ربي لمن خلقت هذا النعيم؟
(هذه القصة لموبسان الكاتب الفرنسي الشهير، بَدَّل المعرِّب أشخاصها وزمانها ومكانها وموضوعها، ممصِّرًا كل شيء فيها، فلم يبق من الأصل إلا روح الكاتب، واتبع المعرب في ذلك خطة تولستوي في قصصه التي نقلها عن موبسان.
•••
محمد بك عبد القادر رجل في الخامسة والخمسين من عمره، أقنى الأنف أسود العينين مقرون الحاجبين، يقص شاربه ويعفو عن لحيته. إن مشى يسير الهوينا، وإن جلس يتربع على كرسيه بعد أن يخلع خفيه، يرتدي الردنجوت ولا يحب سواها من الملابس الإفرنجية؛ لأنها أقربها شكلًا لمظاهر الصلاح والتقوى. مسلم في كل أقواله وأفعاله، يذب عن الدين كلما تعرض له ملحد لا يتقي الله في دينه ولا دنياه، ويدافع عن حجاب المرأة في كل مجلس يتناقش فيه أصحاب مذهب السفور مع المحافظين على العوائد والتقاليد القديمة. وإن رأى شابًّا جالسًا في حان يتعاطى كأسًا من الخمر، وقف في مكانه كالمصعوق، ثم بصق على الأرض ومشى في سبيله وهو يرتل آيات القرآن. له في بنك الكريدي ليونيه عشرون ألفًا من الأصفر الرنان، لا يتعاطى عنها فائدة متبعًا قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا.
يسكن محمد بك في قصر جميل على ضفاف النيل، تحوطه حديقة غناء تتمايل أشجارها كلما داعبها النسيم، وتسمع فيها موسيقى الطيور ممزوجة بألحان أمواج النيل. تلك موسيقى جميلة هادئة كأنها صوت الحب في آذان العاشق اليائس. وإذا ظهر الشفق خلف النخيل وارتدت السماء ثوبها الأحمر قبيل الغروب، خيل للناظر أن هذا الاحمرار هو دموع الليل يودع النهار. وإذا بزغ القمر في القبة الزرقاء في ليلة من ليالي الصيف، ودَّ صاحب البيت أن لا يفارق الحديقة حتى مطلع الفجر. هذا هناء كبير جاد به الله على هذا الشيخ الصالح مكافأة له على عبادته وصلاحه؛ فهو به قرير العين مثلوج الفؤاد، تلوح عليه أريحية السرور كلما ذكر الله، ويلمع في غرته نور البشر كلما صلى على نبيه.
لم يرزق محمد بك عبد القادر إلا بفتاة جميلة الصورة حلوة الحديث غضة العينين، كأنها نرجسة جميلة في حديقة الشعر لا يقف أمامها إلا كل شاعر كبير الخيال بديع التصوير، ولقد بلغت تلك الفتاة العشرين منذ عدة أيام، وفكر أبوها كثيرًا في أمر زواجها وحادَث زوجته في هذا الشأن مرارًا، وعدد لها أسماء كثير من الشبان الأغنياء المتعلمين الذين يتطلعون لهذا الزواج المبارك، واتفقا على شاب وجدا فيه ضالتهما المنشودة، وحادثت الأم ابنتها عنه، فأبدت البنت نفورًا من ذلك الشاب، فأخبرت الأم زوجها بما كان بينها وبين ابنتها فاستاء لتلك النتيجة، ولكنه اختار شابًّا آخر لم ترفضه الفتاة بل رفضت الزواج كلية. وعز على أبيها ذلك الرفض وقامت بنفسه قيامة عصيان البنت لأوامر أبيها، فهددها ما شاء وشاء تعصبه وتفانيه في حب كل عقيدة قديمة صالحة كانت أو فاسدة، وأصر على زواج ابنته بالفتى الأول، وأبلغها ذلك الحكم الصارم بشدة لم تعهدها فيه من قبل، قابلتها بالصمت والبكاء.
