القصة المملة الحادية عشرة: ديجا فو
يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ.
فصل «١»
أكثر ما يميز «عثمان» أن لا شيء يُميزه.
هو شابٌّ عادي إلى حدٍّ كبير، إلى حدٍّ متفرد.
إلى الحد الذي يجعله خفيًّا عن الأعين.
له وجهٌ مُحايد، يسهل أن ينزلق عن ذاكرة وعيك، لا تفاصيلَ مُميزة، ولا ملامح من أيِّ نوع. مجرَّد جلد يستر الجمجمة لا أكثر.
يقولون أنَّ الكاميرا لا تَلتقِط صورته ولا يَنعكِس له أي ظل؛ لأنَّ الضوء يتجاهَل وجوده كذلك، لستُ متحمِّسًا لهذا الرأي إلى هذا الحد، هو ليس الكونت «دراكيولا» بعد كل شيء.
متى قابلته أول مرة؟
في كافتريا الجامعة بالطبع، أنت تسأل أسئلة غريبة!
قلت لك أنه زميلي في الكلية وندرُس ذات التخصُّص، لم أقُل؟
اعذرني إذن، إنَّ قوة الذاكرة ليسَت من أفضل صفاتي.
كنت مُتهرِّبًا من المحاضَرة كعادتي، وبينما راحت جحافل الطلاب تدلف للقاعة، انسللتُ أنا خارجًا في موسم هجرة عكسية، جلستُ جوار «أم محمد» ست الشاي أشرب القهوة وأتسلَّى بالنظر إلى مفاتن الطالبات العابرات، التي تتضخَّم على نحوٍ سحري عامًا بعد عام، وهي عادةٌ ظللتُ أحافظ عليها طوال السنتَين الأخيرتَين بانتظام وتصميم يثيران الحسد.
سمعت صوت نحنحة جواري فالتفتُّ، لم يكن هناك أحد، رأيت فتاة جميلة تعبر أمامي، ابتسمت لها على سبيل التزلُّف وجس النبض، فحدجتني بنظرة كارهة من طراز: لا تُحاوِل!
هكذا رحت أتظاهر بالانهماك في استخراج شيء ما سقط في كوب الشاي، هربًا من نظرات «أم محمد» الساخرة.
– «مهند!»
هتف الصوت بجواري مجدَّدًا فأجفلت، كان «عثمان» جالسًا إلى جانبي بشكل لصيق حتى كاد يسقط في حجري.
– «مَن، من أنت؟»
– «عثمان.»
– «عثمان مَن؟»
– «زميلك في الكلية، إنَّنا ندرس ذات التخصُّص، لقد كنتُ أجلس بجوارك طيلة السنوات الثلاث الماضية.»
– «ومنذ متى تجلسُ هنا.»
– «ساعة تقريبًا، لقد جئنا معًا، لقد جلبتُ لكَ الشاي بنفسي!»
كانت المرة الأولى التي أراه فيها، وقد شعرت بالحرج من عدم مَعرفتي له، فتحجَّجتُ بشيء ما عن المشاغل وانشغال البال، وأشياء من هذا القبيل، نظر لي في خطورة وهو يَميل ناحيتي حتى شعرت بلفحِ أنفاسِه على وجهي، وهمس في أذني: «هل يُمكنني أن ائتمنَكَ على سرٍّ؟»
شعرت بالضيق من تبسُّطه الشديد واقتحامه مساحتي الآمِنة، قلتُ وأنا أبعد وجهي عنه قليلًا: «تفضَّل.»
– «ليس هنا، المكان ليس آمن بما يكفي، قابلني عند قاعات قسم الهندسة بعد ربع ساعة.»
قالَها وهو يَتلفَّتُ حوله في حذر، ثم انصرف.
جلستُ أشرب الشاي وأفكر في هذا الشخص الغريب الذي لم أَعرِفه إلا قبل خمس دقائق، ثم قرَّر أن يَنفتِح لي فجأة، ظللتُ أُفكِّر مُتردِّدًا بين الذهاب أو نسيان كل شيء عنه.
ما رأيكَ أنت؟
أنسى كل شيء عنه؟ اذهب للفصل رقم «٤».
هل قررتُ أن تذهب معي؟ اذهب للفصل رقم «٢».
