ستتعفَّن كأيِّ فأر نافق في زقاق شارِعِكم الخلفي، فقط، يُحسب للفئران أنها أشد نبلًا وصدقًا؛ إذ لا تملأ الدنيا صراخًا ولا تَخترع قصصًا خيالية لتُطمئنها.
سنُفارق كلَّ من نُحبهم، وسيفارقوننا، هذا حتمي، ثم نَبكيهم، وتمر الأيام تدمل جراحنا ببطء لنُشفى من ذكراهم وننسى، ننسى! تلك هي الهدنة الخادعة، فقط لتفجعنا في حبيب آخر، تستمر الحياة في صفعنا ومد لسانها الساخر، ونستمر في سذاجتنا بلا حدود.
تديُّننا وإيماننا باللهِ ما هو إلا وثنية مُبتدِعة، كوثنية الإغريق القدامى، عندما حاولوا تفسير ظواهر الطبيعة وكل ما لا يَفهمونه بأقانيم خارقة، فمنحوا كل ظاهرة أيقونة رمزية وجعلوها آلهة توجهوا إليها بالعبادة والتوسُّل.
ولمحدودية عقولنا وسذاجتِنا المُفرطة خلقنا إلهًا على هيئتنا، كمُلوك العصور الوسطى، يضحك ويفرح، يغضب ويكره، يُهدِّد ويُهادِن، ويُفاضل بين مخلوقاته، فيَكرَه النساء، والمختلفين فكرًا وعقيدة، ثم يترك كل الكون الفسيح بمجراته وسُدُمِه وثقوبه السوداء، ويتابع باهتمام ما يدور في خلف جدران غرف نومنا، وما نسرُّه في أنفسنا، وما تُغطي به نساؤنا شعورهن.
وكما صوَّر اسبينوزا من قبل، أن الإله هو العالم الطبيعي وجوهر الروح والمادة، وأن الإنسان والمادة من خصائصه، وليس الإله المتعالي الذي يشغل نفسه بما يفعله البشر.
ثم قادتْنا أنانيتنا المفرطة لاختراع الدين، كما اخترعنا الرأسمالية والقانون، لفرض سيطرة القلَّة الطُّفيلية على الأكثرية المنتجة، والتحكم في الجموع بأقل التكاليف، ومُسكِّنًا موضعيًّا لكل الضعفاء، والمتوحِّدين، والمنبوذين، والفقراء، والساقطين من حظ الدنيا، ليَشعُروا بالانتماء، ويتصبَّرُوا بالأمل الزائف لوهم المكافأة، ومخرج مناسب لتبرير فشل الحكومات؛ فالدين هو آخر ملاجئ الساسة الأوغاد.
الله هو الوعاء الكبير الذي نرمي فيه جهلنا، وكل ما لا نعرفه.
لستُ كافرًا، أنا فقط متمرِّد.
لستُ زنديقًا، أنا فقط أنطق بما لا تجروء أنت على التفكير به.
الحب والدين، أعظم أكذوبتان للإنسان منذ وعى بنفسه.
هل انتهت السيجارة يا صديق؟ لف لنا واحدة أخرى.
«بكري» يخرج أوراق «البرنسيس» من مكمنها، يمرر عليه لسانه المبتل ليلصقها ببعضها، تتحرَّك أصابعه في مهارة وثقة، يفتت سجائر «المارلبورو» ويُخرج أحشائها لينثرها على الورق، يتشمَّم «البنقو» في عمق، يتذوَّقه بطرف لسانه، تسترخي ملامح وجهه أكثر فأكثر، ينثر فتات «البنقو» على ظهر الورقه ليختلط بأحشاء «المارلبورو» ويلف الخليط في حرص وإحكام، يشعل السيجارة حديثة الولادة، ثم يمدُّها لي ويحملق في الحائط مجددًا.
– «البنقو ده نضيف يا مان!»
ويهزُّ رأسَه مؤمِّنًا قوله.
لقد ماتت أمي ولم يَعُد من شيء يُهمُّني!
لستُ حزينًا، لم أحبَّ أمي قط، ربما كنت فظًّا لقولي هذا، لكنها الحقيقة!
