القصة المملة الرابعة: ٠١
كونوا أنتم كاملين، كما أنَّ أباكم الذي في السماوات هو كامل.
١
مرحبًا بك أيها القارئ!
أنا لا أعرف اسمك.
لا أعرف من أنت من بين النُّسخ.
لا أعرف إذا ما كنتَ ستتذكَّر هذه الرسالة أم لا، آمُلُ ذلك لكنَّني لا أتوقَّع الكثير.
أنا لا أعرفك، لكنَّني أعرف مصيرك، وأعرف أنك ستَختبِر ما اختبرتُه في يومٍ ما.
أعرف كذلك أنك تستحق الفهم، إذا ما استطعت التذكر وفهمت رسالتي.
ما فتئتُ أتنقَّل بين المراحل، حتى وصلت مرحلة النضج الأخيرة، وقريبًا سينتهي كل شي. وتحلُّ القيامة، فأستعد!
أنا الحاخام «ديفيد نوعام»، وأنا هنا لأحدثك عن تجربتي في البعد الآخر، وعالم ما بعد الموت.
تضحكُ ساخرًا؟
ربما لا تؤمن بوجود حياة أخرى بعد الموت، ربما تُؤمن بحياة من نوع آخر حسب معتقداتك الدينية، لكن دعني أخبرك أنك مُخطئ في الحالتَين.
قد تهزُّ هذه الأوراق قناعاتك المعرفية، واطمئنانك العقائدي، فإذا كنتَ واهن العقيدة فلا أنصحك بأن تستمر في القراءة، لا أُريد تحطيمَ غرورك البشريَّ الهشَّ وسلامك النفسي وإطمئنانك العقائدي بأنك تعرف أيَّ شيء عن كل شيء، وبالتأكيد لا أحب تمزيق ستار وهمك المضلل بأنك تَملك كل الأجوبة الممكنة … وصلت إلى نبع الحقيقة واغترفت منه حتى اكتفيت. قد تكون سمعت عنِّي من قبل في الصُّحف، ربما لا تتذكَّر الاسم، لكنَّك ستتذكَّر اسم «المرتد» بالتأكيد، وهو الاسم الذي لا أفتخر به على نحو خاص.
ولمن لا يَعرفني، فقد كنتُ أحد أهمِّ — يقولون — حاخامات إسرائيل، تشرفت بأن كنت مساعدًا للحاخام الأعظم شلومو غورين نفسه، حاخام الاشكناز الأكبر، خدمت في المحكمة الحاخامية في بتاح تكفا، ورُشِّحت للحصول على جائزة إسرائيل لأدب التوراة، كما عملت في محكمة الاستئناف اليهودية العليا في أورشليم لعدة سنوات.
لقد ظللتُ أبثُّ هذه الرسالة عبر الفضاء الأثيري منذ أشهر بحسب توقيتك الأرضي؛ فالزمن كما تعرفه مختلف عما هو موجود هنا.
لقد توفيت قبل سنوات في حادثة سقوط الطائرة الشهير في «رامات هاشارون» في «تل أبيب». السرعة التي حدث بها كل شيء جعلت الأمر خارج نطاق استيعابي، لم أكن أصدق، لم أكن خائفًا، كنت مذهولًا فقط، صوت صراخ المسافرين يصمُّ أذني، أسمع أصوات البكاء، الشهقات، والابتهالات للرب يهودا، وبكاء الأطفال، وعبر النافِذة أرى الأرض تقترب بسرعة جنونية.
آخر الأصوات التي التقطَتها أذناي من الحياة، كان صوت صراخ المسافِرين، وتحذير الطيار عبر المذياع الداخلي بأننا على وشكِ الارتطام.
في اللحظة التالية سمعت الدويَّ العالي، وشعرتُ بلهيب النيران، ثم انتهى كل شيء.
لم يكنِ الأمر مؤلمًا، وإن كان لي من عزاء فهو أنني لم أشعر بشيء.
في لحظة كنت هنا، في اللحظة التالية كان الظلام.
الظلام البكر الخام المتجانس.
٢
– «هل من أحد هنا؟!»
ظلام … ظلام … ظلام.
– «مرحبا.»
ظلام … ظلام … ظلام.
– «هل أنا ميت!»
أحرك يدي لأتلمَّس مكاني، لا تطاوعني، لا أرى شيئًا.
ظلام داكن كما لم أرَه من قبل، أحسُّه يتخلَّلني، وأشعُر بنفسي معلقًا في الفضاء، لست مُستلقيًا على شيء، ولا أَستشعِر أرضًا صلبة تحت جسدي، فلا بدَّ أنني أطفو، وأُحاول تحريك أطرافي مجددًا، لا شي، هل أنا مشلول؟
– «هل من أحدٍ هنا!»
وتنبَّهت، مذعورًا، أنني لا أتنفس، لا أُحسُّ بصدري يتحرَّك أو رئتيَّ تمتلئان أو تلفظان أي هواء، ماذا حدث لي؟
أين أنا؟
هذا الظلام اللعين!
– «هل من أحد هنا؟»
صوت خافت جدًّا أسمعه من بعيد، أرهفتُ سمعي، أزيز رتيب كأزيز الثلاجة، لم أفهم معناه.
هنا رأيت شيئًا عجيبًا!
ما معنى هذا؟!
