اللغات السامية واللغة العبرية
«اللغات السامية» نسبة إلى سام بن نوح، وهي تقسم أقسامًا ثلاثة كبيرة ذات فروع: (١) العربية، ومن فروعها: الحميرية، والأتيوبية «الحبشية»، (٢) الآرامية، وفروعها السريانية والكلدانية والسامرية والآشورية والعيلامية و(٣) العبرية، وما ماثلها كالكنعانية والعيلامية المنسوبة إلى عيلام. هذا؛ والكنعانيون على نقيض لغتهم، من نسل حام.
وعند الدكتور فؤاد حسنين أن اللغات السامية فرع من تلك الدوحة اللغوية العظيمة التي نطقت بها شعوب شبه الجزيرة العربية، وكثرة سكان وادي النيل، بما في ذلك البلاد الحبشية، والكثرة المطلقة من القبائل الأفريقية النازلة فيما بين خط عرض ١٦ من شمال خط الاستواء إلى البحر الأبيض المتوسط. أما الوطن الأصلي للغة السامية «الأم» أو في صورة أخرى للشعب السامي الأصلي، فهو الجزيرة العربية، أو «أرض العراق»، أو المنطقة المعروفة الآن بالبلاد القوقازية. ولم تستقر هذه القبائل منذ عرف التاريخ في قطرها الأصلي، بل دفعتها طبيعتها البدوية إلى الحِلِّ والتَّرحال، فهاجرت جماعات منها إلى شرق أفريقيا، واستوطنت بلاد الحبشة، ثم تلتها هجرة أخرى، ونزلت بوادي النيل، وأخذت بعد ذلك تتعدد الهجرات إلى شمالي أفريقيا حتى ازدحم بها. ومع الزمن تألفت بين هؤلاء السكان الأفريقيين لغات تختلف لحد ما عن لغات أقطارهم الآسيوية التي نزحوا منها، وقد أطلق علماء اللغات عليها اسم اللغات الحامية. ولما كان الفرق بينها وبين أخواتها الآسيوية كالفرق الذي نلحظه الآن مثلًا بين اللهجة العربية المصرية وشقيقتها العراقية أو السورية، أطلق اللغويون على هذه الأسرة الآسيوية الأفريقية اسم اللغات السامية الحامية. أما هذه التسمية فإنها لم تطلق عبثًا أو تخترع اختراعًا، بل ترجع أصلًا إلى الإصحاح العاشر من سفر التكوين من الكتاب المقدس. وقد جاء في هذا الإصحاح أن بني نوح ثلاثة: سام وحام ويافث. ويحدثنا الإصحاح نفسه أن من ذرية هؤلاء تكونت الشعوب والقبائل. لكن إذا أردنا أن نتوخى الحقيقة فإن هذه الأسماء هي أسماء للشعوب وليست للأفراد كما يُفهم من أول وهلة، ومن الأشياء الأخرى التي لوحظت على هذا الإصحاح أنه لم تراع فيه عند الكلام عن الأنساب الصلات العنصرية واللغوية والاجتماعية بقدر ما روعيت العوامل الأساسية، ولا أدل على ذلك مثلًا من أنه ذكر سبأ وحويلة مرة من نسل حام (راجع الآيتين ٦ و٧) وأخرى من نسل سام (راجع الآيات من ٢١ إلى نهاية الإصحاح)، وذكر في الآية السادسة الكنعانيين ضمن الحاميين علمًا بأنهم ساميون.
وقد ظلت هذه التسمية محفوظة بين مطويات الكتاب المقدس حتى بعثها المستشرق «شلتزر» عام ١٧٨١م من مرقدها، وأطلقها على مجموعة اللغات التي نحن بصددها الآن، ومن ذلك الحين شاع استعمال هذا اللفظ بين اللغويين.
- شرقية: وهي عبارة عن اللغة الأكدية أو كما يطلق عليها قديمًا المسمارية أو البابلية الآشورية. وهي لغة القبائل العربية التي نزلت أرض ما بين النهرين. وإذا استثنينا اللغة المصرية القديمة فإنها أقدم اللغات السامية التي استطاعت أن توجد لنفسها شخصية مستقلة. أما تاريخ نزوح هذه القبائل إلى أرض دجلة والفرات فنستطيع أن نقول، في تقريب: إنه كان حوالي الألف الرابع ق.م، مع ملاحظة أن هذه الهجرة لم تكن الأولى من نوعها إلى تلك البلاد. وقد أخذت هذه الشعوب النازحة عن سكان البلاد الأصليين النقوش المسمارية التي استعملتها في تدوين علومها وآدابها وقوانينها. وقد بقيت اللغة الأكدية حية بالرغم من زوال سلطان الأكاديين السياسي قرونًا عديدة، إلى أن قضت عليها كلغة حية شقيقتها الآرامية. وذلك عند فتح الإسكندر أو قُبيله.
- وغربية: وهي تنقسم إلى شعبتين رئيسيتين: شمالية، وجنوبية. والشمالية تشمل ما
يأتي:
- (أ) الكنعانية: وهي لغة
القبائل العربية التي هاجرت إلى شمال الجزيرة، واستوطنته،
وامتدت ممتلكاتها حتى بلغت شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وكان
ذلك حوالي الألف الثاني ق.م. وتشتمل هذه اللغة على اللهجات
الآتية:
الكنعانية القديمة والموابية والعبرية، ثم الفينيقية التي رحلت أيضًا مع الفينيقيين خارج وطنهم الأصلي إلى مستعمراتهم، ولكنها لم تتأصل إلا في شمال أفريقيا «قرطاجنة»، حيث تركت لنا اللغة التي تُعرف بالبونية. وقد عاشت حتى القرن الخامس الميلادي رغمًا من قضاء الآرامية على اللغة الفينيقية حول القرن الأول قبل الميلاد.
- (ب) الآرامية: وهي لغة القبائل العربية التي أخذت تنزح إلى أرض بابل وآشور عند ابتداء ضعف سلطان الأكاديين، وقد كانت هجرتها تقريبًا حول القرن الثاني عشر ق.م. وقد نَمَتْ لغتها وانتشرت، حتى إنها أصبحت لغة الشرق الأدنى، وهي تضم عدة لهجات أهمها: الآرامية الغربية، والآرامية المصرية، والتدمرية، والنبطية، ومن أهم لهجاتها الشرقية اللغة السريانية، وبعض لهجاتها لا يزال حيًّا حتى الآن، فهي تتكلم في طور عابدين في «أرض الجزيرة» وبعض الجهات الواقعة شرق وشمال الموصل وفي جهات أخرى.
- (أ) الكنعانية: وهي لغة
القبائل العربية التي هاجرت إلى شمال الجزيرة، واستوطنته،
وامتدت ممتلكاتها حتى بلغت شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وكان
ذلك حوالي الألف الثاني ق.م. وتشتمل هذه اللغة على اللهجات
الآتية:
- والجنوبية: وهي تشمل:
- (أ) اللغة العربية: وهي أهم اللغات السامية قاطبة وأغناها، وقد حفظت لنا بعض نصوصها وصيغها النقوشُ الكثيرةُ التي وجدت فيما بين دمشق والعلا في شمال الحجاز، وأقدمها هو نقش التمارا بالقرب من دمشق، وقد وجد على قبر ملك عربي، ويرجع تاريخه إلى عام ٣٢٨م. والنقش الثاني الذي يليه وُجِدَ في زبد بالقرب من حلب. وهو مكتوب بثلاث لغات: العربية، والسريانية، واليونانية. ويرجع تاريخه إلى عام ٥١٢م، والنقش الثالث وجد في حران جنوب دمشق، وهو مكتوب بالعربية واليونانية، ويرجع تاريخه إلى عام ٥٦٨م. ونستطيع أن نميز بين لهجات عربية شمالية متعددة، منها اللحيانية والصفوية. وهذه اللهجات الثلاث هي أقربها إلى العربية الفصحى، ثم النبطية وهي خليط من الآرامية والعربية. أما اللهجة الخامسة — وهي أهم الجميع — فهي اللهجة المكية التي نزل بها القرآن الكريم فأكسبها قوة وحياة سادت بهما على سائر اللهجات العربية ثم بقية اللغات السامية. وقد صاحبت هذه اللغة الجيوش الإسلامية في فتوحاتها، وحازت نصرًا إلى جانب نصرها؛ إذ بينما كانت البلاد المهزومة تئد مدنياتها التي هَرِمت وتقاليدها التي نخرت؛ حملت اللغة العربية على لغاتها فأَرْدتها، فنجدها في مصر، وشمال أفريقيا، وبلاد الأندلس، وصقلية، ومالطة.
- (ب) اللغة العربية الجنوبية أو المعينية السبئية: وهي لغة المدنيات العظيمة التي تكونت في الممالك اليمنية الأربع، أعني المعينيين والقبطانيين والحضرميين والسبئيين. وقد عاشت اللغة العربية الجنوبية حتى القرن السادس الميلادي تقريبًا.
