أسئلة بسيطة وإجابات مُعقَّدة
في علم البيئة، تحظى الأسئلة البسيطة بإجاباتٍ مُعقَّدة. وأبسط الأسئلة، كما لاحظ بول كولينفوكس قبل أربعة عقود، هي الأسئلة المتعلِّقة بالأسباب أو أسئلة «لماذا». لماذا العالم لونه أخضر؟ لماذا يوجد أنواع كثيرة؟ لماذا الحيوانات الضخمة الشرسة نادرة؟ لماذا ينبغي أن نهتمَّ بالتنوع الحيوي؟ تدعونا هذه الأسئلة البسيطة على نحوٍ مخادع إلى التعمق في دراسة المبادئ الأساسية للنظرية الإيكولوجية. أما الأسئلة التي تتناول الكيفية، فتدور حول آليات عِلم البيئة، والعمليات التي تعمل الجماعات والمجتمعات والأنظمة البيئية وفقًا لها. تربط أسئلة الكيفية بين العملية والنمَط، مما يُمكننا من إدارة الأنظمة البيئية كما ينبغي، ولكن من أجل الكشف عن المبادئ العامة لعِلم البيئة وقوانينه، علينا التفكير مليًّا في الأسئلة التي تبدأ ﺑ «لماذا».
لماذا يكتسي العالم باللون الأخضر؟
كم أُشفق على المزارع الفقير الغارق في كفاحٍ مستمر ضد الآفات الحشرية والعوامل المُمرضة الفطرية التي تهدِّد محاصيله الزراعية. ولهذا يستخدم ترسانة من مبيدات الآفات الكيميائية لإبقاء هؤلاء الأعداء بعيدًا عن حقوله، ويحافظ عليها خضراء ومثمرة. وتعتمد أنظمتنا لإنتاج الغذاء على براعتنا في تطوير سموم جديدة لحماية محاصيلنا من الآفات. وإذا تخلَّينا عن حذَرنا، فإننا بذلك نُخاطر بالتعرُّض لغزوٍ من شتى أنواع الحيوانات العاشبة التي تهدِّد بسلبنا محاصيلنا مثلما يحدث في موجات غزو الجراد. ويعتمد المجال الزراعي على ملاحظة إيكولوجية بسيطة مفادها أن وجود وفرة في الموارد (أي المحاصيل) هي ميزة لصالح المُستهلكين (الحيوانات العاشبة)، ما لم يبقَ هؤلاء المُستهلكون تحت سيطرة الحيوانات المفترسة أو مبيدات الآفات.
ويعجز مثل هذا التفكير عن تفسير السبب وراء أن معظم سطح الكرة الأرضية، بداية من المناطق المدارية وصولًا إلى المناطق الشمالية المُعتدلة الباردة، يرتع في اللون الأخضر. واقتباسًا من تشارلز داروين، يستلزم هذا التنوُّع اللوني للغطاء النباتي تفسيرًا. ماذا عن الآفات التي تُهدد الجهود الزراعية للبشر؟ لماذا لا تقضي هذه الآفات على غزارة الكتلة الحيوية النباتية الموجودة على كوكب الأرض، كما تفعل بكل سهولة في حقولنا الزراعية؟ لماذا يكتسي العالم باللون الأخضر؟
جاء هذا السؤال البسيط عنوانًا لبحثٍ مُهم أُجري عام ١٩٦٠ (أجراه نيلسون هايرستون وآخرون) يخلُص إلى أن العالم يكتسي باللون الأخضر لأن أعداد الحيوانات الآكِلة للعشب والآفات الزراعية الأخرى تظلُّ مُنخفضة بسبب الحيوانات المفترسة والعوامل المُمرضة والطفيليات. فالحيوانات المُفترسة تتحكَّم في أعداد الحيوانات الآكِلة للعشب الوفيرة، مما يُخفِّف من ضغط المُستهلكين على النباتات. غير أن الحياة، وعِلم البيئة، أكثر تعقيدًا مما تراه العين للوهلة الأولى. ويعزو هذا إلى أن هذه «التأثيرات التنازُلية» يُلازمها «تأثيرات تصاعُدية»؛ حيث تتحكَّم النباتات في أعداد المُستهلكين عند المستوى الأعلى من السلسلة الغذائية. وهذا يعني أنه على الرغم من وفرة الغذاء النباتي للحيوانات العاشبة ظاهريًّا، فإن النباتات تحدُّ بطريقةٍ ما من الوصول إلى هذا الغذاء، ومن ثَم تحدُّ من أعداد الحيوانات العاشبة. والمُفترسات بدَورها تُقيَّد بأعداد فرائسها. وفي هذا السيناريو، تفرض النباتات سيطرتها بقوة. وتُعتبر نظريات التحكم التنازلي والتحكم التصاعدي على حدٍّ سواء مقبولة؛ ولذلك علينا تقييم الأدلة التي تسوقها كلتا النظريتَين لفهم السبب وراء وفرة الغطاء النباتي الأخضر في العالم.
التحكم التنازُلي
لتحديد مدى سيطرة الحيوانات المفترسة على الأنظمة الطبيعية، نحتاج ببساطة إلى انتزاع الحيوانات المُفترسة من المشهد، والانتظار لنرى ما سيحدُث. ومن المؤسِف تمامًا أن تكون هذه التجربة متواصِلة وتفتقر إلى التخطيط؛ فهي تُجرى من خلال إبادة كثيرٍ من الحيوانات المفترسة الضخمة من أحياء المناطق البيئية حول العالَم بلا تفكير. ويُمكننا، على الأقل، أن نستخلِص بعض الدروس المُستفادة من هذه القصة الحزينة.