مجددًا أحاول تحريك أطرافي لتحسُّس المكان من حولي، لا تَستجيب مجددًا، وبدأت أشعر بالهلع، أين أنا؟! ومالذي يحدث بالضبط؟!
آخر ما أتذكره أنني كنت على الطائرة، أتذكر التحطم واندلاع النيران، معنى هذا أنني قد متُّ، فهل هذه الدار الآخرة؟
جاءني خاطر مُفزِع.
ربما نجوت من التحطُّم ولم أَمُتْ لكنَّهم حسبوني ميتًا وقاموا بدفني، يعني هذا أنني في تابوت تحت الأرض الآن.
الدفن حيًّا، يا إلهي الرحيم، هذا من أسوأ كوابيسي!
وأُحاول مجددًا تحريك أطرافي لتلمس مكاني، بلا نجاح، أريد أن أعرف أين أنا على الأقل.
أعرف أنني مشلول ما دون عنقي بكل تأكيد؛ لأنَّني لا أشعر بأي شيء يُلامس أطرافي، ولا أثقل بثقل جسدي على أرضية التابوت، لا بد أن الحادث قد سبب هذا، إذن ليس بيدي حيلة سوى الصراخ، أملًا في أن يسمعني أي شخص في الخارج.
وصرختُ مجدَّدًا بعلوِّ صوتي: «أغيثوني … أنا هنا … هل هناك من يسمعني؟»
– «النجدة!»
كنت أتلفتُ حولي وأصرخ مذعورًا عندما سمعتُ الصوت العميق يتردد في المكان: «هل فعلت خيرًا في حياتك السابقة؟»
٣
– «ديفيد، إن توجهاتك الجديدة بدأت تُثير مخاوفي.»
قالها الحاخام الأعظم «شلومو غورين» وهو يُصلح من غطاء رأسه، قلت وأنا أنظر للأرض حتى لا أقلل من احترامه بالنظر إلى عينيهِ المباركتين مباشرة: «أيُّ توجهات يا أبتِ؟»
قال وهو يضع يده الشريفة على الحائط ويتحسس تشقُّقاته: «قراءاتك الجديدة، لقد بدأ الحاخامات يتهامسون بأنكَ تقرأ كتبًا للمسيحيين والمسلمين، يقولون إنك بدأت تشكك في تعاليم كتابنا المقدس وتتحدث عن أن الحياة الأخرى قد تكون حقيقة.»
قلت وأنا استقبل حائط المبكي: «تقصد مناقشتي مع الحاخام ألعيزر يا أبت، ليس تشكيكًا لكنه مجرد نقاش.»
قال بطريقته المحبَّبة في الوعظ: «أن تَعلم أننا نُشجِّع حاخاماتنا لقراءة الأديان لمعرفة تفاصيلهم، وتَعزيز الشكر للإله لأنه حافظ على ديننا ولم يسمَح بتحريفه كما حُرفت المسيحية والإسلام، فلا تَسمح لهم بتسميم أفكارك. إنَّ مفهوم يوم الحساب أثار الكثير من اللغط قديمًا عند رجال الدين، ولم يستقرَّ بصورته المؤكدة الحالية إلا بعد العصر البابلي، كل اليهود سيتطهَّرون في يوم الحساب من ذنوبهم وآثامهم ليعودوا من جديد صفحات بيضاء من كل دنس، ثم تعود البقية الصالحة إلى أرض الميعاد ليُعيشوا بسعادة وهناء كما جاء في سفر هوشع. الرب اختصَّ اليهود بهذا التشريف العظيم، تلك خاصيتنا نحن أحباب الرب وشعبه المختار. هذا اليوم ليس يوم القيامة الذي تتحدث عنه بقية أديانهم لكنه يوم أرضي، هنا جنتنا ونارنا.
كل الصادوقيِّين والفريسيين يؤمنون بهذا ويُنكرون قيام الموتى، كيف يقوم من تحلل جسدُه؟ لا يوجد منطق في هذا، إنما الثواب والعقاب في الحياة، انظر إلى نصوص التوراة وستُدرك أنها تكافئ العمل الصالح لليهود بنصر الله لنا وانتصارنا على الأعداء، وكثرة الأولاد، ونماء الزرع، وتعاقب سوء العمل والمعصية بنصر أعداء بني إسرائيل، وسبي نسائنا الجميلات وموت زرعنا وهلاك ماشيتنا، هل ترى؟ لا يوجد يوم آخر أو بعث، تلك تخرُّصات أهل الأديان المحرفة وتشكيكات الملحدين، كل الجزاء في هذه الدنيا!»
قاطع أفكاري صوت الطيار عبر جهاز المذياع الداخلي يدعونا لربط أحزمة الأمان لأننا على وشك الإقلاع، نظرت عبر النافذة، الطائرة تدور حول نفسها ببطء لتستقبل مدرج الاقلاع، وصوت المحرِّكات المرعب يهدر تصاعديًّا في كل ثانية، لم أكن ممَّن يشعرون بالراحة في الطائرات، ولا أفهم كيف ينام شخص طبيعي ملء جفنَيه في مثل هذا الشرك الطائر، لا شيء يفصلنا عن الاختناق والاحتراق والدمار في الخارج، سوى بضعة سنتميترات من الألمونيوم الخفيف!
كانت المضيفة جميلة الملامح تتقدَّم في الممر ببطء للتأكد من ربط الركاب لأحزمتهم، فأشرت لها بيدي، قدمت وسألتني إذا ماكنت أحتاج شيئًا، طلبت بعض النبيذ، فأكدت بابتسامة لطيفة أنها ستجلبه لي بعد الإقلاع عندما تستقر الطائرة في مسارها.
