العاشق المفتون بالرتب والنياشين
يا صديقي العزيز
اسمح لي أن أناديك بالصديق العزيز مرة في كل عام، وإن كنت لم أسعد في حياتي الماضية ولن أسعد في حياتي المقبلة بمعرفتك، ومعرفتك أمر هام جدًّا، بل شرف عظيم لكل من يجد في قربك سعادة لنفسه وراحة لضميره المعذب، ولكني لا أكتمك — وإن كانت صراحتي تؤلمك — إني لا أود ولن أود أن تسمح لي الظروف بمعرفتك بل برؤياك …
لماذا إذن أخاطبك في العام مرة واحدة؟ لماذا أكتب إليك هذا الخطاب وبيني وبينك مسافةُ ما بين الأرض والسماء، مسافة طويلة جدًّا، ولكنها لا توجد إلا بين نفسي ونفسك! ما جسمانا قريبان، وربما التطما في الطريق مرة واحدة؛ لأنا نعيش سويًّا على صعيد واحد، هو مصر. إذن لماذا أكتب إليك؟ إني لا أسائل نفسي؛ لأني أعرف السبب، وسأذكره إليك؛ فربما وجدت فيه عزاء لنفسك المضطربة وراحة لضميرك الهائج، ولكني لا أريد أن نتكلم سويًّا إلا إذا اعتقدت أني صريح فيما أقول، وأنه لا يحملني على مناقشتك إلا أمر واحد هو حبي للناس، ومن هذا الحب تولدت في قلبي عاطفة غريبة نحوك، عاطفة تكونت من عصير الشفقة والرثاء، وما أجمل الصراحة التي يتساقط من نورها الوضاح شعاع الشفقة والرثاء!
أنت بلا شك لا تغضب لأني صريح، ولكني أخشى أن يسوءك رثائي وشفقتي؛ لهذا أود من صميم قلبي أن تتنازل عن كبريائك …
عفوًا أيها الصديق العزيز! عفوًا! لقد أخطأت مرة ثانية وقلت إنك من المتكبرين المتغطرسين، ولكن ما الذي يضرك؟ وهل يسوءك أن أصفك بهذه الصفة وأنت ممن يجدون في الكبرياء والأبهة لذة لا تقدر؟ أظن إذن أني لم أغضبك مرة ثانية وأني لم أخطئ بالمرة. فاسمح لي إذن أن أقول لك إني أود من صميم قلبي أن تتنازل عن كبريائك في غضون تلك الساعة الزمانية التي نود أن نتحادث فيها سويًّا، وأن لا يسوءك أني أشفق عليك وأرثى لحالك.
إذن فلنبدأ الحديث على الشروط الماضية، وحديثي معك يبدأ هكذا:
أنت أيها الصديق أحد رجلين؛ فإما أن تكون من أعيان القاهرة، تلك الجماعة التي تسكن القصور الشامخة تحوطها الحدائق الغناء، والتي تركب السيارات ذوات المنافيخ المزعجة، والتي إذا تكلمت تأنت في كلامها ووزنت كل حرف بميزان الأبهة والكبرياء، والتي تلبس الملابس الغالية وتأكل الطعام الفاخر، والتي تجد في التبختر — إذا سارت — بابًا جديدًا من أبواب الظهور بين الناس، والتي إذا زارت لا تزور إلا من له صلة بكبار رجال الحكومة ولهم تحني ظهورها، وتمد للرق رقبتها، أمَّا لغيرهم؛ فتظهر بمظهر المتعجرف الشامخ الذي إذا جلس التحف بجلباب الكبر، وإذا سار امتطى ظهر التيه.
إما أن تكون هذا الرجل وإما أن تكون الرجل الآخر؛ أي من أعيان الريف الذين إذا أكلوا في منازلهم اكتفوا بالعيش والفتة، وإذا زارهم المأمور ذبحوا له الخروف يتلوه الخروف، والذين ينامون في غرفة ضيقة ويلتحفون بملابسهم، ولكنهم يعدون في قصرهم لرجل الحكومة غرفة جميلة وسريرًا حريريًّا، ولا يستنكفون من أن يقفوا في خدمته وقفة الخاضع الذليل، ولكنهم يستنكفون أن يسمحوا لزوجاتهم وأولادهم أن يأكلوا معهم.
إما أن تكون الرجل الأول أو الثاني، وسيان عندي أن تكون أحد الرجلين؛ لأن نفسيكما نشأت من نبع واحد، فأنتما شخص واحد. دع عنك فروق المعيشة؛ فما هي إلا نتيجة الجو الذي عشتما فيه، ولا يهمني من أمركما إلا شيء واحد؛ هو خضوعكما لمن في يده القوة واستنكافكما من معاشرة الآخرين.
