كلمة عامة عن نشأة اليهود
المعروف أن العبريين إحدى الأمم السامية، وكانوا في جودا قبل سنة ١٠٠٠ق.م، وبعدئذ اتخذوا «بيت المقدس» عاصمة لهم. وقد أفضى موقع بلادهم بين الإمبراطوريات الشرقية إلى اتصالهم بمصر جنوبًا وسوريا وآشور وبابل شمالًا، وإلى أن أمسى الوطن العبري طريقًا كبيرًا متأثرًا بما يقوم بين الممالك المتجاورة من الحروب والعلاقات.
وقد اكتسب العبريون مكانتهم التاريخية بما امتازوا به من الأدب المكتوب والقوانين والمدونات التاريخية والمزامير «الزبور»، وكتب الحكمة والشعر والخيال، والأقوال السياسية، مما انتهى إلى ما يعرفه المسيحيون باسم «العهد القديم» أو «التوراة العبرية»، ومن المرجح أن الأدب العبري ترجع موارده إلى بابل. فقد غزا الفرعون المصري نيخاو الثاني الإمبراطورية الآشورية، حين كانت تدفع عن حياتها غزوات الميديين والإيرانيين والكلدانيين، وكان الملك العبري في جودا قد هزم وذبح في ٦٠٨ق.م، حين تصدى لنيخاو الثاني، وأصبحت «جودا» ولاية تابعة لمصر. ثم إنه بعد أن أتم نيبو كادانيزار العظيم — ملك بابل العظيم — إكراه نيخاو الثاني على الجلاء عن «جودا» والانسحاب إلى مصر، أمست «القدس» يحكمها ملوك عبرانيون كانوا لعبة في يد بابل؛ فثار العبرانيون على «نيبو كادانيزار» وذبحوا موظفيه البابليين، وعلى أثر هذا اعتزم أن يمحو هذه المملكة الصغيرة، فنهب «بيت المقدس» وأحرقها، وأخذ الباقين من سكانها أسرى في بابل، فلبثوا فيها إلى أن أخذ «سيراس» بابل في ٥٣٨ق.م، فأعادهم إلى وطنهم «بيت المقدس» معيدًا أسواره ومعبده.
ويبدو أن اليهود لم يكونوا قبل هذا شعبًا موحدًا متحضرًا؛ ذلك أن الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة نفر قليل، ولم يعرف تاريخهم أن النسخ الأولى من التوراة كانت تقرأ، فقد ذكرت للمرة الأولى في عهد أشعيا، ومن أجل هذا كانت ثقافتهم وليدة أَسْرهم في بابل. فقد عادوا منه ملمين بأدبهم موحدي الكلمة والسياسة، ويبدو أن التوراة كانت يومئذ «البنتاتوخ»؛ أي الأسفار الخمس الأولى من العهد القديم، فقد وضعوا أسفارًا أخرى مستقلة، أصبحت «البنتاتوخ» تتضمنها: كالمدونات التاريخية، والزبور، والأمثال.
وإن ما أوردته «التوراة» عن قصة آدم وحواء وقصة الطوفان جاء مطابقًا لما ورد في الأساطير البابلية؛ إذ إنه يبدو أن هاتين القصتين من جملة القصص التي تشترك الأمم السامية في الإيمان بها. فقد وردت قصص موسى وشمشون في القصص السومرية والبابلية. أما ما يتصل بقصة إبراهيم وما بعدها، فإنها مستقلة عن القصص المشار إليها.
هذا؛ ويبدو أن إبراهيم كان معاصرًا لحامورابي في بابل، وأنه كان من الجنس السامي، وكان رحالة وقورًا، وقد أورد سفر التكوين قصة أسفاره، وقصة أبنائه وأحفاده، فقد جاز كنعان، وقد تلقى إبراهيم من ربه وعدًا بأن تكون تلك الأرض المبهجة الشاملة المدن الرخية له ولأولاده. وبعد أن أقاموا طويلًا في مصر، وبعد أن أمضوا أربعين سنة ضاربين في الفلاة الموحشة، تحت زعامة موسى، أصبحوا ١٢ قبيلة وَسِعَها أن تغزو أرض كنعان من صحراء العرب إلى الشرق بين ١٦٠٠ق.م و١٣٠٠ق.م. غير أنهم لم يستولوا على أكثر من الأراضي التليَّة خلف «أرض الموعد»، فقد كان يسيطر على ساحلها الفلسطينيون الذين ينتمون إلى عنصر بحر إيجه بعد إجلاء الاحتلال الكنعاني، وقد صدت مدنهم — مدن غزة وجاث وأشدود وإسكالون وجوبا — غارات العبريين.
