ميلاد الوطن القومي اليهودي
وقد ولد لإسحاق: عيسو ويعقوب، الذي رزقه الله ١٢ ولدًا، وهم: راوبين، وشمعون، ولاوي، ودان، ويهوذا، ونفتالي، وجاد، وأشير، وبساخر، وزبلون، ويوسف، وبنيامين. ومن هؤلاء تسلسلت أسباط بني إسرائيل الاثنا عشر. أما يوسف — صاحب القصة المعروفة — فقد باعه إخوته للإسماعيليين، الذين أخذوه إلى مصر وباعوه عبدًا في سنة ١٧٢٩ق.م. وبعد أن عاش ١٤ سنة عبدًا أسيرًا، تقدم في باب الفرعون تحوتميس الثالث أحد ملوك الأسرة الثامنة عشرة. وكان من أثر تقدمه هذا، أنه استطاع أن يقي أباه وإخوته خطر الموت جوعًا. وفي سنة ١٧٠٦ق.م ذهب أبوه مع أولاده إلى مصر، وأقاموا فيها مع يوسف، وتكاثروا حتى أصبحوا أمة. أما يعقوب فقد مات في سنة ١٦٨٩ق.م. وأما يوسف فقد مات في سنة ١٦٣٥ق.م. وبعد وفاة الفرعون المشار إليه، خلفه آخرون تنكروا للإسرائيليين وعدوهم عبيدًا، بل إن أحد الفراعنة قد أمر بأن كل ولد ذكر يولد لهم، يلقى حالًا في النيل، لكي ينتهي مصيرهم إلى الفناء التام، خشية كثرتهم ونفوذهم.
وعندنا أن هذا هو عهد الاضطهاد الأول لليهود، ذلك الاضطهاد الذي اتخذ منذ يومئذ وفي فترات مختلفة من التاريخ صورًا عديدة، لا تزال آثارها باقية إلى اليوم.
ولما أوحى الله إلى موسى بالخروج ببني إسرائيل، كان المراد من ذلك أن يذهبوا إلى أرض كنعان، التي وعد الله إبراهيم أن يجعلها ملكًا لهم، لكن اليهود قد أغضبوا ربهم؛ إذ عادوا إلى عبادة الأصنام، فأهلك الله أكثرهم. ومنهم من ضل في صحراء سينا ٤٠ سنة.
وقد مات موسى في سينا ولم يعرف قبره إلى الآن، ولم يدخل كنعان إلا يوشع بن نون وكالب بن يفنه من هؤلاء. ولكن دخلها أولادهم وأولاد أولادهم. وبعد موسى قاد يوشع بن نون الإسرائيليين إلى أرض الميعاد «فلسطين» التي قسمها على أسباط الإسرائليين الاثني عشر، وبعد موت يوشع ارتدُّوا إلى عبادة الأصنام، وقام بينهم قواد وزعماء عرفوا باسم «القضاة» يحكمون الشعب إلى أن قام الملك شاول الأول بعد أن بلغ عددهم ١٤ في مدة ٣١٠ سنين.
وكان بين هؤلاء القضاة شجعان، ظهر بينهم القاضي جدعون، وشمشون الجبار، الذي قيل: إن شعر رأسه كان يعطيه قوة تضاهي قوة مائة رجل، وأنه شق أسدًا قسمين، وقتل يومًا ٣٠ رجلًا. ولما ضاق اليهود بحكم القضاة لجئوا إلى النبي صموئيل، وكان يومئذ قاضيًا وزعيمًا لهم، فاختار لهم شاول «شاءول» بن قيس، ومسحه ملكًا عليهم، وهو أول ملوكهم، وكانت مدته ٤٠ سنة، وكان مستقيمًا ثم عصى الله، وبعد موت شاءول اختار شعب يهوذا داود في سنة ١٠٥٥ق.م، وبعده سليمان، ثم ابنه رحبعام في سنة ٩٧٥ق.م. وفي عهده انقسم اليهود مملكتين: (١) الملك يوربعام بن ناباط، ومعه عشرة أسباط وعاصمته السامرة «أو سامر أو ساموريا»، ومملكتهم تدعى مملكة إسرائيل. و(٢) رحبعام بن سليمان، ومعه سبطا يهوذا وبنيامين وعاصمته أورشليم، واقتتل الملكان، وزحف الفرعون شيشاق إلى أورشليم ناهبًا الهيكل. أما مملكة رحبعام فقد أطلق عليها اسم مملكة يهوذا — كما أوضحنا قبلًا.
وكان عدد ملوك إسرائيل ١٩ ومدتهم ٢٥٠ سنة، وفي سنة ٧٢١ق.م حاصر شلمناصر — ملك آشور — «السامرة» وأسر الأسباط العشرة، وتلاشى أمرهم. وبقيت مملكة يهوذا وعدد ملوكها ١٩ من ذرية داود. وقد حدث أن ملكهم بهوياقيم أذعن لملك مصر ودفع الجزية، وأن زحف نبوخذ نصر «أو بختنصر» — ملك بابل — إلى أورشليم في سنة ٦٠٦ق.م، وسبى جانبًا من الإسرائيليين، وهذا هو السبي الأول. وبعد ٨٠ سنة زحف في عهد الملك اليهودي يهواكين بن يهوياقيم وأسره مع بعض الإسرائيليين. فأقام المجلس مكانه ابنه هيرودس الكبير، الذي يقال: إنه قد أمر بقتل الأطفال في بيت لحم لكي يميت الطفل «عيسى» الذي أصبح عنوانًا للديانة المسيحية.
الاشتراكية والوطن القومي
بعد أن نادى أحد أنصار كارل ماركس، «موسى هيس»، بأن المسألة اليهودية سوف تحل حين يتحقق البرنامج الاشتراكي، الذي يكفل الحرية للإنسانية كلها، عاد بعدئذ فذهب في ١٨٦٢م في كتابه «روما وبيت المقدس» إلى أن الاشتراكية وحدها لن تضع حدًّا للمركز الضعيف الذي يشغله شعب لا وطن له، وأنه ينبغي الاعتراف لليهود بالقومية في أرض أجدادهم، تلك القومية التي اعترف بها للإيطاليين واليونان، خاصة بعد فتح قناة السويس.
جاء بعد هذا ربابنة وحاخامات أوروبا الشرقية، فحملوا الاتحاد الإسرائيلي العام الذي كان يسعى لتنوير أذهان اليهود على أن ينشئ مدرسة زراعية باسم «مجتمع إسرائيل» في فلسطين لإعداد الشبان اليهود للتحرير، وقد منحهم سلطان آل عثمان في ١٨٧٠م قطعة من الأرض لهذا الغرض بجوار يافا. وفي الوقت ذاته أنشأت الهيئات الدينية الأمريكية في ١٨٦٦م الكلية الأمريكية البروتستانتية، والهيئات الدينية الفرنسية في ١٨٧٠م جامعة سان جوزيف الكاثوليكية، وذلك لتشجيع الحركة الوطنية العربية التي سارت إلى جنب الحركة اليهودية.
كان توافد اليهود المضطهدين المهاجرين من روسيا ورومانيا على فلسطين قليلًا ومتقطعًا. وقد هبطوا سهول شارون وتلال ساماريا والخليل. وقد أطلق على قراهم العديدة اسم باب الأمل والخطوة الأولى لصهيون والحجر الركني.
وقبل نشوب الحرب العالمية الأولى في ١٩١٤م، بلغ عدد القرى اليهودية، وكأنها الواحات المبعثرة في الصحراء الفلسطينية، ٤٢ قرية. وكان البارون إدموند يمولها بالملايين من الجنيهات. هذا؛ وقد تألفت في أوروبا الشرقية، ثم الغربية، جمعيات محبي صهيون لإسكان يهود روسيا في فلسطين.