على افتراض نموذج التحكُّم التنازُلي من أعلى الهرم الغذائي إلى أسفله، نتوقع أن تتكاثر الحيوانات العاشبة الناجية من الافتراس وتلتهِم جميع النباتات. فنجد الظباء الحمراء تجوب أراضي اسكتلندا بأعدادٍ وفيرة، في ظِل غياب الحيوانات المفترسة لها؛ نظرًا لانقراض الذئاب والوِشاق من المملكة المتحدة منذ فترةٍ طويلة. ترعى الظباء بأعدادٍ وفيرة وسط شتلات الأشجار الصغيرة وتَحُول دون تجدُّد الغابات في جميع الأماكن، باستثناء الأماكن التي يصعب الوصول إليها. وتبقى أغلب تلال المُرتفعات الاسكتلندية جرداء وخالية من الأشجار، إلا من غطاءٍ رقيق من الأعشاب أو الخلنج أو السرخس. وتعتمد الجهود المبذولة لإقامة غابات جديدة في المُرتفعات على تسييج مناطق شاسعة لمنع وصول الظباء إليها، أو الذبح المُكثف للظباء. وأسفر ذلك عن استرداد جزءٍ كبير من الأراضي الشجرية وتخضير الأراضي. وتُشير الزيادة الناتجة في الكتلة الحيوية للنباتات إثر محاكاة عملية الافتراس (في صورة ذبح متعمَّد) إلى أن الغطاء النباتي الأخضر الذي يكسو العالَم يرجع إلى التحكم التنازلي من جانب الحيوانات المفترسة في أعداد الحيوانات العاشبة.
لا تُعتبَر الجزر الشجرية الصغيرة التي نشأت عن فيضان مياه خزان لاجو جوري في فنزويلا، وخضعت للدراسة من جانب جون تيربورج، ذات مساحةٍ كبيرة بما يكفي لدعم مجموعات قادرة على البقاء من المدرَّعات والرئيسيات. فهذان النوعان من الثدييات حيوانات مفترسة للنمل القاطع للأوراق. وبما أن هذا النمل قد نجا من الافتراس، فقد تزايدت أعداده على نحوٍ هائل، مما أدَّى إلى تراجُعٍ ملحوظ في أعداد شتلات الأشجار، وانتشار سريع وغزير للنباتات المُتسلِّقة والكرمات المقاومة للنمل. وهكذا، ظلَّت الجزُر المُغطاة بالكرمات خضراء. ولم تشهد الجزُر الصغيرة أي تغيُّر في الكتلة الحيوية النباتية، وإنما حدث تحوُّل في تكوين الأنواع نحو النباتات الأقل استساغة. وأدَّى وجود هذه النباتات لاحقًا إلى الحدِّ من قدرة النمل على الحفاظ على مجموعاتٍ كبيرة، وحتى في ظِلِّ غياب الحيوانات المفترسة، مما يُشير ضمنيًّا إلى التأثيرات التصاعُدية من أسفل الهرم الغذائي إلى أعلاه؛ حيث تسيطر النباتات على أعداد الحيوانات العاشبة. وتُشير هذه النتيجة إلى أن كلًّا من التأثيرات التنازُلية والتصاعدية تلعب دورًا في هيكلة المُجتمعات البيئية.
تتأثر أهمية التحكُّم التنازُلي بالعوامل التي تؤثر على كفاءة الحيوانات المفترسة، ومن ضمنها المناخ. فعلى جزيرة رويال في بحيرة سوبيريور، تكوِّن الذئاب قطعانًا أكبر حجمًا في فصول الشتاء القارسة البرودة بصفةٍ خاصة. وهذا يزيد من نجاحها في صيد حيوانات الموظ. ويُتيح تراجُع أعداد الموظ الذي يرعى وسط شتلات التنُّوب البلسمي (أبيس بلسميا) نموًّا سريعًا للشتلات، كما يتَّضح من الحلقات الأعرض لجذوع الأشجار. أما في فصول الشتاء الأكثر اعتدالًا، تكون القطعان أصغر حجمًا وتبحث الذئاب عن فرائس بديلة، وتُعاني شتلات شجرة التنُّوب من بطء معدلات النموِّ وارتفاع معدلات الذبول والهلاك، مما يُتيح الانتشار للأنواع النباتية الأخرى. ويُمكن للتقلُّبات المناخية أن تُغير الأنظمة البيئية من خلال تشكيل سلوك الحيوانات المُفترسة، وهو التغيُّر الذي يمتدُّ إلى المستويات الأدنى من السلسلة ليؤثر بذلك على المجتمعات النباتية.
الصحاري الخضراء
تُسلح نباتات أخرى أوراقها وسيقانها بمجموعةٍ من المواد الكيميائية السامة. فالنكهات اللاذعة والحرِّيفة الموجودة داخل مطابخنا مُستخلَصة من مواد كيميائية نباتية تُعد، في الأساس، مواد سامَّة للحيوانات العاشبة التي يُحتمَل أن تتناولها. ويزخر التاريخ البشري والأدب بإشارات إلى النباتات السامة. فنجد سقراط قد تجرَّع مُستخلصًا سامًّا من نبات الشوكران (كونيوم ماكلاديوم) الغني بقلويدات البيبريدين المُميتة. وسمَّم جنود ماكبث الغزاة الدنماركيين بنبيذٍ مصنوع من الثمار الحلوة المذاق لعنب الثعلب السام (أتروبا بلادونا). كذلك تحتوي حبوب الخروع على مادة الرايسين المُميتة، حتى الكميات الصغيرة منها، التي استخدمتها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي سلاحًا.