•••
لم يرق في عين الأم أن ترى ابنتها تبكي وتنوح، وهالها أن ينبو الفراش عن جسم تلك الفتاة الخرود، وأن يطيش سهمها ويخيب رجاؤها وتقف آمالها على شفا اليأس. خلت الأم بابنتها في صبيحة يوم من الأيام بعد أن خرج والدها للقاء أحد أصحابه، وحادثتها في شأن زواجها بعد أن أقسمت لها أنها ستكون ساعدها الأقوى وعضدها أمام تعسف أبيها وظلمه، فبكت الفتاة وأنَّت وجثت أمام أمها تسألها الرحمة والمعونة.
علام تبكي هذه الفتاة؟ ولماذا تستعطف؟ وأي باعث يُهيج في قلبها تلك النار الكامنة؟ كل فتاة تحب الزواج وتبحث عن شاب جميل وغني، والشاب الذي انتخبه لها أبوها حسن الأخلاق كريم العنصر، باذخ الشرف منيع الساحة، جميل الصورة كثير المال، فلماذا تأبى الزواج به؟ لعل في الأمر سرًّا آخر!
هذا ما كانت تقوله الأم لنفسها وهي تمسح دموع ابنتها، ولما هدأت الفتاة قليلًا قالت لها بصوت تمازجه الشفقة والحنو: «إني أعدك يا ابنتي أن لا تتزوجي هذا الشاب، بل أعدك أن تتزوجي الشاب الذي تصبو له نفسك. فمن يكون هذا الشاب؟!»
فنكست الفتاة رأسها وابتسمت ابتسامة باحت لأمها بسرها الدفين، فقبلتها أمها وقالت: «ومن هو؟» فلازمت الفتاة الصمت وأسندت رأسها على كتف أمها، ولم تشأ الأم أن ترهق الفتاة بالأسئلة، فاكتفت بما عرفت.
•••
وعاد محمد بك إلى منزله وخلت به زوجته ورجته أن يؤخر هذا الزواج المشئوم، فأصر على عناده، فلم تجد الأم بابًا من أبواب الرجاء والاستعطاف إلا وولجته، ولكن البك عزَّ عليه أن يقهر في هذا الميدان، وقد جهل أن خذلانه أكثر شرفًا من انتصاره، ونظر إلى زوجته وقال: لعلها تهوى فتى تود الاقتران به.
فقالت الأم وهي غاضبة: وإذا كان الأمر كذلك، فأي ضرر يلحق بنا؟!
– أي ضرر يلحق بنا! إنك تلعبين بالنار أيتها المرأة. إني أحرم على هذه الفتاة أن ترى نور السماء. سوف أعمل على سجنها وسوف تعيش راهبة ما دمت حيًّا.
وخرج من الغرفة وهو كالمجنون، ونادى فتاته فأتته ملبية طائعة، فابتدرها بالشتم والسباب، وكاد أن يضربها لولا وقوف زوجته في وجهه، وغادر البك المنزل وهو هائم على وجهه.
•••
مضى على هذا الحادث شهران لم يحدث فيهما شيء جديد، وخيم السكون على هذا المنزل؛ فكان البك هادئًا ساكنًا لا يلفظ بكلمة تشير للموضوع القديم ولكن نار الغيظ كانت تتأجج في قلبه، وكانت زوجته هادئة ساكنة أيضًا ولكنها كانت تتألم خفية لآلام ابنتها، أما الفتاة فكانت تبكي آناء ليلها وأطراف نهارها وتتوجع سرًّا دون أن تبوح لأحد بآلامها. لقد كان لها بارق من المنى كذب برقه، وعارض من الآمال أخلف ودقه، فسلام على ماضي هنائها، وسلام على رجائها وآمالها.
