تفوق اليهود في التجارة والمال واضطهادهم
ذكرنا قبلًا أن اليهود سكنوا فلسطين حول ١١٠٠ق.م، وأنهم اتحدوا تحت لواء الملك داود، وهزموا السكان الأصليين في فلسطين، ثم قام بعده الملك سليمان الذي انتهى عهده حول ٩٣٠ق.م، وأن سليمان قد بنى الهيكل، وأن دولتهم انقسمت بعده قسمين: مملكة إسرائيل، ومملكة يهوذا، وأن الأولى اندمجت في إمبراطورية آشور بين ٧٢١ و٧١٥ق.م، وأن الثانية دانت بالولاء لإمبراطورية آشور، وأنه في ٥٨٨ق.م قام بختنصر ملك بابل التي حلت محل الإمبراطورية الآشورية، فضم مملكة يهوذا إلى مملكته ونهب القدس، ودمرها كما دمر الهيكل، ونفى اليهود إلى منطقة بابل في الفرات، ثم إنه في ٥٣٦ق.م احتل قورش — مؤسس إمبراطورية الفرس — بابل، ورخص لليهود بالعودة إلى فلسطين، فعاد بعضهم دون البعض الآخر ورخص لهم في إعادة بناء الهيكل، ثم خضع اليهود بعد أكثر من قرنين لحكم البطالسة — خلفاء الإسكندر — وفي ٦٣ق.م اكتسح الرومان القدس، وأصبح اليهود تحت حكم الدولة الرومانية إلى ٧٠ ميلادية؛ إذ دمر «طيطوس» «بيت المقدس» محرقًا الهيكل على أثر ثورة قام بها اليهود.
وعاد الرومانيون في سنة ١٣٥ق.م فدمروا «بيت المقدس» للمرة الأخيرة، وقد أقام الإمبراطور الروماني أدريانوس في مكان الهيكل اليهودي، هيكلًا وثنيًّا باسم إلهة المشتري «جوبيتير» إلى أن قامت المسيحية، فدمر المسيحيون هذا الهيكل الروماني في عهد الإمبراطور قسطنطين ووالدته هيلانة، ولبثت فلسطين تحت الحكم الروماني إلى أن فتحها العرب المسلمون حين فتحوا الشام، فدخل عمر بن الخطاب «القدس» وتسلمها في ٦٣٧م، من البطريرك الذي اشترط عدم الترخيص لليهود في دخول فلسطين.
تحت حكم العرب المسلمين كما قدمنا استمتع اليهود بالحرية، واتخذوا العربية لغة لهم، واتخذوا الأسماء العربية أسماء لهم، وكذلك عاشوا في كنف الدول الإسلامية من المماليك والترك وسلاطين استانبول، واستقر اليهود في مقدونيا وسالونيك، وفازوا بالمناصب العالية في الدولة العثمانية، وزادت هجرتهم إليها تبعًا لما كانوا يلقونه من الاضطهاد في أوروبا الوسطى وروسيا.
ولقد كان من أثر تتلمذ اليهود للفينيقيين الملاحين التجار الجوابين الآفاق، ثم انتشار اليهود في بلاد العالم، واضطهاد المسيحيين لهم، وحرمانهم من الالتحاق بالمناصب الحكومية والاشتغال بالشئون العامة واحتراف الجندية، وتحديد أحياء لهم يعيشون فيها ولا يخرجون منها، واحتقارهم واستذلالهم — أن تخصصوا في شئون التجارة وإقراض المال، وأصبح لهم في هذا الميدان، مران ودربة، وحيل مبتكرة، واستكانة مصطنعة، أعدتهم لجمع الثروة، وشراء ذمم المضطهدين لهم، كذلك ألفت بين القلوب اليهودية فأصبحت قوة يُخشى نفوذها، ويستنكر نشاطها. جاء في ص٥١٠ من كتاب تاريخ العالم تأليف و. ن. ويشر: أنه كان من أثر ازدهار التجارة على طول الطرق التجارية ابتداءً من البندقية، أن طوائف الحرف قد فقدت نفوذها، وأن الرحالة قد أصبحوا نوعًا من الفينيقيين المأجورين الذين ليس لديهم أدوات فنهم. ولم يعد لهم أي دخل في إدارة المدن، ومن ثم انحصرت