يعود الطائر ويحط على الحائط مجددًا، ينقُر بجواره عدة مرات يلتقط شيئًا، يقلب وجهه يمينًا ويسارًا ليتأكَّد ألا أحد يسمع سرَّنا، يهمس لي: «وما الحقيقة؟»
أنظر له في ذهول، أنت حكيم يا سيدي الطائر.
ما الحقيقة؟ تسألني؟
الحقيقة هي أكذوبة أخرى، مجرد لفظ نطلقه على عواهنة دون أدنى فهم حقيقي لجوهره، لا يوجد ما يسمى بالحقيقة، حتى اللفظ في إطلاقه استفزاز!
هي وجهات نظر فقط، لا أكثر.
الحقيقة المُطلَقة رديفة اليقين والإيمان، كلاهما عبث واحتيال، هي مُصطَلحات وهمية ومُضلِّلة في واقعها تصفُ حالة كسل العقل عن الاستنباط والإدراك، حتى لا يرتدَّ فيتشكَّك ويَهدم ما نَعتبِرُه أسسًا في وعينا لا تقبل التأويل، كل الأفكار القوية التي تعمل كأساس معرفي في تكويننا ذاته، هي أفكار قابلة للشك والدحض، وحتى أشدها أصالة وموثوقية.
الحقيقة كالعاهرات اللواتي عبرنَ على سريري عشرات المرات وتباعَدَت أفخاذُهنَّ في الهواء لأبحث عن نفسي بينها، لا يوجد أصدق من العاهرة؛ إذ لا تبيعك الوهم ولا تطلب منك سوى مقابلًا لما تُعطي، فقط، لا أكثر ولا أقل، لا تُوجد حقيقة مطلقة، كما لا توجد عاهرة مطلقًا، هي عاهرتك، وأمُّ شخصٍ آخر، وزوجة ثالث، وابنة رابع، كلٌّ يراها بحسب زاويته، كذا الحقيقة، وجهة نظر!
الحقيقة بحسب منظورك لا تعني بالضرورة حقيقتي، طالَما حملت منظورًا مختلفًا عنك، وحتى أكثر الأشياء ترسخًا في يقينك، كوجودك ذاته، ليس حقيقة مُطلَقة.
لهذا يا سيدي الطائر لا أؤمن بالتاريخ، هو وجهة نظر أحادية للمُنتصِرين والمُدوِّنين بامتداد الزمن، كلهم كاذبون، كلهم مُنافِقُون مُدَّعون، مُجرِمون وقتلة، تلاشوا وتركوا لنا منظورهم الخاص بالواقع والأشياء، منظورهم المزاجي المشوَّه، باعونا وهمًا نتلوه في مدارس نَشئنا ونلقنه لهم غيبًا، لنمسخهم هم كذلك، ونزج بالمزيد من الأغنام إلى الحظيرة، صدقناه على أنه الحق، كل الحق، ولا شيء إلا الحق.
لكن دعني أؤكد لك مجددًا، كل شيء نِسبي بحسب الزاوية التي تمعن عبرها النظر، وأرشيفك القديم المخزن في تلافيف مخك، وأفكارك المسبقة، وعقدك النفسية، وسواد دواخلك المكبوت عميقًا، واتساع آفاق فكرك وثقافتك، كل هذا يتضافر ليصنع منظورك الخاص للحقيقة والأشياء.
وكما قال «لالاند» من قبل، عن الحقيقة، أنها خاصية ما هو حق، وهي القضية الصادقة، وما يُمكن البرهنة عليه، وشهادة الشاهد الذي يحكي ما فعلهُ أو رآهُ، والشيء الأصيل في مُقابل المُزيف.
لالاند كذلك، ها هنا، يُعبِّر عن حقيقته الخاصة.
يتقافز الطائر على الحائط مجدَّدًا، ينظر لي متعجبًا، أسمع سؤاله في ذهنه قبل أن ينطق به، نعم يا سيدي الطائر، حتى وجودي ذاته!
