لحظة سعادة
كان سعيدًا منشرح الصدر وهو يفكر. كانت لحظةً من هذه اللحظات القليلة التي يشعر فيها الإنسان أن الحياة تعطيه بقدر ما يريد منها أن تعطيه. ودون أن يدري السبب راح يفكر في السبب الذي بث في نفسه هذه السعادة التي يشعر بها. وما لبثت هذه الفترة أن بعدت عن مسار تفكيره، وما لبث أن قال لنفسه: إني سعيد لأني سعيد. وأخشى ما أخشاه أن أبحث عن أسباب سعادتي وأنقلب بفعل يدي تعيسًا. وأسباب التعاسة دائمًا أكثر وفرة من أسباب السعادة. وهل هذا كلام رجل سعيد؟! إنه كلام أي إنسان. ولكنك لست أي إنسان. إنك رجلٌ سعيد. حسنًا فلأظل سعيدًا إذن دون محاولات سخيفة لتعميق أسباب السعادة. هل هي قليلة لحظات السعادة هذه إلى هذا الحد؟ هل هي قليلة لدرجة أنني أقتنصها من الحياة اقتناصًا، ولا أحاول حتى أن أبحث أسبابها وما دعت إليه؟ إني سعيدٌ بزوجتي. ولكن سعادتي بها لا تكون لي لحظات سعادة، أنا أحبها وأعلم أنها تحبني، وهي شريفة بحكم تكوينها، وهي تعمل دائمًا على إسعاد بيتها، وليس بيني وبينها إلا هذه المشاجرات التي تدل على أننا أحياء، ولو أنها مشاجرات كثيرة وعنيفة في بعض الأحيان؛ مما ينبئ على أننا أحياء جدًّا، ولكنها جميعًا مشاجرات طبيعية لا بد أن تنشأ بين اثنين نشأ كلٌّ منهما في بيتٍ ثم جمعهما بيت واحد، يعلمان أنهما سيقضيان فيه ما بقي لهما من حياة. قد تشعر هي بالضيق أحيانًا، أو قد يشعر هو بالضيق أحيانًا، وقد تكون هذه الأحيان كثيرة، وقد تتلاقى هذه الأحيان من الضيق فتكون مشاجرة، لو بحث كلاهما عن سببها لاتضح على الفور مقدار سخافتها.
لماذا أفكر في كل هذا؟ من أجل لحظة سعادة؟ ألم تكن لي لحظات سعادة كثيرة وأنا طفل؟ لماذا يقول الناس: طفولة سعيدة؟ أظن السعادة هنا يقف وراءها الجهل؛ إنهم سعداء لأنهم لا يعرفون كيف يكونون تعساء. ولكني مع ذلك أذكر في طفولتي لحظات سعيدة، والآن فقط أدرك أنني كان يجب أن أعتبر طفولتي سعيدة، يبدو أن الأطفال يعتبرون سعادتهم قضية مسلَّمًا بها لا تقبل النقاش؛ فحياتهم مهما تكن سعيدة يعتبرونها هم عادية، ولا يذكرون منها إلا لحظات السعاة الخارقة للعادة ولحظات التعاسة العادية. كانت لحظات سعادتي هي تلك الأوقات التي أقضيها في قراءة القصص، قصص الأطفال، كنت أحس أنني أعيش في عالمٍ آخر غير هذا الذي أعيش فيه.
لماذا يُعتبر البعد عن العالم الذي أعيش فيه سعادة؟ لماذا يقول الناس هذا دائمًا كلما أحبوا أن يُعبروا عن سعادتهم؟ هل العالم الذي نعيش فيه سيئ إلى هذا الحد؟ وإن كان سيئًا أهو هكذا بالنسبة للأطفال؟ لماذا يحبون أن يعبروا إلى عوالم أخرى من قصص علاء الدين والسندباد، وعلي بابا والأربعين حرامي وقصص الجان وغيرها وغيرها.
والكبار، ألا يتشبثون بعالمٍ آخر؟ ما الحياة عندنا إذا كانت هي هذه الحياة فقط؟ سبحان خالق الناس! عرف نفوسهم وعرف حياتهم فوعدهم بحياةٍ أخرى، يلقون فيها السعادة التي لم يعرفوها من الدنيا. ولكني الآن سعيد، لحظة، أو لحظات ثم تعود الحياة حياة، أقصى ما أطمع فيه منها ألا ترزأني بلحظات تعاسة، وتصبح أيام الملل والوتيرة الواحدة سعيدة، سعيدة لأنها ليست تعيسة.
إننا نبحث في حياتنا هذه عن السعادة من أي سبيل، نرى السعادة في نظرةٍ إلى أبنائنا، في أبنائنا، في ابتسامةٍ على شفة لهم، في ضحكة، في مجرد جلوسهم أمامنا مشغولين عنا بالنظر إلى التليفزيون.
