عطفة «اﻟ …» منزل رقم ٢٢
دخلت غرفة عملي بوزارة «اﻟ …» وجلست أمام مكتبي، وأمسكت بجريدة وادي النيل أقرأ شيئًا عن السياسة وعن الأخبار، وما لبثت في مكاني دقيقتين إلا وحانت مني التفاتة للباب فرأيت زميلي أمين علي يبتدرني السلام بقوله: صباح الخير يا أبو علي.
فألقيت الجريدة على المكتب ورددت السلام بأحسن منه، ثم تثاءب زميلي فتثاءبت وقلت: جازاك الله يا أمين بالموت على ما بدر منك أمس؛ لقد سقتني إلى بؤرة كدت أن أموت فيها.
– أيُّنا المخطئ؟
– الله أعلم.
– دعنا من العتاب. تلك ليلة لا يسمح الزمان بمثلها إلا في السنة مرة، ولولا تهافتك على الخمر وإكثارك من معاقرتها؛ لما سألت الله أن يجازيني بالموت على هذا الجميل الذي أسديته إليك.
– ولكني ما زالت أشكو ألمًا في الرأس، وتثاقلًا في الجسد، ويا حبذا لو كان اليوم يوم الجمعة!
– وماذا كنت تفعل؟
– كنت أتناول مسهلًا، وألزم سريري طول يومي.
– تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
ثم جلس أمين أمامي، وأسند رأسه بيديه، ونام أو استسلم للنوم، فنظرت إليه، وظهرت لي على وجهه صورة شنيعة؛ صورة المدمن الذي لا يفارق الحانات والمواخير وبيوت الفسق والدعارة إلا عند الفجر، فقلت في نفسي إن هذه الصورة المرتسمة على وجهه ما زالت مرتسمة على وجهي أيضًا؛ إنه يحب الخمر وأنا لا أبغضها، هو زير نساء وأنا أبحث عن المرأة في كل مكان؛ فلا فرق بيني وبينه إلا أنه متزوج وأنا أعزب، ولكن الفرق ليس بالكبير؛ لأنه لا يرى امرأته إلا ست ساعات في كل يوم يقضيها وهو مستلق على ظهره بجوارها يغط في نومه، فامرأته في نظره كالوسادة في نظري. فنحن إذن في مستوًى واحد.
وظفت في وزارة «اﻟ …» منذ ستة أشهر، عرفت أمين في اليوم الأول من الشهر الأول منها، وائتنست بعشرته، وربطتني به رابطة الاتفاق في المشرب لا رابطة الود والوفاء، ولكني استشعرت بعد أن قضيت معه شهرين على صفاء ووئام برابطة الصداقة تربطني به وتربطه بي، وما لبثنا أن أصبحنا صديقين لا نفترق إلا بعد منتصف الليل. كنت أشتغل معه في الوزارة، وكنت أقضي معه عصر كل يوم في سبلنددبار، وإذا دنا وقت العشاء أكلنا سويًّا في مطعم أوبليسك أو مطعم أركل وكاسات الجعة تحف بخواننا، ثم نقضي الليل في دار من دور التمثيل أو في بيت من البيوت المفتوحة أبوابها للناس أجمعين، ثم نرجع كل لمنزله، فكنت أسير معه إلى باب بيته في عطفة «اﻟ …» رقم ٢٢، وأسير في طريقي لمنزلي وأنا لا ألوي على أحد.
كان هذا شأني معه، وكنت مسرورًا من عشرته مغتبطًا بوفائه ومحبته، وظننت أني سأبقى مستودع أسراره إلى الأبد، ولم يحدث بيننا — والحمد لله — في الستة الأشهر التي مضت ما يدعو للهجر أو القطيعة.
ثم أفاق أمين من نومه، وأعطاني سيكارة، أشعلتها بعد أن أشعل أختها لنفسه، ومكثنا هنيهة نفكر، ثم التفت إليَّ وقال: آه من النساء!
– إنك ترتئي فيهن رأيًا تخالف فيه سواد الناس.
– وأنا لا أكره إلا هؤلاء.
– يا للعجب! أتكره هذا الصنف من النساء، وبينهن من يستهوين الأفئدة، ويمتلكن النفوس؟!
– إني لا أرى في ذات الإزار البلدي إلا امرأة قذرة مبتذلة، يأنف منها كل ذي ذوق سليم.
– أشكرك.
ثم ضحكنا والتفت إليَّ أمين وقال: إن بينهن نساء ذوات حسب ونسب، يخشين الفضيحة فيتسترن بهذا الإزار حتى لا يعرفهن أحد من أزواجهن.
– أتظن ذلك؟
– بل أعتقده، وإن شئتَ سردتُ لك حوادث وقعت لي مع أمثالهن.
وابتدأ في سرد قصص كثيرة اندهشت لسماعها، وظننت أن ليس في مصر من الإسكندرية إلى أسوان امرأة عفيفة، فقلت له: لا ثقة لي بامرأة بعد اليوم.
– كل النساء خائنات وعبثًا الثقة بهن.