فصل «٢»
هكذا قررتُ أن أذهب، لا شيء لديَّ لأفعله على أيَّة حال، لن تَنتهيَ المُحاضَرة قبل ساعة على الأقل، دعْك من أن الشاب الغريب — نسيتُ اسمه — قد أثار فضولي لأقصى حد.
بعد نصفِ ساعة كنتُ أقف في المكان المنشود، بدا لي خاليًا على نحوٍ مُريب، قررت أن أنتظر لخمس دقائق أخرى ثم أقفل عائدًا إذا لم يظهر.
هنا خطر لي خاطر مُفزِع، ماذا لو كان فخًّا لاستدراجي إلى هنا؟!
إذن فقد سقطَت فيه بكل سذاجة!
من هو عثمان؟ ولماذا اليوم بالتحديد؟ من له مصلحة في استدراجي إلى هنا؟
لستُ زعيم عصابة، ولم أخدع إحداهن منذ زمن بعيد لتَنتقم منِّي، على ما أذكر.
إذن هي «سماح»!
لا بدَّ أنها «سماح»، لم تُعجبني نظراتها عندما قبضت عليَّ مُتلبِّسًا بالجرم المشهود مع صديقتها المقربة في كافتيريا الكلية، كانت نظراتها مجنونة ومعبرة، وكان وجهانا يَضجَّان بالخطيئة.
يا لي من أحمق فاشل لا يُجيدُ التمثيل.
إن النساء مجانين، تلك حقيقة لا تَتناطح فيها عنزتان، نعم.
بالتأكيد هي «سماح».
لا بدَّ أنها هي من نصبَت لي الفخ، وفي أيِّ لحظة سيَنغرس نصل السكين البارد فيَّ.
– «مهند!»
سمعتُ الصوت بجواري فشهقتُ في رعبٍ والتفتُّ مذعورًا، كان يقف أمامي.
قلت في غيظ وقد بدأت أشعرُ بأنَّ قلبي يَخفق بانفلاتٍ تام، إثر حشدِ الأدرينالين الذي يتدفَّق في دمي: «إذا كانت فكرتك عن المرح أن تظهر من العدم كالأشباح لتُصيبَني بسكتة قلبية وأموت، فاعذرني إذا لم أشاركك الشغف، أرجو أن تتوقَّف عن تلك العادة السخيفة.»
– «أي عدم؟ كنتُ أقف أمامك ربع ساعة كاملة، لقد كنتَ تنظر لي مباشرة! ألم ترني؟»
أصبح هذا مُملًّا.
تحججت بشيء ما عن ضعف النظر، وحوجتي لنظارة جديدة لكي.
ثم تذكَّرت شيئًا مهمًّا، أنا لستُ مطالبًا بتبرير نفسي لشخصٍ قابلتُه منذ نصف ساعة!
سألته في نفادِ صبر: «حسن هات ما عندك، أنا هنا الآن.»
أشار إلى مقعد إسمنتي مُجاوِر، فجلسنا، سألني بفضول وهو يمدُّ لي علبة من العصير: «هل تؤمن بالقدر؟»
– «ماذا تعني؟»
– «أقصد الحتمية القدرية، مفهوم التسيير وأن لا حيلة لنا في أقدارنا، فكل شيء مكتوب ومسطر مُسبقًا في لوح محفوظ.»
قلت في مللٍ وأنا أرشُف العصير: «بالتأكيد أؤمن به هذا قرآن، هل أنت مُلحِد لا سمح الله!»
قال ضاحكًا: «معاذَ الله، ليس الأمر كما تظن.»
وصمت للحظة، ثم أضاف مُتفكِّرًا: «ماذا تعرف عن نظرية الفوضى؟»
– «أعرف أنها نظرية حديثةٍ في طباعة المال، والقضاء على التضخُّم بالمزيد من التضخُّم.»
– «تقصد بروتوكول طباعة العملة بنظام «رب رب رب»؟»
– «أليست هي؟»
– «لا، تلك نظرية اقتصادية عبقرية أخرى، ليس هذا مجال ذكرها.»