الآن قد انتهيت من وصفك، ويخيل لي أنك توافقني عليه؛ لأنك عاهدتني قبل محادثتك بتنازلك عن كبريائك، وباعتقادك أني أصارحك القول. والآن فلنتحدث قليلًا لأعلمك لماذا أخاطبك في العام مرة واحدة. أظنك لا تنكر يا صديقي أنك تقضي العام كله ما عدا عدة أيام قلائل وأنت مستطار الفؤاد حزين النفس، تقوم مبكرًا من نومك وفي رأسك شاغل كبير يقطع عليك أحلامك ويصور لك الحياة في صورة قبيحة لا ترضاها لنفسك. أليس الأمر كذلك؟ ذلك الشاغل هو قيمتك في أعين الناس. أنت تود أن تكون قيمتك كبيرة جدًّا، تريد أن يكون مقامك بين نظرائك أكبر مقام تسمح به الهيئة الاجتماعية في مصر! ولكنك مع الأسف تجهل ماهية القيمة الإنسانية، بل ربما كنت تعرف ماهيتها ولكنك تتغافل عنها؛ لأنك لا تجد فيها الطريق السوي الذي تسوغ لك كفاءتك السير فيه؛ لهذا تسير في طريق آخر آملًا أن تصل به إلى العرش الذي تطمح نفسك لارتقائه، وما نتج هذا إلا من جهلك؛ لأنك بلا نزاع لم تنظر للحياة بمنظار الحقيقة، ولم تلبس بعد لباس الحقيقة، ولم تشرب أيضًا من ينبوعها الطاهر، وليس الذنب ذنبك أيها الصديق العزيز؛ لأنك نشأت في جو لم تنل فيه من العلوم والآداب قسطًا وافرًا، فأنت بطبيعتك جاهل؛ لهذا ظل قلبك مقفلًا أمام نور الحقيقة، ذلك النور الذي يتغلغل في حنايا القلوب فيضيء ظلماتها القاتمة. إذن أنت من الحزب المصري الذي يرى قيمة الرجل بالرتبة التي ينالها، أو في النيشان الذي يحلى به صدره. ويا ليته يرى ذلك فحسب، بل يمتد نظره إلى قاع تلك الهاوية فيرى أن ليس من العار على الرجل أن يفعل كل ما في وسعه، وأن يبرر كل واسطة للوصول لغايته. فأنت إذن من هذا الصنف؛ أي إنك تود رفعة المقام في الحياة دون أن تفعل شيئًا يُذكر تستحق عليه رفعة المقام. أظنك توافقني أيضًا على ذلك، وأظنك أيضًا تقضي العام كله وأنت تزور من له صلة بمن في يده تدبير الأمور. تزوره كلما سنحت لك الفرصة فتجلس بين يديه وقد جلس الكبر بين عينيه، وتمشَّى الذل في شرايينك فأحنيت رأسك، وتذللت في السؤال والكلام والسلام، ثم تعود إلى بيتك وتجلس على كرسيك جلسة الكبرياء والعظمة وتفكر فيما فعلت.
إني أقسم بكل عزيز عندي فوق الأرض وتحت السماء أن ضميرك لا يلبث أن يوبخك وأنت ترى فيما فعلت ما يحمر له وجهك وترتعد فرائصك خجلًا، ولكنك تنظر إلى يمينك فترى صديقك فلانًا حائزًا لرتبة باشا وأنت لم تحز بعد إلا رتبة بيك، ثم تنظر لشمالك فترى صديقك الآخر حاز نيشانًا، وصدرك ما زال خاليًا من تلك الأوسمة الجميلة. ترى ذلك بعينك فيزيل احمرار وجهك ويحل محله الاصفرار، اصفرار منشؤه الغيظ والحسد، وتظل ركبتاك ترتعدان، ارتعادًا ليس منشؤه الخجل بل الغضب والحقد؛ فتنسى ما أنَّبك به ضميرك وتقوم من مكانك وتركب عربتك لزيارة رجل آخر ممن يتصلون بأولي الحل والعقد، وتظل العام كله وأنت لا يقر لك قرار. فإذا دنا الميعاد وجاء الوقت الذي يتكرمون فيه على الناس بالرتب والأوسمة، أكثرت من زياراتك وقضيت لياليك وأنت لا تنام، يدنيك الأمل ساعة ثم لا يلبث أن يبعدك اليأس. ثم ماذا؟ تظهر النتيجة فترى نفسك قد سقطت في الامتحان. ويلاه وألف مرة ويلاه؛ ويلاه لنفسك لأنك لم تنل غايتك، وويلاه لزوجتك لأنك تحرم عليها الطعام، وويلاه لأولادك لأنك تشبعهم ضربًا، وويلاه لخدمك لأنهم يظلون مدة وهم مهددون بالطرد. ثم ترجع لنفسك وتسألها لماذا فاز غيرك ولم تفز أنت، فلا تهتدي لشيء. ثم تسأل الناس وتعود لزياراتك، إلى أن يساعدك الحظ وتنال ما تريد. فإذا نلت الرتبة أو النيشان تمشى السرور في نواحيك، وهزك الفرح هزة تخشى أن تضر بصحتك. ثم تمر الأيام وتنسى كل ذلك، وتنظر إلى يمينك وإلى يسارك، فترى الصورة التي رأيتها قديمًا؛ ترى قومًا آخرين من أصحابك هم أعلى منك رتبة أو حازوا نيشانًا لم تحزه أنت، فتعود إلى شاغلك القديم، وتكرر الزيارات والخشوع والخضوع؛ أي إنك تظل طول حياتك معذبًا مكروب النفس حزين القلب، فوا أسفاه لك، ومن تلك الحياة المنغصة التي ارتضيتها لنفسك!