دقات قلبي تتعالى مع صوت المحرِّكات العالي، حاولت أن أسترخي وأغمضت عيني.
قلت للحاخام الأعظم وأنا أنظر له إذ وضع يديه على الحائط مغمضًا عينيه: «أنا آسف يا أبت، لم أقصد أن أثير بلبلة بين الحاخامات، كان سوء تقدير مني، اعذرني!»
– «لا بأس، أنت يهودي صالح يا ديفيد، لكنك سريع التأثر وواسع الخيال، والآن صمتًا، فلنستعدَّ لصلاة كوهانيم، غدًا عيد الفصح وسيعج المكان بالآلاف من بني إسرائيل.»
٤
– «مَن هناك؟»
صحت وأنا أتلفَّت حولي مذعورًا.
عاد الصوت يتردد من جديد: «هل فعلت خيرًا في حياتك السابقة؟»
كان الصوت مُربكًا، ليس صوتًا بشريًّا وليس آليًّا، ليس ذكوريًّا أو أنثويًّا، صوت محايد غريب، لكن به شيء محبَّب يَدفعني لأن أسمعه أكثر، وانتبهت، أنَّ الصوت لا يأتي من الخارج لكنه يتردَّد داخل عقلي مباشرة.
شعور مؤلم بالعجز وقلَّة الحيلة يَغمرني، لا أرى شيئًا ولا أستطيع تحريك جسدي أو تلمس مكاني، سألت مصدر الصوت: «هل أنا ميت؟»
رد الصوت: «نعم!»
أنا ميت! يعني هذا أن …
– «هل أنت الله؟»
سألته بسرعة، فصمت قليلًا، ثمَّ أجاب: «لا!»
– «لا أفهم.»
– «أنت ميت، لم تَنجح في هذه المرة مجددًا.»
مجددًا؟ هممتُ بأن أسأله عما يَعنيه عندما أضاء المكان قليلًا بضوء أخضر فسفوري، وفي كل مكان راحت مئات الحروف ذات التركيب الثلاثي غير المفهوم تتساقَط حولي كالشلال.
الترتيب يتكرَّر بإصرار وبلانهاية، لكن أكثر ما شد انتباهي وأثار ذعري عندما نظرت لأسفل، مع الضوء الفسفوري الباهت استطعت أن أرى موضع جسدي.
لم يكن هناك جسد!
صحَّت مذعورًا: «لحظة! أين بقية جسدي؟»
قال الصوت: «ليس لك جسد، لقد عدت سيرتك الأولى.»
– «هل تعني أني روح؟»
– «لا، أنت مجرد أحرف.»
– «ماذا؟»
صمت الصوت مجددًا، ثم قال بصوته المُحايد المربك: «هذا أنت.»
مع نهاية حديثه رأيت ذلك الشيء يتوهَّج بجانبي وسط الضوء الأخضر الفسفوري وخلف سيل الحروف المتقطعة، التفت بسرعة.
ما رأيته كان غريبًا جدًّا.
٥
كان الارتجاج الأول طفيفًا لم يَنتبِه له أغلب المسافرين، فقط أنا من شعرت به لأنني كنت مُتحفِّزًا وأتوقع حدوث الكارثة في أيِّ لحظة، ثم كان الارتجاج الثاني أكثر عنفًا، اهتزت الطائرة وتساقطَت بعض الحقائب من المخازن العلوية، تمسَّكت بجانبَي مقعدي في هلع، وشهق بعض المسافرين، تردَّد صوت الطيار عبر المذياع الداخلي يُطمئننا بأنه مجرَّد مطبِّ هوائي فلا داعي للقلق.
نظرت عبر النافذة للأسفل، كانت تل أبيب مربَّعات صغيرة غير واضحة المعالم الآن، بينما لا تزال الطائرة تُحلِّق للأعلى بزاوية حادَّة للوصول إلى ارتفاع الطيران.
كنت أشعر بمرارة الخديعة، وبدأ الحاخامات يتهامَسُون، ثم تحوَّل الهمس إلى جهر، فاتهام صريح بالكفر والزندقة.
قال لي الحاخام «يوسف عزرا» غاضبًا: «أنت عار على الكنيس، لطخت سمعة بيت يهوه بهرطقاتك وتصديقك للمسلمين.»
– «ربما نكون نحن المخدوعين بعد كل شي!»
– «بل غسلوا مخك.»
– «أنتم من غسلت أمخاخهم بهرطقات المزامير، تحفظونها غيبًا وتُردِّدونها كل مساءٍ بلا يقين، وأصبح الدين عندكم تجارة تُزجى ووسيلة للسيطرة والحظوة لا أكثر ولا أقل، تُحلُّون بها قتلَ الآخرين لأهوائكم ولتحظَوا بالمكانة والقرب من رجال السلطة، يهودا لم يطلب هذا، موسى لم يطلب هذا، لقد تمَّ خداعنا عبر آلاف السنين بأننا المُختارون، وأن لنا وطنًا نستحقه، وأنه لا حساب لنا من بعد موت، الآنَ أعرف أننا كنا ضحية كذبة كبيرة.»
– «بل لوَّثُوا عقلك!»