أنتَ لستَ أنت، بالمعني الحرفي المتجرِّد من كل إضافات المعنى؛ فوجودك اللحظي شيء مؤقت لسلوك المادة، كل ذرات جسدك المادية تتشكل مؤقتًا لتُشكِّل وجودك الحالي، كل خلايا جسدك تموت وتولد من جديد، تغيرت بكاملها منذ طفولتك كما يغير الثعبان جلده، فقط تبقى الذكريات في الدماغ كشيء مرجعي يؤمن لك ثبات هويتك، لذا فإن الماضي وهمٌ آخر، أنت كائن جديد، لست ذات الشخص الذي كنته قبل عامين.
أنتَ لست أفكارك، هي أشياء تحملها معك كما تحمل أي متاعٍ آخرَ، لذا من الحماقة أن نَغضبَ على من يحمل متاعًا آخر مخالف، الأنا الذاتية مفردة متفرِّدة ومُنفصِلة عن الأفكار والمشاعر والجسد، كينونتك شيء غير محسوس أو مفهوم، مُتعالٍ عن كل صفاتك، كل أفكارك، وقناعاتك، ومثلك العليا، ومبادئك، وإلهك الذي تعبد، كل تلك الأسس المعرفية التي تسلم لها نفسك وتؤمن بها بلا نقاش ليست حقيقتك، هل تساءلت يومًا كيف ستكون أفكارك لو كنت قد ولدتَ في مكانٍ آخر؟ الصين أو الهند أو المكسيك أو روسيا!
بالتأكيد ستكون مُختلفة جدًّا عما تؤمن به الآن، لكنَّك ستُدافع عنها بذات الحماس، وقد تموت أو تقتل من أجلها، على أنها الحقيقة، وكل الحقيقة.
أنت، وأفكارك، ومبادئك، وتاريخك، ودينك، نتاج صدفة الجغرافيا، ولا شيء سواها.
نعيش وَفق ما نفكر، ونفكر وَفقَ ما نعرف، وما نَعرفُه، تمَّت تغذيتنا به منذ الطفولة بلا إدراكٍ واعٍ منَّا، ملايين التفاصيل الصغيرة، ملاين الأفكار الأشد عمقًا في ثنايا خلايا دماغك، شكَّلت بناءك الذِّهني بالكامل، مفاهيمك الأشد عمقًا عن الصواب والخطأ، الجمال والقبح، الخير والشر، الله والشيطان، الأخلاق، كلها مفاهيم تلبستَها بلا وعي منك، ما تؤمن به وتدافع عنه لم تعتنقه بناءً على مدى قربه من الحقيقة أم لا، إنما ورثته من والديك ومجتمعك، ترث دينك وأفكارك كما ترثُ أمراضَك ولون بشرتك وعينيك.
أنت قمامة فكر مُتراكِم … منتوج ثانوي لما فكر فيه آخرُونَ دونًا عنك … لكنك تتبنَّى أفكارهم على أنها أفكارك الخاصة، وتمتزج بها وتتَّحد، وتدافع عنها بشراسة دفاعك عن نفسك. تنسى أن كينونتك شيء آخر، يجعلك غرورك الأجوف لا ترى أبعد من مدى قدميك، وتُصادِم المُختلِف عنك؛ فالجميع يؤمن أنه حاز مُطلَق الحقيقة ووجد جادة الصواب.
نبتعد عن الحقيقة بمقدار ثقتنا في امتلاكها.
ثم تُحاولُ أن تتحرَّر في عقلك، فتتمرد على الواقع وتخالف القطيع، وتنسف أفكار مجتمعِكَ وتتمرَّد على الثقافة والدين والعادات، تهدم بناءك العقلي بالكامل، وتهرب منه إلى بناء عقلي آخر تتَّخذُه أساسًا لميلاد فكرك الجديد، تهرب إلى النقيض، تخرج من حظيرة مجتمعِك إلى حظيرة مضادة وتتبنَّى الضد، ثم تظنُّ — بحماقة — أنك قد تحررت من قيود الخرافة وكسرت أغلال التابو، في الواقع، أنت بدلت حظيرتك بأخرى أوسع!
وتستمر الدائرة إلى ما لا نهاية.
