حياة اليهود السياسية والأدبية والاجتماعية
تحدثنا في الفصول السابقة عن نشأة اليهود، وهجرتهم، وعصر أنبيائهم وكهنتهم، ونتحدث هنا عن حكامهم وملوكهم بعد وفاة موسى، ونسارع إلى القول بأنه بعد أن ظهر «موسى» في مصر وقاد بني إسرائيل إلى التيه، كما ورد في قصة موسى المعروفة؛ أي بعد مقامهم في مصر ٢١٥ سنة، قام حكام بني إسرائيل مقام الملوك إلى أن قام طالوت فكان أول ملوكهم كما جاء في ص١٩ من الجزء الأول من تاريخ ابن الوردي. أما الحكام فقد وردوا في سفر «القضاة»، والملوك في سفر «الملوك»، وهما سفران من أسفار التوراة الأربعة والعشرين.
ومن هؤلاء: يوشع، وفينحاس، وعثننثال، ولمغلون، وأهوذ، وشمكار، وباراق، ولذعون، وإيمالخ، وبؤاثير، ويفتح، وأبصن، وأيلون، وعبدون عفلون، وشمشون، وغالي، وشمويل، وشاول، وإيش يوشف، وداود الذي ملك أربعين سنة، وتوفي في السبعين إلى أواخر سنة ٥٣٥ لوفاة موسى، و«سليمان»، وكان عمره ١٢ سنة. وقد عمر بيت المقدس وجعل ارتفاعه ٣٠ ذراعًا وطوله ستين في عرض عشرين ذراعًا، وجعل له سوارًا امتداده ٥٠٠ في ٥٠٠ ذراع، وشيد دار الملك. وفي الخامس والعشرين من ملكه جاءته ملكة اليمن «بلقيس» وأطاعه الملوك. وبعد سليمان تولى ابنه «رحبعم» ثم «بريعم» عبد سليمان، واستقر لولد داود الملك على السبطين فقط وعلى بيت المقدس، وصار للأسباط العشرة ملوك تعرف بملوك الأسباط. وقد استمر رحبعم ملكًا للسبطين إلى أن غزا ملكه «شيشان» فرعون مصر، ونهب المال المخلف من سليمان. وبعد رحبعم تولى ابنه أفيسا، ثم إيشا، ويهوشا قاظ، ويهورام، واحزياهو، ويواش، وأمصياهو، وعزياهو، وآخر، وأشعيا، وحزقيا، ومنشا، وآمون، ويوشيا، ويهوياخين، ويهوياقيم، وبخت نصر «في سنة ٩٧٩ لوفاة موسى». وقد فتح بخت نصر نينوى المواجهة للموصل، وسار إلى الشام وأبقى «يهوياقيم» بعد غزو الإسرائيليين، ولما عصاه قام بعد يهوياقيم ابنه «يخنيو» مائة يوم، ثم أخذه بخت نصر إلى بابل وأخذ إليها علماء الإسرائيليين، وقام الملك صدقيا، ولما عصى بخت نصر، أحرق هذا بيت المقدس وهدم بيت سليمان وأباد الإسرائيليين. وكانت مدة صدقيا ١١ سنة، وهو آخر ملوك الإسرائيليين، واستمر بيت المقدس خرابًا سبعين سنة، ثم عمر على يد ملك الفرس دارا، وغزا بخت نصر مصر لرد اليهود الذين هربوا إليها وقَتَلَ فرعون وخرب مصر.
يوسف الوارد في القرآن والكتب المقدسة
جاء تحت عنوان «ذكر يوسف» ص٣٦ من الجزء الأول من تاريخ «عمر بن مظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس الوردي المعري الشافعي»، أنه ولد ليعقوب «يوسف» وليعقوب إحدى وتسعون سنة، وفارقه «أي يوسف» وعمره ثماني عشرة سنة، وافترقا إحدى وعشرين سنة، فعمر يوسف، لما توفي يعقوب ست وخمسون سنة، وعاش يوسف مائة وعشر سنين، فمولد يوسف لمضي ٢٥١ سنة، من مولد إبراهيم، ووفاته لمضي ٣٦١ سنة من مولد إبراهيم. وتكون وفاة يوسف قبل مولد موسى بأربع سنين محققًا.