تناسلت الأخبار بسرعة النار في الهشيم، وتم طردي من الكنيس وسحب تشريف الحاخامية مني، وقال لي الحاخام الأعظم شلومو غورين وهو يرمقني في ازدراء: «لم تَعُد فَردًا منَّا، نكصت على عقبيك وفرطت في أمانة موسى، وحتى تتوب وتتطهر من ذنبك العظيم لا مكان لك بيننا.»
خرجت المانشيتات الصحفية في اليوم التالي تتحدَّث عن الحاخام الذي ضلَّ سواء السبيل، أطلقوا عليَّ العديد من الألقاب الرنانة تصف ردَّتي، ثم بدا سيل خطابات الكراهية والتهديد بالقتل، قال لي الشرطي بلا حماس حقيقي أنهم سيَبذُلون ما في وُسعِهم لمعرفة أصحاب تلك الخطابات وجلبهم للعدالة، قالها لي بلسانه، وقالت لي نظراته أنه يتمنَّى أن يراني مسحولًا على الطرقات أتخضَب في دمي وأتعفَّن في زقاق مهجور.
وعندما عرفت أن حياة أسرتي وحياتي لم تَعُد بأمان، قمت بتسفير زوجتي وابني للنمسا على أن ألحق بهم بعد أيام.
فجأة اهتزَّت الطائرة في عنف، وسمعت صوت انفجار مكتوم، فتحت كل النوافذ العلوية للمسافرين لتتساقط أقنعة الأكسجين أمام وجوهنا المذعورة، ودوى الصوت المرعب المتقطِّع لصفارة التنبية لتخبرنا بأن شيئًا ما ليس على ما يرام، تأكدت من هذا عندما نظرت من النافذة بجواري ورأيت خيط الدخان يتسرَّب من محرِّك جناح الطائرة.
هذه المرة كانت نغمة الخَوف في صوت الطيار واضحة وهو يُخبرنا بأننا فقدنا أحد المحرِّكات ويطلب من الجميع ارتداء الأقنعة، ويُحاول طمأنتنا بأن المحرِّك الثاني يعمل بكفاءة.
يا إلهي الرحيم!
كانت الطائرة ترتجُّ بعنف، وأغمي على المرأة المسنَّة التي تَجلس بجواري فورًا، وفي لحظة ارتفعت أصوات البكاء المكتوم والهمهمات المتداخِلة للمسافرين، رأيت المضيفات يُهرعن بسرعة في الممرات ليُساعِدوا المسافرين على ارتداء الأقنعة.
صوت صفارة التحذير المتقطع يزيد الوضع سوءًا، فليُخرسُوه قليلًا.
كان قلبي قد تجاوَز أي حد معقول للضربات، وراح يخفق بعنفٍ حتى شعرت بالنبض في عيني وصدغي، بسرعة وضعت قناع الأكسجين على وجهي، ثم ربطته على وجه جارتي المُغمى عليها، وانحنيت للأسفل وأنا أُردِّد هامسًا بصوت مرتجفٍ باكٍ: «اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، فلتحبَّ الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك ومن كل قوتك، ولتكن هذه الكلمات التي أوصيك بها اليوم على قلبك، أدعوك باسمك الأعظم «يهودا»، احفظ أرواحنا يارب، احفظ أرواحنا يا رب.»
عندما انفجر المحرِّك الثاني، عرفت هذا قبل أن أرى الكتلة النارية التي انبعثت منه.
لجزء من الثانية، بدا وكأنه أبد الدهر، توقفت الطائرة عن الارتجاج، وتوقف صوت عويل صفارة الإنذار المرعب، وتوقف صوت البكاء والصراخ والتوسُّلات للمُسافِرين كلهم دفعة واحدة، وتجمد كل شيء.
ثم هوت الطائرة كالحجر.
٦
بهيئته الهولوجرامية الغريبة، كان هذا دماغ بشري يَطفُو في الفضاء بحركة اهتزازية رتيبة وكأنه معلَّق في فضاء مغناطيسي، بجواره شيء أشبه بشاشة الكمبيوتر تظهر عليها الحروف التي تتساقَط من حولي بشكل متقطع، أقول «أشبه» لأنها ليست شاشة بالضبط، ولا شيء يُمكن فهمه واستيعابه، فتارةً هي شاشة، وتارة أخرى مادة دخانية غريبة تدخل وتخرج من بين تلافيف الدماغ، وتارةً أخرى تختفي الحروف وتحلُّ محلَّها ثنائيات عشوائية مُتكرِّرة للصفر والواحد (٠١٠٠١٠٠١).
سألت مصدر الصوت: «ما هذا؟»
– «هذا أنت.»
– «ماذا تعني؟»
– «هذا واقعك وحياتك كما تعرفها، أنت حلم قصير في ذاكرة هذا الدماغ يستمرُّ لجزء من الثانية، هي عشرات السنين في عالَمك الافتراضي.»
سألته مذهولًا: «أتقصد أنَّني لستُ حقيقيًّا.»
– «لا يوجد شيء مما تَعرفه وتعيشه حقيقي.»
وأنظر حولي، الظلام حالك إلى درجة يصعب وصفها، لدرجة أنه يمتصُّ حتى الضوء الفسفوري الباهت الذي تشعُّه الحروف المتساقِطة حولي، هناك مُستويات من الظلام الدامس، هذا شيء آخر، ظلام لا يُمكن وصفُه أو تعريفه، أشدُّ سوادًا من ظلمة الرحم، ومما يراه العميان.