السلطة والثروة في أيدي الثراة من ممثلي المقاطعات أمام مجلس الأمة؛ مما أدى إلى إحلال المجتمع القائم على النقود والمادة محل المجتمع الذي كان يقوم على استغلال الأرض، وأصبح المصرفي أهم من المالك، وكلما ضعف نفوذ الكنيسة نهضت مهنة المصرف؛ ذلك أن رجال الدين في القرون الوسطى كانوا يذهبون إلى أن الربا الفاحش وإقراض النقود بفائدة أمر مناقض للعقيدة المسيحية. ولما كان اليهود غير خاضعين لهذا القيد، فإن الصليبيين والطوائف قد فقدوا مركزهم كتجار، على حين أنه كان من أثر تفرق اليهود وحذقهم اللغات أن أصبحت مهنة إقراض النقود وقفًا عليهم، ومن هنا نشأت كراهة اليهود؛ لأن الناس كرهوا أن يكون لليهود هذا الاحتكار، خاصة حين يكون الناس مدينين لهم، وأصبح يسيرًا على الحكومات، حين تقع في ضائقة، أن تحرك الشعور الوطني ضد اليهود، الذين أصبح عنصرهم هدفًا للاضطهاد الهمجي المستمر. ففي كل مدينة كان اليهود يرغمون على أن يسكنوا حيًّا خاصًّا، وأن يرتدوا زيًّا خاصًّا كان أحيانًا مميزًا بخيط أصفر اللون. وكان المسيحيون المتدينون يبصقون عليهم حين يلقونهم في الشوارع، وكان الأمراء المأزومون، يعمدون إلى سجنهم وتعذيبهم إلى أن يكشفوا مخابئ أموالهم. وعلى هذا كانت مهنة إقراض النقود مهنة خطرة، وحسبنا أن نذكر أن الفائدة قد بلغت، في خلال القرون الوسطى ٤٠ في المائة، وأن البغضاء الدينية التي اقترنت بالغيرة المالية، قد لبثت إلى اليوم.
اضطهاد اليهود في ألمانيا
كان الاضطهاد الأول لليهود في ألمانيا، ولا سيما في بداية القرن الحادي عشر، خاصة حين انتقل قسيس مسيحي يدعى ويكلينوس إلى اليهودية، فقد كان من أثر هذا أن طرد الإمبراطور هنري الثاني اليهود من ماينس وغيرها، وأن أكره الكثيرين منهم على الانتماء إلى المسيحية. وقد دفع اليهود الأموال الكثيرة لوقف حركة الاضطهاد واستعادة دينهم.
واجتمع في شمال فرنسا ٢٠٠ ألف صليبي اجتازوا بلاد الرين والدانوب ناشرين الرعب والفزع، ومقترفين ذبح اليهود الذين أبوا التخلي عن دينهم. وقيل: إن ١١ ألف يهودي قد لقوا حتفهم في مدن الرين جزاء استمساكهم بعقيدتهم. وفي «وورمس» دفنت جثث ٨٠٠ يهودي، كما أن ١٣٠٠ ماتوا في «ماينس». وقد انتمى بعض اليهود إلى المسيحية فرارًا من الموت، ولما وصل المسيحيون الصليبيون هؤلاء تحت قيادة جودفري دي بويون في طريقهم من أوروبا والمجر إلى بيت المقدس، توجوا اضطهادهم بأن وضعوا اليهود هناك في معبدهم وأحرقوهم أحياءً في سنة ١٠٩٩م. ومما يجدر بالذكر هنا أن الغوغاء هم معظم من اقترف هذه الفظائع والمناكر، وحسبنا أن نذكر أن الإمبراطور الألماني هنري الثاني، الذي كان في إيطاليا، غضب من المعتدين ورخص لليهود الذين أرغموا على تغيير دينهم بالرجوع إليه.
أما في الحرب الصليبية الثانية في سنة ١١٤٦م، فإن البابا يوجنيوس قد أصدر أمرًا يقضي بأن كل مدين لليهود يعفى من دفع فائدة دينه متى أصبح في عداد المقاتلين الصليبيين، كذلك تعرضت أملاك اليهود للمصادرة في فرنسا وفاقًا للأوامر التي أصدرها يومئذ لويس السابع ملك فرنسا.