اهتمام الإنجليز بالتوراة في فلسطين
في ١٨٩٠م طلب زعماء اليهود الإنجليز إلى الحكومة البريطانية أن يؤذن لليهود في الرجوع إلى الأرض المقدسة، وذلك حين برزت أهمية المصالح البريطانية في فلسطين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، منذ فتح قناة السويس والاحتلال البريطاني لمصر في ١٨٨٢م؛ مما جعل لفلسطين مركزًا عسكريًّا مهمًّا. هذا إلى عناية البريطانيين بدراسة التوراة، والتنقيب عن آثار ماندا من الجهات التي وردت فيها، وقد فكرت إحدى الشركات البريطانية في مدِّ خط حديدي بين آكر ودمشق. غير أن المشروع لم يكتب له التوفيق؛ إذ إن الحكومة التركية أعدت مشروعًا أكبر لربط الحجاز حديديًّا بسوريا.
ثم تجدد الاهتمام بأمر عودة اليهود إلى فلسطين منذ أن تألفت في أوائل القرن التاسع عشر، جمعية إنجليزية مهمتها دراسة أرض التوراة، مما كان من أثره إعداد سلسلة من الكتب بدأت بشعر «دين ميلمان» عن سقوط «القدس» وتاريخ اليهود، وقد أصبح اليهود منذ يومئذ وكأن إنجلترا المتعطشة لقراء التوراة قد احتضنتهم أو حمتهم على مثال ما كان من ادِّعاء روسيا القيصرية يومئذ حماية المنتسبين إلى الكنيسة الأرثوذكسية، وفرنسا حيال اللاتين، وبروسيا حيال البروتستانت. كذلك كانت البعثات التبشيرية في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا تتسابق في إنشاء المدارس لأبناء لبنان وسوريا، وتضاعفت العناية بجعل التوراة غربية الطابع بعد أن كانت شرقيته. وقد ذهب اللورد شافتسبري «١٨٠١–١٨٨٥م» من أقارب لورد بالمارستون — وزير الخارجية البريطانية يومئذ — إلى أن عودة بني إسرائيل إلى فلسطين ستكون قوة للسياسة البريطانية. وكان مما استند إليه اللورد شافتسبري في دعوته هذه، أنه سيتاح لأراضي فلسطين التي فشت فيها الفوضى والفقر وقلَّ سكانها؛ الفوز بأموال اليهود، فتستصلح تربتها من غير أن يحمل أحد العبء عنهم، خاصة أن اليهود لا يحفِلون بالشئون السياسية.
وهنا كتب اللورد بالمارستون إلى السفير البريطاني في استانبول، التي كانت مقر السلطنة التركية صاحبة السيادة على فلسطين يومئذ، يقول: إنه قد اتجه التفكير القوي بين يهود أوروبا المشتتين بأن الوقت قد حان لكي تعود الأمة اليهودية إلى فلسطين.
وكان بالمارستون يذهب مع الكثيرين إلى أن اليهود جميعًا أغنياء. غير أن اليهود الإنجليز البارزين كانوا منصرفين يومئذ إلى التحرير المدني السياسي الذي كان يشغل بال الإنجليز في بلاد عرفت بالمحافظة وبالتدرج البطيء في الانتقال من طور إلى طور جديد.
على أن حملة إبراهيم باشا قد فتحت عيون العرب واليهود على مجدهم السابق، كما أعادت اهتمام الأوروبيين بالأراضي المقدسة بعد أن أهملوها منذ الحروب الصليبية.
بنيامين دزرائيلي
وقد حدث أن بنيامين دزرائيلي «اللورد بيكونسفيلد» — رئيس الوزارة البريطانية الأسبق — الذي كان من أصل يهودي، ودان للمسيحية، قد زار في منتصف القرن التاسع عشر فلسطين، وأمضى بها بضعة أسابيع في خلال رحلته الدراسية العامة لأوروبا والشرق الأدنى. وقد كان من أثر تأملاته في الأرض المقدسة أن ألف ثلاث قصص، وهي: «كونتاريني فليمينج» و«الروي» و«تانكرد». كذلك كان الرحالة المسيحيون الأوروبيون منذ القرن التاسع يرون أن فلسطين أرض موحشة، وأن القدس ذاتها — مع وفرة قصادها بأماكنها المقدسة — مدينة الأطلال.
وقد وصفها «كينجزليك» — الكاتب الإنجليزي — حين كان إبراهيم باشا واليًا عليها بعد أن قطع دابر اللصوص، فقال: إن نهر الأردن هو الحد الفاصل بين الذين يسكنون تحت السقوف وبين عرب الخيام الجائلين.
وفي ١٨٤٠م حين اتحدت إنجلترا وروسيا وبروسيا ضد إبراهيم باشا مطالبة إياه بالجلاء عن سوريا وفلسطين، حاول بعضهم إثارة مسألة حماية الأماكن المقدسة كجزء من المسألة الشرقية، غير أن روسيا عارضت في هذا، كما أن الاتحاد لم يتفق على الاقتراح؛ فعادت فلسطين إلى الحكم التركي بما كان عليه من الفوضى والمظالم.
وفي ١٨٣٨م أنشأت إنجلترا قنصلية في القدس. وكان بين أغراض إنشائها حماية يهود أوروبا، واتفقت إنجلترا مع روسيا على إنشاء كنيسة في القدس، وكان اللذان شغلا منصبي القنصل والديانة مسيحيين يعرفان العبرية، وكان يراد من ذلك العمل على تنصير اليهود. ومن أجل هذا أوفدت كنيسة البريسبيتيريان في اسكتلندا بعثة في ١٨٣٩م كان بين أعضائها بونارلو الذي كان أحد أجداد مستر بونارلو الوزير البريطاني المشهور. هذا؛ وعلى جدران الكنيسة الإنجليزية الأولى في القدس لا يزال مدونًا الأوامر العشرة لمذهب ميمون.
ومما ذكره القنصل الإنجليزي عن يهود فلسطين يومئذ أن قيمة اليهودي لا تزيد على قيمة الكلب، وعلى هذا كان شيئًا جديدًا أن يطلب له العدالة. وكان بين اليهود ٥٠٠ شحات تدفع لهم الجالية أسبوعيًّا ٢٠٠ بارة. ثم إن القنصل بعد هذا نوَّه بما لحماية الإنجليز لليهود من الأثر في أصغر قرية أوروبية يسكنها اليهود، وأصبحت اللغة العبرية اللغة الشائعة التي يتخاطب بها يهود أوروبا والشرق، ومن أجل هذا عين القنصل مترجمًا للعبرية.
ثم إن حرب القرم أثارت عناية أوروبا بالأرض المقدسة، فقد أخذت ممالكها تتسابق إلى بناء المدن المقدسة والأديرة خارج المدن، وأخذت الأراضي تستصلح. وقد وضع القنصل الإنجليزي «جيمس فين» خطة لاستخدام اليهود في الزراعة، ولكنه أخفق في سعيه هذا.
محاولة لصياغة الصهيونية
ذكرنا قبلًا أنه كان يسكن شاطئ أرض كنعان قوم يطلق عليهم اسم الفلسطينيين حين دخل أبناء إسرائيل بعد رحيلهم عن مصر، وعرفت عند اليهود منذ يومئذ باسم أرض إسرائيل. وقد وصفت بأنها أصغر الأقطار غير أنها كانت مجتمع الحضارة، والجسر الطبيعي بين نهر النيل والفرات، وبين أفريقيا والعالم الآسيوي الأوروبي.