تُعد السموم النباتية مركبات أيضية ثانوية؛ أي مركبات لا تدخل في نمو النبات أو تطوره أو تكاثره، وإنما تحمي النباتات من الحيوانات العاشبة والعدوى الميكروبية بدلًا من ذلك. وتُفرز أشجار الأوكاليبتوس الأسترالية مركبات المونوتيربين التي تُعتبر رادعًا قويًّا للأبوسوم الفرشائي الذيل، وتحتوي شجيرات الكريوزوت في غرب الولايات المتحدة على راتنجات الفينول التي تحد من استهلاك الجيروذ الصحراوي لها، وتستخدم أشجار البتولا في الغابات الشمالية بأمريكا الشمالية حمض البيتولينيك لردع أرانب حذاء الثلج البرية. تستعين النباتات أيضًا بمجموعة من المركبات شبه القلوية والفينولات والتانينات لحماية أوراقها من الحشرات العاشبة. وفي حين أن بعض المواد الكيميائية الدفاعية الثانوية سامة جدًّا، فإن البعض الآخَر يجعل الأنسجة النباتية غير مُستساغة أو كريهة فحسب، وتتعلَّم الحيوانات العاشبة تجنُّبها. تُقلِّل المركبات السامة أعداد الحيوانات العاشبة، إلا أنها مُكلفة من حيث الموارد اللازمة لإنتاجها. وعادةً ما تنمو النباتات التي تحتوي على تركيزات عالية من المركبات الثانوية على نحوٍ أبطأ من النباتات المُفتقِرة إلى مثل هذه الوسائل الدفاعية الكيميائية.
وبذا، تُقلِّل النباتات على نحوٍ ملحوظ ما تتناوله الحيوانات العاشبة، أو على الأقل تقلِّل معدَّل استهلاكها للنباتات، سواء تحصنت بوسائل دفاعية طبيعية أم كيميائية لتحقيق ذلك. وما يبدو للحيوانات العاشبة المُحتمَلة أنه منظر طبيعي غني هو في الحقيقة أقرب إلى صحراء خضراء. تتمتَّع النباتات أيضًا بقيمةٍ غذائية منخفضة مقارنةً بما تحتاج إليه الحيوانات. فالأنسجة الحيوانية غنية بالنيتروجين بنحو عشرة أضعاف ما تحتويه الأنسجة النباتية؛ ولذلك يجب على الحيوانات العاشبة أن تحصُل على النيتروجين من النباتات التي تُعاني من نقصٍ نسبي في المغذيات التي تحتاج إليها. ويجب أن تستهلك الحيوانات العاشبة مواد نباتية أكثر بكثير مما هو ضروري لإمدادها بالطاقة وحدَها من أجل تأمين احتياجاتها من النيتروجين. وهذا الطلَب الكبير على الكتلة الحيوية النباتية يعني ضمنًا أن الحيوانات العاشبة ستُحول العالَم من حولنا إلى اللون البُني سريعًا، ولكن من الواضح أن الموقف ليس هكذا. عوضًا عن ذلك، فإن الوقت والطاقة المُكرَّسَين لاستهلاك الأنسجة النباتية يجعل الحيوانات العاشبة عُرضةً للحيوانات المُفترسة، ويُتيح وقتًا أقلَّ للتكاثُر. وكِلا العاملَين يحافظ على انخفاض أعداد الحيوانات العاشبة.
وإذا كانت هذه النظرية صحيحة، فإن زيادة محتوى المواد المُغذية للنباتات عن طريق إضافة الأسمدة يدعم الكتلة الحيوية العاشبة الموجودة في المستوى الغذائي الأعلى. وقد أدَّت إضافة الأسمدة إلى الأراضي الجرداء في هولندا بالفعل إلى زيادة عدد خنافس الخلنج، مما قلَّل هيمنة نبات الخلنج وسمح لحشيشة السبخات الأرجوانية بالانتشار عَبْر المجتمع النباتي. وكما هو الحال مع التحكُّم التنازُلي، فإن هذه النتيجة لا تُقلل كثيرًا من إجمالي الكتلة الحيوية النباتية، وإنما تُحوِّل بنية مجتمع النباتات نحو أنواع أقل استساغة.
الكائنات المُتخصِّصة
تفسر السموم النباتية سبب عدم قدرة معظم الحيوانات العاشبة على الْتِهام معظم النباتات، ولكن لماذا لا تستهلك الحيوانات العاشبة المتخصِّصة جميع مصادرها الغذائية؟ بالنسبة إلى الحيوانات العاشبة الفقارية المتخصصة، تفرض السموم حدودًا قصوى لاستهلاكها من الغذاء. ولذا، يجب على هذه الحيوانات أن تتجنَّب تشبُّع أجهزة نزع السمية لديها، وهو ما يحدث قبل أن تتقيد معدلات الهضم بآليات معالجة المواد الغذائية. فالكوالا، على سبيل المثال، تأكُل كميةً من أوراق الشجر أقل بكثيرٍ إذا اضطرت إلى التغذية على أنواع الأوكالبتوس التي تتمتَّع بمستوى أفضل من الحماية ضدها.