ما السعادة التي يهبها لنا أطفالنا؟ هي ما قبل الرعب الذي يُلقون به في نفوسنا، الهول المبين، الذعر الأخاذ الوبيل؛ إذ مرض أحدهم أو إذا وهمنا أن مرضًا يهدد واحدًا، وحين يزول المرض وحين يزول الوهم، تعود نفوسنا إلى الصفاء وتعود إلينا السعادة. ما أعظم الثمن الذي ندفعه لقاء السعادة من أطفالنا!
ويل لي! لحظة سعادة واحدة تفعل بي هذه الأفاعيل؟! ماذا أحاول أن أعرف؟ هل فُرض عليَّ فرضًا أن أبحث عن سبب هذه السعادة؟! ألا يكفيني أني سعيد؟!
لنبحث أولًا، ما هي أعراض السعادة التي أعانيها. ويلي؟! ألا أعرف أعراض السعادة؟! أهذه أيضًا تحتاج إلى شرح؟! ألا أعرف هذه الإشراقة التي تشيع في النفس، فإذا النفس بهجة وإذا هي متطلعة إلى المستقبل الوردي الصافي وإلى الحاضر، وكأن سعادة العالم تجمعت فيه! هذه هي حالي الآن، لماذا؟ وما يهمك لماذا ما دمت سعيدًا؟ ألا تخشى أن تفقد سعادتك وأنت تبحث في هدوء دون هذا البحث السخيف؟ وتتفلسف أيضًا وتريد أن تظل سعيدًا! يقولون: إن الفلاسفة هم السعداء. بل يقولون: إن السعداء هم الجهلاء. كلا القولين غير صحيح؛ فأنت سعيد ولست جاهلًا إلى درجة أن يقال عنك جاهل، ولست فيلسوفًا إلى درجة أن يقال عنك فيلسوف. ولكنني لست سعيدًا … ماذا؟ هل فقدت السعادة؟ أقصد أنني لست سعيدًا سعادة الفلاسفة ولا الجهلاء؟ كل ما في الأمر أنني أشعر بلحظة سعادة.
لعل لقاءك بالأمس مع سهام أمدَّك بهذه السعادة؟ لقد أحسست بالسعادة فعلًا في لقائي معها، ولكن اللقاء كان يشغلني عن الشعور بالسعادة. وانتهى اللقاء وعدت إلى حياتي اليومية، ومرت بي لحظات رضًا ولحظات ضيق. فلا شأن لسعادتي الراهنة بلقائي مع سهام. هي حبي، وهي الوحيدة في هذا العالم التي تستطيع أن تمسح عن نفسي خمولها وآلامها، وأنا أسعد بلقائها وأهب لها كل ما تريد. ولكن الحياة تلاقيني بعد ذلك، وأرى فيها الخير وأرى فيها الشر، وأحيا كما يحيا الناس حتى ألتقي مرةً أخرى بسهام. فهذه السعادة التي أحسها إذن سعادة جديدة من نوعٍ آخر، ينتابني بلا مقدمات؛ ولهذا أبحث عن أسبابه. ألا بد أن تبحث؟! خالصة! رجعنا ثانيةً إلى هذا الحديث! وهل السعادة مع سهامٍ خالصة؟ أتحبني لنفسي أم لما أقدمه لها من مال؟ إنني أقدم المال وأسعد، لا شيء يهم بعد ذلك. أم تراه يهم؟!
لعلك سعيد لهذه المرافعة التي قدمتها في قضية الأمس! أهي المرافعة الوحيدة التي رضيت عن نفسي فيها، إنني أعمل في المحاماة منذ سنوات طويلة، ويقولون إنني محامٍ ناجح، وأعرف انني ناجح، ومعرفتي هذه تجعلني ألتقي بأي قضية وأنا أحتشد لها، وكأنني محامٍ ناشئ ثم أحتشد لها وورائي تاريخي الطويل في ساحة القضاء. أرى أنك بدأت تترافع؟! طبيعة، ماذا أفعل فيها؟! المهم لحظة السعادة التي أمرح فيها الآن لا صلة لها بمرافعتي.
اسمع، ألا يجوز — مجرد فكرة لا تسخر منها — ألا يجوز أن يكون حديثك التليفوني مع صديقك إسماعيل، قد أرسل إليك بهذه اللحظة السعيدة؟ أرى أنك بدأت تخرف، إنني كثيرًا ما أحادث الأصدقاء، ولا شك أنهم يرسلون الدفء إلى قلبي، ولكن لو أنني شعرت بهذه لمجرد حديث مع صديق لأصبحت حياتي كلها سعادة بلهاء، سعادة لا قيمة لها؛ لأنها ستصبح سعادة غبية سخيفة.
اسمع، طالما سمعت. اسمع ولا تعقب. إنك سعيد لأنك سعيد. أهذا آخر ما وصلت إليه؟ ما أشد سخفك! بل أنت السخيف. أرأيت؟ إنك تريد أن تُفسد عليَّ سعادتي.
اسمع إنني لن أبحث عن السبب. إنني الآن سعيد ولا يهم لماذا، إني سعيدٌ وكفى.