القصة المملة الثانية: شيء من الطفولة
يَعبُرونه صامتين، ضاحكين، غاضِبين، هادئين، لكنَّهم يَعبُرونه دون أن يُعيرُوه أدنى انتباه!
١
«ورنش … ورنش.»
الشمس تتوسَّط كبد السماء، تُرسِل لهيبها بلا رحمة على الجميع، تُتابعه في إصرار وهو يشقُّ طريقَه في زحام السوق بين أمواج البشر بجسده الضئيل، يتوقَّف لهيبها على سطح جلدِه الأسود اللامع، ويُلقي خلفَه ظلًّا نحيلًا ليدِه اليُمنى تقبض على حقيبةٍ قُماشية مُهترئة، كانت بيضاء في وقتٍ ما، قبل أن تُحوِّلها خرائط تشرب الماء، والأوساخ، إلى قطعة رمادية أقرب للسواد، تحوي بضاعتُه الزهيدة من معجونِ تلميع الأحذية، وفرشاة تلميع، وقطعة قماش متَّسخة، وصورة فوتوغرافية ملوَّنة لبلدة من الريف الأوربي.
يدُه اليُسرى تُمسكُ صفيحًا معدنيًّا صغيرًا، دائريَّ الشكل، يهزُّه بلا كلل ليُصدر أصواتًا قصيرة تُعلن للناس المتدافعين حوله، عن بضاعته.
«ورنش … ورنش.»
داهمتْه رائحة الشواء، تَنبعِث بجوار موقف المُواصَلات العامَّة إذ تكدس الناس بالعشرات في انتظار وسيلة نَقلِهم التالية، رائحة دخان الشواء لذيذة، تُعلن عن بضاعة صاحبها بقوة، وحوله يتحلَّق بضعة أشخاص يلتهمون الشطائر على عجل.
تتقلَّص بطنُه وتعتصره في ألم، تصدر أصواتًا محتجَّة، تُذكره أنه لم يَضَع فيها شيئًا منذ الأمس، يقف مشدوهًا للحظات يَرمق رجل الشواء يتحرَّك بسرعة وآلية مَن اعتاد فعل الشيء، يخرج اللحم المترادف من على السيخ المحمي، يشق الخبز بسرعة ومهارة، يصنع عدة شطائر، يُضيف إليها بعض الطماطم والملح والليمون، ثم تتخطَّفها من بين يديه جحافل المُتحلِّقين حوله في لهفة.
ينساب العرق المالح على عينيه المحملقتَين، يَرمش بسرعة ويمسحه بكمِّ قميصه، ثم يُواصلُ طريقه، تُطارده رائحة الشواء في إصرار كأنها تَسخر منه، يَضع إصبعَه على أنفه ليمنع ضجيج بطنه.
«ورنش … ورنش!»
يشق المزيد من الزحام، ليَبتعدَ عن الرائحة ما تيسَّرَ له، يتسوَّل الناس بعينيه ليَطلُبوا تلميع أحذيتهم، كشكٌ صغير ينبعث من صوتٍ هادِر يُكرِّر بإصرار وبلا نية في التوقف: «يلا يالماشي تعالَ غاشي، يالبعيد تعال قريب، قرب قريب شغل عجيب، عصير مركز واحد جنيه.»
يجلس تحت ظل شجرة ضخمة بجوار الكشك، يُسند ظهره للحائط المتهدم القريب، يقرأ بصعوبة عبارات قرأها مرارًا، كتبها أحدهم بخط رديء على عجالة بالفحم والطباشور.
«التبول ممنوع بأمر الشرطة.»
«ممنوع البول يا حمار.»
شكلُ الخرائط على الأرض، ورائحة الأمونيا الخانقة التي تفوح من الحائط حيث جلس، أخبرته أن الناس لم يَلتزمُوا بالتحذير كثيرًا!
يَرمق المارة بعينين زجاجيتين، في المطعم المقابل للشارع تجلس امرأة يافعة مع زوجها وطفل صغير، هو في مثل سنِّه، لكنه أكثر جمالًا ونظافة، تُحملُه أمه على حجرها وتحتضنه إليها.