وهنا يروي «ابن الوردي» قصة يوسف المعروفة، ويعنينا منها أن ما يقوله من أنه لما أنقذ يوسف من الجب الذي ألقاه فيه إخوته وبيع «للعزيز» المعين على خزائن مصر «وزارة المالية» من قبل الوليد بن الريان أحد ملوك الرعاة، وكان حب «راعيل» يوسف لجماله وسجن وأخرج وخلف «العزيز» بعد موته.
الأدب اليهودي في أمثال سليمان
- أولًا: أمثال سليمان، وهي تقع في الإصحاحات ١–٩: عبارة عن نصائح والد لولده لا تلبث أن تعرض لله فتلخص رأيها فيه في الحكمة المأثورة «رأس الحكمة مخافة الله»، ونجد فيها علاوة على ذلك الشيء الكثير من النصح، والتحذير، وفي الإصحاحين الثامن والتاسع نقرأ شيئًا من الحكم القصصية كالوليمة التي أعدتها الحكمة بعد أن بنت بيتها، ونحتت أعمدتها السبعة، وذبحت ذبحها، ومزجت خمرها، وأعدت مائدتها، وأرسلت جواريها إلى ساحات المدينة العالية ينادين الجاهل والغبي ليأكل ويشرب؛ فتنصرف عنه الجهالة وتدبر الغباوة.
- ثانيًا: أمثال أخرى لسليمان من إصحاح ١٠ إلى إصحاح ٢٢ آية ١٦، وهي تبلغ نحو ٣٨٥ مثلًا من الأمثال البسيطة التي تناولت شتى المواضيع، مثل: «فم الصديق ينبوع حياة، وفم الأشرار يغشاه ظلم.» و«القليل مع العدل خير من الجزيل مع الظلم.» و«محتكر الحنطة يلعنه الشعب والبركة على رأس البائع.» و«لقمة يابسة ومعها سلامة خير من بيت ملآن ذبائح مع خصام.»
- ثالثًا: أمثال حكماء من إصحاح ٢٢ آية ١٧ إلى إصحاح ٢٤ آية ٢٢، وهي عبارة عن نصائح والد لولده مثل: «لا تسلب الفقير لكونه فقيرًا، ولا تسحق المسكين في الباب.» أو تحذيره خاصة من شرب الخمر، مثل: «لمن الويل؟ لمن الشقاوة؟ لمن المخاصمات؟ لمن الكرب؟ لمن الجروح بلا سبب؟ … للذين يدمنون الخمر الذين يدخلون في طلب الشراب الممزوج، لا تنظر إلى الخمر إذا احمرت حين تظهر حبابها في الكأس وساغت مرقرقة، في الآخر تلسع كالحية وتلدغ كالأفعوان.»
- رابعًا: أمثال أخرى لحكماء إصحاح ٢٤ آيات ٣٣-٣٤، وهي تخالف السابقة في أسلوبها، ومنها: «محاباة الوجوه في الحكم ليست صالحة.» و«من يقول للشرير أنت صديق تسبُّه العامة، تلعنه الشعوب.»
- خامسًا: أمثال لسليمان جمعها رجال الملك حزقيا من إصحاح ٣٥ إلى ٢٩، وهي تشبه تلك التي جاءت في القسم الثاني، ويبلغ عددها نحو ١٢٧ مثلًا، تناولت مختلف الموضوعات مثل: «اجعل رجلك عزيزة في بيت قريبك لئلا يمل منك ويبغضك.» و«لا تفتخر بالغد لأنك لا تعلم ماذا يلده اليوم.» «وليمدحك الغريب لا فمك، الأجنبي لا شفاتك.» و«قال الكسلان: الأسد في الطريق، الشبل في الشوارع.» و«الباب يدور على صائره، والكسلان على فراشه.» و«الكسلان يخفي يده في الصحفة، ويشق عليه أن يردها إلى فمه.»