سواد مُتجانس مُدلهمٌّ يصيبك بالاختناق، يَستحيل أن تتخيَّله ما لم ترَه.
سألته وأنا أتلفَّتُ حولي: «أين أنا؟»
بطرف عيني رأيتُ تلك الأشياء المتطايرة في الفضاء، فتنبهت، كانت تبعث ضوءًا خافتًا للغاية، ومضات خاطفة تظهر وتختفي بسرعة في المكان، تبدو كتلك الأشكال السريالية التي لا تظهر إلا في النقطة العمياء في مجال بصرك، وتختفي عندما تلتفِت إليها، أو الأطراف الدقيقة المتطايرة من نيران احتراق الأخشاب، ظلت تلك الأشياء تظهر وتختفي للوجود بسرعة مذهلة.
تردََّّد الصوت في ذهني وأنا أراقب مشدوهًا: «الآن يبدأ البرنامج.»
للمرة الأولى أرى الدماغ يَسكُن قليلًا، وتبعث منه ومضات أشبه بالصعقات الكهربية عمَّت سطحه، واختفَت معها الحروف الإنجليزية التي كانت تَنبعِث من بين ثناياه، وعلى الشاشة الغريبة تراصت مئات التكرارات الثنائية العشوائية للرقمين صفر وواحد.
في اللحظة التالية قفزت تلك الكرة النارية للوجود، في لحظة لم تكن، في اللحظة التالية كانت هناك، هكذا بدون مقدمات، نقطة دقيقة مضيئة في الفضاء المظلم، كانت تهتز بتلك الطريقة المُنذِرة التي تراها قبل انفجار الأشياء في مسلسلات الكرتون.
الغريب أنها كانت تظهر أمامي وخلفي وبجواري وتحتي وفوقي في نفس اللحظة، حيثما التفتُّ أراها أمامي، هذا الشيء ليس مقيدًا بحدود المكان، لن أستطيع أن أصف لك هذا مهما استخدمت من حروف اللغة، ما يهمُّ أنها كانت في مكانٍ واحد، وفي كل مكان، في نفس اللحظة، إنَّ كان شيء كهذا قابل للفهم والتصديق.
تردَّد الصوت في ذهني مجددًا: «ثم لحظة الميلاد.»
في اللحظة التالية انفجر الضياء.
موجة ضوئية هائلة انبثقَت في المكان، ومعها موجة نارية تناثرت في الفضاء واكتسحت كل شيء حتى تلاشى الظلام دفعة واحدة، ضوء أبيض مُبهِر لدرجة يصعب وصفها، يبدو أن الألوان شديدة التطرُّف في هذا المكان، فهي إما ظلام شديد السواد أو ضياء شديد البياض، بدون مراحل وسطى، لحسنِ الحظ أنني لا أملك جسدًا ماديًّا وإلا دمَّر هذا الضوء شبكية عيني فورًا.
كنت أعرف أنَّني أشهد عرضًا مُسرعًا لميلاد الكون كما قرأت عنه مرارًا، لكنها المرة الأولى التي أرى فيها تلك المُعجزة رأيَ العين … وجدت نفسي أسبح في ضوء أبيض شفَّاف وشيء كثيف كالضباب يَتراكم في المكان، ثمَّ راح الضباب والضوء يخفان تدريجيًّا، وبدأت نقاط ضوئية كأنها شهُبٌ ضئيلة تتطاير وتتصادَم في فضاء المكان بلا هَوادة … سحابة هائلة من الغاز والغبار غطت كل شي، ثم تموَّجت السحابة كأنما تخلَّلها تيار هواء، وبدأت تتكثَّف في نقاط بعينها، ظهرَت تكتُّلات صخرية صغيرة بعد ثوانٍ، ثم تفتَّتت، ثم كرات نارية ضخمة، راحت تتقلَّص وتَنسحِق على نفسها بسُرعة، ثم تَنفجِر في مجموعة مُتسلسلة من الانفِجارات الهائلة، ومن الشظايا المتناثرة للانفجارات بدأت الكواكب في الظهور والدَّوَران حول بعضها البعض.
كنتُ أسبَح وسط كل هذا الحطام الكوني مأخوذًا، رأيت النجوم تَستعر، رأيت الكواكب تُولد، ورأيت المجرَّات تتشكَّل، ورأيت مجرَّتنا بشَكلِها اللَّولبي المُميز الذي رأيته في صور كتاب العلوم في المدرسة، الكتلة النارية المُلتهبة التي نُسمِّيها شمسَنا، وكوكب الأرض يظهر للوجود ككرة نارية مُلتهِبة ظلَّت حرارتها تخفت تدريجيًّا، ثم اختفَت النيران وبدأ الكوكب يتغيَّر لتغلب عليه زرقته المميزة.
كانت الثنائيات تتراصُّ بسُرعة على الشاشة بجواري، مئات الأسطر العشوائية من الرقمين (٠١) تتراصُّ بسرعة رهيبة، ومعها صوت الأزيز المنتظم كثلاجة مطبخكم، وجدت نفسي أسبح بسرعة مقتربًا من الأرض، لم تكن خارطة اليابسة كما أعرفها، لا تُوجد قارات، لكنَّها كتلة واحدة مُجتمعة وبعض الجزر المتناثِرة يُحيطها الماء من كل اتجاه، ثمَّ دوى انفجار ضخم في السماء تصدَّعت له الأرض، ثم برز القمر من بين الركام، ومعه سكنت حركة موجات المحيط الهائلة.