اعتصرَه شيء مؤلم في قلبه، كالغصَّة، أشد ألمًا من ضجيج معدته الدائم.
شيئًا لم يفهمه!
الطفل الآخر بدا مُستكينًا في حضن أمه، يَلتهم شطيرة كبيرة بهدوء وتمهُّل، يَنظر له نظرَة عابرة ثم يعود ليُواصِلَ ما كانَ يفعلُه، أشاح بوجهه بسرعة حتى لا تتمرَّدَ معدتُه مجددًا برؤية مشاهد الطعام.
رجل بدين له لحية بيضاء طويلة يعبر الشارع في تمهل، يرفل في جلباب أبيض متسع، وعمامة جميلة ملتفَّة بإحكام على رأسه، يحمل مسبحة في يمناه تجري حبيباتها بين أصابعه المكتنزة في رتابه، يتضخم بعطر فاغم غمره عبيره وغطَّى على رائحة البول المحيطة به لحين، رجل نحيل يضع صحيفة مطوية تحت إبطه، ويَحمل كيسًا يحتوي على خضروات مُختلفة، يبدو حزينًا وهو يُحملِق في الأرض إذ يسير بتمهُّل كأنما يساق لمنصة إعدام، فتاةٌ شابَّة تتحدث في هاتفها المحمول بعصبية، شابٌّ أنيق يَستعرِض بضاعة فرشها أحدهم على ملاءة في الأرض، باعة مُتجوِّلون يصرخون بما يمتلكونه، «برد برد!» «والكيلو جنيه … والكيلو جنيه!» شاب يقود طفلًا، امرأة تحمل أكياسًا ملوَّنة كثيرة ممتلئة، رجل آخر، وآخر، وآخر، وآخر، خلق كثير، عشرات الوجوه عبرَت أمامه في دقائق معدودة، وجوهٌ مختلفَة، مُتباينَة السحنات، والألوان، والتعابير، جمع بينهم شيء واحد، أنَّ أحدًا منهم لم يُعرِه انتباهًا!
تتحرك أمعاؤه من جديد، تُذكِّره بانتهاء وقت الراحة.
«ورنش … ورنش!»
يهزُّ صفيحَه المعدني مجددًا وهو يسري بين أقدام الناس، تتقاذَفه أمواجُهم تَترى حتَّى انتهى إلى جوار المسجد الكبير، وضَع بضاعتَه بجوارِه وجلس على حوض الوضوء، قرَّب فمه من النافورة وراح يعبُّ الماء.
سمع صوتًا زاعِقًا من خلفه، التفَتَ مَذعورًا، داهَمَه إمام المسجد، يُشبه الرجل البدين الذي رآه قبل ساعة، كلاهما يرتدي جلبابًا أبيض اللون ناصعَه، ويَحمل مسبحة جميلة، وعلى جبينِه علامة صلاحِه في الدارين.
انتهره: «يلا غور من هنا!»
اختطف كيسه القماشي وهروَلَ مبتعدًا، سمع الشيخ يُدمدم من خلفه اتهامًا جازِمًا بنيتِه سرقة أحذية المُصلِّين، انسلَّ من بين أفواجِ المُصلِّين الداخلين للمسجد، وتنفَّس الصعداء عندما أدرك أنه أفلت من قبضة الشيخ الغاضب.
رفع مأموم المسجد عقيرته صادحًا بالأذان: «الله أكبر … الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة.»
«ورنش … ورنش!»
يقف بجوار المسجد في الخارج، يهزُّ صفيحه مجددًا وهو يرمق العابرين بأعين متوسِّلة.
لا أحد يلتفت إليه، كلهم يَعبُرونه صامتين، ضاحكين، غاضبين، هادئين، لكنهم يعبرونه دون أن يُعيروه أدنى انتباه!
«ورنش … ورنش!»
بطنه تصرخ في احتجاج، فوضع يده على بطنه حتى يُسكتَها، رفع رأسه للسماء، بدأت السحب تكتسي شيئًا من الحمرة، خفَّ الغيظ هونًا ما، وانطلقت النسمات تَرتع بين الوجوه العابسة هنا وهناك.