لذا يصعب علينا يا سيدي الطائر أن نخرج من الصندوق مهما حاولنا. التفكير المجرد أكذوبة أخرى تعزي بها نفسك وتضللها؛ الإنسان كائن عاطفي بطبعه، تقوده مشاعره وتوجهه إنحيازاته المعرفية طيلة الوقت، ويظنُّ واهمًا أنه يمارس النقد والتفكير الحر، نعتنق النتيجة أولًا ثم نُبرِّرها عقليًّا، لا العكس، ننسى أننا نؤمن بما نؤمن به لأننا نريد أن نؤمن به، وليس لكونه سدرة منتهى البحث والتفكر.
تكمن المعضلة في عقولنا ذاتها؛ فهي الجرثومة وأساس البلاء، والمشكلة لن تكون جزءًا من الحل، وإذ لا قيمة للعقل إلا في الشك، فالشك أساس كل شيء، حتى الشك في العقل ذاته.
أخطأ ديكارت عندما أقر التفكير كبرهان للوجود، فقال «أنا أفكر إذن أنا موجود.» الأكثر صحة وأشد قربًا للواقع «أنا أشكُّ إذن أنا موجود.» الشك هو القيمة الأكثر أصالة في الوجود العقلي.
من يضمن لك أنك موجود الآن في هذه اللحظة؟!
لا شيء سوى الملاحظة العقلية، لكن، أليس العقل ذاته ناتج عن ملايين العمليات الصدفوية العشوائية منذ بدء الخليقة؟ كيف نتخذه مقياسًا؟ كيف نثق في عقولنا وهي وليدة العشوائية؟!
هذه هي محصلة الأمر، لا توجد ضمانات.
إذا لم تشكَّ في اتزانك العقلي كل حين وآخر فأنت — على الأرجح — لا تُفكِّر.
لا توجد حقيقة مطلقة سوى الموت، التخفُّف من كل هذا العبء ميزة لا ينالها إلا الأذكياء، فما الوجود إلا إدراكنا الذاتي اللحظي بوجودنا، وخلافه تهيؤات وضلالات.
الانتحار هو الحالة الإنسانية الأسمى، التي يصلها الأنقياء حقًّا.
فقط من يسعون له بمحض إرادتهم هربًا من كل هذا الزيف، أن يُسدلوا الستار برغبتهم على مأساتهم الفجة، وفجيعة الميلاد، وعبثية الحياة والوجود، وجود هزلي يصادم باستمرار أمانينا المنتظَرة، وما نأمله في الحياة.
الانتحار هو أعلى قمم التطور الإنساني، وأقصى أمارات الوعي، ونقاء البصيرة.
يهزُّ الطائر رأسه يمينًا ويسارًا.
دو، ري، فا، مي، صول، لا، سي.
دو، ري، فا، مي، صول، لا، سي.
عيناه الصغيرتان السوداوان تنظران لي في إحكام، أرجوك لا تحكم عليَّ يا سيدي الطائر، أنا فقط صادق!
يسألني: «لماذا لم تحبَّها؟»
يا لأسئلتك الحكيمة يا سيدي الطائر، هل أنت نبي؟
لكنَّني، وفي مَحضَر دفاعي عن نفسي، أقول إنها لم تحبَّني كذلك، أعرف أنها وجدت نفسها مجبرة لتُحبَّ مَن حمَلَتْه في بطنها كل تلك الأشهر، مُكرَهة أن تَستكمِل الدور المنوط بها، كما يتوقع المجتمع، وكما تُوسْوِس لها غريزة أمومتها السخيفة، كانت تخدع نفسها وأخادع نفسي.
الحب كذبة، لن أنسى هذا!
لم يحبَّني أحد لا هي ولا حبيبتي!
لم أحب أمي، لم أحبَّ حبيباتي، لا أحب نفسي!
عند ساعات الفجر الأولى، أذكرها، تجلس أمام الكانون، وتنفخ الهواء في الجمر ليشتعل جيدًا، تصنع الشاي المقنَّن وترمي حبيبات الزلابية، أقف جوارها مستمتعًا بدفء لهب الصاج الحديدي المتَّسخ، وألتقط ما يخرج منه من حبات ذهبية تنز بالزيت، تنتهرني أن أذهب وأستحمَّ لألحق بطابور المدرسة حتى لا أقع فريسة الأستاذ محمود اليوم، الأستاذ محمود يمارس هوايته المفضلة بإيقاف كل من يتخلَّف عن اللحاق بطابور الصباح في وقته، يفرزهم في مجموعات، ليستمتع بضربهم لاحقًا على مؤخراتهم بالخرطوم الأسود، لم أكن أعلم وقتها، أن الأستاذ محمود كان يضربنا لينفث سموم غضبه على زوجته صغيرة السن التي تخونُه باستمرار، مع السابلة والدهماء، وهوام الأرض، وعند كل مناسبة.