وقد نَشِبت بين أبناء إبراهيم والفلسطينيين الإيجيين والأقوام المرتبطة بقرابتهم، كالمؤابيين والميدبانيين، من المناوشات والمعارك والكوارث ما سجل سِفْر القضاة أنباءه، وقد لبث يحكم العبرانيين في أكثر هذه الحقبة، قضاةٌ من الكهنة يتولى انتخابهم كبار السن في الأمة اليهودية، إلى أن اختاروا شاءول ملكًا عليهم وقائدًا حربيًّا سنة ١٠٠٠ق.م، غير أن حكمه لم يكن أكثر توفيقًا من حكم القضاة، فقد أبادته سهام الفلسطينيين في موقعة مونت جيلبوا، وقد ذهب درعه في معبد فلسطين فينوس، وسمرت جثته في جدران بيت شان.
ثم إن «داود» قد خلفه، وكان أكثر توفيقًا وأبعد سياسة، فلم يتح للعبرانيين لا قبله ولا بعده أن يستمتعوا بعصر سعيد مثله، فقد كان داود حليفًا لصور الفينيقية؛ إذ كان يحكمها الملك هايرام، وكان موهوبًا ألمعيًّا، يعنيه أن يتخذ من أرض المملكة العبرانية، طريقًا مأمونًا إلى البحر الأحمر؛ إذ إن الحالة في مصر ما كانت مرضية يومئذ للحركة التجارية الدولية. وقد لبث هايرام أو «حيرام» على أوثق الصلات بسليمان كما كان شأنه مع أبيه داود، هذا ويرجع إلى رعاية هايرام هذا، إقامة معبد بيت المقدس مقابل الترخيص لهايرام ببناء السفن وتسييرها في البحر الأحمر، وكان من أثر هذا ازدهار التجارة شمالًا وجنوبًا مجتازة بيت المقدس، واستمتاع سليمان بنعيم وثروة لا مثيل لهما في تاريخ قومه، وقد زوجه فرعون مصر بابنته.
غير أنه ينبغي أن نذكر هنا أن الملك سليمان كان ملكًا ثانويًّا في مملكة مقصورة على أورشليم «بيت المقدس» التي كانت مدينة صغيرة، وكانت سلطته وقتية؛ إذ إنه بعد وفاته ببضع سنوات استطاع شيشاق — أول فراعنة الأسرة الثانية عشرة المصرية — أن يغزو بيت المقدس وأن ينهب أكثر نفائسها، وقد وردت قصة سليمان وكنوزه ومركباته البالغة الأربعمائة في سفر الملوك والتواريخ.
هذا؛ ويؤخذ من الآثار القديمة أن «أهاب» الذي خلف «سليمان» أرسل ٢٠٠٠ مركبة إلى الجيش الآشوري، ويؤخذ من التوراة أن سليمان كان معنًى بالمظاهر مرهقًا قومه بالعمل والضرائب. وبعد موته انفصل الجزء الشمالي من مملكته من بيت المقدس وصار يدعى مملكة إسرائيل. أما بيت المقدس فقد لبثت عاصمة جودا «أرض الموعد».
وبعد قليل انقضى عهد سعادة العبرانيين، فقد مات هايرام، وحبست دولة حور مساعدتها عن أورشليم «بيت المقدس»، واشتد ساعد مصر مرة أخرى، وأصبح تاريخ كل من المملكتين الصغيرتين جدًّا: إسرائيل وجودا، تابعًا لسلطان سوريا، ثم آشور، ثم بابل شمالًا ولمصر جنوبًا، وهو تاريخ مليء بالمآسي والكوارث التي تتخللها فترات قصيرة من التحرير والسكينة، وبملوك همجيين يحكمون همجيين، وفي ٧٢١ق.م اكتسح الآشوريون مملكة إسرائيل، وانتهى تاريخ الأمة الإسرائيلية. أما جودا فقد لبثت تناضل حتى أصبحت أثرًا بعد عين في ٦٠٤ق.م.
هذا؛ وسنوضح ما قدمنا بعدُ ذاكرين هنا أن تعيين التواريخ أمر مختلَف عليه بين المؤرخين والمستنتجين.