واستمر اضطهاد اليهود في ألمانيا في أثناء الحرب الصليبية الثانية أيضًا، ولولا تدخل الرجل الورع برنار كليرفو، لأبيدوا عن آخرهم، وقد لجأ بعض اليهود إلى قصر كبير أساقفة «هاينس» الذي كان أيضًا رئيس وزارة الإمبراطور ومستشاره، وإن كان لم يحل دون فتك الغوغاء بهم في حضوره.
أما في الحرب الصليبية الثالثة التي أوحى بها البابا إنوستنت، فإن ما أعلنه قداسته من عدهم عبيدًا دائمين؛ لأنهم قتلوا المسيح، قد شجع السلطات الرسمية في الكنيسة على معاملتهم في ازدراء.
وفي الحقيقة إن هذه الحركة كانت سياسية، فلن تجد منشأها في النزاع القديم بين أوروبا وآسيا أو في الصراع الطويل بين الكنيسة والهيكل — المسيحية واليهودية — ذلك الصراع الذي طالما سالت من أجله الدماء وأزهقت الأرواح في القرون الوسطى، وإنما كانت نتيجة تحرير اليهود في أواسط القرن التاسع عشر. فقد عاش اليهود آلاف السنين في أوروبا، ومع ذلك فما برح سواد الأوروبيين ينظرون إليهم نظرهم إلى أجانب دخلاء، ولا يقبلون اندماجهم في أوساطهم. ولعل السبب في ذلك أن اليهود حافظوا على قوميتهم، وقضوا السنين الطويلة معتكفين في أحيائهم لا يختلطون بالشعوب الأخرى، ولا يتزوجون من سواهم؛ فاحتفظوا بطابع خاص وصبغة خاصة. وكان حي اليهود «الجيتو» في كل مدينة شبه معزل لليهود أقامه المسيحيون حتى يقوا المسيحية شر «اليهودية»، ولكنه ما لبث أن أصبح مركزًا انحصرت فيه الجهود المالية والسياسية والاجتماعية التي قضت على النظام الإقطاعي في أوروبا، فإن اليهودي الذي قضى السنين الطويلة في «الجيتو» مشردًا غريبًا عن بلاده، احتفظ بالتقاليد السامية وأضاف إليها النشاط الأوروبي. ولما كان محرومًا وفاقًا لشرائع البلاد من دخول الجيش أو امتلاك الأرض أو تأليف الشركات التجارية فقد أصبح يشتغل بالمال ويكتنزه ويدخره. واضطهدته الكنيسة وضايقته الحكومة فأصبح داعية للمبادئ الديموقراطية، وأصبح شديد الحذر والحيطة، وتنبهت حواسه واشتد ذكاؤه وقوي جهاده ودهاؤه، ولما حرر من قيوده ورخِّص له في أن يغادر «حي اليهود» مستمتعًا بحقوق المواطنين الآخرين برز من حيه مخلوقًا جديدًا فلم يعد ذلك اليهودي الشرقي، وإنما كان أوروبيًّا عصريًّا يمتاز عن الأوروبيين بدقة ذكائه وسعة حيلته.
ولما كان اليهود كلهم من طبقة واحدة هي الطبقة المتوسطة فقد توحدت جهودهم وقواهم في تلك الطبقة، وما لبثوا حتى أصبحوا في طليعتها ماليًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، خاصة في ألمانيا والنمسا، وظهر تفوقهم وتسلطوا على شئون البلاد، ونبغ منهم أفراد كثيرون، منهم لدويج بورنه وهنريك هينه وإدوارد جانز وكارل ماركس وموسى هيس. وقبض أغنياؤهم على الحركة المالية في البلاد، وتجلى النفوذ السامي في كل الدوائر. وهكذا بدأ القلق يساور النفوس، وشعر الألمانيون والنمسويون أنهم سيصبحون غرباء في ديارهم، وأنهم لن يطول بهم الوقت حتى يصبحوا عبيدًا ويصبح اليهود سادة. وعلى الرغم من أن اليهود برزوا على مواطنيهم في ألمانيا في الكثير من الشئون فإنهم كانوا أكثر الناس محافظة على القانون وخضوعًا للشرائع. ولم يترددوا في أن يبذلوا كل ما لديهم في سبيل رفعة ألمانيا التي اتخذوها وطنًا ثانيًا، حتى إن البرنس بسمارك نفسه اعترف بأن المال الذي حصلت عليه الحكومة للإنفاق على حرب سنة ١٨٦٦م دفعه المالي اليهودي بليخرودر بعد أن رفضت الأسواق المالية تعضيد الحكومة الألمانية في سياستها الحربية. وقد حدث في ١٨٧٠م عند توحيد ألمانيا بعد حرب السبعين أن تولى إدوارد لاسكر اليهودي زعامة حزب الأحرار الوطنيين، واشتد نفوذ اليهود واستولوا على معظم شئون البلاد المالية.