ومنذ الحرب العالمية الأولى في سنة ١٩١٤م، قسمت فلسطين إداريًّا قسمين: القسم الأول الذي يقع غربي نهر الأردن، وهو الذي يسعى اليهود لكي يقيموا فيه وطنهم القومي. أما القسم الثاني الواقع على الجانب الآخر من الأردن، ويدعى الآن «إمارة شرق الأردن»، فكان يقيم به من الإسرائيليين قبيلتان إسرائيليتان ونصف القبيلة، وأرض هذا القسم صحراوية — وللرعي غالبًا — وسكانه ٤٠٠ ألف.
وفلسطين الحالية تشبه إقليم ويلز في إنجلترا، فمساحة كل منهما ١٠ آلاف ميل مربع، كما أن كلًّا منهما يتألف من ساحل وجبل. أما سكان فلسطين هذه فهم مليون ونصف المليون مع الزيادة المطردة عامًا بعد عام. أما الجزء الخصب فهو يقع في السهل الساحلي ووادي أسدراليون من البحر إلى حيفا إلى الأردن، ووادي الأردن وسواحل بحيرة الجليل. وليس في الجبل ولا في الجزء الجنوبي المتاخم لشبه جزيرة سينا ما يصلح للزراعة.
أما ساحلها فقد كان منذ التاريخ البعيد مقسمًا بين الفلسطينيين الذين يبدو أنهم قدموا من الشمال أو أوروبا وبين الفينيقيين الذين قدموا من آسيا. وكان لها ثلاث ثغور هي غزة ويافا وآكر، التي كانت آخر ما وطئته أقدام الصليبيين. أما أورشليم «القدس الآن»، فإنها كانت — لجثومها على التلال اليهودية — بعيدة دائمًا عن طرق الجيوش والتجارة. أما الآن فقد أصبحت حيفا ثغرًا لها؛ إذ تقع جنوبي خليج آكر. هذا؛ وإلى جوار يافا العربية، تقع المدينة العصرية ذات الطابع الأوروبي مدينة «تل أبيب»، وهي أحدث وأكبر مدينة فلسطينية، وهناك ميناء العقبة على البحر الأحمر متصلة بالشرق كما كانت على عهد الملك سليمان وفي القرون الوسطى.
ومنذ ألفي سنة حرم اليهود من دولة تحمل اسمهم وطابعهم لا في فلسطين ولا في سواها، غير أنهم لبثوا طوال هذه السنين يمنون النفس بالعودة إلى فلسطين كما يبدو هذا في صلواتهم وطقوسهم وأشعارهم. وكان بين الفينة والفينة يقوم من يدعي أنه المسيح المنقذ زاعمًا أنه سيقودهم إلى هذه الأرض.
وقد حدثت محاولات طفيفة أو مبهمة قصد منها إلى إحياء نوع من أنواع الحكم اليهودي، غير أن هذه الحركات لم تبلغ مداها إما لضعف القائمين بها أو قوة المناوئين لها، ولبث اليهود منتشرين في بلاد العالم، وكان يُخصَّص لهم حيث يكثر عددهم ويقوى رابطتهم حيٌّ يسكنونه.
ولما استولى السلطان صلاح الدين الأيوبي على «فلسطين» سمح لبعض اليهود بالعودة لسكناها فقط دون إنشاء وطن أو دولة، فأقام بها من القرن الخامس عشر جماعات من المهاجرين اليهود المطرودين من إسبانيا وسكنوا في مدن القدس وحبرون وتيبريات وصفد في الجليل، وقد أنشئ بها مدارس. بل إنه في القرن السادس عشر استطاع «يوسف نازي» — من أكبر الأسر اليهودية في إسبانيا ومن الدبلوماسيين المقربين من الباب العالي التركي — ودوق ناكسوس، أن يزرعا قطعًا من الأرض «الجليل». وكان على رأس السلطنة التركية يومئذ السلطان سليمان الملقب «بالقانوني» الذي أعاد بناء قلعة القدس وأسوارها وجدد هيكلها «حرمها».
غير أنه كان من أثر تدهور بلاد السلطنة العثمانية أن شمل الضعف فلسطين، فقل عدد يهودها وأصبحوا بضعة آلاف.
وكانت الثورة الفرنسية وما تقدمها وما تلاها من المناداة بمبادئ الحرية والمساواة، نعمة على يهود أوروبا وبركة، فقد أتاحت لهم أن ينتفعوا بمواهبهم بعد أن لبثوا قرونًا وهم في حكم المساجين داخل أحيائهم القذرة ومعابدهم الواهية.
ولم تكن وجهتهم حينئذ التفكير في إنشاء وطن أو دولة، بل كانوا يجاهدون في سبيل التحرير السياسي بأن يكون لهم ما لسائر السكان من الحقوق السياسية، وكانوا إلى هذا يفكرون في استصلاح مراكزهم الدينية في فلسطين بعد أن غمرتها الفوضى واشتدت بيهودها الضنك والذل. ثم امتدت هذه الحركة إلى دعوة اليهود بأن يعودوا إلى فلسطين وأن يستخلصوها.
وقد عمد نابليون بونابرت حين أراد غزو مصر والشرق في سنة ١٧٩٩م إلى دعوة يهود أفريقيا وآسيا إلى استعادة وطن قومي لهم تحت حمايته في القدس. غير أن هذا الغرض لم يتحقق؛ لأن الجيش الفرنسي حمل على الجلاء بعد ثلاث سنوات، وزال حلم إقامة إمبراطورية فرنسية في الشرق.
وقد تبع هذا غزو محمد علي باشا الكبير للبلاد الفلسطينية والسورية بقيادة ابنه إبراهيم باشا الذي لبث واليًا عليها سبع سنين، ثم كان من أثر تدخل الدول الأوروبية الكبرى، أن انجلت جنود محمد علي وإبراهيم عن فلسطين وسوريا ولم يوفقا في إنشاء إمبراطورية عربية.
كان هرزل ينادي بأن يكون الإسرائيليون أمة واحدة ذات وطن في فلسطين، وطن يُمنح رسميًّا وتَضمنه الدول. وتألف المؤتمر اليهودي من الجماهير اليهودية دون الكبراء، وجعل الحركة مشابهة لأعمدة الشمع السبعة في المعبد. وقابل السلطان العثماني عبد الحميد الثاني والباب العالي في استنبول، ملتمسًا منح امتياز بهذا الوطن، ولكن السلطان رفض هذا الطلب. وزار هرزل فلسطين مرة واحدة؛ وذلك لكي يقابل الإمبراطور الألماني الذي كان يزور السلطنة العثمانية التركية يومئذ.
تجاوب الصدى لنداء هرزل، في أحياء اليهود في المدن الأوروبية، ونهض لمؤازرته كتابهم كإسرائيل زانجويل الكاتب الإنجليزي اليهودي، واستجاب للدعوة اللورد روتشيلد الأول — كبير الماليين اليهود الإنجليز — وجوزيف تشمبرلين — وزير المستعمرات — الذي أذن بتفقد الجزء الشمالي من شبه جزيرة سينا حول العريش داخل الحدود المصرية لكي تكون وطنًا صغيرًا، غير أن عدم وجود الماء حال دون المضي في هذه الفكرة، وعلى أثر هذا عرضت عليهم قطعة من الأرض في أفريقيا الشرقية البريطانية لتكون لليهود مستعمرة مستقرة مستقلة، غير أن صهيونيي روسيا تمسكوا بأن يكون الوطن اليهودي في فلسطين دون سواها. وفي سنة ١٩٠٤م مات هرزل متألمًا من هذا الانقسام، ومخاطبًا ذلك المؤتمر بأن المسألة ليست حلمًا بل حقيقة.