- (جـ) الحبشية: وهي تسمى الجعزية أيضًا، وهي أقرب اللغات السامية إلى العربية الجنوبية. وهي لغة القبائل التي هاجرت في زمن قبل المسيحية من جنوب الجزيرة إلى البلاد الحبشية واستعمرتها، وقد أدخلت إلى تلك البلاد كتابتها وثقافتها. ولكن لم يكتب لهذه اللغة الخلود، بل أخذت في الضعف والزوال، ولم يأت القرن الثالث عشر تقريبًا إلا وكانت قد حلت محلها اللغة الحبشية الحديثة، ألا وهي الأمهرية التي هي الآن لغة الإمبراطورية، وبجانبها توجد لهجات عديدة أهمها التجرانية والتجرية والجوراجية ثم الهارارية.
هذا؛ وقد كانت اللغات السامية هي السائدة في الجنوب الغربي من آسيا، أعني فلسطين، وفينيقية، وسوريا، وأرض الجزيرة، وبلاد العرب، يحدها شمالًا جبال الأرمن، وجنوبًا بحر العرب، وشرقًا خليج العجم، وغربًا البحر الأحمر، فالآرامية في الشمال والشرق، والعبرانية في الغرب. أما العربية ففي الجنوب ممتدة إلى بلاد الحبشة. وقد وصل الفينيقيون الغرب ببعض الجزائر وسواحل البحر المتوسط، خاصة قرطاجنة.
ثم إن اللغات السامية تؤلف مجموعة مماثلة لمجموعة اللغات الأوروبية الغربية، كالجرمانية وفروعها القوطية، والدانيماركية الشمالية القديمة، والأسوجية، والألمانية، ولمجموعة اللغات السلافية، وفروعها السلافية القديمة، والليتوانية، والنبطية، والسربية، والروسية، والبولية، والبوهيمية.
وثمة أقسام أخرى — كما أوضحنا قبلًا — للغات السامية شمالية وجنوبية. أما الشمالية فتشمل: (١) البابلية القديمة؛ أي الآشورية، ومنها كتابات ترجع إلى ٤٠٠٠ و٢٥٠ق.م، و(٢) الكنعانية، ومنها نقوش ألواح تل العمارنة، والعبرية لغة التوراة والمشنا، وما بعدهما؛ أي الموابية والفينيقية، و(٣) الآرامية، ومنها الغربية، وتشتمل كتابات الزنجولي، والآرامية اليهودية والفلسطينية، والتي تشمل ترجوم «ترجمة» أو نقلوس ويوناشان. ومنها الآرامية الجليلة التي تشمل ترجوم أورشليم، ولغة التلمود الأورشليمي، والمدراشيم، وترجمة الإنجيل، واللغة السامرية، وكتابات تدمر، والنبطية، ولغة قرية معلولا في الشام. ومنها الآرامية الشرقية، وهي تشمل نقوشًا بابلية قديمة، ولغة التلمود البابلي، والماندية، وكتابات سريانية في شمالي سوريا، والسريانية الحالية في طور عبدين، وكوردستان، والموصل، وأوروميا.
أما القسم الثاني؛ أي القسم الجنوبي، فيشمل — كما أوضحنا قبلًا — (١) العربية الشمالية، وهي لغة قريش، والكتابات القديمة المنقوشة على الصخور بين دمشق وبلاد العرب، والعربية الحديثة كالمصرية والسورية والتونسية والجزائرية والمالطية والعمانية. و(٢) العربية الجنوبية، وهي الكتابات السبائية المنقوشة على الصخور، واللغات المستعملة الآن في مهرة وسقطرة وسائر الجهات الجنوبية العربية. و(٣) الأثيوبية، وتشمل كتابات حبشية قديمة والحبشية الحديثة على اختلاف لهجاتها كالأمهارية والطغرية.
•••
ومن مزايات اللغات السامية، أن بين حروفها الصحيحة حروفًا حلقية كالحاء والخاء، والعين والغين، وأن كلماتها المجردة تتألف غالبًا من ثلاثة أحرف، وأن لأفعالها زمانين فقط وتصاريفها قياسية، ومشتقاتها متشابهة، وأن ليس فيها سوى المذكر والمؤنث. أما علامات الإعراب فهي بسيطة، وليس فيها أفعال وأسماء حركة سوى الأعلام المزجية، وهي تكتب من اليمين إلى اليسار «حديثًا على الأقل فالكتابات الحجرية من اليمين»، وأنه يستعمل فيها حركات للدلالة على بعض الأصوات، وأن ثمة مشابهة بينها في أسماء حروفها وأصل ترتيبها، غير أن العرب غيَّروا ترتيب الأبجدية، ووضعوا الحروف المتشابهة في الشكل بعضها تلو بعض، مثل ب ت ث ج ح خ د ذ. وينسب هذا التغيير إلى نصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر في عهد عبد الملك بن مروان في القرن الأول الهجري. والسامية مختلفة عن اللغات المجاورة لها من الهند إلى أوروبا إلا في النادر. ففي العربية لفظ لحس لعق لعك لعص لعطم. وفي العبرية لحخ لعن لعط. وفي السريانية لحح. وعند الراب أيا أريخا العالم اليهودي في القرن الثالث، أن الآرامية أصل اللغات، وعند لوزاتو أن العبرية مشتقة من السريانية، وعند أولهاوس ومرجوليوث أن العربية هي الأصل، ويقول العرب: إنها كانت لغة آدم في الجنة، وإنها بعد الطوفان حُرِّفَت إلى السريانية، وإن جرهم هو الوحيد الذي كان يتكلم العربية في سفينة نوح، وجرهم هو هورام — المذكور في التوراة — بن يقطان بن عابر بن شالح بن أرفخشاد بن سام بن نوح، وإن آرام تزوج من بعض بنات جرهم، فامتد اللسان العربي من ولده غوص بن عاد.
ومن كتابات تل العمارنة منذ ٣٤٠٠ سنة كلمات كنعانية مستعملة في اللغة المصرية قبل ذلك التاريخ بقرون، وأن العبرية أو الكنعانية كانت من ٤٠٠٠ سنة.
ومن السامية ما باد كالفينيقية والآشورية، وما بقي أثره كالسريانية بين النهرين وسوريا وكردستان، والحبشية والأمهارية في الحبشة، وما بقي أصله كالعبرية والعربية. ذلك منذ أن ولد إبراهيم في أوركسديم، ثم أقام في حوران بين النهرين مدة، ثم هاجر إلى كنعان.
(١) اللغة السريانية
عند «الدكتور هلال فارحي» أن اللغة السريانية كانت لغة أمة عظيمة في قسم كبير من آسيا في بلاد الشام والجزيرة والعراق وآشور وما يجاورها إلى حدود الفرس شرقًا وبلاد الأرمن واليونان شمالًا، وحدود بلاد العرب جنوبًا. وكانت تُسمى هذه البلاد عند اليهود بلاد آرام؛ نسبة إلى آرام بن سام بن نوح. ولذلك سميت اللغة السريانية، وفي العهد القديم آرامية. ويقول رينان: إن اسم آرام بُدِّل في عهد الملوك السلوقيين في الشرق باسم سوريا اختصارًا من «أسوريا» وأثوريا حسب اللفظ اليوناني، وهو اسم عام يطلقه اليونان على آسيا الداخلية كلها، ثم اختصت الآرامية بمن لم يعتنقوا الديانة المسيحية كالنبط وأهل حران، فكأنها كانت مرادفة للصابئ والوثني، ولما اعتنق الآراميون الديانة المسيحية أهملوا اسمهم القديم، وتسموا بالسريان تمييزًا لهم من الآراميين الوثنيين.
ويزعم البعض أن لغة العبرانيين كانت السريانية؛ لأن جدهم إبراهيم كان آراميًّا مولدًا ووطنًا. ولما استقر نسله في أرض كنعان تغيَّرت لغتهم باختلاطها بلغة تلك البلاد الفينيقية.
- (١)
ليس لها أداة للتعريف.
- (٢)
لها أداة خاصة للإضافة، وهي الدال، تدخل على المضاف إليه بمعنى «خاصة».
- (٣)
استعمال النون بدل ميم الجمع.
- (٤)
لا أثر للمثنى فيها إلا ما لا يعد به.
- (٥)
ينتهي آخر الاسم المفرد وجمع المؤنث السالم بالألف على الإطلاق.
- (٦)
تقلب النون راءً في بعض الأسماء الأولية.
- (٧)
يستعمل الحرف ن بدل ي من حروف «أنيت» في المضارع.
- (٨)
وجود صيغة «سفعل» أو «شفعل» في الأفعال خصوصًا في السريانية.
- (٩)
ليس لها حركة للتشديد.
أما أقدميتها فمثبوتة من الكتابات والنقوش الحجرية التي وجدت حديثًا في مواقع بابل ونينوى القديمة بالقلم المسماري، وهي مكتوبة باللسان الآرامي. وقد جاء ذكرها في سفر التكوين ٧:٣١ في «يغر شهدوتا»؛ أي رجمة الشهادة، وهو أول أثر وصل إلينا باليقين التاريخي المحقق نحو سنة ١٧٤٠ق.م. ثم بعدها ما كتبه دانيال وعزرا وغيرها.