وكان الحقد على اليهود كامنًا في النفوس ينتظر الفرصة لينفجر إلى أن سنحت الفرصة في سنة ١٨٧٣م؛ إذ نشر صحفي صغير الشأن من هامبورج يدعى «ولهلم مار» رسالة دعاها «ديرسيج ديس يودنتوس أوبرداس جرمانتوم»؛ أي «انتصار اليهودية على الألمانية».
ولقيت هذه الرسالة أذهانًا مهيأة لقبولها؛ فهاج الشعب ضد اليهود الماليين، وانفجر الغيظ المكظوم.
وحدث يومئذ أن بسمارك اختلف مع حزب الأحرار الوطنيين الذي يرأسه لاسكر اليهودي فأخذ يعضد هذه الحركة. ثم انحصرت زعامة الحركة في رجل يدعى «أدولف ستوكر» له نفوذ اجتماعي كبير وقوة خطابية وعزم من حديد، حتى إذا كانت سنة ١٨٨٠م بلغت الحركة أشدها، وانتشر اضطهاد اليهود في كل مكان، وقوطعوا وأهينوا واعتدي عليهم، ورفعت العرائض إلى البرلمان الألماني بطلب حرمان اليهود من دخول المدارس والجامعات وعدم تعيينهم في وظائف الحكومة.
وعضد حزب المحافظين هذه الحركة مناوأة لحزب الأحرار الوطنيين الذي كان ينصر اليهود. ولم يخل اليهود يومئذ من أنصار بينهم ولي عهد ألمانيا «الإمبراطور فردريك بعد ذلك»، الذي صرح بأن هذه الحركة عار وفضيحة. ثم انتشرت فكرة اضطهاد اليهود بين طبقات الشعب الجاهلة، وثار العامة ضد اليهود، وأحرقوا معابدهم، وقتلوا منهم أشخاصًا عديدين. وقبض في سانتن على جزار يهودي بتهمة أنه ذبح طفلًا مسيحيًّا ليصنع الفطير بدمه، وحوكم فحكم ببراءته، ولكن ذلك لم يقنع العامة ببطلان هذه التهمة. وقام حزب الأحرار الوطنيين يدافع عن اليهود ويتهم حزب المحافظين بأنه يدير هذه الحركة. وقامت الاختلافات الشديدة بين الحزبين، وانتهى الأمر بتراجع حزب المحافظين وهدوء حركة العداء بين اليهود، حتى إذا كانت سنة ١٨٩٣م خمدت تلك الحركة بعد أن أهاجت الرأي العام طويلًا في نواحي أوروبا.
اضطهاد اليهود في روسيا
كان يهود روسيا يعيشون في أحيائهم مكدَّسين؛ إذ كان يَعدُّهم الروسيون أجانب غرباء، وينظرون إليهم نظر الهنود إلى الأنجاس المنبوذين، ثم قامت حركة تحرير الفلاحين في روسيا، وكانت هذه الحركة صدمة قوية لأصحاب الأرض، فكان اليهود هم الفائزون في تلك الحركة؛ إذ لم يكونوا من أصحاب الأرض ولم يكونوا من الفلاحين، فاشتغلوا بالأعمال المالية ومضوا يقرضون الطرفين ونشطوا للاستفادة من أن يكونوا وسطاء بين الطرفين فقويت شوكتهم واشتد نفوذهم هنا وهناك. ثم كانت الحرب بين روسيا وتركيا، وشعر الشعب الروسي بأنه في حاجة إلى تعديل نظام الحكم في بلاده، وقام الفوضويون يبثون روح التذمر بين الفلاحين، وشعر القيصر إسكندر الثاني بخطورة الحالة فوقع مرسومًا بمنح بلاده الدستور. ولكنه اغتيل قبل تنفيذ هذا المرسوم، وأبى خلفه أن ينفذ سياسة أبيه، وقويت عند ذاك أحزاب المعارضة وانتشرت مبادئها واشتد التذمر. وكان اليهود ينتهزون هذه الفرصة ليزيدوا نشاطهم المالي، وشعر الروسيون بأن اليهود يستولون على مال البلاد وينعمون به وهم في فقر مدقع، فبدأ الحقد يثمر ثمره. ثم انتشرت أخبار اضطهاد اليهود في ألمانيا، فنبهت الروسيين إلى ما لم يكونوا يدركون، وانفجر العداء ضد اليهود فجأة وعلى غير انتظار إثر مشاجرة في حانة خمر في «خرسون» حيث اشتبك بعض الروس في عراك مع بعض اليهود متهمين إياهم بأنهم يذبحون أطفال المسيحيين ليصنعوا من دمائهم الفطائر.