- سادسًا: كلام أجور بن ياقة إصحاح ٣٠٠، ومعظم آياته عبارة عن ألغاز وهجاء، مثل: «ثلاثة عجيبة فوقي وأربعة لا أعرفها: طريق نسر في السماء، وطريق حية على صخر وطريق سفينة في قلب البحر، وطريق رجل بفتاة، كذلك طريق المرأة الزانية أكلت ومسحت فمها وقالت: ما عملت إثمًا.» ومن أمثلة الهجاء «جيل يلعن أباه، ولا يبارك أمه، جيل طاهر في عيني نفسه، وهو لم يغتسل من قذره، جيل ما أرفع عينيه وحواجبه مرتفعة، جيل أسنانه سيوف، وأضراسه سكاكين، لأكل المساكين على الأرض والفقراء من بين الناس.»
- سابعًا: كلمات للملك لموئيل إصحاح ٣١ آيات ١–٩، وهي عبارة عن نصائح أمه له لما صار ملكًا: «ماذا بني؟ ماذا يا بن رحمي؟ ماذا يا بن نذوري؟ لا تعط حبلك للنساء، ولا تتبع مهلكات الملوك، ليس للملوك يا لموئيل، ليس للملوك أن يشربوا خمرًا وللأمراء أن يسكروا؛ لأن الشرب قد ينسيهم الفرض فيغير حق الفقير، أعطوا المسكر للهالك، والخمر لمري النفس، يشرب وينسى فقره ولا يذكر تعبه بعد، افتح فمك للأخرس في دعوى اليتيم، افتح فمك، اقضِ بالعدل وحامِ عن الفقير والمسكين.»
- ثامنًا: مدح مرتب ترتيبًا أبجديًّا في ربة الدار إصحاح ٣١ جاء فيه: «امرأة فاضلة، من يجدها؟ لأن ثمنها يفوق اللآلئ، بها يثق قلب زوجها فلا يحتاج إلى غنيمة، تصنع له خيرًا لا شرًّا كل أيام حياتها، تطلب صوفًا وكتانًا وتشتغل بيدين راضيتين، هي كسفن التاجر تجلب طعامها من بعيد وتقوم إذ الليل بعد، وتعطي أكلًا لأهل بيتها وفريضة لفتياتها، تتأمل حقلًا فتأخذه وبثمر يديها تغرس كرمًا …»
هذا عرض موجز لهذا السفر، نتبين منه نوع محتوياته، والشخصيات التي أسندت إليها هذه المحتويات، والآن نتساءل: لماذا نسب هذا السفر إذن إلى سليمان؟
نحن نعلم أن ابن داود تولى الملك بعد وفاة أبيه حول منتصف القرن العاشر قبل الميلاد، وحكم ما يقرب من أربعين عامًا انصرف فيها إلى الإصلاحات الداخلية، وتوثيق العلاقات الخارجية بينه وبين جيرانه، فخط المدن وأَمَّن الطرق، فازدهرت التجارة وارتقى مستوى المعيشة. بنى المعبد وزوده بمختلف الأواني التي تدل على روعة الفن وجمال الذوق، هذا إلى جانب الأبنية العظيمة التي شيدها في مختلف المدن، وكما يفيض سفر الملوك الأول بأعمال سليمان كذلك القرآن الكريم حيث يقول الله سبحانه وتعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ. وكانت النتيجة المحتومة للانصراف إلى الإصلاحات الداخلية وارتقاء مستوى المعيشة أن توجه الشعب إلى ضروب الفنون، وشعب الأدب المختلفة، خاصة الشعر. وكانت للشعب أسوة حسنة في ملكه الشاعر الحكيم الذي يقول فيه الإصحاح الثالث من سفر الملوك الأول: إنه في أول عهده بالمُلك ذهب إلى مدينة «جبعون» وقدم قرابين لله، فتراءى له حلم ليلًا أن الله سأله حاجته. فقال سليمان: «إلهي لقد ملكت عبدك مكان داود أبي، وأنا ما زلت فتى صغيرًا لا أعلم الخروج والدخول … فأعط