تفخر الأمة السريانية بنسبها إلى آرام بن سام، وبأن الأمة الإسرائيلية نفسها خرجت منها؛ لأن عابر الذي ينسب إليه العبرانيون بعيد عن نوح بأربعة أجيال، وأما رام أبو السريان فهو بعيد عن نوح بجيلين فقط. وآشور أبو السريان الشرقيين هو ابن لسام لحا فكأنها تحوي العنصر السامي بوجه خاص. كذلك تفخر بأنها انتشرت في مصر؛ إذ كان يوجد دير قديم مشهور في الصعيد يحتوي على خزانة كتب سريانية ثمينة لا يوجد مثلها في العالم. وكان القبط يستعملون السريانية في طقوسهم، وبأن السريان الشرقيين نشروها إلى أقصى البلاد الشرقية في ملبار من بلاد الهند منذ ظهور البدعة النسطورية. إلا أن أتباع هذه البدعة النسطورية قسموها بيعة رومانية وبيعة يعقوبية إنطاكية منذ نحو ٣٠٠ سنة، وبأن بعض أسفار الكتاب المقدس كتبت بالسريانية في الأصل، وبأن لغة أورشليم والأراضي المقدسة كانت سريانية مدة سبعة قرون؛ إذ كانت لغة اليهود العامة، وبأن السريانية كانت لغة يسوع ومريم والرسل الأصلية، وبأنها اللغة الطقسية في الكنائس وسائر الأمور الدينية إلى الآن عند كثير من نصارى بلاد الشرق، وهم الكلدانيون النساطرة أصلًا، واليعاقبة في الجزيرة والعراق وآشور، وفي كردستان، وملبار في الهند، والموارنة في جبل لبنان. وبأنها من جملة لغات ملافنة الكنيسة مع اليونانية واللاتينية، وبأنها اللغة الوسيطة بين اليونانيين والعرب في ترجمة الكتب العلمية إلى العربية. وبأن أهلها، ولا سيما أهل بابل، أول الناس الذين اشتغلوا بالعلوم، خاصة بعلم الهيئة والفلك والرياضيات، وبأن كثيرًا من كتب اليهود الثمينة: التلمود البابلي، وترجمات العهد القديم التي يتلوها اليهود إلى يومنا هذا بالكلداني أو السرياني. وبأن المؤرخ الشهير يوسف الأشقر كتب تواريخه بلغة جيله السريانية في القرن الأول، ثم نقلها إلى اليونانية لفائدة الغرباء.
- (١)
في الألفاظ الدخيلة منها «وليس من اليونانية» مثل قسيس، عماد، ناقوس، كنيسة، نياحة، ساعور، ترشيم، فندق، وغيرها، وفي الألفاظ اليونانية الموجودة في السريانية، والتي نقلت إلى العربية بوساطتها.
- (٢)
وفي لغة سوريا العامية: الآن إسكان المتحرك في أول الكلمة مثل: كبير، صغير، نروح.
- (٣)
تسكين المتحرك في وسط الكلمة بحركة الاختلاس مثل عمتك، علتي، زلقطة.
- (٤)
قلب الميم إلى نون في ضمير المخاطبين مثل أبوكن بدل أبوكم، بيتهن بدل بيتهم.
- (٥)
وجود بعض الألفاظ من السريانية مثل: ديق، فقع، الشرش، الأشكاره، الدقن.
- (٦)
وجود بعض أسماء قرى ومدن مثل: راشيا، حاصبيا، بيت لهيا، داريا، معرا … إلخ.
- (٧)
وجود أناس يتكلمون السريانية إلى الآن في سورية في قرية معلولا قرب دمشق، وسريانيتهم أفصح من سريانية آشور والجزيرة والعراق، وكانت دارجة في لبنان حتى القرن الثالث عشر.
واللغات السريانية المعروفة اليوم منها مكتوب ومنها غير مكتوب.
- (١)
أما البابلية فكانت في العراق وآشور وسائر البلاد التي كانت تابعة لدول بابل ونينوى، وهي لغة بعض أسفار التوراة، ولغة اليهود بعد رجوعهم من السبي. وكانت تسمى آرامية أو سريانية، والإنجيل يسميها عبرية، والإفرنج الكلدانية، والعرب النبطية، وهي لغة التلمود البابلي والترجومات وجملة قصائد طقسية دينية عند اليهود إلى الآن.
فالنبطية هي التي يسميها الإفرنج الكلدانية، وهي لغة أمة الصبا أو المندوبين في جنوب شرقي العراق، ومحفوظة في كتبهم الدينية.
- (٢)
وأما السريانية الكتابية الدارجة اليوم، فهي مستعملة عند النصرانية ما عدا أمة الصبا، وفي قرية معلولا وقريتين مجاورتين لها في الشام إسلامية. وتوجد في مدينة زاخو فيما بين النهرين جماعة من اليهود لسانهم العامي السرياني المحرف الشائع في كردستان.
وقد انتهت هذه السريانية الدارجة الآن إلى الآرامية في القرن الأول. وأشهر كتبها هو الكتاب المقدس، ولم يتغير إلى يومنا هذا. وقد انقرضت تدريجيًّا بعد القرن الثالث وأمست ميتة. وقد ظهرت كتبها كلها بعد القرون الأولى، ولم يبق منها سوى نقوش حجرية في «تدمر» القلم «التدمري»، وفي نينوى المسماري.
وهذه اللغات الكتابية على نوعين: شرقية وغربية، فالشرقية تسمى النصيبية نسبة إلى مدرستها لغة بلاد الشرق من الآرامية، وهي لغة النساطرة الكاثوليك، واليعاقبة في ملبار في الهند، وهي الأفصح والأصح. والغربية وتسمى الرهاوية لغة غربي نصيبين حتى البحر، وهي لغة السريان الكاثوليك الطقسية، وخصوصًا الموارنة اليعاقبة العثمانيين. ومما يدعو إلى الأسف أنها أدخلت إلى أوروبا؛ إذ كان الأولى إدخال لفظ الشرقيين؛ لأنه الأقدم والأحسن كما نجده في أسماء القرى راشيا وحاصبيا وبكفيا وعبدا. ولو لفظت هذه كالغربيين لكانت راشيو وحاصبيو وبكفيو وعبدو.
- (٣)
وأما السامرية فهي لغة فرقة من الإسرائيليين يقال لهم السمرة في نابلس بقية السامريين الذين افترقوا في عهد الملك يربعام بن نباط، ومن الذين أرسلهم شملناصر — ملك آشور — من السريان من بابل، وحفظوا لغة السريان وخلطوها بألفاظ عبرية، وتولد منها لغة خاصة تسمى السامرية، ولهم خط خاص، وقد ترجموا التوراة إلى لغتهم يدرسونها ولا يتكلمونها خالية من الحركات والنقط كما سبق. ومن عاداتهم إذا بدءوا بحرف ساكن أضافوا إلى اللفظ ألفًا مفتوحة، ويلفظون الحروف الحلقية كهمزة.
- (١)
الأولى اللغة الآشورية في آشور والجبال الشرقية من الجزيرة وكردستان، وهي سريانية محرفة مبلبلة بألفاظ أعجمية، ويسمون أنفسهم سريان، ولكن جيرانهم يسمونهم الفلاحين ولغتهم الفلاحية، لفظها يشبه لفظ الشرقيين.
- (٢)
الثانية لغة الجزيرة؛ أي جبال طور عبدين، وهي أقل فسادًا من السابقة، وأكثر قربًا من اللغة الفصيحة يتكلمها السريان اليعاقبة.
- (٣)
الثالثة يسميها الإفرنج الفلسطينية، كانت يومًا في بلاد الشام وفلسطين، واليوم محصورة في قرية معلولا. فيها مسلمون يتكلمون هذه اللغة ونصارى كاثوليك، وهي تقرب من الشرقية، وأهلها يلفظون القوف «ق» كافًا والتاء المثناة جيمًا. وقد هذَّب البروتستانت هذه اللغات ودرسوها وطبعوا كتبًا فيها إلا لغة معلولا.
وبإجمال الكلام: إن هذه الفروع السبعة تلفظ كلفظ الشرقيين إلا لغة جبل الطور ولغة معلولا، وإن لغة بابل تقرب من الآرامية الأصلية، ثم الكتابية المشهورة الآرامية الأصلية، ثم الكتابية المشهورة الآن، ثم لغة معلولا، ثم لغة المندوبين، ثم السامرية، ثم لغة طور عبدين، ثم لغة آشور، ومع اختلافها من بعض في كثير من الأمور تتفق لغة بابل مع السامرية ولغة معلولا فقط بحرف المضارعة اليود «ي» من «أنيت أنيت» كما في العربية والعبرية. وتتفق السبعة إلا الكتابية والآشورية والطورية في جميع الأسماء الخالية من تاء التأنيث بزيادة الياء المشددة في آخرها، والسامرية تتفق مع المعلولية في صيغة الفعل التي لا توجد في العربية والعبرية.