وثارت ثائرة المتشاجرين وقد أعماهم السكر فحطموا الحانة وانطلقوا ينهبون ويسلبون حي اليهود ويفتكون بهم فتكًا ذريعًا. وانتشرت الاضطرابات في سرعة في كل مكان، وانقض الأهلون في كل مدينة يقتحمون أحياء اليهود وينهبونها ويحرقون منازلهم. وبعد أسابيع كانت روسيا الغربية من البحر الأسود إلى بحر البلطيق شعلة نار مضطرمة ضد اليهود، وقد أحرقت مساكنهم ودمرت دورهم ونهبت ممتلكاتهم وسفكت دماؤهم. وذبح مئات من الرجال والأطفال اليهود، وهتكت أعراض المئات من اليهوديات، وأصبح الآلاف منهم لا يجدون مأوى ولا طعامًا. وانتشرت المذابح والحرائق في أكثر من ١٦٧ مدينة وقرية بينها «وارسو» و«أودسا» و«كيف». وضجت أوروبا لهذه الفظائع، واتهمت الحكومة الروسية بأنها تؤيد هذه المذابح لتشغل الناس عن دعاية الفوضويين وعن التذمر من الحكم القائم في البلاد. ومما لا شك فيه أن أولي الأمر الحربيين والملكيين في روسيا كانوا يؤيدون هذه الحركة ولا يتخذون أي إجراء لإخمادها ومقاومتها. ومع أن القيصر أبدى في أول الأمر استياءه من هذه الحركة إلا أنه ما لبث أن ارتاح لها تحت تأثير وزرائه، وأصدر مرسومًا قيصريًّا يقضي بوقف تدخل اليهود في شئون البلاد، وإرغامهم على أن يقيموا في أحيائهم لا يغادرونها ولا يشتركون في الشئون العامة، فكأنما قضى عليهم بالاعتقال الأبدي وحرمهم من كل الحقوق المدنية. وكان تأثير هذا المرسوم شديدًا في الممالك الأخرى؛ إذ دل على قسوة لا مبرر لها، واحتجت دول أوروبا وأرسلت الحكومة الإنجليزية نداءً إلى القيصر تناشده فيه أن يكف عن اضطهاد اليهود، فكان جوابه: «لا أريد أن أسمع شيئًا عن هذا الشعب.» وكان من أثر هذا القانون القيصري أن شلت الحركة التجارية والمالية في البلاد، خاصة وقد هاجر من روسيا ٧٨ ألف يهودي، وحملوا معهم ما قدرت قيمته بنحو ٦٠ مليون روبل من أموالهم. ولما انتهت هذه الاضطرابات في سنة ١٨٨٢م تبين من الإحصائيات أنها كلفت روسيا أكثر مما كلفتها حربها مع تركيا في سنة ١٨٧٧م؛ فقد وقفت حركة التجارة وأفلست بنوك عديدة، ونقلت أموال جمة إلى مصارف أجنبية، ونزلت أسعار الأوراق المالية الروسية. ومع ذلك فإن الحكومة الروسية مضت في سياستها التي تقضي بالقضاء على اليهود؛ فغادر روسيا العدد الكبير من اليهود، واستمرت هذه الاضطهادات ثلاث سنوات إلى أن مات القيصر فكان خلفه أقل صرامة، وقد تعبت البلاد من تلك الحوادث الدموية فخفت تلك الاضطهادات.