وقد استمرت زيادة السكان اليهود ونمو التجارة في فلسطين منذ سنة ١٩٠٤ إلى سنة ١٩١٤م حين أعلنت الحرب العالمية الأولى. وحسبنا أن نذكر أن يهود القدس كانوا يؤلفون أغلبية سكانها البالغ عددهم ٣٠ ألفًا في سنة ١٩١١م، وزادت قيمة صادرات يافا من ٢٥٠ ألف جنيه إنجليزي في سنة ١٩٠٠ إلى ٧٠٠ ألف في سنة ١٩١١م، والواردات من ٣٨٠ ألفًا إلى مليون جنيه، والقضايا من ٥٠ ألفًا في سنة ١٨٨٣م إلى مليونين في سنة ١٩٢٣م، وكان ١٢ ألف يهودي يشتغلون في الزراعة وآخرون من يهود بخارى في الحرير، ومن اشتراكيي روسيا أنصار تولستوي كانوا يعملون بأيديهم وفنهم.
وفي سنة ١٨٩٧م عقد المؤتمر الصهيوني الأول ممثلًا خمسين جمعية. وقاومت الحكومة العثمانية الفكرة، ومنعت هجرتهم. وفي سنة ١٨٩٥م ألَّف تيودور هرتسيل أو «هرزل» كتابه «الوطن اليهودي»، مقترحًا أرضًا في فلسطين أو في الأرجنتين لتكون وطنًا لليهود؛ لأنهم شعب لا يمتزج بغيره ومضادتهم خطر على العالم. واقترح تأليف شركة يهودية صناعية استعمارية رأس مالها ٥٠ مليون جنيه إنجليزي مركزها لندن، لكن يهود إنجلترا لم يعبئوا بدعوته. وكذلك قاومته جمعية زيوف في النمسا، كما قاومه رجال الدين اليهودي والمدنيون؛ لأن بعض رجال الحركة كانوا لا دينيين، وقال حاخامو اليهود: إن الصهيونية بعيدة عن اليهودية.
وبين سنة ١٨٩٧ و١٩١١م عقدت عشرة مؤتمرات؛ الأول: بازل في سويسرا في سنة ١٨٩٧م، وقرر المؤتمر تعليم العبرية وإنشاء مدرسة لتعليمها ومدارس أخرى ولجنة للآداب العبرية، وإنشاء صندوق للتوفير وترقية الزراعة والتجارة، وتغذية الشعور اليهودي. وفتح الاكتتاب وجمع ٤٠٠ ألف جنيه إنجليزي. وعقد المؤتمر الثاني في بازل في ١٨٩٨م، واشترك فيه بعض المتدينين. والثالث في سنة ١٨٩٩م في بازل. والرابع في كوينز هول في لندن في ١٩٠٠م. وقد رفض السلطان عبد الحميد والباب العالي منح اليهود مشروع الامتياز والهجرة.
ولكن هرتسل ومعه داود ولفسون وأوسكار مارموزك في أيار سنة ١٩٠١م قابلوا عبد الحميد الذي منح هرتسيل المجيدي الأول. وفي كانون الأول سنة ١٩٠١م عقد المؤتمر الخامس، وقابل هرتسيل الإمبراطور غليوم الثاني في أثناء زيارته للقدس، وعرض على عبد الحميد ٣٠٠ ألف قرش سنويًّا مقابل الحكم الذاتي لليهود.
واستمرت مشروعات اليهود في فلسطين في الخفاء. ثم إن هرتسيل قد عرض في مفاوضاته للورد كرومر — المعتمد البريطاني في مصر — استعمار شبه جزيرة سينا، وأرسل الفريقان في سنة ١٩٠٣م بعثة ارتادت الأرض، لكن مصر رفضت إمداد سينا بالماء.
وفي ١٤ آب سنة ١٩٠٤م عرض تشامبرلن — وزير الخارجية البريطانية — شرقي أفريقيا، ولكن المؤتمر السادس في بازل سنة ١٩٠٣م رفض عرض أرض أفريقيا.
وفي سنة ١٩٠٥م عقد المؤتمر السابع برياسة ماكس نوردو. وفي سنة ١٩١١م استأنفت الجمعية الاستعمارية لفلسطين. وعقد المؤتمر العاشر في سنة ١٩١٣م والمؤتمر الحادي عشر في سنة ١٩١٤م، وحالت الحرب دون عقد المؤتمر الثاني عشر في ١٩١٥م.
ومما يذكر أن هولنكسورث الإنجليزي في سنة ١٨٥٢م قد حض على إقامة حكومة يهودية لحماية طريق الهند، وأن السير موسى مونتفيوري طلب من محمد علي إسكان اليهود في فلسطين، وأن كاليشر في كتاب له قد تحدث عن استملاك أراضي فلسطين، وألفت الجمعية الأولى الاستعمارية في فرانكفورت في سنة ١٨٦١م وأسست المستعمرة اليهودية الأولى في دار عيون قارة في سنة ١٨٧٤م.
لم يحاول اليهود مطلقًا إخفاء ما يعنونه، فحين تحدث هرزل عن «الوطن القومي» كان يعني دولة ذات سيادة. أما بنستر فقد تحدث عن «الوطن» معرفًا إياه «بأمة بين الأمم». وعلى هذا فإن «الحكم الثنائي» في فلسطين بين اليهود والعرب لم يكن في يوم ما هدف الحركة الصهيونية الحقيقية.
كتب لينارد شتاين يقول: «حين تحدث هرزل عن امتياز يمنحه السلطان عبد الحميد لليهود في فلسطين لم يكن قد دار بخلده كما هو ظاهر احتمال طرد العرب من فلسطين لإسكان اليهود، بل إنه لم يكد يشعر إذا حكمنا بما جاء في خطبه في المؤتمرات الصهيونية بأن في فلسطين سكانًا، كما أنه — بسلامة طوية — حذف العرب تمامًا من حسابه.»
جاءت الحرب والصهيونية تستعد لتنفيذ برنامج استعماري واسع النطاق في فلسطين. وكان من أهم أركان هذا البرنامج إنشاء جامعة يهودية في القدس، وقد استعد البارون إدموند دي روتشيلد لشراء مساحات شاسعة لإقامة مستعمرات يهودية جديدة … ولكن الحرب قضت على هذه الآمال كلها، وشطرت الحركة الصهيونية شطرين، فبينما كانت على أشدها في روسيا كان مركزها العصبي في برلين. وكان رصيدها المالي في البنوك البريطانية. وحاول الصهيونيون في مبدأ الأمر المحافظة على وحدة حركتهم الدولية؛ فافتتحوا لهم مركزًا في كوبنهاجن بالدانمرك — وكانت محايدة — ولكن هذا لم يؤدِّ إلى أية نتيجة؛ فاضطروا إلى التخلي عنه. وكان دخول تركيا الحرب عاملًا مهمًّا في هذا التنحي. فقد أعلنت تركيا الحرب على الحلفاء، وأصبحت معرضة لخطر الهزيمة، وبالتالي لفقدان جميع ممتلكاتها، ومنها فلسطين.
وعندما اختار زعماء الصهيونية إنجلترا ميدانًا لنشاطهم، كان يدفعهم إلى ذلك الاختيار نجاح إنجلترا المدهش في سياستها الاستعمارية، وسمعتها الحسنة كدولة حرة، وكرمها مع اليهود.