فسكتُّ ولم أنطق ببنت شفة، وماذا يريد القارئ أن أقول، وصديقي متزوج له امرأة يغار عليها، وكأنه فطن لما كنت أحدث نفسي به؟ فقال وهو يبتسم: ما الذي أسكتك؟ أيدهشك أني أرمي النساء بالخيانة وبينهن زوجتي؟ ولكن امرأتي يا صاح في مأمن من كل ذلك؛ لأنها تعيش مع أمي، وأمي من النساء اللواتي لا تفلح معهن شدة ولا رجاء.
ثم انقطع حديثنا، وقام أمين لمكتبه، وابتدأت أن أشتغل قليلًا بعد أن سألت الخادم أن يأتيني بفنجان قهوة.
غادرت الديوان، وذهبت لأتناول الغذاء في المنزل، ثم خرجت عصر اليوم للقاء أمين في اسبلنددبار، وانتظرته هناك نصف ساعة ثم مللت الانتظار، فقمت لأتمشى في شارع بولاق، فإذا به يموج بالناس من مصريين وإفرنج، ومنهم من يتتبع النساء، ومن النساء من يدخلن حانوت شكوريل أو شملا لشراء حاجياتهن أو بحجة شراء ما تتوق إليه أنفسهن، ثم وقفت أنظر لامرأة مرتدية إزارًا بلديًّا، وتذكرت حديث أمين في الصباح، وقلت في نفسي: ما ضرني لو تبعتها؟! وقد أعجبني قوامها النحيل ولحظها الفاتك، ووطدت العزم على ذلك، وما لبثت أن نفذت ما عزمت عليه.
سرت وراءها طويلًا إلى أن وصلنا إلى تلك الحديقة الصغيرة التي يعرفها كل من اعتاد التنزه في شارع بولاق، وهناك اقتربت منها وقلت لها: لقد حق لك ولي أن نستريح، فعلام الإسراع؟
فنظرت إليَّ ولم تجب، ثم سارت في طريقها، فقلت لها وقد شجعتني نظرتها: إلى أين؟ خففي من سرعتك أيها الملاك الجميل.
فالتفتت إليَّ مرة ثانية وابتسمت، ثم سارت على مهل، فسرت معها جنبًا إلى جنب وقرأتها السلام، فقالت: علام تقتفي أثري؟
– لأحظى منك بكلمة واحدة.
– لقد سمعت مني عدة كلمات، فدعني وسر في طريقك.
– إن طريقنا واحد.
فابتسمت وقالت: يا لك من أبله!
وتحادثنا طويلًا، ثم سألتها أن نذهب لمصر الجديدة، فقبلت ببشاشة وسرور، ورجعنا أدراجنا إلى محطة المترو. وصلنا مصر الجديدة بعد عشرين دقيقة، ودخلنا لونا بارك، وصعدنا على الجبل الروسي راكبين القطار الصغير، فكانت تمسك بملابسي كلما صعد بنا القطار أو هبط، وغادرنا لونا بارك فأظهرت لي عند بابه الميل للعودة للقاهرة، فقلت لها وأنا أستعطفها: علام هذا الإسراع والساعة لم تدق السابعة بعد؟ أينتظرك أحد في المنزل؟
– كلا إن زوجي لا يتعشى في المنزل.
– فلنقض معًا إذن ساعة أخرى.
وقد قضينا تلك الساعة في مكان يظهر أنها لم تكن تجهله ولم يكن يجهلها.
ورجعنا بعد ذلك وركبنا عربة كانت تنتظر بجوار قهوة البسفور، ولما وصلنا لميدان عابدين سألتني أن أغادرها هناك، فأجبتها لسؤالها عن طيبة خاطر، وأعطيت الحوذي عشرة قروش، وودعتها بعد أن تواعدنا على اللقاء بعد يومين.
ثم تركتني وسارت في طريقها بعد أن استحلفتني أن لا أتبعها، ولما كادت أن تغيب عن عيني قام بنفسي أن أعرف أين تسكن؛ حتى إذا ما أخلفت موعدها معي انتظرتها كل يوم أمام باب بيتها. ولما اقتربت منها سألت الله أن لا تلتفت فتراني، فإذا بي أراها بعد قليل تسير في عطفة «اﻟ …»، فدق قلبي دقات متوالية، ثم وصلت للمنزل رقم (٢٢)، والتفتت لترى إن كان هناك أحد يتبعها، ولكنها لم تتبينِّي في الظلام؛ لأن الشارع لم يكن من الشوارع المضاءة، ودخلت المنزل فوقفت كالصنم لا أتحرك، ثم عدت وأنا كاسف البال.
يا للعار! لقد ارتكبت إثمًا هائلًا، ولكني لم أتعمد ارتكابه. لقد أصبحتْ حليلة صاحبي خليلة لي، ولكنها كانت خليلة سواي من قبل.
•••
في الغد ذهبت للديوان، وجلست بجوار أمين، وتحادثنا كالعادة، وذهبنا عصرًا لسبلنددبار، وتناولنا العشاء في أبليسك، وقضينا ليلتنا معًا في ماخور من مواخير العاصمة، كأن لم يكن شيء حدث بالأمس.