قلت له في سأم وأنا أُهشِّم علبة العصير في يدي وأتأهَّب لرميها في حاوية القمامة البعيدة على طريقة لاعبو كرة السلة الأمريكان: «حسن، إن لم تكن هي نظرية المانجو كعلاج للفيروسات التاجية، فأنا لا أعرف عنها شيئًا، لكن ما أعرفه أنني لم آتِ إلى هنا لأستمتع بهذا النقاش العميق مع شخص يحب استعراض عضلات ثقافته، ما الذي تُحاوِل قوله؟»
نظر لي في هدوء: «أرجوك لا ترمها.»
– «لم أفهم!»
– «علبة العصير في يدك، أرجوك لا تَرمِها.»
نظرت له في غيظ.
هذا الأخ غريب الأطوار، ولديه مشكلة حقيقية في التعامل مع البشر، هل يختبر سعة صدري وطول بالي، أم هو مجرَّد أحمق آخر؟
ما رأيك أنت؟
ارمِ علبة العصير: اذهَب للفصل «٣».
لا تَرمِ علبة العصير: اذهب للفصل «٥».
فصل «٣»
– «هل تعمل مع البلدية؟»
قلتها له في استخفاف، ثم رميت العلبة في اتجاه السلة.
سقطت خارجًا للأسف.
استطرد «عثمان» في هدوءٍ وكأن شيئًا لم يحدث: «هي نظرية آسرة إلى حد مُدهِش، حينما تختلط الفلسفة بالطبيعة بالخيال، يُمكنها تفسير كل شيء في الكون فعلًا، بدءًا من جدلية التسيير والتخيير، وغائية وجود الإنسان، حتى برهان الشر ونظرية الإله القاسي، من المذهل أن تَعرف أن بعض التحوير على المعطيات الأولية يُمكنه أن يُغير النهايات بطريقة مرعبة، كالفراشة التي تُرفرف بجناحها في طوكيو فتُثير إعصارًا في الجزء الآخر من العالم. من الوهلة الاولى سيبدو هذا المفهوم متعارضًا مع مفهوم القدرية والحتمية القدرية في الفلسفات الدينية عمومًا، والفقه الإسلامي خاصة، ومفهوم اللوح المحفوظ. حسن، ليس الأمر بهذا الوضوح.»
كنت أنظر للعلبة المُهشَّمة التي سقطت بجوار السلة في توتُّر، وأفكر شارد الذهن.
استطرد «عثمان»: «تصرف بسيط الآن مثل رميك لعلبة العصير على الأرض سيغير مستقبلك بالكلية، هذا التصرف، أضف إليه مئات التفاصيل الصغيرة في حياتك، خلفيتك المعرفية، والبيئية، والوراثية، زواج والدك من والدتك تحديدًا كان صدفة بعد أن التقاها في حفل، كان يُمكن ألا يحدث لو لم يجد والدك الحذاء تحت السرير في الوقت المناسِب، ولم يكن ليجدَ الحذاء ما لم يتعثَّر بَثنايا السجاد ويسقط، ولم يكن ليسقط ما لم تنسَ عاملة التنظيف فرد السجادة بعد تنظيفها، وقد نسيتها هذا اليوم تحديدًا بسبب مرض ابنها وانشغال ذهنها لأنه ظل يلعب طيلة اليوم السابق تحت المطر، هكذا بدا الأمر، لهوُ طفلٍ تحت المطر أدى لوجودك أنت، الكثير من المصادفات الصغيرة قادت إلى لقاء والديك وزواجهما، ثم ولدت أنت بما ورثته من والدتك تحديدًا، الاستعداد الجيني لإصابتك بمرض الوسواس القهري.
ثم جاءت ضغوط حياتك، مُتغيرات بيئتك، عقدك النفسية، هزائمُك، فشلُكَ المُتكرِّر في الحب، كل هذه العوامل تضافرت لتخلق المرض لاحقًا وتجعلك أسيرًا له، ومع مرض كهذا لن تستطيع تحمل رؤية منظر بسيط، سيَتجاهلُه أيُّ شخصٍ غيرك، كعلبة عصير ملقاة خارج سلة القمامة، لن تستطيع تحمل رؤية هذا الشذوذ في التناسُق والترتيب، كما يُصوِّره لك مرضك، دون أن تتدخل.»
