الأمم السامية واليهود
كانت الأمم السامية هي الأمم المتحضرة المتغلبة في الشرق وشمال أفريقيا، فقد كانت مستأثرة بالتجارة، وكانت إمبراطورياتها تشمل سوريا وبابل، وأخضعت مصر طويلًا. وكانت لغات بعض الساميين يفهمها البعض الآخر، واستطاعت صيدا وصور — وهما بمثابة الأم لمدن الساحل الفينيقي — أن تُنشِئا المستعمرات في أفريقيا وإسبانيا وصقلية، وفي قرطاجنَّة التي كان تأسيسها في ٨٠٠ق.م، وكان سكانها منيفين على المليون، ووسعها أن تصبح أكبر مدن الدنيا بعض الوقت، وقد وصلت سفنها إلى السواحل البريطانية وإلى الماديرا، وإلى شواطئ البحر الأحمر ناقلة التجارة إلى بلاد العرب والهند، وطافت بعثة فينيقية في عهد الفرعون نيخو حول أفريقيا.
هذا ما كان من أمر الأمم السامية. أما الأمم الآرية، فقد لبثت على الحالة الهمجية إلا الأمة اليونانية؛ فإنها شرعت تستيقظ جاهدة في بناء حضارة جديدة على أطلال الحضارة التي أتت عليها يد العفاء، ثم إن الميديين أصبحوا ثابتين في وسط آسيا.
غير أن الآريين قد استطاعوا أن يقضوا على الإمبراطوريات والحضارات السامية كلها إلا في الصحارى الشمالية من البلاد العربية؛ وذلك لبقاء سكانها بدوًا رُحَّلًا، وقبل بزوغ فجر القرن الثالث قبل الميلاد، صار الساميون إما في ضمن رعايا الدول الآرية وإما تابعين لها.
غير أنه مما ينبغي ذكره — إلى ما تقدم — أن الأمة اليهودية قد استطاعت أن تحتفظ بطابعها وتقاليدها وآدابها حيال الكوارث التي نزلت بها وبالأمم السامية عامة، وذلك منذ أن أعاد سيروس — ملك إيران — اليهودَ إلى أورشليم «بيت المقدس» أو القدس. أما مرجع استئثار اليهود بتقالديهم دون سائر الساميين، فهي التوراة التي سوَّتْهم خلفًا جديدًا، وآثرتهم بالمبادئ القويمة التي اختلفت عما كان يجري عليه جيرانهم؛ ذلك أن التوراة علمتهم أن الله ذاتٌ غير منظورة وبعيدة، غير منظورة في معبد لم تصنعه يد صانع، وهو سيد الحق في الدنيا كلها، ومنزلته في السماء فوق الكهنة جميعًا، على حين أنه كان للأمم الأخرى جميعًا يومئذ آلهة ممثلة في تماثيل وأصنام أقيمت في المعابد، فمتى تهشم التمثال ودك المعبد، مات الإله لساعته!
وعند اليهود أن رب إبراهيم قد اختارهم لكي يكونوا شعب الله، وليعيدوا «أورشليم» فتكون عاصمة الحق في الدنيا، وقد أزهاهم اعتقادهم أن مصيرهم واحد، ومن أجل هذا كانوا مشبعين بهذه الروح حين عادوا من مأسرهم في بابل.
وعلى أثر سقوط صيدا وصور وقرطاجنة والمدن الفينيقية الأسبانية، كُتِبَ على الفينيقيين الفناء فجأة، وأصبحوا أثرًا بعد عين، على حين أنه قد تخلف أو ظهر فجأة جالية يهودية، لا في «أورشليم» وحدها، بل في كل من إسبانيا وأفريقيا ومصر وبلاد العرب والشرق، وقصارى القول في كل بلد اختلف إليه الفينيقيون. وقد كانت التوراة هي رابطة اليهود، وكانت قرابتها هي الجامعة لهم، وكانت مدينتهم الحقيقية هي التوراة. أما أورشليم فقد كانت عاصمتهم الاسمية منذ نشأتهم. ولئن كانت بذور هذه الروح قد غرست قبل أن يكتب المصريون والسومريون لغتهم الهيروغليفية، غير أن هذا الحادث كان هو الأول من نوعه في التاريخ؛ ذلك أن الأمة اليهودية لبثت قائمة بعد أن أصبحت لا دولة لها ولا ملك، بل لا معبد لها، منذ قوضت أورشليم ذاتها في سنة ٧٠م. هذا؛ ولم تكن هذه الحالة الفريدة الشاذة في التاريخ وليدة خطط السياسيين أو من بنات أفكار الكهنة، بل إنهم لم يتوقعوها، فقد كانوا في عهد ملكهم سليمان أمة صغيرة تسكن رقعة صغيرة من الأرض وتخضع لتصاريف الملك ولحكمة الكهنة، ثم إن دبيب الخلاف قد تدسس إلى هذه الأمة الصغيرة؛ فانقسمت شيعًا ومذاهب، وفي تضاعيف هذا شرع صنف جديد من الرجال يَبْرُزُ إلى ميدان الحياة مسيطرًا على وجهتها الروحية في صورة لم يَعْهَد التاريخ لها نظيرًا؛ ذلك هو ظهور الأنبياء منتمين إلى أصول مختلفة. فقد كان النبي حزقيل ينتسب إلى عنصر الكهنة. أما النبي آموس فقد كان راعي غنم، غير أن الأنبياء جميعًا كانوا لا يدينون بالطاعة إلا لرب الحق، وكانوا يتحدثون إلى الناس من غير وساطة. يقول النبي منهم: «لقد جاءتني كلمة ربي.» منددين بتراخي الكهنة وخطايا الملك وبأكل الأغنياء أموال الطبقة الفقيرة وأخذها بالباطل، وبمحالفتهم الأجانب ومحاكاة ما هم فيه من الترف والنعيم؛ لأن هذا يكرهه رب إبراهيم، هذا الرب الذي سيعاقب هذه الأرض حتمًا. إلى هذا كان يذهب أنبياء بني إسرائيل.