- (١)
ضمير المتصل للمؤنث، وهو: هاو جمع المتكلم نا.
- (٢)
وفي ك الضمير للإشارة.
- (٣)
في ياء المضارع: يكتتبون.
- (٤)
وفي مصادر الأفعال المزيدة التي في أولها ألف مثل استلام، إدراك.
- (٥)
وفي ك التشبيه، وفي مشابهة ألفاظ كثيرة في الصيغة والمعنى أيضًا.
(٢) الكتابة
كان المذهب الشائع أن الكتابة اخترعتها الأمة الفينيقية، وبمهاجراتها علمتها الأمم. ومن جملتها الأمة اليونانية. وكانت إذ ذاك «فينيقيا» بقعة صغيرة من بلاد السريان، ولكن الحقيقة هي أن الفينيقيين تعلموها من البابليين؛ لأن التاريخ لم يشهد لهم في العلوم كما شهد للبابليين والآشوريين الذين وضعوا أسس العمران في العالم، فظهرت عندهم العلوم والمعارف، ولا سيما علم الفلك والرياضيات. وقد شهد بذلك إقليميس الإسكندري في القرن الأول، وبلينيوس الفيلسوف في القرن الثاني، وديودوروس الصقلي. وقد ثبت أن الحروف الأبجدية اليونانية أخذت عن السريانية وزادوا عليها بعض الحروف والألف كعادة السريان اليوم، ألفا، بيتا، جما، دلتا … إلخ. ولكن السريان اليوم أسقطوا الألف من أواخرها، وقد اتفقا في حساب الجمل.
- (١)
العين والطاء لا توجدان في المصرية.
- (٢)
ثم لو كان الساميون أخذوا ١٣ حرفًا فقط واخترعوا البقية لسردوها بعدها، ولما فرقوها بين الحروف المأخوذة.
- (٣)
ومن المعقول أنه كانت عند المصريين حروف أخرى غير اﻟ ١٣ حرفًا، فيستبعد أن يكونوا أخذوا البعض وتركوا البقية واخترعوا صورًا جديدًا لبقية الحروف.
- (٤)
يزعمون أن أسماء هذه الحروف متشابهة عند المصريين والساميين، ولكن ليس من يعلم البتة كيف كانت أسماء الحروف عند المصريين، حتى إن القبط أولاد المصريين القدماء استعاروا أسماء يونانية عندما اتخذوا أبجديتهم في القرون المتأخرة.
- (٥)
ومَن أمعن النظر مليًّا في صور الحروف المصرية الثلاثة عشرة لا يرى أدنى مشابهة للحروف السامية.
وإنه لأمر معلوم أن الرومانيين أخذوا صناعة الخط عن اليونانيين أو عن الذين تعملوا منهم «أي عن السريان»؛ فإنه مسطور في صحف اليونانيين القدماء أنه في سنة ٢٥٦٠ق.م، جاءت فئة من أهل الشام بزعامة رجل اسمه قدم إلى أرض اليونان، وأخذت معها صناعة الكتابة، وصار اليونانيون يكتبون بالسريانية، وحفظوا أسماءها السريانية بعينها، وأبقوها على الترتيب والصيغة الأصلية مع الألف الملحقة، بخلاف اللاتينيين الذين أضاعوها، وبدءوا يكتبون من اليمين إلى اليسار، ثم تركوا هذه العادة، وربما صاروا يكتبون على أسلوب الحراثة، ثم من اليسار إلى اليمين إلى يومنا هذا. ومن العجب أنه لا يوجد من يكتب من اليمين إلى اليسار إلا السريان والعرب والعبران والبهلويون؛ أي الفرس القدماء.
وزعم البعض أن الرومان أخذوا صناعة الخط رأسًا عن السريان؛ لأن بعض الحروف اللاتينية تختلف عن اليونانية وتقرب من السريانية، وبعض الحروف السريانية سقطت من أبجدية اليونان وموجودة في الرومية، وهما: و، ق.
وهكذا الفرس، فإنهم كانوا يكتبون بالسرياني، وإلى يومنا هذا حفظ القلمان الفارسيان وهما الزندي البلوي، وهما مأخوذان من القلم السرياني.
القلم العبري: لا بد أن ترتيب الحروف الأبجدية قد اتخذته إحدى الأمتين من الأخرى لاتحاده عند كلتيهما. ولما كان اليهود في عبودية وتيه وبلبلة ولم يحصلوا على شيء من العمران والقوة الأدبية إلا في نحو زمن الملك داود؛ فالغالب أنهم لم يخترعوا هذا الترتيب، بل أخذوه عن السريان.
والمعلوم أن الأرمن كانوا يكتبون السريانية قبل اختراع حروفهم الجديدة في القرن السادس. وقد ذهب المحققون إلى أن أفضل الأقلام في بلاد الهند وما يجاورها وفي بلاد الحبشة أيضًا مأخوذة عن الآرامي.
ولقد تعلم العرب الكتابة من السريان، وأخذوا عنهم القلم السرياني، وهو الذي يستعملونه إلى الآن، إلا أنهم أحدثوا فيها بالتدريج تغييرًا كثيرًا.
أما القلم الذي اخترعه الآراميون فلا نعرف بالتحقيق كيف كانت صور حروفه، ولكن ذهب بعضهم إلى أنه هو القلم المسماري الذي نراه في النقوش على الأحجار التي كانت مطمورة في مواقع بابل، ونينوى، وهذا القلم قد تغيَّر شيئًا فشيئًا، وتولد منه القلم السامري كما سبق ذكره، وثمة أقلام لا تُرى إلا في الآثار القديمة المنقوشة على الأحجار كالفينيقي في الجانب الغربي من بلاد الشام، وفي مواضع أخرى، والقلم التدمري في آثار مدينة تدمر، والقلم النبطي الذي نتج منه الحميري العربي الذي تولد منه القلم الكوفي، ومن هذا نشأ القلم العربي المعروف اليوم الذي يقال له: النسخي. كل هذه تشبه بعضها بعضًا، وتشبه القلم اليوناني واللاتيني أيضًا.
أما أقدم قلم آرامي اتصل بنا عهده فهو البابلي الذي استعمل في زمان كورش — ملك فارس — والذي تعلمه اليهود في بابل، وهم يستعملونه إلى يومنا هذا، ويسمونه القلم الآشوري، ويسميه البعض اليهودي، ويسميه الإفرنج القلم المربع. أما اليهود فيسمونه القلم المقدس. وقد اشتقوا منه أقلامًا أخرى أقل زخرفة أطلقوا عليها نصف قلم، كالقلم الراشي، والقلم الألماني الخاص بالروس والألمان اليهود.
- (١)
قلم مختص بالنساطرة والموارنة، وبه تكتب في القرن السابع عشر.
- (٢)
قلم مختص بالسريان الغربيين؛ أي اليعاقبة والموارنة، وبه تكتب السريان الآن، وتستعملة مطابع أوروبا.
- (٣)
قلم مختص بالملكيين في بلاد الشام قبل أن يتخذوا العربية لغة لهم، وهو شبيه بالعامي.
- (٤)
القلم الفلسطيني، وهو مختص بالملكيين في فلسطين.
ثم إن الأقلام القديمة: قلم المندوبين أو الصبا تعد أقدم من السطرنجيلي، وقد نشأ من البابلي ثم العربي، وهو ناشئ من السرياني كما تقدم. وهذا محقق وثابت من المشابهة القوية بين العربي الأصلي، أي الكوفي، والسطرنجيلي، ومن ترتيب الأبجدية، ومن مشابهة الحروف المقطوعة إلا الهاء والصاد والتاء، ومن عددها، ومن كون أن العرب كانوا يكتبون آثارهم بالسريانية. وبالإجمال لم يكشف أحد إلى اليوم كتابة بالعربية سابقة لعهد الإسلام، ثم الجرشوني «الكرشوني عند العامة» كلام عربي يكتب بالسريانية، ظهر في نواحي القرن السابع لإخفاء ما يرغب تدوينه، والجرسوني بالسين كتابة الملباربو الهنديون المسيحيون. على أنني لم أوفق إلى الوقوف على أصل اشتقاق كلمة جرشوني، بل أعتقد بأنها منسوبة إلى اسم أول من كتبها، وهو «جرشون»، وهو اسم دارج قديمًا.
بقي أن نلمع إلى: أي قلم من الأقلام السريانية والمتولدة منها أفضلها حسنًا وطرافة؟ إن مذاهب الناس تختلف في أمر الحسن النظري، فمنهم من قال: إن السطرنجيلي الأظرف ثم اليوناني ثم اللاتيني ثم المربع؛ أي العبراني، ثم النسطوري ثم العامي ثم اليعقوبي ثم البقية. ووضع بعضهم اليعقوبي في الأول، غير أن كثيرين يضعون المربع في المقدمة.