يعلم هذا جيدًا، وتعلم أنه يعلم، ويعلم أنها تعلم أنه يعلم، مع ذلك، لا يقوى على تطليقها.
هو إذن ضعف الحب مجددًا!
يئنُّ «بكري»، ويُدمدم شيئًا من بين أسنانه لا أتبيَّنه، يقلب الطائر رأسه في سرعة، يقول: «يبدو لي أنها تُحبُّك.»
لا يا سيدي الطائر، هي لم تحبَّني قط، كانت تُجيد التمثيل لا أكثر، تجيد تقمص دورها بدقة، حتى إذا مرَّت السنون نزعت عنها لباسها وتعرت كما ينبغي لها، ظهرت حقيقتها الكريهة.
لا زلت أذكر ضمن ما أذكر، عيناها العجوزتان ترمقانني في بلادة، بنظرة زجاجية فارغة، كأنها لا تعرف من أنا، إذا كانت تحبني فعلًا كيف نسيتني؟
كيف جرؤت؟
كرهتُها، كرهتها جدًّا!
أنا سعيد أنها قد ماتت، آسف لقول هذا لكنها الحقيقة.
صدِّقني، لم أحبَّ أمي قط!
هل انتهت هذه مجدَّدًا؟ لف لنا واحدة أخرى يا صديق.
ينتفض «بكري» في ذعر فجأة، يُغطِّي وجهه بكلتا ذراعَيه ويَصرُخ: «القطر!»
ثمَّ تستكين ملامحه، وتلين، يُخرج ورق البرنسيس ويكرر ما فعله مجددًا، بسرعة وإحكام، يُشعل السيجارة ثم يمدُّها لي في تراخٍ: «البنقو ده نضيف يا مان!»
وتذوب نظراته المسترسله في الحائط المقابل.
يقف الطائر يهز جناحَيه كأنه يوشك على الطيران، ثم يُحجم، يقلب وجهه يمينًا ويسارًا بسرعة، يسألني بلغة الطير: «الاكتئاب إذن؟»
لا أصدق الأطباء يا سيدي الطائر، طبيبي النفسي أحمق، خدعته ليظنَّني مريضًا، أوهمته بالضلالات، يظنُّ نفسه إلهًا يوزع صكوك تقييمه كما يشاء، وينطق الحكمة، الأحمق لا يعرف أنني أتلاعب به كيفما أشاء، لا يعرف أنني أذكى من هذا، أذكى منه!
الأطباء النفسيُّون هم الأشد حقارة وسماجة، والأكثر مقدرةً على بيع الهراء، لهذا لا أؤمن بعلم النفس، هو علم تزويق الكلام، كان الأجدر به أن يكون فرعًا من فروع الفلسفة، أو التسويق، فقط يبدو موظف التسويق متعرقًا متوترًا وهو يحاول إقناعك بشراء ما يعرضه لك، ويبدو الطبيب النفسي واثقًا يمضغ الغليون في تؤدة ويَنظُر لك في سماجة بعينين رخوتين ميتتين، كلاهما يبيعك الهراء!
لست مصابًا بشيء، لم أحبَّ أمي قط، ببساطة، لماذا يجب أن أكون مريضًا لقولي هذه الحقيقة! لماذا يجب أن أتَّفق مع الجميع لأكون طبيعيًّا!
ألم نُوجد مختلفِين في كل شيء؟!
أختلف عنك جنسًا، وشكلًا، ولونًا، وثقافةً، فلماذا يفترض بي أن أطابق أفكارك الخاصة!
ألا يُمكن أن تكون تلك مشاعر طبيعية؟
أن تحب والديك لمجرَّد أنهما جلباك لهذه الدنيا؟! تلك فكرة سخيفة، لا أدري من سنَّ هذه القاعدة، لكنه أحمق، بالتأكيد هو أحمق.