إذا كانت غالبية الأنواع النباتية سامة أو غير قابلة للهضم لجميع الكائنات باستثناء الحيوانات العاشبة المُتخصصة، فكيف يكون لدى البشر هذا القدْر من العادات الغذائية المتنوعة؟ الحقيقة أن كثيرًا من النباتات التي نأكلها سامة «فعلًا»، وبعضها شديد السُّمية في هيئته البرية الأصلية، ولكن على مدار آلاف السنين من تربية النباتات وقَعَ اختيارنا على أكثر الأصناف المُستساغة من حيث المذاق. حتى الخضراوات المألوفة لنا، بما في ذلك البطاطس والطماطم من الفصيلة الباذنجانية، تكون شديدة السُّمية في أشكالها البرية الأصلية. على النقيض من ذلك، يتَّسِم أقرب أقربائنا من الكائنات الحية بالانتقائية الشديدة في اختيار أغذيتهم النباتية. فالغوريلا الجبلية تأكل نسبةً صغيرة جدًّا من إجمالي عدد النباتات الموجودة في الغابة، فيما تتجنَّب تمامًا بعض النباتات الأكثر وفرة.
إذَن، لماذا يكتسي العالَم باللون الأخضر؟ يرجع اخضرار سطح الكرة الأرضية إلى مجموعة من العمليات التصاعُدية والتنازُلية، بالإضافة إلى المناخ وعوامل بيئية أخرى، تتحكَّم جميعها تحكُّمًا جماعيًّا في معدلات الحيوانات العاشبة. ويتجلى الدور المزدوج لهذه العمليات في الغابات الاستوائية؛ حيث تحدُّ الحيوانات المفترسة من الأعداد الوفيرة للحشرات العاشبة التي تتغذى على النباتات السريعة النمو في المساحات التي أُزيلت من الغابات، بينما في أعماق الغابات السحيقة المُظلمة، تُهيمن العمليات التصاعدية على الأجواء؛ نظرًا لأن النباتات البطيئة النمو تستثمر مواردها في الدفاعات الورقية التي تحدُّ من نشاط الحيوانات العاشبة وأعدادها. وبصفةٍ عامة، قد تكون العمليات التنازلية أقل أهمية من العمليات التصاعدية في الحفاظ على عالَمٍ أخضر؛ وهذا فقط لأنها لا تُحدد الكتلة الحيوية للنباتات فحسب، بل وتكوين النباتات أيضًا. وتُعَد العمليات التصاعدية التفسير الأكثر قبولًا وملاءمة على نطاقٍ واسع لعدَم قيام الحيوانات العاشِبة بتدمير الغطاء النباتي كله، ما قد يدفعنا إلى تعديل مقولة كوليردج «الماء، الماء في كل مكان، ولا قطرة واحدة للشرب» لتتماشى مع مملكة الأرض لتُصبح: «الطعام، الطعام في كل مكان، ولا لقمة واحدة للأكل.»
لماذا يُوجَد هذا العدد الكبير من الأنواع؟
سجَّل العلماء في لامبير هيلز، وهي محمية غابات تقع شمال خط الاستواء مباشرة في إقليم ساراواك، بجزيرة بورنيو الماليزية، ١٠٠٨ أنواع من الأشجار في قطعة أرضٍ لا تتجاوز مساحتها ٥٠ هكتارًا. وبالمقارنة، نجد أن جميع النباتات الشجرية في الولايات المتحدة وكندا تضمُّ نحو ٧٠٠ نوع فقط. ونجد النمط نفسه من الثراء الاستوائي المرتفع على نحو استثنائي في كثيرٍ من المجموعات الحيوانية، بما في ذلك الزواحف والأسماك والطيور والثدييات واللافقاريات. وتتراجع أعداد الأنواع مع الاتجاه نحو المناطق المعتدلة، وتتراجع أكثر في المناطق الشمالية. إذَن، لماذا يُوجَد هذا العدد الكبير من الأنواع الاستوائية؟ ولماذا يُوجَد عدد قليل نسبيًّا من الأنواع خارج المنطقة الاستوائية؟
يأخذنا شرح المقصد من أنماط توزيع الأنواع على مستوى العالم إلى ما هو أبعد من نطاق علم البيئة إلى الجغرافيا الحيوية والتطوُّر. ومن المُرجح أن يكون ثمَّة شيء يتعلق بالمناخ، وعدم القُدرة على التنبؤ بالمناخ، يؤثر على نطاقات زمنية تطورية يتكشف خلالها الانتواع (نشوء الأنواع) والانقراض. ويستنتج بعض هذه التفسيرات حدوث اضطراباتٍ مناخية على مدى فترات زمنية جيولوجية تزيد من معدلات الانقراض وتحدُّ من احتمالات نشوء أنواع جديدة. وتوفر درجات الحرارة الأكثر دفئًا والتغيُّرات المناخية الأصغر نطاقًا في المناطق الاستوائية أساسًا لتفسير شيِّق للثراء الاستوائي من منظور تطوري بيئي. فقد ذهب دان جانزن إلى أن الممرَّات الجبلية العالية تُمثل عوائق لا يمكن التغلُّب عليها أمام الكائنات الاستوائية التي لا تتكيَّف مع درجات الحرارة المُنخفضة. على الجانب الآخَر، تتعرَّض الأنواع عند دوائر العرض الأعلى سنويًّا إلى درجات حرارة باردة وتتمتَّع بقدرة فسيولوجية أكبر على تحمُّل درجات الحرارة، ومن ثَم تُواجه صعوبة أقلَّ في عبور الممرَّات الجبلية. وقد استخدم جانزن هذا الاستنتاج ليُجادل بأن الأنواع الاستوائية تتمتَّع بنطاقاتٍ أصغر محكومة بتحمُّلها الفسيولوجي لدرجات الحرارة، مما يخلق فرصًا للانتواع من خلال عزل وتباعد الجماعات.