واختاروا من الروس مسيو تشلينو من موسكو ومسيو ناحوم سوكولوف من فرصوفيا. وقد انضم إليهما في إنجلترا ثالث هو الدكتور حاييم وايزمان الذي لم يكن إنجليزي المولد، بل هو بولوني من جرودنو جاء إلى إنجلترا في سن الأربعين بعد أن عاش فترة من الزمن في سويسرا، وفيها عرف تروتسكي، وفي إنجلترا عمل كمحاضر للكيمياء في جامعة مانشستر، واكتسب الجنسية البريطانية، ثم بزغت شخصيته كخطيب، حتى إن مستر هورس صامويل كتب عنه يقول: إنه كان يخاطب كتيبة من الشبان اليهود المتطوعين في الجيش البريطاني في خلال سني الحرب الماضية، وكان المستمعون كلهم في قبضة يده، وعلى استعداد في أية لحظة للقفز إلى جيبه.
وقد شوهد خلال إحدى مآدب العشاء التي أقيمت في منزل اللادي آستور يجذب اللورد بلفور من يده ويجلسان وحدهما على إحدى الأرائك فترة تزيد على الساعة دون أن يشعر الرجلان بمن حولهما. ولقد كانت مثل هذه الساعات والجلسات هي التي أدت إلى وضع حجر أساسي للصهيونية السياسية في إنجلترا. إن الرجلين قد تعارفا قبل ذلك بإحدى عشرة سنة عندما تقدم بلفور «وكان يعرف باسم مستر بلفور» إلى الانتخابات عن دائرة مانشستر — مركز اليهود في الجزر البريطانية — وكان مدير حملته الانتخابية يهوديًّا يدعى مستر دريفوس، فانتهز الفرصة وسأله أن يدعو إليه من يستطيع إخباره بالأسباب التي حدت بالصهيون إلى رفض العرض البريطاني سنة ١٩٠٣م بإسكان اليهود المهاجرين في شرق أفريقيا، وهو العرض الذي اقترح وقت أن كان بلفور رئيسًا للوزارة البريطانية، فبعث دريفوس إليه بوايزمان.
وفي كتاب مسز داجديل — ابنة أخت اللورد بلفور — عن تاريخ حياته، وصفت المؤلفة هذه المقابلة فقالت: إن الانسجام التام بدأ يظهر منذ اللحظة الأولى، بين الرجلين المختلفي المزاج والظروف الاختلاف كله، ولم يكن الدكتور وايزمان قد ملك ناصية الإنجليزية السلسة الفياضة، ولكنه مع ذلك كسب السياسي الإنجليزي بفضل سرعة خاطره وقوة بديهته. ويتحدث وايزمان عن نفسه قائلًا: بدأ العرق يتصبب على جبيني وكأنه قطرات الدم وأنا أحاول إيضاح ما أعنيه بإنجليزيتي العرجاء. وفي النهاية بذلت جهدًا أخيرًا وقلت: «يا مستر بلفور، لو عرضت عليك باريس بدلًا من لندن أتقبلها؟! أتقبل باريس بدلًا من لندن؟!» … فحدَّق فيَّ مدهوشًا ثم قال: «ولكن لندن بلدي.» فسارعت إلى القول: «إن بيت المقدس كانت بلدنا عندما كانت لندن مستنقعًا.» وكان جوابه: «هذا صحيح.» وكتبت مسز داجديل عن نتيجة هذه المقابلة التي قالت: إن بلفور حدثها عنها بنفسه بعد سنوات فقال: «لقد أدركت من محادثتي هذه مع وايزمان أن الوطنية اليهودية فريدة في نوعها.»
أما المقابلة الثانية بين السياسي الإنجليزي والداهية الصهيوني فقد حدثت بعدئذٍ بثماني سنوات في شهر ديسمبر من سنة ١٩١٤م وبعد أن مرت على بدء الحرب أربعة شهور كاملة، وفي هذه السنين الثماني كان وايزمان قد اشتهر في مانشستر، وعرف مستر س. ب. سكوت — رئيس تحرير جريدة مانشستر جارديان — الذي ما لبث أن تعلق بالقضية الصهيونية حتى خصص أعمدة جريدته للدعاية لها والدفاع عنها.
وفي كتاب مسز داجديل عن حياة لورد بلفور، تتحدث عن مقابلة وايزمان لبلفور الثانية فتقول: إن وايزمان «وجد حديثه الأول مع بلفور منذ ثماني سنوات ما زال ماثلًا في ذهن بلفور، فواصلاه في عبارات عامة لا تحديد فيها. ولكن قبل أن يفترقا تساءل بلفور هل كان يستطيع معاونة وايزمان في شيء ما، فقال هذا وهو يبتعد: «ليس والمدافع تزأر.» ثم قال: «عندما يتضح الموقف الحربي سآتي مرة أخرى.» فقال بلفور: «لا تنس أن تعود … إنها لقضية عظيمة تلك التي تعمل من أجلها، وأودُّ منك أن تعود مرة بعد أخرى».»
ولكن بلفور لم يكن يومئذ عضوًا عاملًا في الوزارة البريطانية على الرغم من كونه عضوًا في وزارة الحرب، حين دخلت تركيا الحرب قدم وايزمان مقترحات عديدة عن وطن قومي لليهود في فلسطين تحت الحماية البريطانية، وقدم هذه المقترحات بتوصية من سكوت إلى سير هربرت صامويل ومستر لويد جورج. وفي سنة ١٩٣٥م ألقى سير هربرت صامويل محاضرة في جمعية التاريخ الإسرائيلية في لندن ضمَّنها ما حدث من اتصال وايزمان به في سنة ١٩١٤م، وأنه اهتم بالمسألة اهتمامًا بالغًا لسببين؛ أولهما: تأثره بشخصية وايزمان، والثاني: أنه لما كان هو أول عضو في الجالية اليهودية يعين عضوًا في الوزارة البريطانية — باستثناء دزرائيلي الذي كان قد اعتنق المسيحية — شعر بأن من واجبه تأييد الحركة الصهيونية مع أنه لم يكن على اتصال بها. ثم قال سير هربرت في محاضرته: «وسرعان ما وصلت إلى نتيجة حاسمة هي أنه إذا كسب الحلفاء الحرب — كما كنا نأمل جميعًا — فإن فلسطين يجب أن تفصل من الإمبراطورية التركية، وأن الفرصة يجب أن تنتهز لتسهيل إنشاء جالية يهودية عظيمة ذات استقلال ذاتي هناك، وأن يكون هذا تحت نوع من الحماية البريطانية.» ثم قال: إنه تحدث في نوفمبر سنة ١٩١٤م إلى سير إدوارد جراي — وزير الخارجية البريطانية — في الموضوع وقال له: «ربما تسنح الفرصة لتحقيق أمنية اليهود القديمة وإعادة إنشاء دولتهم هناك «في فلسطين».» واختتم سير هربرت صامويل محاضرته قائلًا: «إن هذا كان نص المقترح الصهيوني.» على أن سير إدوارد جراي رد على زميله قائلًا: إن الفكرة ظلت تجذبه مدة طويلة، وإن العامل التاريخي فيها قوي، وإنه يحبذ المقترح بكل قواه، وهو على استعداد للعمل من أجله، حين تحين الفرصة الملائمة، وحتى إذا عرضت فرنسا أو أية دولة مقترحات بشأن سوريا فمن المهم أن لا يوافق الجانب البريطاني على ما لا يتفق وفكرة إنشاء «دولة يهودية» في فلسطين، ثم تساءل: هل كان سير هربرت صامويل يرى ضرورة تطبيق المبدأ اليهودي على سوريا مضافة إلى فلسطين؟ على النقيض، يجب ألا يتضمن المشروع أماكن كبيروت أو دمشق وغيرهما؛ نظرًا لأنهما يضمان في صدورهما أغلبية عظيمة من غير اليهود، ومن الصعب صبغهما بالصبغة اليهودية. على أن اليهود من سكان فلسطين كانوا في هذا الوقت لا يزيدون على ٨٣ ألفًا، بينما كان العرب يبلغون ٧٥٧ ألفا؛ أي بنسبة ٩٪ إلى ٩١٪.