لا يوجد حبٌّ مُطلَق، هو شعور متبادل، رد فعل عاطفي على سلوك معين، الكيمياء مجددًا عندما تعبث بخلايا دماغك، لا بد أن تستحقه حتى تحصل عليه، لا أن يُمنَح اعتباطًا، هذا ليس حبًّا، هو ديكتاتورية وابتزاز، نفاق لا أكثر … ربما لو كانت قد أحبَّتني لأحببتها في المقابل.
لا، لم أحبها قط، هي كذلك لم تحبَّني قط!
لم يأتيا بي لأنهما أراداني لذاتي، لنفسي؛ لأنني أنا بشحمي ولحمي وشكلي وأفكاري وكينونتي الحالية، كانا يُرضيان غريزتهما لا أكثر، غريزتهما الحيوانية.
هو دفع مالًا وأراد أن يحصل على المقابل، وهي وجدت معيلًا جديدًا يخفف عن كاهل أسرتها. اتِّفاق ضمني خبيث أسموه زواجًا، ثم جئت أنا للدنيا صارخًا ومحملًا بكل هذا الإرث الثقيل من مُعتقَدات مجتمعي.
آسفٌ، لقد كفرت بالمجتمع منذ زمن.
يقلب الطائر رأسه مجددًا، يَسألني: «ما بال المجتمع؟»
يا سيدي هذا مجتمع مريض قبيح، مُشوَّه حد الثمالة.
هو عصر تصدير الأنا العليا في صورتها الأكثر تحفظًا وعقلانية، عصر الذكاء الاجتماعي ويوتوبيا الزائفة؛ حيث لا تجد سوى مجتمع الملائكة الفاضل، فإذا اختفت نظرة الرقيب قليلًا!
حسن، أن تعرف من أين يأتي الكاذبون، والمثاليون، ورجال الدين، والرأسماليون، والسايكوباث، والقتلة، وكل إخفاقاتنا الإنسانية.
إنهم نحن!
مجتمع منافق، متناقض، يؤمن بالله ظاهرًا، ويكفر به خلقًا، ويَرتكب باسمه أشنع الفظائع، فيُقتَل الضمير باسم الشرع، وتُنتَهك الأخلاق باسم الله، تُنتزَع الحريات ويُكبَّل الإنسان باسم التقاليد، نُكذِّب، ونقتل، ونزني، ونسرق، ونؤذي، ونغتاب، ثم نحرص على صلاة العشاء جماعة في المسجد؛ فاسم الله مُخدِّر جيد لوخزات الضمير.
نبحث عن الله في سُوح المساجد والصلوات وقد فقدناه في قلوبنا، وتنكَّرنا له في أعماقنا، فنبالغ في طقوسيتنا وإبراز مظاهر تديننا، كسلوك تعويضي قهري لفقدان الإيمان، كما يبالغ الكاذب في الحديث عن صدقِه، وتبالغ العاهرة في إبداء مظاهر عفتها.
كل هذه الفضيلة المدَّعاة، والتعصُّب الديني، ورقة توت واهية، تستر ضعف يقينهم، وفساد إيمانهم، قناع هش يتحطم عند أول اختبار حقيقي مع النفس، عندها تتلاشى الأنا العليا المزيفة وتعود طبقة العقل الدنيا للواجهة؛ حيث المجد للشيطان بلا منازع!
صدقني، كفرتُ بهذا المجتمع منذ زمن!
يتقافز الطائر على الحائط، يفرد جناحيه ويهزهما بخفة ويقلب رأسه بسرعة، يهمس لي: «ماذا عن الأفكار المتطرفة؟! الأرق؟! الصداع الدائم؟! المخدرات! كل هذا الشيء من بعد موتها من قبيل الصدفة؟ … تظن؟!»
نعم هي الصدفة يا سيدي الطائر، كصدفة الوجود والخلق.
لا أؤمن بالحب، كما لا أؤمن بالله أو الخير أو الكارما، ببساطة!