كنتُ قد نهضت من مكاني أثناء حديثه والتقطت العلبة الفارغة مع جملتِه الأخيرة التفتُّ له في دهشة.
كيف بحق اﻟ؟
أكمل هذيانه دون أن يُعيرني انتباهًا: «المستقبل يتغيَّر في كل ثانية، بناءً على القرارات التي نتخذها في كل لحظة، مهما كانت ضئيلة وتافهة، لوحك المحفوظ يتغير ويتشعب باستمرار بناء على تصرُّفاتك، يُشبه الأمر تكنولوجيا الردود التفاعُلية كما نعرفها اليوم، ومع خلفيتك هذه يغدو أي تصرُّف بسيط، كرمي علبة عصير؛ مهمًّا لتغيير مستقبلك، هذا التصرف البسيط منك الآن أغلق في وجهك آلاف الأبواب، وفتح بابًا جديدًا يقود لخيارك الأخير.»
دومًا ما كان يُراوِدني ذلك الشعور الغريب بأنَّني قد عشت هذه اللحظة من قبل، يطلقون عليها مصطلحًا فرنسيًّا مُتحذلِقًا، ديجا فو! نعم هذا هو، يقولون إنها بسبب خلل في النواقل العصبية في الدماغ أو سريان الدم، لا أذكر بالتحديد، لكنني شعرت بأنني قد عشت هذه اللحظة مسبقًا، سمعت هذا الحديث من قبل في هذا المكان بالتحديد!
أخذ «عثمان» شهيقًا عميقًا، ونظر لي بتركيز وأنا أقف قبالته مصعوقًا.
أضاف بهدوء: «بسبب مسمار سقطت المملكة، يَمحُو الله ما يشاء ويُثبِت.»
في اللحظة التالية خرَقَ مَسمعي صوت الارتطام العالي.
التفتُّ مذعورًا لأرى الهول ذاته يتحقَّق.
في لحظة تجمد فيها الزمن، وشُلَّ فيها عقلي، رأيت الشاحنة البيضاء المنفلتة تهشم سور الجامعة الحديدى وتندفع نحوي بسرعة جنونية، كان السائق النحيل يتقافَز في مكانه مغشيًا عليه … وجمع غفير من الناس عبر السور المتداعي يُلوِّحُون لي بأيديهم وهم يصرخون محذِّرين.
ورأيتُ «عثمان» جالسًا ينظر لي في ثبات.
رأيت كل هذا في لحظة.
في اللحظة التالية أظلم كل شيء.
فصل «٤»
قررت أن أنسى كل شيء عنه.
جلست أرشف الشاي في هدوء، نظرت لساعتي، مرت ربع الساعة، توقعت أن يظهر لي «عثمان» مجدَّدًا ليستفسر عن عدم حضوري، سأكون أكثر غِلظةً في هذه المرة.
هنا رأيتها تمشي على الجانب الآخر من الطريق.
من هي؟
هي التي تَمشي فتشمُّ عبير الورود، هي التي تتحدَّث فتسمع ألحان المزامير ومقطوعات «ياني» وبتهوفن وأشعار قيس، هي التي تضحك فتُضيء المكان وتنسى كل شيء في حضرة ابتسامتها.
«سماح» طبعًا، مَن غيرُها يُمكنه أن يثير تلك القشعريرة الباردة التي غشيتني في لحظتها؟
كفَّ عن الأسئلة الساذجة أرجوك.
منذ ذلك اليوم الذي رأتْني فيه مع صديقتِها في كافتيريا الكلية، لم تعد كما هي، تغيَّرت كثيرًا.
قفزتُ من مكاني بسرعة لأعبر الطريق، فجأة سمعت صوت البوق العالي يَخترقني، وصوت الصرير المزعج للإطارات؛ إذ يحتكُّ بالأسفلت في قوة، وتصاعدت بعض الشهقات وأصوات صرخات محذِّرة.
التفتُّ مبهورًا لأرى شاحنة بيضاء تتوقف على بعد سنتميترات قليلة من وجهي، وغمرتني الرائحة المزعجة للمطاط المحروق.
تجمَّدت في مكاني رعبًا.