أما نظام الحركات فلم يكن له أثر قبل القرن الثامن. ثم تألفت تدريجيًّا من نقط صغيرة وكبيرة وخطوط وحروف. فالعبرانيون أول من وضعوا نظام الحركات قبل انتهاء التلمود، ثم تعلم السريان من اليهود طريقة الحركات الخمس القائمة الآن من وضع يعقوب الرهاوي، ثم تبعهم العرب في بدء ظهور الإسلام. غير أن السريان الغربيين استعاروا من اليونانيين الحروف الأربعة أ و ح ع للحركات. واتخذ النساطرة طريقة النقط الصغيرة، واليعاقبة والموارنة النقط الصغيرة والكبيرة. وأما السامريون الملكيون فلا يزالون يستعملون لغاتهم بلا حركات.
وبالاختصار، فإن اللغة السريانية كانت منتشرة في جانب عظيم من آسيا الغربية قبل التاريخ الميلادي بأكثر من ألفي سنة، ودخلت فلسطين في القرن الثامن ق.م. ثم عمت بلاد اليهود كلها في القرن السادس وجانبًا عظيمًا من المملكة الفارسية، وبلغت آدابها أوج الكمال في عصرها الذهبي، وقد دام هذا إلى الجيل الرابع الذي ظهر فيه فحول العلماء، وتأسست مدرسة سلوق في العراق، ومدرسة الرها والنصيبين في الجزيرة. ومن أشهر الذين نبغوا في هذه اللغة برديصون الملحد وإفرهاط الحكيم الفارسي، وأفرام الملفان، وبالاي، وفورلونا، وماروثا، وإسحاق الإنطاكي، ورابولا، ويعقوب الرهاوي، وغريغوريوس الشهير، وغيرهم. وقد دام هذا العصر إلى القرن التاسع، ثم أخذت في التقهقر تدريجيًّا إلى القرن الثالث عشر حتى وفاة غريغوريوس بن العبري، وبذهابه سقطت ولم تقم من سقطتها إلى يومنا هذا.
(٣) نظرة إجمالية في المقارنة بين اللغات السامية
-
(١)
إن المشابهة ظاهرة في أسماء الحروف الأبجدية ولفظها ما عدا الحرفين ض ظ، ثم في كتابتها من اليمين إلى اليسار.
-
(٢)
في قسمة الحروف إلى صحيحة ومعتلة، وأساسية واستخدامية، وحروف المعاني، وواو العطف، وغيرها، وفي الحركات.
-
(٣)
في كثير من الأوزان للأسماء والنعوت وأسماء الآلة والمكان وغيرها.
-
(٤)
في أوزان الأفعال، وأنواعها، ومزيداتها، والجنس، والإضافة، والنسبة، والأعداد، والضمائر، والحروف.
-
(٥)
في صرف اللغة ونحوها.
-
(٦)
في مادة كثير من الأفعال والمفردات، وإليك بعض الأمثلة:
- في ظواهر الطبيعة: مثل أرض، سماء، شمس، كوكب، يم، ريح، نهر، بئر، غيم، بركة، مطر، برد، ثلج، وغيره.
- في الزمان: يوم، نهار، ساعة، دقيقة، أسبوع، سنة، دور، وغيرها.
- فيما يتعلق بالدين: دين، رب، قضاء، إله، نبي، ملاك، بَرَكة، شبح، ركوع، وغيرها.
- في أسماء الحيوانات والطيور: بهيم، ذئب، كبش، ثور، حمار، نسر، وغيره.
- في أسماء النباتات والأعشاب: عشب، قش، تفاح، بطيخ، بصل، تين، عنب، ذهب.
- في المعادن: مثل فحم، كبريت، ذهب، نحاس.
- في أسماء الآلات والصنائع: قدوم، محراث، منشار. صياد، ملاح، حَمَّار، جَمَّال، خَيَّاط.
- في النعوت والصفات: قصير، قاسٍ، لين، كاذب. طيب، يابس، حاد … إلخ.
- في الجنس البشري: أب، أخ، أم، ابن، وغيره.
- في الأفعال: مثل أكل، ملأ، شبع، قتل، سمع، حلم، رأى، وغيرها.
أما كيفية المشابهة فإما بالوضع التام بالحروف والحركات، مثل: مطر، يم، نهر، أو بالإبدال بين الحروف التي من مخرج واحد، مثل: صعق، وزعق، وضحك، ونزح، ونسع، ونزع، والتي من شكل واحد: شام، وسالم، طلف وظلف، أرض أرص، أو بإبدال حروف التبادل «لمنر» مثل أرمل والمن ابهام بوهن.
أو نقل الحروف: كبش وكشب، كعب وعقب، حلج وحلق، ركع وكرع، حزام وميزج، أرب وأبر، أو بواسطة زيادة ونقصان بعض الحروف: أزروع ذراع، أبطيح بطيخ، أخزاب كذاب، وصميع قريح أقرع.
أو بتغيير الحركات مثال: حامور حمار، جمال جمل، شالوم سلام.
أو بإدغام بعض الحروف كالنون وتعويضها بشدة، مثل: حنطة حطة، مشور منشار، سدان سندان، أبوب أنبوب، شبولت سنبلة، وغيرها.
(٤) اللغة العبرية
قلنا: إن اللغات السامية تمتاز عن غيرها بقواعد منها أن الحروف تحتوي على حروف صوتية حلقية من طبقات مختلفة، وأن الحركات أصلها ثلاث: أ. إي. أو. هذا؛ وأكثر مصادر اللغات السامية كلمات ثلاثية. وللفعل: ماض ومضارع وأمر مع استعمال خاص. ولا يوجد شاذ في تركيب الكلمات. وينقسم الاسم إلى مذكر ومؤنث، ومفرد ومثنى وجمع.
هذا؛ وأصل القلم العبري الحالي هو القلم الآشوري، نسبة إلى آشور، وهي الموصل، ويقال: إن آشوري مشتقة من مؤشار؛ أي ممدوح ومشكور.
أما طريقة كتابة العبرية وقراءتها فإنها من اليمين إلى اليسار كسائر اللغات السامية؛ وذلك لكونها في الأصل كانت تنقش على الأحجار، والنقش ميسور من اليمين أكثر من الشمال. أما الحروف العبرية فهي غير متصلة عدا الألف واللام أحيانًا، وعدد أحرفها ٢٢، وأحيانًا أكثر من ذلك، وحركاتها بالفتحة والضمة والكسرة والشدة والمدة والوصلة كالعربية. وللعبرية نحو وصرف وبلاغة.
هذا؛ وقد كان ابتداء استعمال الخط الآشوري أو المربع، وهو الخط العبري الحاضر، من عصر «عزرا» الكاتب؛ أي من عهد رجوع سبي بابل. أما الخط العبري القديم فعلى نقيض هذا.
ثم إنه لم يرد في التوراة اسم اللغة العبرية؛ إذ هي بالعبري «لاشون عبريت»؛ أي اللسان العبري، ولكن الأمم المجاورة للعبرانيين كانت تسمي لغتهم بهذا الاسم، وقد ورد هذا الاسم للمرة الأولى في المشنا في يدايم ٤:٤، وجطيم ٩:٨. وقد سميت «سفات كناعن»؛ أي شفة، ولغة كنعان «اش ٩»، وسميت أيضًا «يهوديت»؛ أي اليهودية، كما جاء في سفر الملوك الثاني ١٨: «كلِّم عبيدك بالآرامية؛ لأننا نفهمه ولا تكلمنا باليهودية.» (واش ١١:٣٦ و١٣ ونح ٢٤:١٣)، وكانوا يسمونها «لاشون هقودش»؛ أي اللغة المقدسة؛ تمييزًا لها من اللغة العامية (تلمود. سوطه ١٠:٨).
ومن المؤكد أنها كانت اللغة المستعملة عند الكنعانيين الذين كانوا يسكنون فلسطين قبل مهاجرة إبراهيم، بدليل وجود بعض أسماء عبرية عند الكنعانيين، مثل «ملكي صيدق» ملك العدل، و«قريت سيفر» مدينة الكتاب، وأبيمالك وأدوني بازق، وغيرها.
يقسم تاريخ اللغة العبرية مدتين: المدة الأولى وهي نحو ألف سنة مدة استقلال اليهود، وتنتهي بسبيهم إلى بابل نحو سنة ٦٠٠ق.م. وتعرف بالمدة الذهبية؛ لأنه فيها تقدمت اللغة وانتشرت وكتب فيها القسم الكبير من الكتاب المقدس العبري مع ما فيها من تاريخ ونثر وشعر وقصائد مرتبة على الحروف الأبجدية.