حركة رأسه أصبحت سريعة جدًّا الآن، يقلب رأسه يمينًا ويسارًا بسرعة جهنمية حتى بدا الشرر يتطاير من جانبَيه، رأسه يتضخم مع جسده كبالون ينفخه طفل عابث، منقاره يبدو ملوثًا بالدم، قال بصوت كريه: «الزهايمر … غولك ومأساتك!»
رأسه يتضخم ويملأ الغرفة، أصرخ: «اخرس!»
ينظر لي في شراسة، عيناه جهنميتان تشتعلان بالنيران، يضحك بصوت كفحيح الثعابين، ويخرج لسانه المشقوق طوليًّا يتلمَّس خارج منقاره، صدى ضحكته يتردد في الأرجاء، ويخترق صوته خلايا جمجمتي ويتردَّد في دهاليزها!
– «أعرف حقيقتَك، أعرف كل شيء، أنا الحقيقة المطلقة التي تكفر بها، أنا الحب الذي تنكره من بعدها، أنا ربك الذي تُحاول أن تعاقبه بإنكاره، أنا الاكتئاب وأنت ملكي!»
يضحك ضحكة من أعماق الجحيم، يتردَّد صدى ضحكاته في كل مكان.
– «أنا الزهايمر، غولك الذي ترهب، مبعوث الموت كما أخذتُها، سآخذك.»
يقلب وجهه في سرعة والشرر يتطاير من عينيه.
لسانه المشقوق يقترب مني ليظفر بي وهو يرتجف في جشع، على سطحه حراشف حادة.
دو، ري، فا، مي، صول، لا، سي.
دو، ري، فا، مي، صول، لا، سي.
أصرخ: «اخرس … اخرس!»
لا يصمت، يصرُّ على تعذيبي، يُوسوِسُ في أذني بأصوات كثيرة.
أنا الزهايمر قد قتلتُ أمك!
أنا الزهايمر قد قتلتُ أمك!
أنا الزهايمر قد قتلتُ أمك!
ينظر لي بعينين مشتعلتين بنار جهنم، يتحوَّل وجهه ويتبدَّل بسرعة.
لستَ نبيًّا يا سيدي الطائر، أنت الشيطان نفسه!
رأسه أصبح بحجم الغرفة الآن، أدار وجهه لينظر لي عن قرب بعينيه الضخمتين.
في انعكاس عينه السوداء رأيتها، بين الحطام، ووسط آلاف الأجساد المشتعلة.
تتلوَّى والنيران تشتعل فيها، تصرخ، يذوبُ جِلدُها ويَنصهِر في بطء محطِّم للأعصاب، تبدو من تحته عظامها العجوز … تعوي بصوت مؤلم … ويضحك الملائكة شامتِين.
أيادٍ ترتفع من تحت الحمم النارية لقاع جهنم، ترتجف للحظات … ثم تغوص تحت السطح اللاهب.
رائحة الشواء، يا إلهي، أشمها بوضوح!
الصراخ، الصراخ.
اصمُتوا عليكم اللعنة!
اصمتوا!
اصمتوا …
اصمتوااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا …
صوت فحيح الثعابين يتعالى، يُوسوسُ في أذني!
«أنا الزهايمر قد قتلت أمك!»
«اخرس اخرس!»
«أمي لم تكن تُصلي هل ستدخل النار؟» ويهزُّ الشيخ رأسه في صمت أن نعم!
«العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد كفر، أمك ماتت كافرة يا بُني!»
«اخرس اخرس!»
«لكنها كانت مريضة! كانت تُحبني! ألن يشفع لها هذا؟» يهزُّ الشيخ رأسه في صمت أن لا.
«لا يسعنا في هذه المرحلة إلا أن نرجو رحمة الله.»
لا أريد رحمته، لن أتوسَّل إليه، لئن قتَلني بأخذها مني، فسأقتله في داخلي.
فلتَبحث عن غيري ليؤمن بك، انتهى عهد عبوديتي!
لكنه لا يصمت، لا يزال يوسوس في أذني بأصوات مُتداخِلة، وصراخ أمي، وصوت آلاف الأرواح المعذبة من عمق الجحيم.
«أنا الزهايمر قد قتلتُ أمك!»
«أنا الزهايمر قد …»
صمتت الأصوات كلها دفعة واحدة.