كنتُ أقترب من منطقة طرفية في اليابسة، هناك بُحيرة ماء آسن تنمو بجوارها حشائش كثيفة، ظللتُ أَحلق بجوارها لثوان مترقبًا ما سيحدث تاليًا، وبسرعة راحت السحب السوداء تتراكَم في السماء وهطلت الأمطار، ثم هوى لسان من البرق على البحيرة مباشرة، فراح الماء يفور ويَغلي ثم همد الغليان.
هنا تغيُّرت الأرقام الثنائية من على الشاشة، وحلَّت محلَّها الحروف الإنجليزية التي كانت تتناثَر في الفضاء من حولي، وراحت تتكرَّر بإصرار.
يبدو الأمر وكأنَّني أشاهد كل شيء من خلفِ شاشة ضَخمة؛ لأنَّني لم أكن أشعر بملمس البيئة المحيطة بي، كنتُ أحلق فوق البحيرة الآسِنة ثم وجدتُ نفسي أغوص بداخلها، رأيتُ مركبات دقيقة لم أفهمها تتشكَّل، ثم مجموعة من الأشياء تُشبه العصويات كما تراها عبر المِجهر، العشرات منها، تَسبح في عمق المياه، ثم بدأت إحداها في التشكُّل لما يُشبه فطر الماء، ثم شيء أشبه بالعنكبوت له أطراف رخوه، ثم تحوَّلت إلى ديدان، ثم سمكة غريبة الشكل، راحت تتغيَّر بسرعة، وتنمو لها بعض الأطراف، لتتحوَّل لشيء يُشبه الزواحف انسحَبَ خارجًا من الماء، ووجدت نفسي أنسحب معه للخارج، أرتفع فوق السطح الآسِن للأعلى لأحظى بنظرة أكبر للمشهد، كانت مجموعة من الزواحف الآن تَسير بجانب الماء، راح بعضُها يتحوَّر ويتحوَّل لطيور حلقت بجواري مُبتعِدة، وبعضها اختفى خلف الأعشاب المنتشرة بجوار البحيرة.
الشمس تُشرِق وتَغرُب بسرعة مُذهِلة، ومعها تتغيَّر تضاريس اليابسة، تنتصِب جبال وتَنخفِض أخرى، تتوسَّع البُحيرات وتَختفي الأنهار، كل هذا في لمحِ البصر، ثم عمَّ الجليد سطح الأرض وانحسر بسرعة، براكين تنفث حممها، وزلالزل وتصدعات هائلة بدأت تُعيد تشكيل خارطة الأرض، ومعها بدأت القارات في الانجراف مُبتعِدة عن بعضها البعض.
كل هذا كان يَحدُث في ثوانٍ أمام نظراتي المذهولة.
الديناصورات تَبرُز من خلف الحشائش وتَنتشِر على سطح اليابسة، وطيور غريبة الشكل لها حوافر وأنياب، وحيوانات هجين لم أرَها في حياتي، وهوى نيزك ناري مُلتهِب فاحترق أغلب المكان، ورأيتُ الديناصورات تَجري وتُحلِّق هاربة، بينما انتشرت سحابة سوداء حجبت ضوء الشمس، فأصبح كل شيء مُظلمًا وهطلت أمطار غريبة الشكل، ومن بين كل هذا، رأيتُ إنسانًا عاريًا أفريقي السِّحنة، يكسُوه شعر كثيف، يَحمِل حجرًا مصقولًا ويُهروِل على أطرافِه الأربع نحو مَغارة وسط الجبال، هو إنسانٌ على سبيل المجاز والوصف التشريحي، لكنَّ ملامحه وحركته كانت للحيوانات أقرب.
فجأة اختفَت الأرقام من على سطح الشاشة، وعاد الظلام يلفُّ كل شيء، عدا صوت أزيز الشاشة المُنتظِم، وظللتُ أنا أُحدِّق في الظلام مبهورًا.
بعد فترة من الصمت سألت مصدر الصوت: «كل هذا غير حقيقي.»
– «نعم.»
– «كيف لم أنتبه لشيء مثل هذا من قبل!»
– «في الواقع، أنت انتبهت لعدة تلميحات تُخبرك بعدم واقعية حياتك عدة مرات، لكن ولكونك جزء من المنظومة نفسها، لم يُمكنك تخطِّيها لتَستوعب خارجها، عندما اقتحمْت المجال دون الذري لكونِك، لاحظت أنه العالم الكمِّي فوضوي لا تَضبطه أي قوانين، وأنَّ ملاحظتك له هي ما تُحدِّد سلوكه وانضباطه من عدمِه، يَحدُث هذا لأنَّ عالم الكوانتم عندك هو بكسل شفرة البرنامج، كلما اقتربت أكثر تشوَّشت الصورة وبانت الأخطاء.»
– «لماذا يحدث هذا؟»
– «الأخطاء تحدث!»
سألته وأنا أتلفَّت حولي: «هل أنا هنا لوحدي؟»
– «نعم.»
– «أين البقية؟»
– «لا يوجد بقية.»