عبدك قلبًا فهيمًا لأحكم على شعبك وأميز بين الخير والشر.» ويحدثنا السفر نفسه أن «الله أعطى سليمان حكمة وفهمًا كثيرًا جدًّا، ورحبة صدره «قلبه» كالرمل الذي على شاطئ البحر، وفاقت حكمة سليمان جميع أبناء الشرق وكل حكمة مصر، وكان أحكم من جميع الناس؛ من إيثان الأزراحي وهيمان وكلكول ودردع بني ماحول، وبلغ صيته جميع الأمم التي حوله، وتكلم بثلاثة آلاف مثل، وكانت قصائده ألفًا وخمسًا، وتكلم عن الأشجار من الأَرْز الذي في لبنان إلى الزوفا النابت في الحائط، وتكلم عن البهائم وعن الطير وعن الدبيب وعن السمك …» وفيما يقرب من هذا المعنى يقول القرآن الكريم: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ.
الفن اليهودي
لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا ولا صورة مما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن.
وعند الدكتور زكي محمد حسن أن المعروف أن الإنسان في العصور القديمة كان يصنع الصور والتماثيل لهذا الغرض قبل كل شيء؛ ولذا كان كل فن دينيًّا إلى حد كبير. والحق أن الفن في ذروة مجده يعبر عن شيء إلهي في الإنسان أو بوساطته، وحسبك أن تفكر في معبد كمعبد الأقصر أو البارتينون، وفي لوحات فنية من تصوير رفائيل أوروبنز، وفي قطعة موسيقية من بيتهوفن أو واجنر، وفي مسجد كجامع السلطان حسن، أو كاتدرائية قوطية الطراز ككاتدرائية نوتردام في باريس. نقول: حسبك أن تذكر هذه الآثار لتدرك أن أعظم المنتجات الفنية ما كان تعبيرًا عن الشعور الديني؛ ذلك أن الفن لا يتجلى في أعمال طبقة خاصة من الناس، كأعلام الفنانين فحسب. وقد كان الإنسان الأول يصنع الإناء ليستعمله في حاجاته اليومية. ولم يكن يعرف الفن للفن، فيتخذ الإناء تحفة يستمتع بالنظر إليها، ولذا كان لكل منتجاته أغراض تستعمل فيها، ولكنها لم تكن على رغم ذلك أقل روعة من التحف الفنية في العصور التالية، بل كانت تفوقها في معظم الأحيان وضوحًا وبساطةً وجمالًا.
على أننا إذا درسنا شئون الأمم القديمة وأحوال القبائل التي لا تزال على الفطرة أو في أدنى درجات الحضارة، عرفنا أن الفن كان خادمًا للدين منذ البداية؛ ولذا كانت أهم مظاهره الأولى بناء المعابد والهياكل، وعمل تماثيل الآلهة، وصنع التحف والأواني والأدوات التي تستعمل في العبادة. وحسبنا دليلًا على صحة ذلك أننا لا نستطيع أن ندرس الفنون المصرية القديمة أو الصينية أو الإغريقية من غير أن نعرف شيئًا عن ديانات الأمم التي ازدهرت فيها هذه الفنون، وبغير أن تكون الطقوس الدينية نبراسًا هاديًا في فهم معظم التحف والمنتجات الفنية. بل إن الأمم المسيحية نفسها ساد فيها زهاء خمسة عشر قرنًا فن ديني قوامه تصوير الأحداث الدينية وتوضيح تاريخ الكنيسة باللوحات الفنية والتماثيل. أما الحياة العادية البعيدة عن الدين فلم يكن لها من الفن نصيب يُذكر، إلا منذ عصر النهضة بإيطاليا في القرن الخامس عشر.