حدث بعد هذا أن أرسل سير إدوارد جراي — وزير خارجية بريطانيا — إلى مسيو زازونوف — وزير خارجية روسيا — مذكرة عن إعادة اليهود إلى فلسطين وما ينشأ عنه من تحول العناصر اليهودية المعادية لقضية الحلفاء في الشرق وفي الولايات المتحدة إلى جانب هذه القضية. وقد قوبلت هذه المذكرة في روسيا في ترحاب مجيد. غير أنه حدث يومئذ أن الانهيار الروسي قد أظهر للحلفاء حقيقة كانت خافية عليهم قبل ذلك، وهي أنه كان لا بد لهم إذا أرادوا النصر في حربهم ضد ألمانيا أن يحصلوا على المعونة الإيجابية من الولايات المتحدة … وكان المعتقد أن العقبة الوحيدة في طريق انضمام أمريكا إلى قضية الحلفاء كامنة في معارضة عدد كبير من الأمريكيين الذين من أصل ألماني … ولكن معظم هؤلاء كانوا من اليهود، وإذن أصبح مرجع الاهتمام بالحركة الصهيونية الحصول على عطف الأمريكيين الذين من أصل ألماني على قضية الحلفاء.
وقبل هذا كانت مقاليد وزارة الخارجية البريطانية قد انتقلت من بين يدي سير إدوارد جراي إلى يدي لورد بلفور، وإن أدق صورة لما كانت عليه علاقات الصهيونية بالحكومة المعدلة الجديدة هي التي كتبها مستر صامويل لاندمان في مذكراته تحت يومي ٢٢ فبراير وأول مارس سنة ١٩١٧م. وقد أدلى بهذه المذكرات فيما بعد إلى مجلة «ورلد جوري»، ومستر لاندمان هذا كان في ذلك الوقت سكرتيرًا لمسيو سوكولوف، ثم أصبح سكرتيرًا للهيئة الصهيونية العالمية، ولهذا كان ملمًّا بأسرار الحركة الصهيونية.
يقول مستر لاندمان: إن سير مارك سايكس حاول كثيرًا الاتصال بالأمريكيين اليهود الذين من أصل ألماني، ولكنه لم يفز بأي نجاح يذكر، وكان سير مارك سايكس يومئذ يشغل منصب مساعد وزير الحربية البريطانية، كان نقطة اتصال بين وزارة الحربية ووزارة الهند وأقلام المخابرات السرية وبعض الهيئات الأخرى ذات الأهمية العظيمة. وحدث مرة أن أعرب سير مارك عن أسفه لعدم نجاحه في الاتصال بيهود أمريكا. وكان مستر جيمس مالكولم — وهو بريطاني معروف من أصل أرمني — حاضرًا، وكانت له صلة وثيقة ببعض دعاة الصهيونية السياسية المعروفين، فسارع إلى القول: «إنك تنتهج الطريق الخطأ فإن سراة اليهود الذين تلتقي بهم ورجال الدين الإسرائيليين ليسوا الزعماء الحقيقيين للشعب اليهودي، بينما الصهيونية السياسية أو الصهيونية القومية «أي إنشاء وطن قومي في فلسطين» هي مفتاح التأثير في يهود الولايات المتحدة.»
وأضاف مستر مالكولم إلى ذلك: إن هناك طريقة يمكن باتباعها اجتذاب اليهود الأمريكيين إلى الحلفاء، وإنه يعرف رجلًا في أمريكا يحتمل أن يكون أصدق صديق للرئيس ولسون … وعن طريق هذا الرجل يمكن تحويل الرئيس الأمريكي إلى الاشتراك الفعلي في الحرب إلى جانب الحلفاء، وكان هذا الرجل الذي عناه مستر جيمس مالكولم هو القاضي لويس برانديس — عضو المحكمة الأمريكية العليا.
ولم يقف مالكولم عند هذا الحد، بل استطرد في نصائحه لسير مارك سايكس قائلًا: «لن تستطيع أن تكسب عطف اليهود في كل مكان إلا بطريقة واحدة هي أن تعرض عليهم أنك ستحاول الحصول لهم على فلسطين.»
ولما كان سايكس هو الذي قام بالمفاوضة في اتفاق سايكس-بيكون مع الفرنسيين، القاضي بفرض الانتداب الدولي على فلسطين، فقد قال مجيبًا: إن هذا مستحيل، فنصحه مالكولم بعرض الأمر عاجلًا على الوزارة البريطانية، ولما فعل سير مارك سايكس هذا، تقرر البدء فعلًا بالمفاوضات عبر المحيط. وسبقت هذا اجتماعات عقدت في منزل الدكتور وايزمان في شارع أديسون في لندن بين زعماء الصهيونية ورجال الحكومة البريطانية «ثم أرسلت رسالة سرية بالشفرة عن طريق وزارة الخارجية إلى القاضي برانديس تضمنت أن الوزارة البريطانية ستساعد اليهود في الحصول على فلسطين في مقابل عطف اليهود العملي وعونهم في الولايات المتحدة إزاء قضية الحلفاء.» ومنذ يومئذ عدت الصهيونية «حليفًا للحكومة البريطانية»، وتدفقت عليها المساعدات الممكنة من كل فرع حكومي. وقد اعترف التقرير الصهيوني بهذه المفاوضات، وجاء فيها: «وهكذا فتح باب المفاوضات التي انتهت بعد تسعة شهور من بدئها بتصريح بلفور.»
وبعد هذا وجه الصهيونيون أنظارهم إلى باريس وروما، وقد بدأتا تثيران الصعوبات في وجه مشروع «إسكان اليهود في فلسطين تحت الحماية البريطانية». وللمرة الثانية تدخل مالكولم الأرمني في الأمر — وكان صديقًا للزعماء الفرنسيين — فأسدى بذلك أجلَّ خدمة للصهيونية.
كان مسيو سوكولوف قد حاول من قبل أن يحصل على إذن بمقابلة رجال الحكومة الفرنسية، ولكنه لم يستطع لسببين؛ أولهما أن فرنسا كانت لا تزال تعد نفسها حامية المسيحيين في الشرق الأدنى، والثاني أن غالبية يهود فرنسا كانت من معارضي الصهيونية السياسية ومشروعها في فلسطين، وحتى البارون إدموند دي روتشيلد نفسه لم يستطع أن يتحدث في الأمر إلى أي فرد من أعضاء الوزارة الفرنسية.
ولكن مالكولم فعل ما لم يفعله روتشيلد، واستيقظ زعماء اليهود الفرنسيين ذات صباح وفتحوا أعينهم على نبأ منشور في جريدة «الطان» جاء فيه أن مسيو بيشون — وزير الخارجية الفرنسية — استقبل مسيو سوكولوف واستبقاه لتناول طعام الغداء على مائدته، وأن مسيو سيلفان ليفي ومسيو جاك بيجار الزعيمين اليهوديين سألا مسيو سوكولوف ليتأكدا من النبأ، فلما جاءهما التأييد ختما المحادثة بدعوة سوكولوف إلى مائدتيهما.