– «لكن … زوجتي؟ وأصدقائي؟»
– «لا يوجد سواك، كلهم «أنت»، كلُّهم نسخ مُتعدِّدة منك، من نسج خيالك، كل الكون من نسج خيالك، أنت وضعتهم هناك حتى لا تكون وحيدًا، ولتجد من تحسُّن إليه وتتكامَل معه نفسك، لتتعلَّم كيف تتقبَّل ذواتك الأخرى المُختلفة، لكنَّك صنعت اختلافاتك ونسيت، ثم ميَّزت نفسك عن الآخرين، لكنَّك لم تفهم أنه لا يوجد آخرون، كل شيء يَختفي عندما تُدير بصرك عنه، وعندما تموت.»
سألته: «ومَن أنت؟»
– «أنا ما يُمكنك أن تُسمِّيَه شيء مُبرمَج لأجيب على أسئلتك، وقد سألتني هذه الأسئلة ملايين المرات في كل مرة يوقظك الموت فيها، الموت ليس سيئًا كما تَعتقِد، هو فقط ركلة الاستيقاظ والبدء من جديد عند انتهاء كل مرحلة فاشلة.»
– «ومن قام بصُنعك؟»
– «أنت … أنت قمت بصنعي …
ألم تفهم بعد!
أنا هو أنت، أنت ميت في ماضٍ سحيق، في عالمٍ آخر، وقبل موتك صنعتَ هذه الخوارزمية لتخلق الأرض كما تعرفها، لتَتحايل على موتك وتعيش مجدَّدًا، في خيالك، عقلك يحلم بكونٍ يَنفجِر من العدم، وحيوات أخرى، وبشر وحيوانات، ليعيش فيها خيارات جديدة، هذه الحروف المتساقطة حولك هي رموز برمجة حياتك كما عشتها، وهي ذاتها حروف شفرة حمضك النووي، هدف البرنامج أن تترقَّى وتُصبح إنسانًا، أو تظلَّ تُعيد التجربة وتتقمَّص الحيوات حتى تصلَ إلى الكمال المنشود، هذا التكرار لا ينتهي إلا بكسر الحلقة والوصول لهدف البرنامج.»
– «كيف أكون أنا من صنعتُك في حين أنك أنتَ من تَحلُم بي؟ ألا ترى في هذا بعض التناقض؟ من أوجد الآخر أولًا؟»
يصمت الصوت قليلًا، ثم يعود ويتردَّد في ذهني بصداه المُحبَّب: «لا يُوجد تناقض، أنت صنعتني وأنا أوجدتك، لا يُوجد قبل وبعد، تلك مقاييسك الزمنية، لكن الزمن الذي تعرفه وتتحدث عنه غير موجود هنا، لم يبدأ إلا مع بدء الكون كما رأيته من قبل. هنا يَمتزج الماضي الحاضر والمستقبل في دائرة آنية لا نهائية لا بداية لها أو نهاية، ولا سطوة فيها للزمن، أنا رقيبك في عالم خيالي صنعته أنت، وقد عشت كل الخيارات الممكنة، ولا تزال تعيشها، بينما عالَمُك الحقيقي الذي تُوفيتَ فيه يتجه للفناء.
أنت الله الذي تَعبُده على الأرض، صنعت من ذاتك الحقيقية ذواتًا افتراضية لتؤنس وحدتك، أنت من أرسلت الرسل والأنبياء، ومن كتبت الكتب المقدسة، أنت من فجَّرت الكون، وصنعت المادة، ونظمت تطور الحياة، خيالك خلق كل هذا.
لكنك تنسى، دومًا ما تنسى.»
صوت غريب يتصاعَد في الخلفية، صوت كلب يُزمجر في مكانٍ ما.
ليس واضحًا جدًّا، لكنَّه صوت كلب بالتأكيد.
كنت مصعوقًا.
يخامرني شعور بأن كل هذا غير حقيقي، تلك المعلومات أكبر من أن أستطيع معالجتها واستيعابها، كل ما كنتُ أعرفه وأُؤمن به يتهاوى أمام عيني في لحظات، كابوس مريع أتمنى أن أصحو منه الآن.
سألته وأنا أسبح في الفضاء الغريب: «ما الهدف من كل هذا؟»
– «هدف البرنامج ومغزى وجودك هو أن تنمو وتتطوَّر فقط، كما قلت بنفسك على لسان إحدى شخصياتك الافتراضية لذواتِكَ الأخرى «كونُوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل.» ظنُّوا أنكَ تتحدَّث عن الإله، لكنهم لم يفهموا أنك تتحدث عن نفسك، أنت أبوهم الذي في السماوات، وأنتَ مُخطئهم الذي على الأرض، أنت الخالق والمخلوق، أنت الملاك وأنت الشيطان، أنت الذكر والأنثى، الجمال والقبح، الخالد والفاني، أنت كريشنا وأوزيريس وموسى وعيسى ومحمد، وأنت ست وفرعون ويهوذا وأبو لهب، كلهم أنت.
بوسعك أن تكون أيهما، أو كلاهما.
لهذا صنعت الدين؛ لتذكر نفسك بأنه لا سبيل لنموِّك وتطوُّرك إلا بالخير، أن تُرقِّيَ نفسك، وتنشر الخير لذاتك المتعددة، حتى يصير الجميع واحدًا، وتصل مرحلة الكمال؛ حيث لا فرق بين عربي أو أعجمي، أن تصير إنسانًا حقًّا.