تركز تفسيرات عِلم البيئة لثراء الأنواع على الآليات التي تسمح للأنواع بالتعايش المشترك معًا، كما هو الحال على الأرجح في المناطق الشديدة التنوُّع. ويُعيدنا هذا إلى السؤال عن كيف يُمكن للغابات الاستوائية أن تُعيل أكثر من ألف نوع من الأشجار في مساحة ٥٠ هكتارًا. هذا لا يعني أن الموائل المعتدلة فقيرة في الأنواع على نحوٍ متماثِل. فقد تضمُّ الأراضي العشبية الجيرية الأوروبية أكثر من أربعين نوعًا من الأعشاب والحشائش النجيلية في نطاق مترٍ مربع واحد من المروج. والسؤال ذو الصلة بعلم البيئة هنا هو كيف يمكن لكثير من الأنواع (سواء كانت أشجار الغابات الاستوائية أم أعشاب المروج المعتدلة) أن تتعايش معًا بالوضع في الاعتبار أن مبدأ الإقصاء التنافسي الذي وضعه جوس يحُول دون حدوث ذلك.
ثمَّة إجابة لهذه المعضلة هي أن الأنواع تتجنَّب المنافسة من خلال التخصص، بنفس الطريقة التي كانت الطيور الهازجة — التي راقبَها ماك آرثر — تبحث عن الحشرات في أجزاء مختلفة من الشجرة نفسها. ويتم تجنُّب المنافسة من خلال التخصُّص عبر التدرُّجات المختلفة على مستوى البيئة والموارد. ويستطيع موئل واحد أن يُعيل المزيد من الأنواع المتخصصة، لكلٍّ منها مُتطلبات محدودة ومتداخلة إلى أدنى حد، مقارنةً بالأنواع غير المُتخصصة ذات المكامن البيئية المتداخلة على نطاق واسع.
يُثير التعايش المشترك عَبْر التخصُّص التساؤل حول ما إذا كان هناك أعداد كافية من المكامن البيئية لإعالة الأنواع العديدة الموجودة في مكانٍ واحد. إجمالًا، تتمتَّع الأنواع بمجموعةٍ مذهلة من السمات، تُشكل الأساس للنموِّ والبقاء والتكاثر. على سبيل المثال، تختلف أنواع الأشجار في إحدى الغابات في الاستجابات الخاصَّة بالنمو والبقاء لظروف الإضاءة، وتوافر مياه التربة والمُغذِّيات، وضغوط الحيوانات العاشبة، ووقائع الاضطراب. كذلك تتمتَّع الأشجار باستراتيجيات تجدُّد مُختلفة؛ فبعضها يُنتج عددًا قليلًا من البذور الكبيرة، والبعض الآخَر يُفضل إنتاج أعداد كبيرة من البذور الصغيرة. والمقايضات بين الاستراتيجيات والسِّمات المرتبطة بها تحول دون هيمنة نوعٍ واحد على جميع الظروف البيئية. فالمُقايضات المُتعدِّدة تخلق تعدُّدًا في الاستراتيجيات بين الأنواع، بينما يخلق التباين البيئي والأحيائي مجموعة من الفرص يُمكن من خلالها تطبيق هذه الاستراتيجيات. فسقوط شجرة يتسبب في حدوث فجوةٍ في المظلة الغابية، مما يؤدي إلى تغير بيئات الإضاءة والتربة، وعُمق نثار الأوراق المُتساقطة، واحتجاز الأمطار وتسرُّبها، والمناخ المحلي (المناخ الموضعي المحدود)، وأحياء المنطقة البيئية، من المظلة إلى أرضية الغابة، ومن مركز الفجوة إلى أطرافها. لذا تضمُّ فجوة المظلة الغابية كثيرًا من الموائل الدقيقة، يختلف كلٌّ منها اختلافًا طفيفًا وفقًا للاختلاف في ظروف الضوء والتربة وأحياء المنطقة البيئية. تتشكَّل شتلات العديد من أنواع الأشجار المُختلفة مبدئيًّا في هذه الموائل المحلية الصغيرة الكائنة في الفجوة الغابية بمحض الصدفة، ولكن سُرعان ما تُفرَز وتُصنف من خلال تبايُن أداء النمو بناءً على مدى تناسُب سماتها مع الضوء المتوافر في المكان وجودة التربة والظروف المناخية الموضعية المحدودة والتفاعُلات التنافُسية. إن تنوُّع الموائل المحلية الصغيرة يُمهِّد الطريق لفرز الأنواع وفقًا لسِماتها التكيفية ومقايضاتها.
في ضوء التدرُّجات البيئية والأحيائية العديدة وإمكانيات الدمج، هناك عددٌ كبير من المكامن البيئية المُحتمَلة، ومن ثَم هناك فرص للتعايش المشترك بين كثير من الأنواع المتخصِّصة. من الناحية العملية، غالبًا ما يكون من الصعب الربط بصورةٍ مباشرة بين توزيع أشجار الغابات، استنادًا إلى مجموعات سماتها، وبين هذا التعقيد البيئي الصغير والمُحدد للغاية. وقد تعكس الظروف البيئية المحلية أداء أنواع الأشجار واحتمال بقائها على قيد الحياة، ولكن بقليلٍ من الدقة نسبيًّا. ومن المُحتمل أن يكون تفاوُت المكامن البيئية الصغيرة والمُحددة للغاية مجرد تفسيرٍ جزئي لكثرة أعداد الأنواع المتعايشة معًا.