وقد اختلف أسلوب الكتاب في هذه المدة في الإنشاء وآداب اللغة حسب الأوقات والكتب، فإن أسلوب أشعيا مثلًا يختلف عن أسلوب أرميا الذي جاء بعده بنحو قرن، وعن أسلوب ميخا الذي كان معاصرًا له، وعن أسلوب المؤرخين الذين كتبوا الكتب التاريخية أيضًا. غير أن متن اللغة وتراكيبها كانت واحدة تقريبًا. وكان الشعر يختلف عن النثر بالإكثار من الاستعارات والكنايات فوق اختلافه عنه بالوزن والقافية واستعمال كلمات خاصة مثل: «أنوش» بدل «آدم»، وبتطويل بعض الحروف والظروف بإضافة بعض حروف إلى آخرها.
ولقد تقدمت اللغة في هذه المدة أيضًا بتقدم الصناعة والتجارة والعلوم وإدخال كثير من الكلمات الأجنبية عن طريق التجار الفينيقيين من الآشورية والفارسية واليونانية والمصرية، ولا سيما من الكلدانية.
والمدة الثانية — وتعرف بالفضية — وهي مدة انحطاط اللغة، وتبتدئ منذ انتهاء المدة الأولى إلى زمن المكابيين سنة ١٦٠ق.م. في هذه المدة ظهر تأثير اللغة السريانية بكثرة الكلمات السريانية في الشعر والنثر بسبب اختلاط اليهود بالكلدانيين في بابل مدة السبي، حتى إنه بطل استعمال اللغة العبرية في الكلام والحديث، وانحصر استعمالها عند الكهنة والعلماء في كتاباتهم فقط «نحميا ٨:٨»، وظهر تأثير اللغة الكلدانية كما يرى في الأسفار التي كتبت حينئذ، وهي عزرا ونحميا ودانيال وأخبار الأيام وسفر إستير وأسفار بعض الأنبياء وبعض المزامير الأخيرة. ولا شك أن كتبًا كثيرة كتبت بالعبرية في هذه المدة ولكنها فُقدت ولم يبق منها إلا هذه الأسفار.
ومما يستحق الذكر أنه كان هناك بعض لهجات خاصة عند بعض الطوائف، وقد ورد أن الأفرانيميين كانوا يلفظون الشين سينًا فيلفظون «شبولت» مثلًا «سبولت»؛ أي سنبلة (قض ٦:١٢). وجاء أنه كان للأشدوديين لهجة خاصة (نح ٢٤،٢٣:١٣).
وبعد أن انحطت اللغة وبطل استعمالها تدريجيًّا في الكلام، جمعت الأسفار في كتاب واحد هو المسمى بالعهد القديم، وأخذ علماء اليهود في شرحه وترجمته، وأول ترجمة كانت إلى اليونانية، ويقال لها: الترجمة السبعينية؛ لأنها تمت على يد سبعين مترجمًا في أوقات مختلفة، فابتدئ بترجمة الأسفار الخمسة في عهد بطليموس فيلادلفوس في الإسكندرية لفائدة اليهود القاطنين فيها وفي بلاد اليونان نحو سنة ٢٨٠ق.م. ثم أتت بعدها الترجمة السريانية. وقد قام بترجمة الأسفار الخمسة وبقية أونقلوس والأسفار الأخرى يونانان بن عزئيل في فلسطين وبابل في أواخر القرن الأول. وبعدها كانت الترجمة المصرية «القبطية» بين القرن الثاني والثالث للمسيح.
وأما التفاسير والشروح والأحكام الشرعية والقضائية، فقد كتبت في المشنا في القرن الثالث والجمارا «أي التلمود».
- (١)
وجود كلمات آرامية، ووضع صيغة الجمع بالآرامية بالنون.
- (٢)
وجود نحو ٣٠٠ كلمة دخيلة من اليونانية واللاتينية.
- (٣)
كثرة استعمال أفعال المطاوعة واسم الفاعل.
- (٤)
استعمال الضمائر الوصولية في حالة الإضافة في الملكية.
- (٥)
زيادة عدد الحروف والظروف، وتحديد استعمالها.
- (٦)
استعمال كلمات من التوراة في غير معناها الأصلي، واشتقاق أفعال منها.
- (٧)
استعمال بعض ألفاظ مخالفة لقواعد اللغة حسب الظاهر.
وكان الإسرائيليون القاطنون في فلسطين وبابل يومئذ يحافظون على نسخ التوراة العبرية مع الدقة والحرص حتى على كل نقطة كتبت فيها لازمة كانت أو غير لازمة. وقد اعتمد عليها المترجمون كلهم في الترجمة والمقابلة مثل إيرونيموس في ترجمته اللاتينية عن السبعينية وأورجانوس في جمعه الهكسابلا؛ أي مجموع خمس ترجمات مع الأصل العبري في كتاب واحد نحو القرن الثاني.
وكان متن التوراة إلى الجيل الأول مؤلفًا من حروف فقط بدون حركات وفواصل بين الآيات والفصول. وقبل انتهاء كتابة التلمود بقليل شرع العلماء اليهود في وضع الحركات لزيادة الضبط، وأقدم نظام للحركات كان البابلي والآشوري، ولكنه لم يستعمل إلا قليلًا، وبطل مع تمادي الأيام، وأبدل به النظام الطبراوي، وهو المستعمل إلى يومنا هذا مع بعض إضافات، مع الدقة والكمال، وهو يحتوي على ١٨ حركة منها ما تدل حتى على نصف حركة وربع حركة، وهو أتم من نظام حركات بقية اللغات السامية. وقد أخذ السريان عنهم نظام حركاتهم، ووضعوا أيضًا حركات لحنية منها ١٩ فاصلة و٨ واصلة تستعمل في التوراة، و٢٢ فاصلة وواصلة خاصة بأسفار أيوب والأمثال والمزامير، وفي أواخر ذلك الجيل؛ أي السادس، قرر الباحثون بعد التدقيق والانتقاد قراءة الكتاب المقدس العبري الحاضرة، وهي المعروفة بالماسورة، وإليها ينسب وضع الحواشي الموجودة في الكتاب.
ولما انتقل بعض اليهود من الشرق إلى أوروبا أخذوا معهم نسخًا عديدة من الكتب المقدسة يعتمد عليها. من هذه نسخة: جليل، وجدت في إسبانيا، ونسخة ابن شير وابن نفتالي رئيسي مدرستي بابل وطبريا، ونسخة أريحا، وهي أصح نسخ الشريعة الموسوية، والنسخة الهندية، والنسخ السينمائية، ونسخ عديدة غيرها يبلغ عددها نحو ٨٥٤ نسخة جميعها في مكاتب أوروبا.
وقد حفظت إلى الآن عند السامريين في نابلس نسخ من الخمسة الأسفار بالخط السامري القديم، وهم يدَّعون أن عندهم نسخة باقية بخط فينحاس بن أليعازار بن هارون. أما ادعاؤهم أقدمية هذه النسخة فباطل؛ لأنه قد ثبت أنها مأخوذة عن الترجمة السبعينية مع بعض تغييرات موافقة للمعتقد السامري. ومن مقابلة هذه النسخ جميعها يبين أنها قد حفظت مع التدقيق والصحة، وأن اختلاف القراءات لا يمس عقيدة أو عملًا، بل يسير على دقة لهجة بعض كلمات وضبط حركاتها.
هذا؛ وأول من بحث في قواعد اللغة العبرية الأستاذ سعيد الفيومي في القرن العاشر، وهو من أساتذة بابل؛ فقد ترجم العهد القديم كله تقريبًا إلى العربية بالحروف العبرية، ومن معاصريه الذين بحثوا في اللغة دوناش بن لبراط، وابن تميم، ومناحم بن سروق، ويهوذا بن قريش. وقد بحث هذا الأخير في اللغات السامية الثلاث وقابل بينها وبين لغة التوراة ولغة المشنا. ولأبي يهوذا حيوج، ويهوذا بن قريش، وأبي الوليد مروان، وابن أشير، ويهوذا بن بلعام، وإبراهيم بن عزرا، وعائلة قمحي، وسلمون يارحون، وربي ليفي بن جرسون، وابن جبيرول، وهارون بن يرسف وغيرهم مؤلفات عديدة قيِّمة في اللغة العبرية.
وممن اشتهر من العلماء المسيحيين في اللغة العبرية روكلين، اللغوي الشهير، وجون باكستروف، وشولتز، وشريدر، وجزينيوس، وروبنصون، وإيوالد، وغيرهم.
وقد بلغ عدد المؤلفات التي تبحث في اللغة العبرية في سائر اللغات ما ينيف عن ٨٠٠ مجلد لكتَّاب مسيحيين أكثر من نصفها.