«اشتغلْت حاجة الليلة يا وليدي؟!»
فاجأه الصوت، التفت بجواره.
امرأة كبيرة في السن، ضخمة الجثة، تفترش الأرض بجوار حصير فرشَت عليه بعض المسابح الملوَّنة، وكتيبات صغيرة تحتوي أذكارًا للمسلم، ومساويك، وطواقيَ بيضاء مطرزة.
هزَّ رأسه نفيًا، وأطرق للأرض، إصبع قدمه الغبشاء بلون ملابسه يَبرُز من مقدمة الحذاء البالي، مشى طوال اليوم عشرات الكيلومترات، ككل يوم، حتى بدأ حذاؤه يعلن تمرُّدَه.
لماذا لم يعد الناس يَرغبون في تلميع أحذيتهم؟
أشارت له أن يقترب، اقترب في حذر.
خشي أن تَغتصِبَ منه بضاعته، أو تصفعَه لسبب ما.
بعد كل شيء، هو لم يَعتدْ حسنَ التعامل من الناس.
أشارت له أن يَجلس بجوارها، فجلَسَ صامتًا، وهو يُحاول سحب قدمه داخل الحذاء للوراء ليواري إصبعه من ثقبه، نجح بعد عدة مُحاوَلات، وابتهج لانتصاره الصغير، أشار إلى أحد الكتيبات المفروشة على الحصير، سأل: «ما هذا؟»
قالت: «وصف الجنة!» ولم تُعقِّب!
سألها وهو ينظر لها في فضول: «كيف تبدو الجنة؟»
قالت: «مكان كبير واسع به العديد من الأشجار الظليلة، ومنازل جميلة، وأنهار كثيرة من العسل واللبن، وكل ما تطلبُه يأتيك فورًا!»
التمعت عيناه شغفًا، فغر فاه للحظات وهو ينظر للسماء المحمرَّة بلون الغروب، ويتخيل ما وصفتْه له خلف السحب، تذكر شيئًا فجأة، فتح حقيبته القماشيه وأخرج منها صورة الريف الأوروبي، فرَدَها بحرص بالغ!
«زي المكان ده؟» سألها.
مدَّت عنقها ناحية الصورة، كسُلحفاة عجوز، تأملتْها قليلًا ثم قالت:
«أجمل من كده كمان، وبتشوف الله كل يوم!»
«الله عامل كيف؟» سألها.
قالت: «رب العالمين جالس على العرش، عطوف، عادل، سيَصنع لك منزلًا جميلًا يَحميك من البرد والحر، ويرسل لك الملائكة لتُنفِّذ كل طلباتك!»
تبادَرَت لذهنه صورة والدة الصبي في المطعم المقابل للشارع؛ إذ تحتضن طفلها في حرص، تخيل الله يبدو مثلها، عطوف، حامٍ!
تطايرت أفكاره.
راح يحملق في الصوره المفرودة بين يديه الصغيرتين للحظات، قال وهو يمسح عليها بإصبعه: «لما أكبر عايز أعيش هنا.»
نظرت له في صمت، نظرتها غريبة، طوى الصورة في حرص ووضعها داخل الحقيبة القماش، ثم راح يحملق في المارة، ثم للكتب المعروضة، أشار لأحدها وسألها: «ما هذا؟» مدَّت له الكُتيِّب بابتسامة واسعة، قالت: «حصن المسلم!»
فتح الكتيب من منتصفِه، قرأ بصعوبة: «اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقضِ عنِّي الدَّين وأغنِني من الفقر.»
سألها: «ده قرآن؟»
ضحكتْ، قالت وهي تفرك على رأسه: «هذا دعاء الرزق تقرؤه ليرزقك الله.»
تهلَّلت أساريره فرحًا، سألها ملهوفًا: «إذا قرأتُه سيُرسل الله لي زبائن لتلميع أحذيتهم؟»
رأى ملامح وجهِها تتغيَّر، نظرَت له في صمت، نظرة غريبة لم يَعهدْها، كنظرة الرجل العابر الحزين، الذي يَحمل صحيفة تحت إبطه!