مبدأ الاعتماد على الكثافة
من الافتراضات الأساسية لنظرية جانزن-كونيل أن الحيوانات العاشبة (والعوامل المُمرضة) الاستوائية هي كائنات مُتخصصة، بينما تكون أقل تخصُّصًا في المجتمعات المعتدلة الحرارة. وإذا هيمنت الحيوانات العاشبة غير المُتخصصة على منطقةٍ ما، فلن يُقدم انتشار البذور والكثافة المنخفضة أي ميزة؛ نظرًا لأن الشتلات ستكون عُرضةً للهجوم من أي حيوان عاشب غير مُتخصص موجود وسط الأشجار المجاورة. وتُشير دراسات دقيقة أُجريت على الحيوانات العاشبة والنباتات المُضيفة لها في الغابات الاستوائية النائية في غينيا الجديدة إلى أن غالبية الحشرات الآكِلة لأوراق الشجر ليست مُتخصِّصة بصورة بحتة، ولكنها تتغذى على كثير من الأنواع المُضيفة ذات الصلة من نفس الجنس أو الفصيلة. يُضعِف هذا التخصص الفضفاض تأثيرات الاعتماد على الكثافة، لكنه لا يُقوِّضها تمامًا. واكتشفت دراسات أخرى توثق درجة تخصُّص الكائن المُضيف بين الحشرات الآكِلة للبذور في أمريكا الوسطى درجة عالية على نحوٍ ملحوظ من التخصُّصية؛ حيث سُجل ٨٠ في المائة من الحشرات من ثمار نوع نباتي واحد فقط، وأكثر من نصف عدد أنواع الأشجار لم تتعرَّض للهجوم إلا من نوعَين فقط من الحشرات. وفي حين أنه من غير المُرجَّح أن ينطبق نموذج جانزن-كونيل على جميع الظروف والمواقع الجغرافية، فإنه يُقدِّم على الأقل تفسيرًا جزئيًّا للتنوع المحلي الكبير للأشجار الاستوائية.
وتحظى كلٌّ من عمليات التخصُّص في المكمن البيئي والعمليات المعتمدة على الكثافة بقدْرٍ من الدعم كتفسيرات للتعايش المشترك بين الأنواع. فبعضها لا ينفي البعض الآخَر، بل ومن المرجَّح أن تعمل جنبًا إلى جنبٍ مع عوامل محركة أخرى للثراء الشديد للأنواع مثل عمليات الطاقة والإنتاجية أو الاضطرابات. وكما هو الحال مع كثيرٍ من الأمور في علم البيئة، يوجد عدد وافر من الآليات البيئية والتطورية ذات تأثير.
ما فائدة التنوع الحيوي؟
في أوائل عام ٢٠١٩، نشرت المنصة الحكومية الدولية للسياسات العلمية في مجال التنوع الحيوي وخدمات الأنظمة البيئية (آي بي بي إي إس) تقريرًا يشجب الخسائر الكبيرة والمستمرة في الأنواع في شتَّى أنحاء العالم، والموضَّحة من خلال انخفاض أعداد الجماعات وفقدان جماعاتٍ كاملة من كثيرٍ من المناطق، وفي أسوأ الأحوال انقراض أنواع على مستوى العالم. وقدَّر التقرير أن معدلات الانقراض الحالية أعلى ثلاث مرات مما يمكن توقُّعه في غياب البشر. غير أن هناك أكثر من ٦٠ ألف نوع من الأشجار حول العالم، و٣٩١ ألف نبات وعائي. ويبلغ عدد أنواع الحشرات المُوثقة ٩٢٥ ألف نوع، على الرغم من أن التقديرات تُشير إلى أن العدد الإجمالي يبلغ نحو خمسة ملايين. ومن المُحتمَل أن يكون عدد الفطريات أيضًا أكثر من خمسة ملايين. هل نحن بحاجة إلى هذا العدد الكبير من الأنواع؟ هل هناك أي سببٍ إيكولوجي لتبرير المخاوف بشأن تراجُع التنوُّع الحيوي وثراء الحياة وتنوُّعها؟
الخطوة الأولى للإجابة عن هذا السؤال هي فهم ما تفعله الأنواع. إن وظائف النظام الإيكولوجي هي تأثيرات أحياء المنطقة البيئية على الخصائص البيولوجية والفيزيائية والكيميائية للبيئة، بما في ذلك تدفُّقات الطاقة والمُغذِّيات والمواد عَبْر البيئات. ويرتبط بهذا خدمات النظام الإيكولوجي، والعمليات الطبيعية التي تُساهم في رفاهية الإنسان، من خلال، مثلًا، إنتاج الغذاء عن طريق التلقيح، وتدوير المُغذيات في التربة، وتقليل مخاطر الفيضانات عن طريق منع وصول مياه الأمطار إلى التُّربة وإبطاء تدفُّقات المياه، والتخفيف من آثار تغيُّر المناخ عن طريق النباتات التي تمتصُّ ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، وتحسين الصحة العضوية والنفسية من خلال توفير بيئات مُمتعة للاستجمام والاسترخاء. تنشأ وظائف النظام الإيكولوجي وخدماته من خلال التفاعلات بين الأنواع وبيئتها. فإذا كان التنوُّع الحيوي يُحدِّد وظائف النظام الإيكولوجي وخدماته، فإن إبراز هذه العلاقة، وربط التنوع الحيوي بفوائد ملموسة للبشرية، يُقدِّم حجة قوية للحفاظ على التنوع الحيوي.