عندما تتعلَّم أن تُغنِّي جانبك الرُّوحي والأخلاقي، وتتعفَّف عن غرائزك الحيوانية، أن تُنمِّي الجانب الملائكي فيك وتَسمُو عن جانبك الشيطاني، فبينَ جنبَيك يَصطرِع الضدَّان، وما الملائكة والشياطين إلا أيقونات رمزية وضعتها أنت في كتبك المقدسة لذواتك الأخرى، لتذكر نفسك في حيوات أخرى بجانبي الخيرية والشرية فيك.
لكنك نسيت.
كذب شيطانُك ملاكَك وقاتَلَه، عندما كذبت بدينِك وقاتلته، وكفرت بالخير فيك عندما كفرت بنفسك، قتلت النبي صوت صلاحك، وسفكت دمك، وكذبت على نفسك.
وقد ميَّزت ذاتك الافتراضية دونًا عن سائر المخلُوقات بالعقل ليكون نبراسًا يقودك لأي الطريقين، لكي يكونَ خيارُك وبمحض إرادتك الحرة، عندها فقط سيُغلق البرنامج ويصل إلى سطر البرمجة الأخير، ويعود كونك للانكِماش عكسيًّا ويَنتهي كل شيء.
هذه هي القيامة كما تعرفها.»
سألته مشدوهًا: «وماذا سيحدث بعدها؟»
– «لا شيء، يَنتهي البرنامج وتعود للمكان الذي كنتَه قبل ميلادك.»
أحسست، فجأة، بشيء قويٍّ يَجذبني لأسفل وكأن هناك تفريغ للهواء في المكان، وأتلفَّت حولي مذعورًا وأنا أُحاول التمسُّك بشيءٍ ما وسط الظلام الحالك، ثم أنتبه مجددًا أن جسدي غير موجود وأنه رد فعل غريزي.
ضوء أخضر غريب يُشبه ضوء الشفق القطبي يتراقَص في الأفق ويخف له الظلام الخانق من حولي تدريجيًّا، ومعه تَبهت الحروف المتساقطة حولي كالشلال في طريقها للاختِفاء.
صوت زمجرة الكلب في الخلفية يَزداد وضوحًا، ورأيت الحروف المتقطعة ورقمي الصفر والواحد على سطح الشاشة الغريبة تَختفي دفعة واحدة، ثم تَظهر العلامة المتقطِّعة تومض لبداية سطر جديد.
سألت مصدر الصوت فزعًا: «ماذا يَحدث الآن؟»
رد الصوت بلهجتِه المحايدة المحبَّبة: «ستَنسى كل شيء وتبدأ من جديد.»
والآن، هل فعلت خيرًا في حياتك السابقة؟!
٧
كعادته دومًا، كان «أرئيل» الشاب يعبر مقابر «عيزر فايتسمان» ليلًا.
المقابر مَظلمة إلا من ضوء شحيح لعمود إنارة واهن في الشارع المقابل، يتلمَّس به طريقه، وقد اعتاد أن يشق طريقه عبر المقابر، ليَختصِر طريق العودة إلى الشارع الرئيسي حتى يستطيع أن يلحق برحلة الحافلة الأخيرة.
«أرئيل» يعمل في إحدى مصانع المنطقة الصناعية التي تقع خلف المقابر، اليوم تحديدًا تأخر في إنهاء مناوبته الليلية، بسبب تأخر زميله في الوردية، لذلك فهو يمشي بسرعة وعصبية حتى تعثر عدة مرات وكاد أن يَنكفئ على وجهه، يدعو الله أن لا يكون قد تأخَّر جدًّا وفاتتْه الرحلة الأخيرة، وإلا فهو هالك لا محالة، لا يَملك مالًا للتاكسي، ولا طاقة ليمشي كل هذه الكيلومترات.
وتحسَّس جيبه ليطمئن على وجود العملات المعدنية هناك.
رأى ذلك الكلب يقف في ظلام المقابر وهو يزوم بطريقه مرعبة، لم يكن ممَّن يَخشون الكلاب، لكنه انحنى والتقط حجرًا ذو ثقل مطمئن تحسبًا للأسوأ، لو قرر الكلب أن يَهجُم عليه فستكونَّن معركة حامية الوطيس.
لكن ما أثار دهشتَه أن الكلب لم يكن ينظر إليه أصلًا، فقط يقف بطريقته المتصلِّبة المتحفِّزة يرمق قبرًا مُعينًا ويزوم مزمجرًا وقد انتصبت أذناه وذيله.
(«ديفيد نوعام»، تُوفِّي في الثالث من مارس ٢٠١٣.)
ديفيد نوعام!
يبدو الاسم مألوفًا، كان قد قرأ عنه في الصحف من قبل لكن لا يذكر موضوعه بالضبط، التفت ليعود أدراجه سريعًا، عندما سمع صوت الأنين من خلفه، فتصلَّب، التفَت للقبر ببطء وقلبه يتواثب بين ضلوعه.
هو يعلم أن الموتى لا يصدرون أصواتًا، لا بدَّ أن هناك حيوان جريح في المكان.
اقترب في حذر وهو يجوب بضوء الكشاف على القبر.
هذه المرة دوى صوتُ الصرخة المكتوم بوضوح من داخل القبر، ومعها اهتزَّ الشاهد الرخامي قليلًا مع خلخلة ذرات التراب.
كان هذا أكثر من قدرته على التعقل والمنطق السليم، فأطلَقَ ساقَيهِ للريح وهو يَصرُخ بلا انقطاع.