وفي ذات ليلة تعشى البك كعادته وشرب فنجانين من القهوة ثم دخن سيجارة، وابتدأ في صلاة العشاء ولم يفارق سجادته إلا بعد ساعتين قرأ فيهما أربعين وردًا، ثم قام وتمشى في المنزل قليلًا، ودخل غرفة نومه لينام، وحاول النوم ساعة من الزمان فلم يفلح، فخرج إلى الحديقة دون أن يعلم بخروجه أحد.
تمشى البك في الحديقة ونظر إلى السماء نظرة ابتهال وخضوع، فوجد القمر لامع الصفحة والنجوم زاهية، فقال مخاطبًا ربه: «ربي لمن خلقت هذا النعيم؟» ثم نظر للأشجار فوجدها تتمايل يمنة ويسرة، وقد هبَّ نسيم عليل يحمل إليه شذى الورد وعبق الياسمين، فقال مخاطبًا ربه: «ربي لمن خلقت هذا النعيم؟» ونظر للنهر فوجد أشعة القمر الفضية تلاعب أمواج النيل، ورأى قاربًا يحمل قومًا يغنون ويضحكون، وسمع في تلك الآونة نشيد طائر يغني في جوف الليل البهيم، فقال مخاطبًا ربه: «ربي لمن خلقت هذا النعيم؟» ثم جلس على كرسي ونظر لكل شيء؛ لهذه الصورة الطبيعية التي رسمتها يد الخالق على صفحة الوجود، لهذا الجمال الذي يكشف الستار عن عظمة الخالق وقوته وشفقته وحنوه، لهذه الجنة التي هي مهبط الحب وخلوة اللذة والنعيم، فقال مخاطبًا ربه: «ربي لمن خلقت هذا النعيم؟» ثم تذكر أيام كان شابًّا يخفق قلبه لرؤية الغيد، فأغمض عينيه ورتل آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي، ثم فتح أجفانه وقال: «ما تلك إلا جنة اﻟ …» ولم يدر أي كلمة يتم بها جملته، فوقف وهو حائر الطرف، وإذا به يرى شبحين يسيران نحوه، فاختفى وراء شجرة كبيرة تحجب جسمه عن الناظرين ودق قلبه دقات متتابعة، وقال لنفسه: «من هو هذا الغريب الذي يجسر على التنزه في حديقتي قبل منتصف الليل؟!»
واقترب الشبحان منه فتفرس فيهما، فإذا به يرى ابنته تسير بجوار شاب جميل الصورة وقد أسندت رأسها على كتفه. عرف البك الشاب بعد أن تفرس في وجهه، وقال لنفسه: «هذا هو الشاب الفقير الذي كان يسكن بجوارنا أيام كنا نسكن بالحمزاوي.» ووقف الشبحان وتحادثا على مسمع منه، فقال الفتى: أنا مرغم على تركك يا حبيبتي، وإني أقسم لك أني سأبقى على عهد حبي الطاهر الشريف إلى أن يضم عظامي القبر.
فأجابته الفتاة: وأنا أقسم لك على ذلك.
وقبلها الفتى في جبهتها وسار معها متخذًا وجهة السور ليعود أدراجه إلى منزله.
خرج البك من مخبئه وهو ساكن صامت، ومكث هنيهة يفكر ثم نظر للسماء وللنهر وللأشجار، لهذا الجمال الطبيعي، لهذه الجنة الدنيوية، لهذا النعيم الحيوي، وقال لنفسه بعد أن فكر قليلًا فيما رآه وفيما سمعه: «ربي إنك خلقت هذا النعيم للمحبين، ولعمري ما تلك إلا جنة الحب.» ورتل آيات من القرآن، ودخل إلى منزله وقد علت شفتيه ابتسامة تعبر عن هنائه وغبطته.
•••
مضى على هذا الحادث شهر من الزمان أقيمت في نهايته حفلة قران الفتاة الغنية بالشاب الفقير، وما كانت تلك الحفلة إلا رمز انتصار الحب الطاهر على كل شيء.