ومكث سوكولوف وصحبه طول الشهر في باريس، وفي النهاية تغلبوا على اعتراض الحكومة الفرنسية بالتلويح بموقف أمريكا من الحلفاء. وقد كتبت مسز داجديل قائلة: «أبرق مسيو سوكولوف بالنتيجة من باريس يوم ٢٤ أبريل سنة ١٩١٧م إلى صهيونيي أمريكا، وقد جاء فيها أن وزارة الخارجية الفرنسية وافقت على أن انتصار الحلفاء في الشرق الأوسط يعني الاعتراف بالصهيونية السياسية.»
أما في إيطاليا فإن مسيو سوكولوف وصل إلى ما كان يبتغيه رغم أنه لم يحصل على تصريح رسمي بذلك. وهكذا تم للصهيونية على الأقل تعديل اتفاق سايكس-بيكون السري فيما يتصل بوضع فلسطين تحت حماية دولية، وهو الأمر الذي جاء في مذكرة سير إدوارد جراي إلى وزير الخارجية الروسية: إنه يلقى معارضة كبيرة من غالبية اليهود في العالم.
مقدمات تصريح بلفور
- أولًا: أساس الاستعمار: الاعتراف بفلسطين كوطن قومي لليهود.
- ثانيًا: مركز السكان اليهود في فلسطين على العموم:
للسكان الحاليين ومن سيأتون في المستقبل أن يتمتعوا ويمتلكوا في جميع أنحاء فلسطين الحقوق المدنية والقومية والسياسية الكاملة.
- ثالثًا: الهجرة إلى فلسطين: تسمح الحكومة صاحبة السيادة بالحرية التامة في هجرة يهود جميع البلدان إلى فلسطين.
- رابعًا: إنشاء شركة احتكارية قانونية: ستمنح الحكومة صاحبة السيادة امتيازًا لشركة يهودية باستعمار فلسطين، بحيث يكون لها السلطة اللازمة لتملك وإدارة أية أرض للمنفعة العامة، وهي الأراضي التي رُخِّصَ بها من قبل أو التي قد يُرخَّص بها في المستقبل، كما يكون لها السلطة والامتياز التي تُمنح عادة لمثل هذه الهيئات الاستعمارية.
- خامسًا: استقلال الجالية الذاتي: تتمتع الجالية اليهودية في جميع أنحاء فلسطين بالاستقلال الذاتي الكامل في أمور دينها وتعليمها ورفاهيتها.
ولم يمضِ على هذا التصريح طويل وقت حتى كان لورد بلفور بوصفه وزيرًا للخارجية يزور الولايات المتحدة الأمريكية ليعرض موقف الحلفاء على مطامع الرئيس ويلسون وليلتقي بالقاضي رانديس ليبحث وإياه مشروع فلسطين … وعاد إلى إنجلترا في شهر يونية مرتاح الضمير إلى النتائج السارَّة التي وصل إليها بين أمريكا وصهيونييها.
ولكن الصهيونية في إنجلترا كانت في خلال ذلك قد تلقَّت ضربة كانت في أول الأمر مؤلمة، ولكنها استطاعت التغلب عليها في آخر الأمر. ففي العشرين من مايو سنة ١٩١٧م ألقى الدكتور وايزمان خطابًا في اجتماع ممثل الهيئات اليهودية في بريطانيا شرح فيه المشروع الصهيوني بجعل فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود.
ومرت ثلاثة أيام دون أن يحدث شيء ما، ولكن في اليوم الرابع أرسل مستر ألكسندر — رئيس مجلس ممثلي اليهود البريطانيين — ومستر مونتفيور — رئيس الجمعية البريطانية الإسرائيلية — احتجاجًا إلى جريدة التيمس على مشروعات الصهيونية السياسية التي تناقض الصهيونية الدينية، واختتما احتجاجهما قائلين: «إن مقترح الصهيونية السياسية لا يمكن التسامح فيه؛ لأن اليهود يؤلفون — وسيظلون كذلك مدة طويلة في الغالب — أقلية ضمن سكان فلسطين، وقد يؤدي هذا المشروع إلى الوقوع في حمأة أعظم الاشتباكات الدموية مع جيرانهم من الأجناس والأديان الأخرى، وهو ما سيعطل تقدمهم لدرجة كبيرة، كما أن من شأنه أن يولد تأثيرًا سيئًا جدًّا في الشرق القريب.»
على أن الحركة الإسرائيلية الدينية التي بدأت ضد الصهيونية السياسية بهذا الاحتجاج لم تلبث أن أخفقت بفضل تدابير الطوارئ السريعة التي اتخذها وايزمان وأعوانه، وانتهت باستقالة الرئيسين اللذين احتجا على المشروع الصهيوني … وهكذا عادت الطريق ممهدة أمام وايزمان للخطو خُطوة بل خطوات أخرى كثيرة إلى الأمام، وخاصة بعد أن احتضنت الحكومة الفرنسية المشروع، وجاء في تصريحها الرسمي عن ذلك أن «دول الحلفاء تساعد — كعمل من أعمال العدل والتعويض — على بعث الجنسية اليهودية في هذه البلاد «فلسطين» التي طرد منها بنو إسرائيل منذ قرون طويلة مضت.»
ولم يضع وايزمان الوقت سدى، بل سارع إلى اللورد روتشيلد يجذبه من ذراعه إلى مكتب لورد بلفور في وزارة الخارجية البريطانية ليضعا أمام عينيه قرارهما بأن الوقت قد حان وأن الساعة قد دقت «لإصدار تصريح حاسم بالمساعدة والتشجيع».
لم يكن وصول المندوبين الصهيونيين إلى وزارة الخارجية البريطانية في طلب تصريح بريطاني بمساعدة اليهود مفاجأة للوزير، فإن المفاوضات التي كانت دائرة منذ شهر فبراير كانت ترمي إلى هذا الهدف وحده.
وما كاد بلفور يستمع إلى طلب المندوبين حتى سألهما أن يزوَّد «بمشروع يعرضه على وزارة الحرب للموافقة عليه». وكان المفروض أن حكومة صاحب الجلالة البريطانية ستحدد سياستها في الوثيقة المزمع إصدارها. ولكن الطريف أن وزير الخارجية سلك في سبيل ذلك طريقًا غير عادي؛ إذ طلب إلى دكتور وايزمان وصاحبه المحترم أن يزوده بالمشروع المطلوب لسياسة حكومة صاحب الجلالة حتى يعرضه هو على هذه الحكومة فينشر باسمها وكأنه من وضعها.
واتخذ الصهيونيون تدابيرهم في الحال لوضع صيغة المشروع، مؤلفين «لجنة سياسية» من أعضاء الهيئة الصهيونية كان بعضهم من إنجلترا والبعض الآخر من بلاد أخرى. وكان بينهم السادة كاون، إتنجن، هياسون، ماركس، سيف، ليون سيمون، تولكوسكي، جابوتنسكي، هاري ساشبر، شادها عام. وكان لاندمان سكرتيرًا للجنة الصهيونية، التي خرج من سجلاتها القديمة مشروع الشركة الاحتكارية، والتصريح بأغراض الحرب، وبرنامج أكتوبر، وغيرها، ووضعت على أساسها عدة صيغ تُبُودِلَتْ بين أمريكا وبريطانيا.
وقد كتب مستر يعقوب دي هاس — مؤرخ القاضي لويس برانديس الأمريكي — يقول: «إن الرئيس ويلسون بنفسه ساعد في وضع صيغة التصريح، أو على الأقل أشرف على تعديل النصوص التي جاءت من إنجلترا، وهكذا اتسع ميدان البحث الدولي، وعرضت جميع صور التصريح على البيت الأبيض للموافقة.»