وطبيعي أن بني إسرائيل لم تكن بيئتهم وتعاليمهم الدينية مرتعًا خصيبًا لنمو الفنون وازدهارها، كما كان الإغريق أو قدماء المصريين مثلًا. فإن نواة الفن عند هذين الشعبين الأخيرين كانت تصوير الآلهة والأبطال، وعمل التماثيل لهم، أو تصوير الأفراد لأغراض دينية، أو صنع التماثيل لتدفن معهم، وما إلى ذلك مما له اتصال قوي بمعتقداتهم الدينية. والإغريق مثلًا كانوا شعب حس ومادة يتصورون آلهتهم شبه آدميين وإن نسبوا إليهم الخلود، ويظنون أن العالم أكبر وأعظم من أن يكفيه إله واحد، ولم يكن المثل الأعلى عندهم الإله الواحد الذي لا جسم له والذي لا يمكن تصوره، وإنما كان الإله الجميل أو القوي الذي يُرضي العين ويُسعد اللب.
أما بنو إسرائيل فقد كانوا في البداية يتصورون ربهم مخلوقًا يتميز بقوة غير عادية، ولكنهم وصلوا سريعًا إلى الاعتقاد في إله واحد روحي لا مادة له؛ فلا يمكن تصوره أو تصويره أو عمل التماثيل له، ولذا فقد كانوا يكرهون تمثيل هذا المعبود الواحد في صورة أو رسم أو تمثال، وتأيد هذا الكره بالتحريم الصريح الوارد في الوصية الثانية من الوصايا العشر في سفر الخروج.
وطبيعي أن يتخلى بنو إسرائيل في خيالهم عن الصور والتماثيل، منصرفين إلى الصلوات والحكم والأغاني. ولا عجب فإن الفنون التصويرية أو التجسيمية تنشأ من البعد عن الروحية، فإن أساسها استطاعة تسجيل المتصورات في تحف فنية، وهي بطبيعة الحال بعيدة عن الروحية، والاكتفاء بالتفكير في الشيء دون تصويره وتسجيله في صورة أو تمثال. وقد كان اليهود يحرمون تصوير الإله كأنهم كانوا يذهبون إلى أن مثل هذا التصوير لا يتفق مع فكرة الألوهية العظمى.
ولكن الشريعة الموسوية لم تحرم إلا التصوير. أما العمارة والفنون الزخرفية فلم تَعرِض لها بشيء. والمعروف أن تحريم التصوير كان قائمًا في الإسلام أيضًا، فكيف نشأ للإسلام فن نما وازدهر، واتسعت مناطق نفوذه، بينما لم تستطع اليهودية أن تطبع بطابعها الخاص بعض أساليب فنية يمكن عدها فنًّا يهوديًّا قائمًا بذاته؟
والرد على هذا السؤال يشمل البحث في المسألة الثانية التي أشرنا إليها قبلًا، وهي قومية اليهود ومصيرهم السياسي.
ولسنا نريد أن نعرض هنا لما اختلف فيه العلماء بشأن تعريف اليهودية، وهل اليهود أبناء جنس واحد أو هم أمة واحدة أو هم أتباع دين واحد؟
وحسبنا أن نشير إلى أن الإسلام انتشر انتشارًا عظيمًا وامتد سلطانه إلى كثير من البلاد التي كان للفن فيها شأن عظيم، واختلط العرب بكثير من الأجناس الأجنبية عنهم، وساهم العرب والإيرانيون والترك كل منهم بنصيبه في قيام الفنون الإسلامية التي جمع الإسلام بين عناصرها المتفرقة، وطبعها بطابع مشترك جعل أفضل تسمية لها أن ننسبها إلى الإسلام على الرغم من أنها لم تكن قبل كل شيء وسيلة لشرح الأفكار الدينية والتعبير عنها كما كانت سائر الفنون في العصور الوسطى.