صمت كل شيء.
اهتزت الموجودات.
الغرفة … بكري … الحائط … الطائر!
تبخروا من حولي ببطء كالدخان.
نظرت مشدوهًا، هذا المكان!
أعرف هذا المكان.
كانت جالسة هناك، على عنقريبها الخشبي المفضل، ترنو للسماء بنظرات شاردة هائمة، أنظر لقدمي بينما أمشي ببطء، تغوصان في الرمل البارد في الحوش الترابي، الذي شهد كل طفولتي، وبعض شبابي.
حط طائر جميل على أسلاك أعمدة الكهرباء في الخارج، راح يُزقزق بصوته الجميل، في صوته لحن موسيقي آسِر!
دو، ري، فا، مي، صول، لا، سي.
دو، ري، فا، مي، صول، لا، سي.
قبلتُ رأسها الأشيب، ومسكتُ يدَيها النحيلتَين المعروقتَين، هاتان يَدان كانتا رقيقتَين تضجان بالأنوثة في وقتٍ ما، قبل أن يُنهكهما صنع الكسرة والزلابية.
اعتنت بي طوال عمري، منذ وفاة والدي وأنا بعدُ طفلٌ ألهو، باعت الشاي والقهوة في الطرقات، عملتْ في المنازل طبخًا ومسحًا وغسلًا لأصحاب الشأن لتؤمن لي إكمال دراستي.
هجرت شبابها وكرست كل نفسها من أجلي.
الآن، لم يَعُد من أحد غيري ليعتني بها.
ركعت قبالتها، تأمَّلت تجاعيد جهها المتغضِّن، كل تجعيدة تحكي قصة شقائها ومعاناتها في تربيتي عبر السنين.
لم تنظر لي، لا تزال تحملق في السماء بنظرات ذاهلة.
«أنا ولدك يما!»
تحوَّل وجهها ناحيتي ببطء، تنظر لي بعينين زجاجيتين، لا تعرفني!
ثم تتحول النظرة الزجاجية الفارغة إلى نظرة رعب، صرخت، ظنَّتني لصًّا.
بكيت يومها في حرقة، وعلى قبرها وضعت قطعة من الزلابية، قطعة مستديرة ذهبية اللون تنز بالزيت.
كرهتهم جميعًا؛ الناس، المرض، أقدار الله!
كلُّهم تكاتفوا ليجعولكِ تُعاني، تآمروا ليضعوكِ تحت التراب!
من بقيَ لي؟
بكيت عند قبرك يومها، هل شعرتِ بي؟
قلت لكِ: اشتقكِ، أمسى البيت فارغًا من دونك.
هل سمعتِني؟
أظلمتِ الدنيا، فرغ البيت، صمَتَ الطائر!
عند قبركِ بكيت وبكيت، ثم مضيتُ خلقًا آخر!
…
خلقًا جديدًا.
«… قتلتُ أمك!»
«أنا الزهايمر قد قتلتُ أمك!»
عادت الموجودات حولي للتكاثُف مجددًا، عادت الأصوات تصرخ في أذني بلا رحمة.
أخرجت السكين من جيبي صارخًا، دفنتها في عينه مباشرة.
– «اخرس اخرس.»
أطلق أنينًا مكتومًا، رأسُه يَتقلَّب ويتحوَّل بتأثيرٍ شيطاني.
أطعنه مجددًا، مجددًا، مجددًا، مجددًا.
دماؤُه تتفجَّر على يدي ووجهي، لا أكفُّ عن تسديد الطعنات.
أبكي وأصرُخ وأُسدِّد الطعنات.
أُسدِّد الطعنات وأصرخ وأبكي.
صمت فجأة.
ثم راح جسده يصغر ويصغر أمام عيني، حتى استقر على الحائط، وعاد طائرًا يتظاهر بالبراءة، قلب وجهه يمينًا ويسارًا بسرعة، ثم نفش ريشه وطار.
نظرت جواري وأنا ألهث.
كان «بكري» مُستلقيًا على الأرض متخضبًا في دمه، وعيناه المحتقنتان شاخصتان للسماء!
دو، ري، فا، مي، صول، لا، سي.