وفي ضوء التعقيد الذي تتَّسِم به المجتمعات الطبيعية، والعدد الهائل من الأنواع المُنتمية لهذه المجتمعات، يوزع علماء البيئة الأنواع ذات السمات والاستراتيجيات المُماثلة على مجموعات وظيفية. فمن النباتات، تشتمل المجموعات الوظيفية على النباتات المُثبتة للنيتروجين، أو الأعشاب الحولية، أو الشجيرات الدائمة الخضرة. وفي الأنظمة البيئية للتندرا، يمكن توزيع معظم النباتات الوعائية على أربع مجموعات وظيفية، هي: الشجيرات الدائمة الخضرة، والشجيرات النفضية (المتساقطة الأوراق)، والنباتات الشبيهة بالأعشاب (الحشائش ونباتات السُّعدِيَّة)، والنباتات العشبية المزهرة ذات الأوراق العريضة. ويُوجَد في الأنظمة البيئية الاستوائية المزيد من المجموعات الوظيفية النباتية الإضافية، بما في ذلك الأشجار السريعة النمو الأولية التعاقُب، وأشجار الظُّلَّة التنافُسية، والنباتات المُتسلقة. وتشمل المجموعات الوظيفية للحيوانات العاشبة، آكِلات العشب المرتحلة (وتشمل العديد من ذوات الحوافر)، وآكِلات العشب غير المرتحِلة (الحشرات الآكِلة لأوراق الشجر)، وآكِلات الأوراق (الأيائل أو الزرافات)، وآكِلات الأخشاب (النمل الأبيض والفيلة)، وآكِلات الجذور (الحشرات والثدييات)، ومجموعة مُتنوِّعة من الحشرات الحفارة للجذوع، أو المُنقبة عن الأوراق، أو المُسببة للقُرح، أو الماصة للعصارة. وتساهم كلٌّ من هذه المجموعات في وظائف النظام الإيكولوجي بطُرق مختلفة.
فتساهم الحيوانات العاشبة والمحللات في تدوير المواد المُغذية، بينما تعمل الملقحات وناثرات البذور على تعزيز تكاثر النباتات.
التكرار الوظيفي
لاحظ تشارلز داروين أن مزيجًا من أنواع الحشائش الموجودة في المروج يُنتج أعشابًا أكثر مما يُنتجها نوع واحد ينمو بمُفرده. ويسمح التبايُن في أعماق التجذُّر بين الأنواع باستغلال نطاقٍ أكبر من أعماق التربة. ويعمل هذا التكامُل على مستوى المكمن البيئي — حيث تستغل الأنواع المختلفة أجزاءً مختلفة من الموارد الموجودة في بيئة مُعقَّدة — على تحسين كفاءة اكتساب الموارد عَبْر المجموعة الوظيفية، ومن ثم تعزيز أداء النظام الإيكولوجي. وعلى الرغم من أوجُه التكامل على مستوى المكمن البيئي، فإن الأنواع الموجودة ضمن المجموعات الوظيفية تتداخل في مساهماتها الوظيفية. وهكذا يمكن أن يحل أحد الأنواع محل نوع آخَر في المجموعة نفسها، على الأقل بدرجةٍ مُعيَّنة. وتؤيد نظرية التكامل على مستوى المكمن البيئي الحاجة إلى ثراء الأنواع لتعزيز أداء النظام الإيكولوجي، في حين تدل قابلية استبدال الأنواع أو تكرارها على العكس. نحن بحاجة إلى معرفة كيفية تأثير التنوع الحيوي على وظائف النظام الإيكولوجي في سياق نماذج التكامل والتكرار. ثمَّة مقاربة أولى تفترض أن إمدادات الوظائف الواردة للنظام البيئي تتحسَّن مع كل نوع جديد يُضاف إلى البيئة؛ إذ يساهم كلٌّ منها بطريقته الفريدة. في الواقع، يعني التكرار بين الأنواع أنه في حين أن الأداء الوظيفي يتحسَّن نظرًا لأن كل نوع مُضاف يقدِّم عنصر تكامل للمنظومة كليًّا، فإن الفوائد الهامشية تبدأ في التراجُع مع زيادة التكرارات بين الأنواع حتى لا تعود هناك أي فوائد أخرى مُقدمة. ولو أننا عكسنا هذه العملية، فإن التكرار بين الأنواع في مجتمعٍ غنيٍّ بالأنواع يَعني ضمنيًّا أننا قادرون، في البداية على الأقل، على خسارة الأنواع دون تكبُّد خسارة كبيرة في الوظائف.
يوفِّر التكرار داخل المجموعات الوظيفية التأمين. فيمكن تعويض فقدان بعض الأنواع من خلال زيادة أنشطة الأنواع الأخرى في المجموعة الوظيفية نفسها. ووجود عددٍ كبير من الأنواع يزيد أيضًا من احتمالية أن يكون بعضها على الأقل قادرًا على تحمُّل أي اضطرابات قد تُصيب المجتمع. ومن المُرجَّح أيضًا أن يشمل العدد الأكبر من الأنواع، بمحض الصدفة فحسب، أنواعًا مُنتجة بشكلٍ خاص، أو مرِنة بشكل خاص، ستُواصل الاضطلاع بوظائف النظام الإيكولوجي في مواجهة الاضطرابات الخارجية. ومن الأمور التي تحظى بأهمية إيكولوجية أكبر أن الأنواع التي تستخدِم المورد نفسه من المُحتمَل أن تختلف في الظروف البيئية التي تخرج في ظلها أفضل أداء لها، مما يسهل عملية التكامل في البيئات الموسمية أو المتغيرة.