وكانت بعض الصيغ المقترحة طويلة ومفصلة، بينما كانت الحكومة البريطانية لا تود أن تضع نفسها في مركز المسئول إلا عن تصريح عام يدور حول المبدأ ليس إلا، وفي اليوم الثامن عشر من شهر أبريل سنة ١٩١٧م — وبعد موافقة الرئيس ويلسون — قدم لورد روتشيلد تصريح بلفور إلى لورد بلفور كما يأتي: تقبل حكومة صاحب الجلالة — بعد بحثها أهداف الهيئة الصهيونية — مبدأ الاعتراف بفلسطين وطنًا قوميًّا لليهود، وتعترف بحق الشعب اليهودي في أن يُشيِّد بناء حياته القومية في فلسطين تحت حماية تفرض عند توقيع الصلح بعد النهاية الناجحة للحرب. وتعد حكومة صاحب الجلالة أن من الضروري لتحقيق هذا المبدأ، أن تمنح الاستقلال الداخلي للجنسية اليهودية في فلسطين، وتسمح بحرية الهجرة لليهود، وإنشاء شركة يهودية قومية استعمارية لإعادة استعمار البلاد وإنهاضها اقتصاديًّا. و«ترى حكومة صاحب الجلالة أن شروط الاستقلال الداخلي وشكل الامتياز الذي يمنح للشركة الاستعمارية اليهودية القومية يجب أن يجري تفصيله وتقريره مع مندوبي الهيئة الصهيونية.»
كان هذا هو التصريح الذي كان سيصدره مستر لويد جورج ولورد بلفور لو لم يحدث ما اضطرهما إلى طلب تعديله، ولا شك أنه يفهم منه يقينًا أن حكومة صاحب الجلالة تنوي الاعتراف بفلسطين كلها، وطنًا قوميًّا لليهود، وإعطاء اليهود استقلالهم الداخلي من البداية، وكان مهاجرو الصهيونيين سينزلون البلاد كحكام لها. أما الهجرة فحرة بلا أي عائق يعوقها، وعلى الشركة صاحبة الامتياز أن تعيد إسكان البلاد وكأنها خالية من السكان.
- (١)
تقبل حكومة صاحب الجلالة مبدأ إعادة تنظيم فلسطين كوطن قومي للشعب اليهودي.
- (٢)
ستستخدم حكومة صاحب الجلالة كل وسائلها للوصول إلى تنفيذ هذا الغرض، وستبحث الطرق اللازمة لذلك مع الهيئة الصهيونية.
وكانت هذه الصيغة معدة في اليوم الثامن عشر من شهر سبتمبر سنة ١٩١٧م.
وقد وافق عليها الرئيس ويلسون، وبعد ما عطل اليهود الإنجليز الصيغة الأولى عطلوا الثانية؛ إذ رأوا أن الصيغة الثانية لا تزال مصرة على تسليم فلسطين للصهيونيين تحت حجة «إعادة تنظيمها». ولا شك في أن الفضل الأكبر يعود إلى مستر أدوين مونتاجو وسير فيليب ماجنوس وزملائهما من اليهود في وقفتهم الصامدة ضد الصهيونية.
وقد كتب مستر ج. م. ن. جيفر في كتابه «فلسطين: الحقيقة» يقول متحدثًا عن الصيغة الثانية من مشروع تصريح بلفور، وعن احتجاجات اليهود الإنجليز عليها؛ مما أدى إلى إبدالها بصيغة ثورية: «إن ما يلفت النظر هنا أنه لو لم يكن لحركة اليهود الإنجليز هذه وجود لكانت الحكومة البريطانية قد سلمت فلسطين إلى الهيئة الصهيونية؛ ففي الصيغتين المقترحتين أغضت الحكومة نظرها عن العرب تمامًا وكأنهم لم يكونوا في الوجود.»
كان من أثر احتجاج الشخصيات البارزة من اليهود الإنجليز على الصيغة الثانية لمشروع تصريح بلفور لأنها تضمنت تسليم فلسطين للصهيونيين وإعادة تنظيمها؛ أن الحكومة البريطانية طلبت من اللجنة السياسية تعديل الصيغة للمرة الثانية؛ فعدلتها دون أن تذكر فلسطين على أنها الوطن القومي لليهود، ولكنها بدلًا من ذلك ذكرت رغبة الحكومة البريطانية في «إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين».
ولكن هذا أيضًا لم يَحُزْ قبول اليهود الإنجليز الذين أصروا على حذف كلمتي «الوطن القومي» من التصريح. والواقع أن زعيمهم مستر أدوين مونتاجو استطاع بحكم منصبه كوزير لشئون الهند أن يعرض الأمر مباشرة على أعضاء الوزارة، وقدم لهم مذكرة شديدة كادت تُفضي بهم إلى إغضاء النظر عن السياسة التي تناصر الصهيونية لو لم يضطر هو إلى السفر إلى الهند في اليوم الرابع عشر من شهر أكتوبر ١٩١٧م ليبدأ سلسلة من الإصلاحات التي لا تزال تحمل اسمه حتى اليوم.
على أن الجو لم يخلُ تمامًا للورد بلفور؛ فإن المعارضة بين أعضاء الوزارة استمرت، وخاصة من جانب لورد كيرزون، ولو أن معارضته لم تكن قوية فسرعان ما نزل عن اعتراضاته.
تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للجنس اليهودي في فلسطين، وستبذل كل مساعيها لتسهيل الوصول إلى هذا الهدف على أن يكون مفهومًا أن لا يتخذ أي شيء يضر بالحقوق المدنية والدينية للجاليات غير اليهودية الموجودة في فلسطين، أو بالحقوق والمركز السياسي الذي يتمتع به يهود البلاد الأخرى الذين هم قانعون بجنسياتهم ورعويتهم الحالية.
وعرض ويلسون هذه الصيغة على القاضي برانديس وأعوانه فلم تعجبهم الخاتمة، وفي النهاية عدلت الجملة الأخيرة بحذف كلمات «الذين هم قانعون بجنسياتهم ورعويتهم الحالية»، وأبرق ويلسون إلى الحكومة البريطانية بموافقته.
وفي لندن عدلت كلمة «الجنس اليهودي» فصارت «الشعب اليهودي»، ومضى أسبوعان ثم أدرج الموضوع في جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء التي عقدت يوم ٢ نوفمبر سنة ١٩١٧م، وكان جماعة من زعماء الصهيونية يجلسون في الحجرة الخارجية، وحين وافق المجلس على الصيغة النهائية خرج سير مارك سايكس من قاعة الاجتماع مملوءًا حماسًا، وألقى بقنبلته إلى الجماعة قائلًا: «إنه ولد!»
وزارة الخارجية
٢ نوفمبر سنة ١٩١٧م
عزيزي لورد روتشيلد
يسرني كثيرًا أن أبلغك بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالي المتضمن عطفها على الأماني الصهيونية التي عرضت على الوزارة وحازت قبولها.
إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل كل مساعيها لتسهيل الوصول إلى هذا الهدف، على أن يكون مفهومًا أن لا يتخذ أي شيء من شأنه أن يضر بالحقوق المدنية والدينية للجاليات غير اليهود الموجودين في فلسطين، وبالحقوق والمركز السياسي الذي يتمتع به يهود البلاد الأخرى.
وأكون شاكرًا لو أخبرت الاتحاد الصهيوني بهذا التصريح.