– «يابن اﻟﺷ…»
قفز السائق النحيل وهو يشتطُّ غضبًا، أمسَكَ ياقتي قميصي وراح يهزُّني وهو يصرخ ويشتمني بلا انقطاع.
لم أكن أسمع شيئًا، كان وقع الصدمة قويًّا، تثلَّجت أطرافي، وغشيتْني الأصوات كهمهمات مُبهَمة من وادٍ بعيد، عندما استعدتُ رُوعي كان المكان يعجُّ بالطلاب والعابرين الذين توقَّفُوا يَرمقُون المشهد في استمتاع، وقد بدَت الحسرة على وجوه البعض بعد أن كانُوا يمنُّون أنفسهم برؤية بعض اللكمات والدماء.
تدخَّل بعض فاعلي الخير، بعد أن شُلَّت الحركة في الطريق، وراح بعض سائقي السيارات يطلقون البوق في إلحاح، وراحوا يُهدِّئون من رَوع السائق الغاضب، ويُخلصونني من بين مخالبِه، مع الكثير من «قدرٍ ولُطفٍ» و«لا إله إلا الله» لفضِّ الحفل.
هنا رأيت السائق يتصلَّب فجأة، ثم بدا يتصبَّب عرقًا، نظر لي بعينَين زائغتَين وارتجفَت أصابعه وهو يُشير ناحية شاحنتِه ويُحاول قول شيء ما، ثم سقط مغشيًّا عليه أمامي.
من الوهلة الأولى فهمت كل شيء، قفَزَت ناحية الشاحنة بسرعة ورحت أجول بعيني فيها، فتحت خزنة القفازات، كما توقَّعت بالضبط، كانت حقنة الأنسولين هناك، مُلتفَّة بإحكام بكيس بلاستيكي شفَّاف، التقطتها بسرعة، وعدتُ أدراجي، عريت ذراعه وحقنتَه بها.
مرَّت دقائق ثمَّ فتح عينَيه متسائلًا عما هنالك، ودقائق أخرى حتى نهض إلى شاحنته بقدمين كالعجين وهو يدعُو لي ويشكرني، ودهور حتى انفضَّ الحفل.
تنفَّست الصعداء والتفتُّ فرأيتها تقف هناك، ترمقني بعينين دامعتين لامعتين، لم تَجرُؤ على الاقتراب ولم تَستطِع الذهاب.
اقتربت منها فتهانفت وألقَت نفسَها بين ذراعَيَّ باكية.
كان هناك الكثير من الدموع، الكثير من المخاط، الكثير من الشهيق.
– «أنت، أنت بخير؟»
قلتُ لها أنني بخير وأنني آسف، وأنَّني أغبى شيء في الوجود، وأنَّني أحبُّها كثيرًا.
لم أخنْكِ مع صديقتك يا حمقاء، لم يحدث شيء.
هذه المرة كانت على استعدادٍ للاستماع إليَّ.
والآن، عندما أنظر للوراء وأتذكر، أعرفُ أنني قد اتخذتُ الخيار الصحيح.
لا زلتُ أتأملها كل يوم وهي تنام بجانبي وتحتضن طفلتنا، يغمرني دومًا ذلك الشعور المُطمئن بأنَّني في مكاني الصحيح.
لقد غيَّرتني تلك الحادثة حقًّا، عندما كدتُ أن أموت في ذلك اليوم، أعدتُ ترتيب أولوياتي من جديد، أنا أحبُّها جدًّا، فعلام التردُّد والتسويف؟
لا أحد يَضمن عمره، قد نمُوتُ في أيِّ لحظة، فلنَعِش ما نَملك من أيامنا مع من نحب، لا يُوجَد الكثير من الوقت لنُنفقَه في صغائر الأمور.
ألا ترى هذا معي؟!
فصل «٥»
وضعت العلبة جانبًا في هدوء، عقدتُ يديَّ أمام صدري ونظرت له في صمت، نظرة من طراز «حسن والآن هات ما عندك».