تركز معظم التجارب على الإنتاجية وزيادة الكتلة الحيوية. ونحن نفترض أن أداء الكثير من عمليات النظام الإيكولوجي الأخرى يتحسَّن من خلال زيادة أعداد الأنواع. فعلى سبيل المثال، تستفيد عملية إعادة تدوير المواد المُغذية من اضطلاع الأنواع المختلفة بأدوار وظيفية مختلفة، من خلال تفتيت الحطام الخشبي الكبير، وتمزيق أوراق الشجر، ومضغ اللجنين والسليلوز، وإذابة الفتات النباتية كيميائيًّا وهضمها، والاضطراب الأحيائي للتربة الذي يُعيد توزيع المواد العضوية. والكائنات الماضغة والقاطعة والهاضمة التي تُعيد توزيع المواد هي مجموعات وظيفية، يُمثل كلٌّ منها العديد من الأنواع. ومع ذلك، يبدو في كل حالة أن هناك أنواعًا أكثر بكثيرٍ مما هو ضروري لتوفير خدمة عملية وفعَّالة تمامًا في تدوير المواد المُغذية.
التكرار يُولِّد الاستقرار
يأتي التكرار الوظيفي الضخم والجوهري بالنسبة إلى الجنس البشري بمنزلة شكلٍ من أشكال الإغاثة في ضوء ما نُخلِّفه من تأثيراتٍ على التنوع الحيوي. غير أن مستودع الأنواع ليس ثابتًا على الإطلاق. فالأنواع تُحقِّق نجاحًا نسبيًّا في ضوء الظروف المُتغيرة والتذبذب المستمر للموارد والمواسم والاضطرابات. وفي داخل أي مجموعة وظيفية، توفر أعداد كبيرة من الأنواع حاجزًا وقائيًّا أو تأمينًا ضد التقلبات البيئية التي تؤثر على بعض هذه الأنواع، ولكن من غير المرجَّح أن تؤثر على جميع الأنواع. وهكذا نتوقَّع أن يؤدي التكرار إلى تحقيق الاستقرار.
إن وجود مجموعة مُتنوعة من الأنواع يُتيح للمجتمع أن يزدهر حتى عند تعرُّضه لظروف واضطرابات بيئية مُتغيِّرة. فالمجتمعات المتنوِّعة أكثر قُدرة على مقاومة الأنواع الغازية؛ إذ تُجاهد الأنواع الغازية المُحتملة من أجل الاستقرار في المجتمعات الثرية بالأنواع؛ حيث تُقسم الموارد المتاحة بدقةٍ وتستولي عليها الأنواع المحلية. يوفر النطاق الأوسع للسمات في المجتمعات الثرية بالأنواع قدرةً على التكيُّف مع الضغوط البيئية على مستوى المجتمع. فمحفظة الأنواع تُشبه محفظة الاستثمارات المالية التي تنشر المخاطر عَبْر مجموعة متنوعة من أنواع الاستثمارات وآلياتها. وهكذا، يوفِّر التنوع مرونة ضد التغيير.
الاستقرار في الأنظمة المُعقَّدة
غير أنه يتبيَّن أن القنوات الصغيرة والأنواع الثانوية التي ربما نحرص على تجاهلها تلعب دورًا مهمًّا في استقرار الشبكة الغذائية. فالأنواع العديدة ذات التفاعلات الضعيفة تتصدى على نحوٍ جماعي إلى التقلُّبات في جماعات الأنواع السائدة. وبدون هذه الأنواع الصغيرة، ستكون الشبكة الغذائية البسيطة عُرضة لتقلُّبات وتذبذبات شديدة شبيهة بتلك التي تحدث مع حيوانات اللاموس في منطقة التندرا بالقطب الشمالي. فمن خلال الاستئثار بحصةٍ من الموارد، تعمل الأطراف الفاعلة الضعيفة على تخفيف حِدَّة التقلبات في توافُر الموارد أو استهلاكها، ومن ثَم استقرار الشبكة الغذائية والمجتمع كليًّا.
وفي ذلك درس مُهم لنا. لا يكفي أن يقتصر اهتمامنا على الأنواع السائدة عند إدارة الموارد الطبيعية والأنظمة البيئية. بل علينا أيضًا أن ننتبِه إلى فقدان الأنواع الأكثر ندرةً والأقل جذبًا للانتباه. فهذه الأنواع، مجتمعة، تلعب أدوارًا مهمة في حماية الأنظمة البيئية من الاضطرابات الخارجية والتقلبات الداخلية، بينما تُساهم عَبْر التكاملات والتكرارات في استمرار توفير وظائف وخدمات الأنظمة البيئية التي تعتمِد عليها البشرية.
كثيرًا ما يُسأل علماء البيئة عن مقدار التنوُّع الحيوي الذي تحتاج إليه البشرية بالفعل. وهذا السؤال ينطوي على منظورٍ نفعي موجَّه نحو الإنسان فحسب بخصوص الطبيعة، وهو ما سيعترض عليه معظم علماء البيئة، وربما معظم الناس أيضًا. وإذا وضعنا هذه القضية جانبًا للحظة، فالإجابة هي أنه لا تُوجَد إجابة محدَّدة، لكن العلوم الإيكولوجية تُشير إلى أنه كلما زاد التنوُّع الحيوي، كان ذلك أفضل. ولا شك أن الثراء الحيوي لكوكب الأرض له قيمة تتجاوز وظيفته في تحقيق رفاهية الإنسان. ولذلك، ينبغي أن تستجيب السياسات والإجراءات البيئية أيضًا لأخلاقيات الحفاظ على البيئة، وليس فقط لتحقيق المنافع الوظيفية.