اضطهاد اليهود في إنجلترا
وحين حكم السكسون إنجلترا، كان عدد اليهود قليلًا، وكانت حرفتهم التجارة وقد زادوا مع وصول وليم الظافر في ١٠٧٠م، وأقاموا في لندن «في أولد جوري شيبسايد»، وفي أكسفورد وغيرهما، وقد استمتع يهود فرنسا المهاجرون إلى إنجلترا بشيء من الحرية ورغادة العيش.
غير أنه قد كدر صفو عيشهم ما اتهموا به في عهد حكم ستيفين، بأنهم قتلوا في «نوريش» صبيًّا مسيحيًّا في ١١٤٤م، وكان هذا هو الاتهام الأول من هذا القبيل في العالم، وقد تبعه في إنجلترا اتهامان آخران على غراره.
ولئن كانوا قد استمتعوا في عهد هنري الثاني بشيء من الحرية والسلام، غير أنه قد حدث أن أشاع الغوغاء في إنجلترا حين احتفل بتتويج الملك ريتشارد قلب الأسد أن جلالته قد أمر بذبح اليهود. فسرعان ما كانوا فريسة السلب والنهب، وكانت دورهم عرضة للحريق والدمار، وزاد هذا حين خرج الملك في الحرب الصليبية. وقد حدث في «يورك» أن أحد الرهبان كان بين محاصري قلعة لجأ إليها اليهود، قد رماه أحد هؤلاء بحجر فثار ثائر المحاصرين للقلعة، واضطر اليهود أن يقتلوا أنفسهم بأيديهم، فقد ذبح رئيسهم «جوس» زوجه وأولاده، وذبح الكاهن اليهودي بوم توساس جويني-جوس ثم قتل نفسه. وقد حبس الملك جون جميع اليهود وصادر أموالهم.
الاضطهاد في سائر البلاد الأوروبية
ولم تظهر الحركة ضد السامية في مثل هذا المظهر العنيف إلا في رومانيا، فقد كان اليهود يعيشون في غبطة وسعادة في أيام الحكم التركي، فلما حررت رومانيا قام الرومانيون يضطهدون اليهود، وقام زعماؤهم يدعون لإعلان الحرب الدينية ضدهم، وصدر قانون يجعلهم من الأجانب على الرغم من إقامتهم القرون الطويلة في البلاد، وقام الأهلون في ١٩٠٠م يضطهدونهم اضطهادًا شنيعًا وينهبون دورهم، وشرع اليهود يهاجرون من رومانيا ويفرون منها زرافات ووحدانًا.
أما في النمسا فقد بدأت حركة اضطهاد اليهود في الوقت الذي بدأت فيه في روسيا وألمانيا. وكان مبدأَها أن فتاة مسيحية تدعى «إسترسوبيموس» اختفت من قريتها في المجر في أبريل ١٨٨٢م، وأشيع أن اليهود اختطفوها وذبحوها، فثار الأهلون وقبض على خمسة عشر يهوديًّا أودعوا السجن، ودبرت محاكمتهم تدبيرًا، وجيء بشهود يشهدون زورًا، وقبض البوليس على ابن أحد المتهمين وهو غلام في الرابعة من عمره وما زال يعذبه حتى حمله على أن يقرر أن أباه ذبح الفتاة. وبدأت المحاكمة في ١٩ يونية. وكانت من أشهر المحاكمات التاريخية، واستمرت إلى ٣ أغسطس؛ فانكشفت في أثنائها مؤامرة البوليس، وافتضح أمره، وحكمت المحكمة ببراءة المتهمين جميعًا. ومع أن هذه أخمدت حركة العداء ضد اليهود إلا أن المحرضين الألمانيين لم يدخروا وسعًا في إثارة خواطر العامة في بلاد النمسا ضد اليهود، فاستمر اضطهادهم طويلًا، ولم تخفَّ وطأة هذا الاضطهاد إلا في سنة ١٩٠٧م.