قالت له: «اقرأ مجددًا.»
– «أقرأ ماذا …»
– «دعاء الرزق!»
– «قرأته من قبل.» قالَها متبرمًا.
– «اقرأ مجددًا.»
وراح يقرأ بصعوبة وهو يَضع إصبعَه موضع الكلمات ويُقرب الكتاب من وجهِه، لما انتهى رفع لها عينَين متسائلتَين، فدسَّت جنيهًا في قبضة يده، قالت له وهي تَبتسم: «قد استجاب الله لك، هذا أول رزقك!»
أمسك الجنيه غير مصدق، ثم قفز من مكانه فرحًا وهرول مبتعدًا، تذكَّر شيئًا، وقَفَ في تردُّد ينظر لها وللكتاب بعينَين متسائلتَين، قالت وهي تدفعُه إليه: «هذا هدية، يُمكنك الاحتفاظ به.»
اختطف الكتاب، واندفع بسرعة مُبتعدًا وسط الحشود غير المبالية، معدتُه تَصرُخ ابتهاجًا وقد عرفت مقصده.
يَخترق الحشود المتدفِّقة كالطوفان، يشقُّ الأزقة والباعة جريًا، صوت إمام المسجد الكبير يرتفع من بعيد بتلاوة جميلة، لم يهتمَّ بهزِّ صفيحِه هذه المرة، رائحة الدخان تتصاعَد كلَّما اقترب من مُبتغاه، عندما وصل إلى مقصده كان يلهث، وكان رجل الشواء يقلب قِطَع اللحم المتراصَّة في السيخ المَحمي على الجمر ويتحرك كشيء آلي، اقترب منه وهو يُطبق على الجنيه في حرص.
نظر له البائع شذرًا، وبدا عليه التحفُّز.
– «عايز شنو؟»
مدَّ الجنيه في صمت ووقف مترقبًا، زمجر الرجل مُنزعِجًا: «السندويتش اتنين جنيه.»
بطنه تُطلق ضجيجها المزعج مجددًا، تُحذِّره ألا يفكر في التراجُع، قال متوسلًا: «ما عندي غيرها.»
نظر له البائع في ضيق، بدا وكأنه يقوم بحسبة سريعة في ذهنِه، قال بصوتٍ جافٍّ: «نصف سندويتش فقط.»
هزَّ رأسه موافقًا في سرعة، وبدا فمه المتلهف يعجُّ بلعاب الاشتهاء، رائحة الدخان تتصاعد وتَغمر أنفه، ومعها تتلوَّى أمعاؤه، وتُصدر صوت قرقرتها المبتهج بذا الانتصار.
في تلهُّف وانبهار يرمق رجل الشواء يخرج اللحم المترادف من على السيخ المَحمي، يشقُّ الخبز بسرعة ومهارة، يَصنع نصف شَطيرة، يضيف إليها بعض الطماطم والملح والليمون.
عندما عاد لمكانه السابق تحت الشجرة، والعبارات التي تُحذِّر من التبوُّل في الأماكن العامة، كان الليل قد أسدلَ أستارَه، وكان ضجيجُ بطنِه قد صمتَ أخيرًا.
بضعة أطفال في مثل عمره يَلتحفُون الأرض في ذات المَوضِع، على بعض الكرتون المقوى، يَخلدون للنوم من وعثاء يوم مرهق، يعرفهم جميعًا.
وضع حقيبته القماشيه على الأرض، أخرج كتيب حصن المسلم، تأمَّلْه للحظات مُبتسمًا.
نظر للسماء الصافية التي تبدَّت بين أغصان الشجرة المتشابِكة.
نظرة ممتنَّة.
خاطر جميل مرَّ على ذهنه، فاتسعَت له ابتسامتَه أكثر.
وضع الكتاب داخل حقيبته في حرص، ثم كوَّر الحقيبة بما تحتويه تحت رأسه.
ونام!
غدًا يوم آخر!