أما بنو إسرائيل فقد نشئوا في الصحراء ثم استقروا في فلسطين، وامتزجوا بالكنعانيين في الألف الثاني قبل الميلاد، وكان من ملوكهم داود بين عامي ١٠٠٠ و٩٦٠ق.م. ثم ابنه سليمان «٩٦٠–٩٣٠ق.م». وانقسم اليهود في عصر ابنه إلى مملكة إسرائيل في الشمال وعاصمتها سامريا، ومملكة يهوذا في الجنوب وعاصمتها أورشليم، وسقطت مملكة إسرائيل حين استولى الآشوريون على سامر وسامريا سنة ٧٢١ق.م، وحل ببني إسرائيل أول أسر في بلاد الجزيرة، ثم سقطت المملكة الجنوبية حين استولى نابوخد ناصر «بختنصر» — ملك الكلدانيين — على أورشليم سنة ٥٨٦، واقتاد اليهود إلى بابل حيث ظلوا في الأسر إلى أن استولى الفرس على بابل، فعاد بنو إسرائيل إلى فلسطين سنة ٥٣٩، وشيدوا معبدهم المشهور في بيت المقدس، ولكنهم فقدوا ملكهم السياسي، وآلت الرياسة بينهم إلى رجال الدين، وتوالت الأحداث السياسية على البلاد فخضعت للإسكندر ثم للسلوقيين. ودخلها الرومان بقيادة بومبي سنة ٦٣ق.م. وفي سنة ٧٠م هدم طيطوس الروماني المعبد اليهودي الأكبر في أورشليم، ثم كانت نهاية اليهود كأمة متحدة ذات وطن قومي، وكان ذلك على يد الإمبراطور الروماني هادريان سنة ١٣٠م.
وصفوة القول أن اليهود لم يتح لهم تأسيس ملك سياسي زاهر أو إمبراطورية متسعة الأرجاء، يمكن أن تزدهر فيها أساليب فنية يطبعونها بطابعهم بدون الخروج على تعاليمهم الدينية في تحريم التصوير. ولأن اليهود تفرقوا بين شعوب الأرض، ولم يستطيعوا أن يظلوا شعبًا قائمًا بذاته أو عصبة أمم تجمعها روابط قوية، لذلك كله لم يكن ميسورًا أن ينشأ لهم فن قائم بذاته.
أجل كان هناك فنانون من اليهود، ولكن آثارهم الفنية تابعة للطرز الفنية المختلفة، فبينها المصري القديم، وبينها الفينيقي، والإغريقي، والروماني، والهليني، والفارسي، والبيزنطي، والإسلامي، وبينها ما ينسب إلى شتى الطرز الفنية التي ازدهرت في الغرب منذ العصور الوسطى إلى القرن العشرين، ولسنا ننكر أن بعض هذه الآثار الفنية كان يحمل ما يبين صلته باليهودية، مثل كتابة عبرية أو رسوم هندسية اتخذها اليهود رموزًا لبعض المعاني، ولكن مثل هذا لا يفصل تلك التحف عن سائر الآثار الفنية التي تنتمي للطراز نفسه والتي صنعت لأقوام غير يهود أو على يد فنانين من المسيحيين أو المسلمين.
ولن يفوتنا أن نذكر الفرق بين اليهودية والإسلام بشأن تحريم التصوير. فقد كان اليهود في البداية أقل تمسكًا بهذا التحريم، ثم ازداد تمسكهم به شيئًا فشيئًا، بينما قل تمسك المسلمين بكراهية التصوير بعد أن بعد عهدهم بترك الوثنية، واطمأنوا إلى بعد الخطر الذي تجره الصور والتماثيل.