ولعلك بعد هذا الحديث الطويل توافقني بل تشكرني؛ لأني أشفق عليك وأرثي لحالك. واسمح لي أيضًا أن أقول لك — وإن كنت أشك فيما سأقوله — ربما يجول بخاطرك الآن هذا السؤال: «إذن ما هو الطريق الذي إذا سرتُ فيه استراح ضميري وهدأت ثائرة نفسي؟ ما هو هذا الطريق أيها الصديق؟» سأخبرك عنه، واعلم أن من أجل هذا السؤال أكتب إليك هذا الخطاب. أنت لست من العلماء لأطرق معك باب العلم وأقول: «اقرأ وألِّف واخترعْ»، ولست من رجال الصناعة فأقول لك: «اعمل في سبيل رواج صناعة بلادك»، ولست من رجال الأدب فأقول لك: «أي كتاب كتبت؟» ولست من التجار ولا رجال الحكومة ولا ولا … ولكنك من الأغنياء. أنت من الرجال الذين يكنزون في بيوتهم القناطير المقنطرة من الذهب، والذين إذا مشوا أو ركبوا قال عنهم الناس: «هذا هو الغني فلان!» أنت من هؤلاء أيها الصديق، وأنا لا أطالبك بصرف مالك وتبذيره، كلا وألف مرة كلا. أنا أود أن يظل مالك في حوزتك، ولكني أرجوك أن تتنازل عن بعض إيرادك لمن يستحقه. بلادك أيها الصديق محتاجة لبعض مالك لينفق في سبيل الخير؛ أمامك الفقراء يودون أن يجدوا أمامهم مدارس يرسلون إليها أبناءهم بلا أجر. وأمامك الشيوخ الذين أقعدهم المرض والفقر والشيخوخة عن العمل، هم في حاجة لملجأ يلم شتاتهم ويدفع عنهم ذل السؤال. وأمامك، إذا سرت في الطريق على قدميك، الأطفال المتشردون الذين بإحسانك ينصلح حالهم فيعودون بالخير على أمتهم. وأمامك المرضى الفقراء، فهل لك أن تنشئ لهم مستشفيات وفي طاقتك أن تفعل ذلك؟ هذا هو السبيل السوي الذي تستطيع أن تسير فيه بأقدام ثابتة.
أتعرف أيها الصديق ماذا يكون من أمرك إذا فعلت ذلك — على شريطة أن لا تزور أحدًا ممن كنت تزورهم، وأن لا تحني رأسك للذل، ولا تمد رقبتك للرق — أتعرف أيها الصديق ماذا يكون من أمرك؟ إني سأقول لك شيئًا ستندهش له وأخشى أن لا تصدقني، ولكني سأقوله على كل حال؛ إني أؤكد لك أيها الصديق أن تلك الرتبة التي كنت تسعى لها ستسعى هي إليك، وأن النيشان الذي كنت تفتش عنه في كل ساعة سيفتش عنك بنفسه، وسوف يقول الناس: «إن الرتبة والنيشان تتشرفان بك بدل أن تتشرف بهما.»
ثم بعد ذلك، بعد هذا الكلام الطويل بيني وبينك، ما زلت أحس بدافع يدفعني لأن أقول لك شيئًا آخر، ولكني أفضل أن لا أقوله خشية أن تنفر مني، وتظن أني واهم أو أني أخبط خبط عشواء. أأقول أم لا أقول؟ لا أعلم؟ دعني أفكر! وأخيرًا قد استقر قراري على أن أقول هذا الشيء، فإن كنتَ حي الضمير صدقتني وشكرتني، وربما قبلتني قبلة أخوية طاهرة. أما إذا كنت ممن لا ينفع معهم الكلام، فإني لا أخسر شيئًا كبيرًا بما سأقوله بعدما أتعبت نفسي فيما قلته لك. اعلم يا صديقي أنك بعد أن تقوم بإحدى الأعمال التي طلبتها منك ستشعر بشيء غريب؛ بشعور جديد، براحة في ضميرك توحي إليك بأن تعتقد أن خير جزاء وأن أكبر مقام هو تلك الراحة التي تشعر بها عندما ترى عينك الأطفال الذين أصلحت حالهم، والشيوخ الذين آويتهم، والمرضى الذين شفيتهم.
عندها تنسى رتبتك القديمة، ونيشانك القديم، وتعرف أن الإحسان هو أعظم رتبة وأكبر نيشان، وأن الرتب والأوسمة ما هي إلا أوهام.