النحو العبري
وعند الدكتور فؤاد حسنين أن اليهود يدينون للكنعانيين بلغتهم العبرية، وللعرب المخضرمين بتذوق هذه اللغة وآدابها، وللمسلمين بوضع الكتب العلمية وصرفها؛ وذلك أن العبريين هاجروا من شمال الجزيرة العربية حول منتصف الألف الثاني ق.م إلى فلسطين أو أرض كنعان، فوجدوا فيها شعبًا ساميًّا راقيًا، يتكلم الكنعانية ويكتب بها، فلما استقر بالعبريين المقام أخذوا يتركون لغتهم الأصلية التي جاءوا بها، والتي كانت تتألف من لهجة آرامية، ويستعملون مكانها لغة وطنهم الجديد، شأنهم في ذلك شأنهم اليوم في البلاد التي يأوون إليها، فهم يتكلمون الإنجليزية في إنجلترا وأمريكا، والفرنسية في فرنسا، والألمانية في ألمانيا، وهلم جرًّا، لكنهم كانوا فيما يفكرون ويكتبون متأثرين بلغتهم الأصلية، لذلك اصطلح على تسمية هذه اللغة التي أصبحت خاصة بهم «اللغة العبرية» التي ظلوا يتكلمونها حتى القرن الثاني ق.م. ففي ذلك القرن اختفت من الحياة العامة، ورضيت بالمعابد، وصارت لغة طبقة خاصة من علماء اليهود، وأخذت تحل محلها لغات أخرى، منها السامية ومنها الأجنبية، وأصبح اليهود في الشام والعراق يتكلمون لغة تزداد مع سير الزمن فسادًا، حتى أصبحت قُبيل الإسلام خليطًا من العبرية والكلدانية واليونانية الدارجة التي لا أدب لها.
لكن حدث في ذلك الوقت أن أرسل الله رسوله «محمدًا» بالهدى ودين الحق، وقام بعض يهود الجزيرة العربية وألَّبُوا الناس عليه.
وكان من بين هؤلاء اليهود الذين ناصبوا النبي العداء، وأجلوا عن قلب الجزيرة بنو قينقاع وبنو النضير، ويهود خيبر ووادي القرى وغيرهم، الذين نشئوا في الجزيرة العربية نشأة تتفق إلى حد ما والخلق العربي والمثل العربية من حيث الشجاعة والكرم والأمانة والوفاء، إلى جانب العناية بالفصاحة والبلاغة وقرض الشعر، على نقيض إخوانهم في الشام والعراق الذين كانوا يقاسون آلام الاستعمارين البيزنطي والفارسي. ولا أدل على رقي يهود قلب الجزيرة من أن دواوين الأدب العربي حَفِظَت لنا كثيرين من شعرائهم أمثال السموءل بن عادياء، والربيع بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وشريح بن عمران، وشعبة بن غريض وغيرهم، الذين يدل نبوغهم في الشعر على سلامة ذوقهم اللغوي، وتأصل العربية والطباع العربية فيهم، وقد نقلوها إلى إخوانهم في العراق والشام؛ لذلك لم يكد يمضي نصف قرن على فتح المسلمين تلك البلاد حتى أصبح اليهودي يجيد العربية قراءة وكتابة. ولم يقف أثر المسلمين عند هذا الحد، بل نجدهم يحولون اهتمام اليهود إلى كتابهم المقدس ليجادلوا من يجادلهم من ناحية، وليحافظوا عليه من التغيير والتبديل من ناحية أخرى، فضبطوه بالحركات كما ضبط المسلمون القرآن الكريم. وكانت النتيجة المحتومة لانتشار معرفة اللغة العبرية ودراستها، وفهم الكتاب المقدس والعناية به، أن ولد شعر عبري حديث انصرف صاحبه إلى فنون أخرى غير فنون الشعر العربي، التي كانت تتجلى في ذلك العصر في مدح السيف والفروسية والحب، ورثاء المجد الغابر، وهجاء الخصم الذي لا يستطيع الشاعر قتله أو الوصول إليه، بينما يتغنى الشاعر العبري بمديح الله ورثاء الأمة العبرية؛ ومن ثم تفنن فنظم للكنيس كثيرًا من الشعر الديني الذي يستخدم في العبادة، ومع سير الزمن وكثرة تأثر هؤلاء الشعراء بالعرب والعربية، أدخلوا القافية في شعرهم بعد أن كان غير مقفى.
إن التاريخ يحدثنا أن اليهود لم يكتبوا كتبًا علمية في قواعد لغتهم إلا بعد أن تتلمذوا للعرب، وبعد أن نشئوا في مهد الثقافة الإسلامية نشأة مكَّنتْهم من فهم العلوم العربية على اختلاف أنواعها، ففي أواخر القرن التاسع والنصف الأول من العاشر الميلادي ظهر «سعديا» «٨٩٢–٩٤٢م»، وهو سعيد بن يوسف الفيومي، فيلسوف اليهود في القرن العاشر، فقد تأثر سعديا هذا لا بالعلوم اللغوية العربية فقط، بل بالعلوم الدينية الإسلامية أيضًا، وتشربت روحه بمذهب المعتزلة، حتى إنه استعان به عند معالجته للديانة اليهودية، ويطلق عليه نحويو اليهود «أبا النحو العبري»، فقد وضع مؤلفًا يقع في اثني عشر كتابًا يسمى «كتب اللغة»، وهو يعَدُّ أول مؤلَّف منظَّم في قواعد اللغة العبرية، ومن بواعث الأسف أن أكثره قد فُقِدَ، وقد عالج فيه الأبجدية، وخواص الحروف الحلقية، وإبدال الحروف وإدغامها، وتصريف الأفعال، كما عالج الأسماء والحروف، كذلك وضع كتبًا أخرى بالعربية والعبرية لسنا في حاجة إلى الإشارة إليها هنا، وحسبنا أن نذكر مؤلفه العظيم «أجرون»؛ أي «معجم لغوي»، فقد قسم فيه الكلمة إلى «أصل» و«زيادة»، أو بمعنى آخر إلى أصل وعلامة إعراب، وقد أورد فيه قائمة تشتمل على تسعين كلمة عبرية وآرامية نادرة الوجود في العهد القديم، فاسترعى بذلك النظر إلى وجوب العناية بالدراسة المقارنة التي عالجها هناك في الوقت نفسه «يهوذا بن قريش»، الذي ولد في شمال غربي أفريقيا. وغير سعديا ويهوذا نجد أمثال «مناحم بن سروق» اليهودي الإسباني «حول عام ٩٦٠م»، و«دونش بن لبراط» تلميذ سعديا، وقد ولد في مدينة «فاس»، وهو يعدُّ أول من قسَّم الفعل العبري إلى خفيف «مجرد» وثقيل «مزيد»، كما أنه استخدم معلوماته في اللغة العربية وطبقها على العبرية، وخاصة العَروض، واستعان باللغة العربية في فهم الكتاب المقدس، فقارن بين اللغتين، واستشهد على وجوب العناية باللغات السامية بذكر قائمة تشتمل على مائة وسبعين كلمة من الكتاب المقدس لن تفهم إلا عن طريق اللغة العربية.
ومن الشخصيات الأخرى التي ساهمت في تاريخ النحو العبري «يهوذا بن داود» الملقب «حيوج»، فقد اهتم هذا النحوي باللغة العربية اهتمامًا عظيمًا يرجع إليه الفضل فيما وصل إليه من نتائج خاصة، عندما عرض للأفعال ذات الحروف اللينة أو اللفيفة المقرونة، وقد مهدت مؤلفاته وما كتبه المتقدمون من عرب وعبريين إلى ظهور العلَّامة أبي الوليد مروان بن جناح في النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي، وقد عرض مروان هذا إلى ما ألفه «حيوج» ونقَّحه، كما أنه ألَّف كتابه المشهور «التنقيح»، وهو يقع في جزءين: الأول في القواعد واسمه «كتاب اللمع»، والثاني يشتمل على معجم لغوي أسماه «كتاب الأصول»، سلك في تأليفه الطريق الذي سلكه نحويو اللغة العربية. ويعد كتابه من أحسن الكتب في قواعد اللغة العبرية. وإذا استثنينا «مناحم» و«دونش» فإن علماء إسبانيا جميعًا قد ألفوا باللغة العربية، لذلك بقيت مؤلفاتهم غير معروفة لدى يهود أوروبا القاطنين خارج البلاد الإسلامية، حتى ظهرت شخصية «أبراهام بن عزرا» المتوفى عام ١١٦٧م، فألف ثمانية كتب باللغة العبرية، عرف يهود العالم المسيحي عن طريقها مؤلفات أمثال حيوج ومن جاءوا بعده. وإلى جانب ابن عزرا قام يهودي إسباني آخر اسمه «يوسف بن إسحاق قمحي» في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، وخلفه ابناه موسى وداود قمحي، وإن كانا لم يأتيا بجديد فيما كتباه عن النحو العبري، إلا أنهما يعدان خير من ظهر في القرن الثالث عشر، كما أن كتبهما تعد أحسن مما ألف في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. أما القرن السادس عشر، فيعد الحد الفاصل في تاريخ النحو العبري، فقد كان ذلك العلم حتى ذلك الحين وقفًا على اليهود لم ينازعهم فيه منازع حتى ظهرت حركة إحياء العلوم في أوروبا، وقرَّبت بين اليهود والمسيحيين، فأقدم الأخيرون على دراسة اللغة العبرية للعلم والعلم فقط، ولفَهْم الكتاب المقدس فهمًا علميًّا صحيحًا على ضوء حركة الإصلاح الديني التي أخذت تظهر في أوروبا في ذلك القرن. وظهرت بوادر هذا الاهتمام في مؤلفات أمثال «يوحنا رويشلين» الذي ألف كتابًا في قواعد اللغة العبرية عام ١٥٠٦م. وقد ترك هذا الكتاب الذي وضع باللاتينية أثرًا بعيدًا في الجامعات الألمانية، فأفسحت لهذه اللغة صدرها، وأَوْلَتْها عنايتها. وبعد موت «رويشلين» عام ١٥٢٢م، ظهر في ألمانيا عالم يهودي يدعى «إليا لفيتا»، وقد بذل مجهودًا كبيرًا في سبيل نشر هذه اللغة حتى توفي في عام ١٥٤٩م.