قال: «المُستقبَل يتغيَّر في كلِّ ثانية، بناءً على القرارات التي نتَّخذها في كل لحظة من لحظات حياتنا، مهما كانت ضئيلة وتافِهة، لوحُك المحفوظ يتغيَّر ويتشعَّب باستمرار بناءً على تصرُّفاتك، يُشبه الأمر تكنولوجيا الردود التفاعُلية كما نعرفها اليوم، ومع خلفيتِك هذه يغدو أي تصرُّف بسيط، كرمْي علبة عصير؛ مهمًّا لتغيير مُستقبلك، هذا التصرُّف البسيط كان سيغلق في وجهك آلاف الأبواب من الخيارات، ويَفتح بابًا جديدًا يقود لخيارات أخرى.»
دومًا ما كان يُراودني ذلك الشعور الغريب بأنني قد عشتُ هذه اللحظة من قبل، يُطلقُون عليها مُصطلحًا فرنسيًّا متحذلقًا، ديجا فو! نعم هذا هو، يقولُون إنها بسبب خلل في النواقل العصبية في الدماغ أو سريان الدم، لا أذكر بالتحديد، لكنَّني شعرت بأنني قد عشتُ هذه اللحظة مسبقًا، سمعتُ هذا الحديث من قبل في هذا المكان بالتحديد!
أخذ «عثمان» شهيقًا عميقًا، ونظر تجاه سور الجامِعة الحديدي، غمغم: «بسبب مسمار سقطت المملكة، يَمحُو الله ما يشاء ويُثبت.»
نظرتُ له في بلاهة.
– «لا أفهم ماﻟ…»
قاطع حديثي صوت الدوي العالي، التفتُّ مذعورًا لأرى الرعب ذاته يتحقق.
اندفعت الشاحنة البيضاء المُنفلِتة عبر سور الجامعة الحديدى بجنون، كان السائق في مكانه مغشيًّا عليه، ويتقافَز في مقعده مع تقافز الشاحنة في الطريق غير الممهد، ومن خلفِه مجموعة من الناس عبر السور المُتداعي يُلوِّحُون لنا بأيديهم وهم يصرخون مُحذِّرين.
مرت الشاحنة أمامنا كالكابوس، اكتسحت سلَّة المُهمِلات، وارتطمت بالشجرة الضخمة العتيقة على مَقربة منا، وتوقفتُ مع صوت تحطُّم عالٍ، وتناثَرَت الشَّظايا في كل مكانٍ حولنا، وانطلق البوق يعوي في إصرار، بينما بدا الدخان يتصاعد من المقدمة.
تجمَّدت في مكاني وأنا أُحدِّق في كومة الحديد.
كان كل هذا الرعب على بُعدِ مترَين فقط منَّا، ولولا لطفُ اللهِ لكُنَّا تحت إطارات الشاحنة في هذه اللحظة.
كان «عثمان» ينظر للحادثة ببرُود، قال في هدوء: «هل عرفت لماذا طلبتُ منك أن لا ترمي العلبة؟!»
رحتُ أُقلِّب بصري مشدوهًا بينه وبين الشاحنة، بينما بدأتْ تَتعالى أصوات الطلاب والمارة وهم يُهرَعون لمكان الحادث، سألته مذعورًا: «هل؟!»
هز رأسه أن نعم.
– «تقصد أنك!»
هزَّ رأسه أن نعم.
«لا تقل لي إنك!»
هز رأسه أن لا.
– «لستُ شيطانًا، إن كان هذا ما تعنيه.
في الواقع أنت تَعرفني، قرأت عني من قبل، لقد جئت مرسلًا لك أنت بالذات، كان من المفترض أن تموت اليوم في خط زمني آخر في هذا الواقع، أو تَتزوَّج من حبيبتِك، ثم تَنفصِل عنها لاحقًا وتُصبِح سكِّيرًا، ويَجدونك في مساءً ميتًا على قارعة طريق، لكنه قرَّر أن يَمنحك فرصة أخرى، قرَّر أن يَمنحك الخيار لتُصحِّح مسارك، وقد نجَحت فيما فشَل فيه سلفُك، كان نبيًّا بالمناسبة، من نفس بلدك، اسمه موسى.»
كان صوت البوق الشاحِنة يصمُّ الآذان، وقد بدا الدخان يُصبح أكثر تكاثُفًا حتى كاد يحجب الرؤية، همست بصوت مُختنق: «أنت؟»
– «نعم، مبعوث الله الخضر.»
ثم اختفى كأن لم يكن!