والمعروف أن هيكل سليمان كان فيه صور حيوانية وصور للشيطان، ولعل ذلك راجع إلى أن اليهود كانوا لا يزالون في ذلك متأثرين بالأمم الوثنية المحيطة بهم على الرغم من أنهم كانوا شديدي التمسك بإبعاد التصوير عن الفكرة الإلهية، وهو أساس التحريم إطلاقًا. ولكن الديانة الموسوية ازدادت في العصور التالية انصرافًا إلى الروحية، وأصبح التصوير عند اليهود أمرًا وثنيًّا بحتًا.
وصفوة القول أن اليهود ليس لهم فن، وأن ذلك راجع إلى تحريم التصوير عندهم، وإلى أنهم فقدوا استقلالهم السياسيي والقومي منذ العصور الأولى.
فبنو إسرائيل — على حد قول الأستاذ شفيق غربال — «أمة لم تترك رسومًا ومعابد ضخمة، ولكنها تركت دينًا وآدابًا، وأثَّرت بذلك في تاريخ الحضارة أثرًا لا يقل عن أثر الإغريق، أمة كانت أول من عرف عقيدة الوحدانية السامية وعبدت الله ولم تتخذ له من الأوثان زلفى.»
أعياد اليهود
جاء في تاريخ ابن الوردي أن أعياد اليهود هي: عيد الفصح «خامس عشر من نيسانهم، عيد كبير أول أيام الفطير السبعة، يحرمون فيها الخمير، وآخرها الحادي والعشرون من الشهر المذكور. والفصح يدور من ثاني عشر آذار إلى خامس عشر نيسان، وسببه أن بني إسرائيل، لما تخلصوا من فرعون وحصلوا في التيه، اتفق ذلك ليلة الخامس عشر من نيسان اليهود، والقمر تامُّ الضوء والزمان ربيع، فأمروا بحفظ هذا اليوم، وفي آخر هذه الأيام غرق فرعون في بحر الشعب، وهو القلزم.
«وعيد العنصرة» بعد الفطير بخمسين يومًا. في السادس من شيون. فيه حضر مشايخ بني إسرائيل إلى طور سيناء مع موسى، فسمعوا كلام الله تعالى من الوعد والوعيد، فاتخذوه عيدًا، و«عيد الحنكة» معناه التنظيم، وهو ثمانية أيام أولها الخامس والعشرون من بسليو، يسرحون في الليلة الأولى سراحًا، وفي الثانية اثنين، وكذا في الثامنة ثمانية سرج، وذلك تذكار أصغر ثمانية إخوة، قتل بعض ملوك اليونان، فإنهم قد تغلب عليهم ملك من اليونان ببيت المقدس، كان يفترع البنات قبل الإهداء إلى أزواجهن، وله سرداب، قد أخرج منه حبلين، عليهما جلجلان، فإن احتاج إلى امرأة، حرك الأيمن، فتدخل عليه، فإذا فرغ منها حرك الأيسر، فيخلى سبيلها. وكان في بني إسرائيل رجل، له ثمانية بنين وبنت واحدة، فتزوجها إسرائيلي وطلبها، فقال أبوها: إن أهديتها افترعها الملعون، ودعا بنيه لذلك فأنفوا، ووثب الصغير منهم، فلبس ثياب النساء، وخبأ خنجرًا، وأتى باب الملك على أنه أخته، فحرك الجرس، فأدخل عليه، فحين خلا به قتله، وأخذ رأسه وحرك الحبل الأيسر وخرج، فخلي سبيله، فأفرح بذلك بني إسرائيل، واتخذوه عيدًا تذكارًا بالإخوة الثمانية. و«المظال» سبعة أيام أولها خامس عشر تشرين الأول، يستظلون فيها بالخلاف والقصب وغيره فريضة على المقيم تذكارًا لأطلالهم بالغمام في التيه. وآخرها وهو حادي عشر تشرين يُسمى «عرابا» تفسيره شجر الخلاف. وعر عراب وهو الثاني والعشرون من تشرين يُسمى «التبريك» تبطل فيه الأعمال، ويتبركون فيه بالتوراة، وفيه استتم نزولها بزعمهم. وليس في صومهم فرض غير «صوم الكبون» عاشر تشرينهم وابتداء الصوم من التاسع قبل الغروب بنصف ساعة تمام خمس وعشرين ساعة، وكذلك صياماتهم النوافل والسنن».