مضى القرنان السادس عشر والسابع عشر، ولم يظهر فيهما من المؤلفات ما يستحق الذكر، على نقيض القرن الثامن عشر الذي ظهر فيه اتجاه جديد، وهو دراسة اللغة العبرية دراسة مقارنة، وقد حملت لواء تلك النهضة، المدرسة الهولندية، وعلى رأسها «ألبرت شولتنز» المتوفى عام ١٧٥٠م، و«شرودر» الذي فارق الحياة في عام ١٧٩٨م. أما العبرية كما تدرس اليوم في الجامعات العالمية، فإنها تدين في تطورها للمستشرق الألماني «وليم جيزنيوس» «٣ فبراير ١٧٨٦–٢٣ أكتوبر ١٨٤٢م»، فقد نشر في عام ١٨١٣م كتابه المشهور في قواعدها، ولا أدل على النجاح الذي صادفه من أن العلماء الألمان أعادوا طبعه تسعًا وعشرين مرة، وفي آخر طبعة حاول إخراجها الأستاذ «برجشتراسر» عام ١٩١٨م.
وعدا هذا العالم المسيحي كان هناك في ألمانيا زعماء هذه المادة مثل «أفالده»، و«الهوزن»، و«شتاده»، و«كاله»، و«بروكلمان»، كلهم من المسيحيين، ويعد «كاله» زعيم علماء النحو العبري في قرننا هذا.
(٥) اللغات السامية والكتابة العربية
تحاول هذه النظرية أن تفسر لنا كيف انتهت الكتابة إلى الحجاز من إقليم الحيرة، ونحن نستسيغ منها أن تكون «الحيرة» مركزًا من مراكز تعليم الخط، لا ضير في ذلك؛ لأن خط العرب الشماليين انتهى في وقت ما، كما أثبت البحث الحديث، إلى هذه البقعة في رحلته من موطنه الأول إلى الحجاز، بطريق العراق فدومة الجندل؛ ونستسيغ منها كذلك أن تكون «الأنبار» قد تلقفت هذا الخط من بعض جهات الشام، ثم أزجته إلى الحيرة قائمة بدور الوسيط؛ ثم نستسيغ منها أيضًا أن تكون دومة الجندل طريق انتقال ذلك الخط إلى المدينة ومكة.
نستسيغ ذلك كله، ولكنا لا نكاد نفهم لماذا يناط انتقال الخط بشخصية «بشر بن عبد الملك» الكندي الذي تجعل منه الرواية جائلًا يكلف نفسه مشقة الانتقال في أرجاء مترامية في شبه الجزيرة يعلم الخط؛ وهو ذلك «الأرستقراطي» المترف الذي لا يجول لهذا الغرض. وانتقال ظاهرة ثقافية كظاهرة الكتابة أمر يكون بطبعه بطيئًا، ويصعب أن نستفيد من الرواية شيئًا هامًّا آخر، فعلى فرض أن شخصية بشر هذه وجدت حقًّا، وكلفت نفسها مثل هذه المهمة الشاقة، فلا بد أنها قد عاصرت «سفيان وحربًا» ولدي أمية، بمعنى أن الكتابة العربية الشمالية لا بد أن تكون قد رحلت رحلتها من الحيرة صوب شبه الجزيرة في خواتيم القرن الخامس الميلادي.
وإن صح أنه كانت لمرامر بن مرة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة، جهود في شأن الكتابة العربية، فلا تعدو هذه الجهود أن تكون اقتطاعًا لخط يكتب به العرب من خطوط النبط الذين كانوا يجاورون حوض الفرات الأوسط «في حوران». على أن الشك يعتور أسماءهم ذاتها، فهي أسماء يغلب عليها التسجيع، ويغلب أن تكون هذه الأسماء قد صيغت على هذا النحو من السجع ليحسن وقعها في الأسماع، والحق أنه يصعب أن يقوم ثلاثة من بولان من طي بمهمة «أكاديمية» شاقة كهذه لمجرد الرغبة في توفير خط يكتب به الأعراب!
هذا؛ والمرجَّح أن تكون الكتابة النبطية قد وجدت سبيلها من بلاد النبط إلى بلاد العرب بسلوك أحد طريقين؛ الأول: الطريق الدائر من حوران «إقليم دمشق» إلى وادي الفرات الأوسط «الحيرة والأنبار»، ثم إلى دومة الجندل فالمدينة فمكة فالطائف. والثاني: طريق أقصر، من بلاد النبط إلى البطراء إلى العلا فشمال الحجاز حتى مكة والمدينة. وسواءٌ كانت رحلة الخط النبطي العربي عن هذا الطريق أو ذاك فالثابت أنها تمت بين عام ٢٥٠ للميلاد — وهو تاريخ أقدم نقش عربي نبطي معروف — ونهاية القرن السادس الميلادي، وهو الوقت الذي حذق فيه الحجازيون الكتابة العربية على صورتها المعروفة لديهم قبل الإسلام بقليل.
(٦) اليهودية والفلسفة اليونانية
وفي الوقت نفسه بزغ في الأفق — بشكل أقل غموضًا مما في سفر التكوين — فكرة أخرى اتحدت اتحادًا وثيقًا بفكرة النفثة أو الروح الإلهية، فأصبحت بعدئذ هي فكرة الأقنوم الإلهي الثالث؛ أي الروح، ففي سفر الأمثال سميت الحكمة مرتين شجرة الحياة.
وهكذا، بالرغم من الطابع الأسمى لله عند الساميين، أو على الأخرى بسبب هذا الطابع الأسمى، تبدو فكرة التثليث بذرة في أقدم أسفار التوراة، وهذه النزعة التثليثية القديمة نسبيًّا برغم غرابتها عن العبقرية السامية المفرقة، نرى لها تفسيرًا في الاتصالات المتوالية بين شعوب بني إسرائيل المشركة أصالة والتي كانت مجمعة كثيرًا أو قليلًا في أوائل تواريخها، حتى جاء تأثير المذاهب الفارسية ذات النزعة التمثيلية الواضحة، فعمل على نمو تلك البذور التي كانت موجودة من قبل.
ثم جاء اتصال جديد بين الدين اليهودي والتفكير الآري في أنقى أشكاله؛ أي في شكل الفلسفة الإغريقية، فاندمج التياران التثليثيان فأفاد ذلك كليهما؛ إذ آتى التيار اليهودي الفلسفة الإغريقية حمية وقوة دينية، كما قدمت هذه الفلسفة للدين اليهودي مقابل ذلك ما كان ينقصه من وضوح.
على أن هذا التزاوج لم يؤدِّ إلى إدخال عناصر جديدة شعرت بها العقيدة اليهودية أو الفلسفة الإغريقية، فالتفكير الإغريقي ما كان له إلا أن يتذكر أفلاطون وأرسطو ليعود فيجد فوق الروح العامة والعقل الإلهي المثل والإله الذي لا يدرك. أما العقيدة اليهودية فلم يكن إلا أن تعود بذكراها إلى بعض آيات كتبها المقدسة لتجد تحت إلهها الذي لا يدرك، العقل والروح الإلهية، وبأخذ كل منهما من الأخرى لم يحسا بأن على كليهما دَيْنًا يجب أداؤه، اللهم إلا في بعض التفاصيل.
وبعد مضي نحو قرنين أخذ فلاسفة الإسكندرية الذين عرفوا بالأفلاطونيين المحدثين — وهم أمونيوس ساكاس وأفلوطين وتلاميذه — مذهب التثليث عن قيلون، وبخاصة المبدأ الرئيسي الآتي: إن الله يصل طبيعته إلى الغير دون أن يفقد شيئًا منها، فهو يعطي ما له مع استمراره «أي الأول وهو الله» واحدًا كاملًا غير متغير، وكذلك نشأ الأقنوم الثالث عن الثاني، وهذا الأقنوم الثالث؛ أي الروح الإلهية، هو في الوقت ذاته روح العالم وأقل كمالًا من العقل، كما أن العقل أقل كمالًا من الله، ومن أجل ذلك يكون الأقنوم الثالث قابلًا للتغير بحكم ضرب من الكثرة، فضلًا عن أنه ينتج جميع الأرواح الخاصة بالعالم عن طريق الفيض دائمًا، وأخيرًا تكون الأرواح هي التي تنتج أجسامها.