ولئن كانت فرنسا لم تتأثر بالدعاية ضد السامية كثيرًا على الرغم من أن كل الظروف الاجتماعية والسياسية التي أثارت الألمان على اليهود كانت متوافرة فيها، إلا أنه قد ظهرت حركة الاضطهاد في سنة ١٨٨٢م حين خرج من خدمة آل روتشيلد وكيل أعمالهم «بول بونتو»، فسعى لتحطيم ذلك البيت المالي الكبير، وأخذ ينشر الدعاية ضد اليهود، وكان لنفوذه الكبير أثره في إثارة الخواطر، وزاد في ذلك الكتاب الذي نشره «إدوارد درومون» في سنة ١٨٨٦م، وعنوانه «فرنسا اليهودية»، وطعن فيه اليهود طعنًا شديدًا، وذكر عنهم فضائح شنيعة، وانتشر ذلك الكتاب انتشارًا واسعًا، ثم أصدر درومون جريدة اسمها «الكلمة الحرة» وقفها على الدعاية ضد اليهود فراجت رواجًا شديدًا، ثم كانت سنة ١٨٩٢ عندما ظهرت فضيحة قتال باناما وانكشف ما كان في مشروع القنال من اختلاسات وسرقات شملت بعض اليهود؛ فانفجر الغضب الكامن، ثم اتسعت الحركة في الأوساط العسكرية حين قبض في سنة ١٨٩٤م على ضابط يهودي يدعى «الكابتن ألفريد دريفوس»، وحوكم بتهمة الخيانة العظمى، فكان ذلك أساسًا لاشتداد الحملات ضد اليهود، خصوصًا بعد أن حكم بتجريد «دريفوس» من رتبته ونياشينه وبسجنه مؤبدًا. ولما كانت أسرة دريفوس ذات مكانة ونفوذ واثقة من براءة ولدها، سعت دون تراخٍ في إثبات براءته، وعلى الرغم من ظهور الأدلة القاطعة ببراءته فإن وزارة الحربية صممت على عدِّه مجرمًا، وأخيرًا أعيدت محاكمته، ولكن حكم عليه مرة أخرى بالإدانة فكان لذلك الحكم وقع سيئ في نواحي أوروبا؛ مما أدَّى إلى أن الحكومة الفرنسية تداركت الأمر مشيرة على رئيس الجمهورية بالعفو عن «دريفوس» فتم ذلك.
وأعيدت إلى «دريفوس» رتبته العسكرية، ومنح وسام جوقة الشرف، وعوض عن الإساءات التي أسيء إليه بها، وكان ختام هذه القضية ختامًا لاضطهاد اليهود في فرنسا.
إحصاء عدد اليهود
في مستهل القرن الحالي كان عدد اليهود ١١ مليونًا، وبعد ثلاثين عامًا ١٦ مليونًا، وأخيرًا ٢٠ مليونًا. والعدد في كل هذه الإحصاءات تقريبي وبعيد عن الدقة. ولقد كان في روسيا قبل حرب ١٩١٤–١٩١٨م خمسة ملايين ونصف، وفي أمريكا ثلاثة ملايين، وفي ألمانيا مليون، وفي النمسا والمجر مليونان ونصف، وفي تركيا وفلسطين القديمة ٦٠٠ ألف، وفي مصر ٥٠ ألفًا، وفي فلسطين وحدها ٨٠ ألفا، وفي لندن ٢٠٠ ألف. وفي البلاد البريطانية أقل من هذا. وفي فرنسا ٢٠٠ ألف، ورومانيا ٤٠٠ ألف، وبولندا أكثر من ذلك، وفي مراكش ١٥٠ ألفًا، وفي إيطاليا ٧٠ ألفًا، وطرابلس ٢٥ ألفًا، والتركستان وأفغانستان ١٥ ألفًا، والمكسيك ١٠ آلاف، وفي بلاد أخرى يتراوح العدد بين ٥٠ و١٠٠٠. هذا؛ وقد أنقصت المذابح النازية عدد اليهود كثيرًا.