عادة الختان عند اليهود والعرب
عند العالم «ويلهاوزن» أنه توجد في أفريقيا قبائل منها همجيون تألف عادة الختان. فلم تسر هذه العادة من اليهود إلى العرب. بل إن العرب القدامى أخذوها عن الفدائيين لأسباب صحية ودينية.
لا تبشير في اليهودية – شعب الله المختار
يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون — العالم اليهودي المصري — في كتابه «تاريخ اليهود في بلاد العرب» ص٧٢: إنه «لا شك أنه كان في مقدرة اليهودية أن تزيد في بسط نفوذها الديني على العرب حتى تبلغ منزلة أرقى مما كانت عليه لو توافرت عند اليهود النية على نشر الدعوة الدينية بطريقة مباشرة. ولكن الذي يعلم تاريخ اليهود يشهد بأن الأمة الإسرائيلية لم تَمِلْ بوجه عام إلى إرغام الأمم على اعتناق دينها، وأن نشر الدعوة الدينية من بعض الوجوه محظور على اليهود. ولسنا نعرف في تاريخ اليهود أنهم أرغموا — بقوة السيف — أمة من الأمم على اعتناق اليهودية، إذا استثنينا حادثة واحدة أرغم فيها الملك اليهودي يوحنان هوركانس طوائف بني أدوم على اعتناق اليهودية صاغرين. ولكن يجب أن لا يغيب عن بالنا أن اليهود كانوا يعتبرون بني أدوم إخوة لهم في الجنسية. وهناك عامل آخر حال دون انتشار اليهودية في الحجاز؛ فاليهودية — كما نفهمها — هي خلاصة القانون التلمودي بعقائده وتقاليده وطقوسه. وهذا القانون الذي نشأ في بيئة معينة وفي مدة قرون معينة، والذي استمد مبادئه وتعاليمه من نصوص التوراة، قد أدخلت عليه تغييرات تلائم الأحوال الجديدة التي طرأت على اليهود مع التغيير الاجتماعي والرقي الروحاني الذي طبع العقلية اليهودية بطابع جديد لم يكن يعرف في العصور الإسرائيلية القديمة. وقد نجم عن ذلك أن الذين أرادوا أن يقبلوا جوهريات صحف التوراة دون أن يخضعوا للناموس التلمودي وعقائده، لم يؤذن لهم باعتناق اليهودية. ولا شك أن هذا كان من أهم الأسباب التي أدَّت إلى ظهور النصرانية، فإن طوائف اليونان والسريان المجاورة لفلسطين قد تأثرت بالدين الإسرائيلي وارتاحت لتعاليم التوراة، فاعتنقت العقائد الجوهرية، وآمنت بالمبادئ الأساسية، ورفضت ما لا يناسب روحها القومي ولا يتفق مع تقاليدها القديمة. كذلك وجدت هذه النفسية في الجزيرة العربية، وأخذ العرب يخضعون لبعض الأصول الجوهرية من التوراة دون أن ينقادوا للبعض الآخر. فلم ترضَ منهم اليهودية ذلك. وهناك أمر آخر عاق انتشار اليهودية بين العرب، ذلك أن التوراة والتلمود كلفا الإنسان بتكاليف صعبة وربطاه بتقاليد كثيرة. هذا إلى أن اليهود يعتبرون أنفسهم أبناء الله وشعبه المختار بين شعوب الأرض. ولا تسمح أنفسهم أن تكون هذه الميزات لشعب آخر ليس منهم، لهذا لا يقرون بأن الله يختار نبيًّا غير إسرائيلي.» (راجع آية ١ وما بعدها من الإصحاح ١٤ تثنية).