اليهود في أمريكا
بدأت إقامة اليهود في أمريكا في القرن السادس عشر، في البرازيل بعد الاحتلال الهولندي الذي استمتعوا في ظله بالحقوق المدنية كلها. أما في المكسيك وبيرو فقد كانوا ضحية الاضطهاد والتفتيش. وفي سيورينام كانوا يعاملون معاملة البريطانيين. وقد أقاموا في باربادوس وجامايكا ونيويورك منذ القرن السابع عشر. أما في حرب استقلال أمريكا، فقد كانوا بارزين مع الجانبين، منذ أن اكتسبوا الثروة والمكانة الاجتماعية تحت ظل الحكم البريطاني في أمريكا. وبعد أن تم الاعتراف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية، انتشروا في أنحاء أمريكا كلها مستمتعين بوسائل التحرير، وزاد عددهم على أثر تزايد هجرة يهود روسيا، وقد فازوا بالمناصب العامة الكبيرة. وكان من أسباب نهضة اليهود في أمريكا اجتماع ربابنتهم واتحاد كلمتهم في مؤتمر في سينسيناتي، وفي ١٩٠٨م تم إنشاء جمعية «الجالية اليهودية في نيويورك»، وكان لهم أربعة أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي، و٣٠ نائبًا في مجلس النواب، وعين كثيرون في المناصب الديبلوماسية، وعين مستر أ. س. ستاروس وزيرًا، وآخرون في مناصب التدريس في الجامعات وفي القضاء، وغزوا ميادين الفن والأدب والصناعة والتجارة. وكان جاكوب «شريف» اليهودي من أكبر المحسنين والأجواد اليهود. هذا وقد أنشئوا في أمريكا كليات جراتز ودرويسي. وقد بذلوا أقصى المعونة لإخوانهم اليهود الذين كانوا مضطهدين في روسيا وغيرها في البلاد الأوروبية.
تحرير اليهود في أوروبا
أما أستراليا فقد رحبت بهم، وفي سيدني أقدم جمعية للجالية اليهودية في سنة ١٨١٧. وفي ملبورن في ١٨٤٤، وفي ١٨٧٠م ألغيت كل القيود عن اليهود في أكسفورد وكامبردج، وأصبحوا يُنتخبون للأستاذية ومناصب الجامعتين.
وفي سنة ١٨٤١م، أنشئت جمعية إصلاحية مستقلة، وكان «الحاخام» رئيسًا لجماعة اليهود في إسبانيا والبرتغال. وفي سنة ١٨٧٠م كان للحاخام الأكبر السلطة الاسمية على يهود الأقاليم والكنائس والطقوس اليهودية، وهو رئيس ديني للمعابد المتحدة، وقد أنشئ منصبها في ١٨٧٠م وهي جماعة العاصمة، وكذلك لاتحاد المعابد، وتشترك الجمعيات اليهودية الإقليمية في انتخاب الحاخام الأكبر. وفي ١٩٠٩م عقد أول مؤتمر من اليهود في لندن، وكان أعضاؤه من الأغنياء أصحاب المنشآت التعليمية، وتألف مجلس لليهود في ١٨٥٩م وكلية اليهود في ١٨٥٥م، والجمعية التاريخية اليهودية في ١٨٩٣م. وبرز بين اليهود الإنجليز س. ج. مونتيفور في العلوم الفلسفية والنظرية، وفي الأدب إسرائيل زانجويل وألفريد سوترو. وفي الفن س. هارت ور. أ. وس. ج. سولومون. وفي الموسيقى جولياس بنيديكت وفريدريك هايمين كووبين، واشترك أكثر من ألف يهودي إنجليزي ومن يهود المستعمرات في حرب جنوب أفريقيا، وقد كان من أثر هجرة يهود روسيا صدور قانون ١٩٠٥م. أما ألمانيا فقد أنشئت فيها الجمعية اليهودية الألمانية في ١٨٧٢م، وفي أمريكا أنشئت الجالية اليهودية في ١٩٠٦م، كما أنشئت جمعيات واتحادات وهيئات يهودية أخرى في بلاد العالم كلها للنظر في الشئون اليهودية في خاصة طقوسهم ومعابدهم ومدارسهم ومنشآتهم الفنية وأحيائهم، مثل: الجمعية الاستعمارية اليهودية التي أنشأها البارون هيرش في الأرجنتين.
أما الحركة التي نهض بعبئها تيودور هيرزيل في ١٨٩٥م فكانت ثمرة الحركة الأولى؛ حركة مناهضة السامية، وكان الغرض الذي يرمي إليه هذا الداعي إنشاء دولة يهودية في فلسطين، ولكن أكثر اليهود لم يستجيبوا إلى هذه الدعوة، فلبث أنصارها قلة منهم مؤثرين أن يظلوا منتشرين بين الشعوب المختلفة.
هذا؛ وقد كانت كل دولة تتخذ مع رعاياها اليهود من التشريعات والنظم ما يتفق ونوع الحكم ووجهته؛ ففي فرنسا رخص بإنشاء الحلف اليهودي في ١٨٦٠م، وفي إنجلتر بالجمعية الإنجليزية اليهودية في ١٨٧١م.